الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
الباقلاني:
ت 403 هـ.
أحياته: هو الإمام القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بان جعفر قاسم البصري، ثم البغدادي، ابن الباقلاني (1) ، لم يعرف تاريخ ولادته، كان من أهل البصرة، وسكن بغداد، وقد كانت وفاته سنة 403 هـ.
تتلمذ على مجموعة من الشيوخ منهم:
1-
أبو بكر أحمد بن جعفر بن مالك القطيعي، رازي مسند الإمام أحمد، توفي سنة 368 هـ، سمع منه الحديث.
2-
أبو بكر: محمد بن عبد الله الأبهري، توفي سنة 375هـ، أخذ عنه الفقه.
3-
أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب بن مجاهد الطائي البصري - تلميذ أبي الحسن الِأشعري-، درس عليه الأصول والكلام.
4-
أبو الحسن الباهلي: تلميذ أبي الحسن الأشعري، توفي سنة 370هـ، تلقى على يديه أصول المذهب الأشعري.
5-
أبو عبد الله: محمد بن خفيف الشيرازي الصوفي، المتوفى سنة 371هـ، وهو أيضا ممن تتلمذ على أبي الحسن الأشعري.
6-
أبو محمد: عبد الله بن أبي زيد القيرواني المالكي، صاحب الرسالة، المتوفى سنة 386هـ، قال عنه الباقلاني: شيخنا (2) .
(1) انظر: ترجمته في: تاريخ بغداد (5/379) ، الأنساب (2/51) ، واللباب (1/112) ، ترتيب المدارك (7/44)، تبيين كذب المفتري (ص: 217) ، الوفيات (4/269) ، الوافي (3/177) ، سير أعلام النبلاء (17/190) ، الديباج المذهب (2/228) ، شجير النور الزكية (1/92)، ومقدمة تحقيق إعجاز القرآن لأحمد صقر (ص: 17) ، وما بعدها، وغيرها.
(2)
انظر: البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات (ص: 50) .
7-
أبو محمد عبد الله بن إبراهيم بن ماسي، المتوفى سنة 369هـ.
8-
أبو أحمد الحسين بن علي النيسابوري، المتوفى سنة 375هـ.
9-
محمد بن عمر البزار، المتوفى سنة 374هـ.
10-
وأبو أحمد الحسن بن عبد الله العسكري، المتوفى سنة 382هـ، وغيرهم، ويلاحظ أن من شيوخه ثلاثة من تلاميذ أبي الحسن الأشعري.. كما تتلمذ عليه مجموعة من العلماء، منهم:
1-
القاضي المالكي أبو محمد عبد الوهاب بن نصر البغدادي، المتوفى سنة 422هـ.
2-
أبو ذر الهروي، عبد بن أحمد، الأشعري، المتوفى سنة 434هـ، والذي نقل المذهب الأشعري إلى الحرم، ثم أخذ عنه المالكية هذا المذهب، وقد أن شيخه الدارقطني المتوفى سنة 385هـ، يعظم الباقلاني لما التقى به في الطريق، ولما سأله الهروي قال:" هو أبو بكر بن الطيب، الذي نصر السنة وقمع المعتزلة، وأثنى عليه"(1) .
3-
أبو جعفر محمد بن أحمد السمناني، الحنفي، المتوفى سنة 444هـ.
4-
أبو الحسن علي بن عيسى السكري الفارسي، الشاعر، المتوفى سنة 413هـ.
5-
الحسين بن حاتم الأزدي، الذي أرسله الباقلاني إلى جامع دمشق ليلقي درسا في العقيدة، وقد رجع إلى المغرب ونشر علمه هناك، ومات بالقيروان (2) .
(1) ترتيب المدارك (7/46) .
(2)
انظر: تبيين كذب المفتري (ص: 216-217) .
6-
أبو عبد الرحمن السلمي، محمد بن الحسين الصوفي، المتوفى سنة 412هـ، قرأ عليه لما قدم الباقلاني إلى شيراز.
7-
ابن اللبان، أبو محمد عبد الله بن محمد الأصبهاني الشافعي، المتوفى سنة 446هـ.
8-
أبو علي الحسن بن شاذان، ت 426هـ.
9-
أبو بكر بن الحسين الإسكافي.
وغيرهم كثير.
أقوال العلماء فيه:
1-
قال عنه الخطيب البغدادي: " المتكلم على مذهب الأشعري
…
وكان ثقة، فأما الكلام فكان أعرف الناس به، وأحسنهم خاطراً، وأجودهم لساناً، وأوضحهم بياناً، وأصحهم عبارة، وله التصانيف الكثيرة المنتشرة في الرد على المخالفين من الرافضة، والمعتزلة، والجهمية، والخوارج وغيرهم" (1) .
2-
وقال عنه القاضي عياض: " الملقب بشيخ السنة، ولسان الأمة، المتكلم على مذهب المثبتة وأهل الحديث وطريقة أبي الحسن الأشعري"(2)، ونقل عن الهمداني قوله:" كان شيخ المالكيين في وقته، وعالم عصره، المرجوع إليه فيما أشكل على غيره، وقال غيره: وإليه انتهت رئاسة المالكين في وقته، وكان حسن الفقه، عظيم الجدل، وكانت له بجامع المنصور ببغداد حلقة عظيمة"(3) .
4-
وقال عنه الذهبي: " الإمام العلامة، أوحد المتكلمين، مقدم
(1) تاريخ بغداد (5/379) .
(2)
ترتيب المدارك (7/44) .
(3)
نفس المصدر (7/45) .
الأصولين" وقال: " وكان ثقة إماماً بارعاً صنف في الرد على الرافضة والمعتزلة والخوارج والجهمية والكرامية وانتصر لطريقة أبي الحسن الأشعري، وقد يخالفه في مضائق، فإنه من نظراته" (1) .
5-
وكان الباقلاني ذا شهرة واسعة، ولذلك استقدمه عضد الدولة البويهي إلى شيراز وناظر المعتزلة في مجلسه، كما أرسله سنة 371هـ، رئيساً للبعثة التي أوفدها إلى ملك الروم، وجرت له أمور كثيرة (2) .
ب - آثاره:
تتلمذ على يد الباقلاني تلامذة عديدون، كان لهم أكبر الأثر في نشر المذهب الأشعري، خاصة عند المغاربة، كذلك ترك عدداً كبيراً من المؤلفات في معارف مختلفة، وما يختص منها بالكلام - الذي سار فيه على طريقة أبي الحسن الأشعري- كانت ذا أثر عظيم في المذهب الأشعري، بل يعتبر المؤسس الثاني لهذا المذهب.
ومؤلفات الباقلاني تبلغ (55) مؤلفاً، وقد ذكر أكثرها القاضي عياض (3) ، ثم ذكرها وفصل القول فيها السيد أحمد صقر (4) ، وأكثرها مفقود، وغالب ما وجد منها كتبه الكلامية أو ما هو قريب منها (5) .
وأهم كتبه الكلامية - التي دعم فيها المذهب الأشعري-:
1-
التمهيد: ويسمى تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، وقد ألفه لابن عضد الدولة وولي عهده لما طلب منه أن يعلمه مذهب أهل السنة.
(1) السير (17/190) .
(2)
انظر: تفصيل ذلك في ترتيب المدارك (7/51) وما بعدها.
(3)
ترتيب المدارك (7/69-70) .
(4)
مقدمة تحقيق إعجاز القرآن (ص: 37) وما بعدها.
(5)
انظر: تاريخ التراث العربي، سزكين المجلد الأول (ج- 4 ص: 49) ، وما بعدها- ط جامعة الإمام -.
والتمهيد من أهم كتب الأشاعرة، وقد ركز فيه الباقلاني على الحجاج العقلي، ولذلك تضمن الردود الطويلة على المنجمين، والثنوية، والديصانية، والمجوس، والبراهمة، واليهود، والنصارى، وغيرهم.. مع أبواب أخرى في تفصيل مسائل الصفات والقدر وغيرها على وفق مذهب الأشاعرة.
والكتاب طبع في القاهرة وبيروت، وكل واحدة من الطبعتين ناقصة، وإحداهما تكمل الأخرى، وقد طبع أخيراً في بيروت طبعة تجمع بين الطبعتين، ولكن الذي سمى نفسه محققاً لهذه الطبعة وهو الشيخ عماد الدين حيدر ارتكب خطأ علمياً شنيعاً حين حذف من الكتاب نصاً للباقلاني يتعلق بإثباته للعلو والاستواء والرد على من أوله بالاستيلاء، وهو خطأ مقصود لأن الذي حذفه لا يناسب اعتقاده خاصة وأن له تعليقات يهاجم فيها المثبتة ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية (1) ، وسيأتي إيضاح هذه المسألة بعد قليل.
2-
رسالة الحرة، وقد طبع باسم " الإنصاف فيما يحب اعتقاده ولا يجوز الجهل به" وهذا الاسم خطأ، بل الاسم الصحيح "الحرة" وقد ذكره في مقدمة كتابه فقال:" أما بعد فقد وقفت على ما التمسته الحرة الفاضلة الدينية.."(2) ، وبهذا الاسم ذكره القاضي عياض (3) ، ونقل عنه ابن القيم (4) ، ورسالة الحرة رسالة جامعة ذكر فيها الباقلاني مسائل العقيدة أولاً بإجمال ثم فصلها، وتوسع كثيراً في مسألة القرآن وكلام الله وما يتعلق بذلك [ص:71-143] ، كما توسع في مسائل القدر والكسب [ص: 144-168] ، ثم ذكر مسائل الشفاعة والرؤية.
(1) انظر: التمهيد- ط - مؤسسة الكتب الثقافية في بيروت (ص: 41-42، وص: 296، وص: 301-302)، الحواشي. أما النص الذي حذفه فمكانه في (ص: 298) ، وهو موجود في طبعة مكارثي (ص: 260-262) .
(2)
الحرة (مطبوعة باسم الانصاف)، (ص: 193) .
(3)
انظر: ترتيب المدارك (7/70) .
(4)
انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية (ص: 193) .
3-
كتاب البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل والكهانة والسحر والنارنجات، وهو في إثبات النبوات، والفرق بين معجزات الأنبياء وخوارق السحرة والكهان وغيرهم، وهو من أوسع ما كتب في هذا الباب.
وقد طبع الكتاب بتحقيق مكارثي، وذكر أنه طبعه على المخطوط الوحيد المعروف لهذا الكتاب (1) ، ولما كان المخطوط ناقصاً رجح أن الباقلاني لم يتمه لأنه ربما ألفه في آخر عمره (2) ، أما كونه من آواخر كتبه فهو صحيح لأن الباقلاني في كتابه هذا يشير إلى كتبه الأخرى مثل التمهيد وأصول الديانات وكتبه في أصول الفقه، كما أشار إلى أنه قد ألف منذ سنين حول هذا الموضوع - المعجزات والفرق بينها وبين الكرامات والسحر - وأنه قد انتسخ في الحرم (3) ، وهذا يدل على أنه قد بلغ من الشهرة مبلغاً، أما دعوى مكارثي أن الباقلاني لم يتم كتابه هذا، لأن المخطوط انتهى عند قوله:" يتلوه إن شاء الل باب القول في الإبانة عن وجود الشياطين وذكر الأدلة على ذلك.."(4) ، فهي دعوى غير صحيحة لأن شيخ الإسلام ابن تيمية نقل نصوصاً من هذا الكتاب في كتابه " النبوات "، ومنها نصوص ليست موجودة في المطبوعة من البيان (5) ، مما يدل على أنه قد اعتمد على نسخة كاملة وأن الباقلاني قد أتمه.
وكتاب النبوات رد على الباقلاني في كتابه هذا.
4-
كتاب هداية المسترشدين والمقنع في معرفة أصول الدين، وهو كتاب كبير بقي منه مجلد واحد من الجزء السادس إلى الجزء السابع عشر بتجزئة
(1) انظر: مقدمة تحقيق البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات (ص: 15) .
(2)
انظر: مقدمة المصدر السابق (ص: 20) .
(3)
انظر: البيان (ص: 5-6) .
(4)
نفس المصدر (ص: 108) .
(5)
انظر: النبوات (ص: 51-182) - ط دار الكتب العلمية -.
المؤلف (1) ، وقد أشار إليه ابن تيمية في التسعينية (2) ، والفرقان بين الحق والباطل (3) ، وهو كتاب جامع وإن ركز فيه الباقلاني - في الجزء الموجود - على مسألة النبوات وإعجاز القرآن (4) .
5-
دقائق الكلام والرد على من خالف الحق من الأوائل ومنتحلي الإسلام وهي في الرد على الفلاسفة والمنجمين، وقد أشار إليه ابن تيمية في درء التعارض (5) .
6-
الإبانة عن إبطال مذهب أهل الكفر والضلالة، وقد نقل منه ابن تيمية نصاً حول الصفات في الفتوى الحموية (6) ، وابن القيم في اجتماع الجيوش (7) ، كما أشار إليه ابن تيمية في درء التعارض (8) .
7-
شرح اللمع لأبي الحسن الأشعري، ولم يصل إلينا هذا الكتاب، لكن نقل منه شيخ الإسلام نصوصاً كثيرة في درء التعارض، وكتاب (9) ، " اللمع " للأشعري يحمل مكانة عند الأشاعرة، ولذلك لما قدم الباقلاني إلى شيراز لمقابلة عضد الدولة البويهي استقبله فيها عبد الله بن خفيف - أحد تلامذة الأشعري - في جماعة من الصوفية وأهل السنة، يقول الباقلاني:" فلما جلسنا في موضع كان ابن خفيف يدارس فيه أصحابه اللمع للشيخ أبي الحسن الأشعري، فقلت له: تماد على التدريس كما كنت، فقال لي: أصلحك الله، إنما أنا بمنزلة المتيمم عند عدم الماء.."(10) .
(1) انظر: مقدمة السيد أحمد صقر لإعجاز القرآن (ص: 38-39) .
(2)
(ص: 241) .
(3)
(ص: 109) ، - ت الأرناؤوط -.
(4)
مقدمة السيد أحمد صقر (ص: 39) .
(5)
1/158.
(6)
ضمن مجموع الفتاوى (5/98) .
(7)
(ص: 193) .
(8)
3/382، 6/206.
(9)
7/304، 30-307، 8/315-317، 330-333، 334-335، 339-342.
(10)
انظر: الإشارات الحسان لابن غازي، ضمن أزهار الرياض للمقري (3/80) ، ونص الكتاب موجود ما بين صفحتي (65-87) من هذا الجزء.
8-
كتاب في الإيمان، ذكره ابن تيمية في الفرقان بين الحق والباطل (1) .
9-
كتاب النقض الكبير، نقل منه الجويني في الشامل (ص: 680) .
10-
كتاب الكسب، ذكره أبو المظفر الإسفراييني في التبصير بالدين (2) .
11-
كتاب الإيجاز، ذكره في الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية (3) .
12-
مناقب الأئمة ونقض المطاعن على سلف الأمة، يوجد جزء منه في الظاهرية (4) .
13-
إعجاز القرآن، طبع عدة مرات.
14-
الانتصار للقرآن، يوجد المجلد الأول منه في تركيا، مكتبة قرة مصطفى باشا - مكتبة بايزيد في استانبول - وقد صوره فؤاد سزكين ضمن منشورات معهد تاريخ العلوم العربية الإسلامية في ألمانيا، وأشار إلى وجود قسم من كلا المجلدين في الحسينية في الرباط (5) . وقد دافع فيه الباقلاني عن القرآن ونقله، ورد ردوداً طويلة على الرافضة والملاحدة الطاعنين في كتاب الله، ولا يخلو من الردود الكلامية في المناسات المختلفة (6) .
وقد اختصر هذا الكتاب أبو عبد الله الصيرفي، وطبع هذا المختصر (7) ،
(1)(ص:38) - ت الأرناؤوط -.
(2)
(ص: 174) .
(3)
لأبي عذبة (ص: 18، 35، 58) .
(4)
مقدمة السيد أحمد صقر (ص: 42) .
(5)
مقدمة سزكين لمخطوطة الانتصار (ص:6) .
(6)
انظر مثلاً _ ص: 440) ، من المجلد الأول المخطوط وما بعدها، فقد عقد فصلاً حول الهدى والضلال وخلق الأفعال والقضاء وتقدير الأعمال وتكليف مالا يطاق رد فيه على ابن الراوندي، والقدرية والمعتزلة.
(7)
باسم " نكت الانتصار لنقل القرآن"، تحقيق د: محمد زغلول سلام - ط منشأة المعارف بالاسكندرية.
ولكن بالمقارنة بينه وين أصله تبين أنه تصرف فيه كثيراً، وقد شمل المختصر كل أبواب الكتاب.
هذه أهم كتب الباقلاني التي وصلت إلينا أو وصل إلينا جزء منها إما مخطوطاً أو منقولاً في بعض المصادر، وفي قائمة كتب الباقلاني بعض الكتب التي يدل عنوانها على أنها في العقيدة أو علم الكلام، أو الرد على الباطنية وغيرهم، نكتفي بالإشارة إليها، فمنها كتاب إكفار المتأولين، والإمامة الكبير، وتصرف العباد والفرق بين الخلق والاكتساب، والرد على المعتزلة فيما اشتبه عليهم من تأويل القرآن، والمقدمات في أصول الديانات، وكتاب الكرامات، وكتابه الإمامة الصغير، وكتاب التعديل والتجوير، وكتاب في أن المعدوم شيء، وكتاب كشف الأسرار وهتك الأستار في الرد على الباطنية.
ج-- مجمل عقيدته ومنهجه، ودوره في تطوير المذهب الأشعري:
1-
يبتدئ الباقلاني كتبه بالحديث عن المقدمات حول حقيقة العلم ومعناه، فيذكر أن حده "معرفة المعلوم على ما هو به"(1)، ثم يقسم العلوم إلى قسمين: علم الله القديم، وعلم الخلق، ويقسم علم الخلق إلى علم اضطرار وعلم نظر واستدلال (2) ، ثم يشرح ذلك، ثم يذكر استدلال فيعرفه، ثم يعرف الدليل ويقسمه إلى ثلاثة أقسام: عقلي، وسمعي شرعي، ولغوي (3) . ثم يذكر أقسام المعلومات وأنها قسمان: معدوم وموجود ولا ثالث لهما (4) .
ثم يقسم الموجودات ويقول: إنها ضربين: قديم لم يزل ومحدث لوجوده على أول (5)، ثم يقسم المحدثات إلى ثلاثة أقسام: جسم مؤلف، وجوهر منفرد، وعرض موجود بالأجسام والجواهر (6) .
(1) التمهيد (ص: 6) ، ت مكارئي، وهي التي سنعتمدها إلا ما يشار إليه، والحرة (ص: 13) .
(2)
انظر: المصدرين السابقين: التمهيد (ص: 7)، والحرة (ص: 14) .
(3)
انظر: الحرة (ص: 15) .
(4)
انظر المصدرين: (ص: 15)، والحرة (ص: 15) .
(5)
انظر المصدرين: التمهيد (ص: 16)، والحرة (ص: 16) .
(6)
انظر: التمهيد (ص: 17)، والحرة (ص: 16-17) .
فالباقلاني يقول بالجوهر الفرد ويدلل على إثباته ب-" علمنا بأن الفيل أكبر من الذرة، فلو كان لا غاية لمقادير الفيل ولا لمقادير الذرة لم يكن أحدهما أكثر مقادير من الآخر، ولو كان كذلك لم يكن أحدهما أكبر من الآخر"(1) .
كما يرى الباقلاني أن الأعراض لا يصح بقاؤها فهي لا تبقى زمانين (2) .
2-
ويرى أن أول الواجبات النظر فيقول: " أول ما فرض الله عزوجل على جميع العباد: النظر في آياته والاعتبار بمقدوراته والاستدلال عليه بآثار قدرته، وشواهد ربوبيته؛ لأنه سبحانه غير معلوم باضطرار، ولا مشاهد بالحواس، وإنما يعلم وجوده وكونه على ما تقتضيه أفعاله بالأدلة القاهرة، والبراهين الباهرة"(3) .
3-
يذكر دليل حدوث العالم، ويستدل لذلك بدليل حدوث الأجسام ويبنيه على دليل ثبوت الأعراض، فيذكر دليل ثبوت الأعراض، ثم يذكر أنها حادثه، ويستدل على ذلك ببطلان الحركة عند مجيء السكون، ثم يذكر دليل حدوث الأجسام وهو أنها لم تسبق الحوادث، ولم توجد قبلها، وما لم يسبق المحدث، ويفصل القول في ذلك (4) .
والباقلاني يرى ضرورة دليل حدوث الأجسام، وقد سبق بيان أن الأشعري لا يرى هذا الدليل ضرورياً وأن الرسل لم تدع إليه، وذلك في رسالته إلى أهل الثغر، لكن الباقلاني في شرحه للمع - للأشعري - يفسر كلامه في إثبات الصانع واستدلاله على ذلك بالنطفة وتغيرها وانتقالها من حال إلى حال فيقول: " اعلم أن هذا الذي ذكره هو المعول عليه في الاستدلال على حدوث الأجسام
…
" (5) ، ويرى الباقلاني أن الخليل عليه السلام احتج بهذا الدليل
(1) التمهيد (ص: 17-18) .
(2)
انظر: التمهيد (ص: 18،239، 287)، والحرة (ص: 16-17) .
(3)
الحرة (ص: 22) .
(4)
انظر: التمهيد (ص:18-21)، والحرة (ص: 17-18) .
(5)
شرح اللمع - عن الدرء - لابن تيمية (8/315)، وانظر: أيضاً التمهيد (ص: 48-49، 301)، الحرة (ص:30) .
في قوله: {هَذَا رَبِّي} (الأنعام:76) ، والآيات بعدها (1) .
4-
ويحتج لإثبات الصانع بأن الكتابة لا بد لها من كاتب، ولا بد للصورة من مصور، وللبناء من بان (2) ، ويستدل أيضاً بوجود المحدثات متقدمة ومتأخرة مع صحة تأخر المتقدم وتقدم المتأخر (3)، كما يحتج لإثبات وحدانيته بدليل التمانع ويحتج له بقوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء:22)(4) .
5-
أما رأيه في الصفات فيمكن توضيحه كما يلي:
أ - يثبت الباقلاني الصفات عموماً ولا يقتصر على إثبات الصفات السبع، ويقسم الصفات إلى صفات ذات وصفات فعل فيقول:" صفات ذاته هي التي لم يزل ولا يزال موصوفاً بها، وهي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والبقاء والوجه والعينان واليدان، والغضب والرضى، وهما الإرادة على ما وصفناه - وهي الرحمة والسخط والولاية والعداوة والحب والإيثار والمشيئة - وإدراكه تعالى لكل جنس يدركه الخلق من الطعوم والروائح والحرارة والبرودة وغير ذلك من المدركات، وصفات فعله هي الخلق والرزق، والعدل، والإحسان والتفضل والأنعام، والثواب والعقاب، والحشر والنشر، وكل صفة كان موجوداً قبل فعله لها، غير أن وصفه لنفسه بجميع ذلك قديم، لأنه كلامه الذي هو قوله: إني خالق رازق باسط، وهو تعالى لم يزل متكلماً بكلام غير محدث ولا مخلوق"(5) .
(1) انظر: الحرة (ص:30) .
(2)
انظر: التمهيد (ص: 23)، والحرة (ص:18) .
(3)
انظر المصدر السابق: التمهيد (ص: 23)، والحرة (ص: 19) .
(4)
انظر: التمهيد (ص: 25)، والحرة (ص: 34) .
(5)
التمهيد (ص: 262-263) .
ويتبين من ذلك أنه يثبت الصفات لله تعالى، ولا يفرق بين الصفات العقلية والصفات الخبرية.
ب - يستدل للصفات السبع وهي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة بأدلة نقلية وعقليه؛ ففي التمهيد يقتصر على الأدلة العقلية لهذه الصفات (1) ، أما في رسالة الحرة فيحتج بالأدلة من القرآن وبأدلة العقول (2) .
جـ - يؤول صفات الغضب والرضى بأن المقصود بهما: إرادته لإثابه المرضى عنه وعقوبة المغضوب عليه (3) ، وهو بذلك يقول بقول الأشعري - كما سبق -.
د - يرى أن صفة البقاء من صفات الذات لله، وأنه ليس باقياً ببقاء، فهي صفة نفسية وليست صفة زائدة على الذات (4) .
هـ - يثبت الصفات الخبرية لله تعالى كالوجه واليدين والعينين، يقول: "وأخبر أنه ذو الوجه الباقي بعد تقضي الماضيات، كما قال عزوجل:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (القصص:88)، وقال:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} (الرحمن:27)، واليدين اللتين نطق بإثباتهما له القرآن في قوله عزوجل:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (المائدة:64)، وقوله:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (صّ:75) ، وإنهما ليستا بجارحتين، ولا ذوي صورة وهيئة، والعينين اللتين أفصح بإثباتهما من صفاته القرآن، وتواترت بذلك أخبار الرسول عليه السلام، فقال عزوجل:{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (طه:39)، {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (القمر:14) ،وإن عينه ليست بحاسه من الحواس، ولا تشبه الجوارح
(1) انظر: التمهيد (ص: 26-29) .
(2)
انظر: رسالة الحرة (ص: 35-37) .
(3)
انظر: التمهيد (ص:27)، والحرة (ص: 39) ، ومثلها صفات الرحمة والمحبة والسخط والبغض، انظر: الحرة (ص: 24) .
(4)
انظر: التمهيد (ص: 263)، وأصول الدين للبغدادي (ص: 90-109) ، وفيصل التفرقة للغزالي (ص: 131) - ت سليمان دنيا - والروضة البهية (ص: 66) .
والأجناس" (1) ، وفي التمهيد يستدل ببعض هذه الأدلة، ثم يرد على من أول اليدين بالقدرة أو النعمة فيقول: " يقال لهم: هذا باطل، لأنه قوله:" بيدي" يقتضي إثبات يدين هما صفة له، فلو كان المراد بهما القدرة، لوجب أن يكون له قدرتان وأنتم فلا تزعمون أن للباري سبحانه قدرة واحدة، فكيف يجوز أن تثبتوا له قدرتين؟ وقد أجمع المسلمون، من مثبتي الصفات والنافين لها على أنه لا يجوز أن يكون له تعالى قدرتان، فبطل ما قلتم، وكذلك لا يجوز أن يكون الله تعالى خلق آدم بنعمتين؛ لأن نعم الله تعالى على آدم وعلى غيره لا تحصى
…
" (2) ،
وكلام الباقلاني يدل على أنه في زمنه لم يكن أحد يؤول اليدين بالقدرة إلا المعتزلة، ولهذا قال لهم:"وأنتم لا تزعمون أن للباري قدرة واحدة "، وعلى ذلك فالتأويل لهذه الصفات - أعني صفة الوجه واليدين والعين - عند الأشعرية جاء بعد الباقلاني.
و كما يثبت الباقلاني صفة العلو والاستواء لله تعالى، ويرد على الذين يؤولون الاستواء بالاستيلاء، وعلى الذين يقولون إن الله في كل مكان، يقول:" فإن قالوا: فهل تقولون إنه في كل مكان؟ قيل: معاذ لله، بل هومستو على العرش، كما خبرّ في كتابه فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه:5) ، وقال تعالى:) إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر:10) ، وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} (الملك:16) ، ولو كان في كل مكان لكان في جوف الإنسان وفمه وفي الحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها تعالى عن ذلك، وأوجب أن يزيد بزيادة الأماكي إذا خلق منها ما لم يكن خلقه، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان، ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى وراء ظهورنا وعن أيماننا وشمائلنا، وهذا ما قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله"(3) ، ثم يرد على من اعترض بالنصوص الدالة على أن الله في السماء إله
(1) رسالة الحرة (ص: 24) .
(2)
التمهيد (ص: 259) ..
(3)
التمهيد (ص: 260) - ت مكارثي-.
وفي الأرض إله، وأنه مع المؤمنين وغيرها من النصوص الدالة على المعية، ويبين أنه لا دلالة فيها (1) . ثم يقول: " ولا يجوز أن يكون معنى استوائه على العرش هو استيلاؤه عليه، كما قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق
…
من غير سيف ودم مهراق (2)
لأن الاستيلاء هو القدرة والقهر، والله تعالى لم يزل قادراً قاهراً، عزيزاً مقتدراً، وقوله:) {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (الأعراف:54) ، يقتضي استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن فبطل ما قالوه" (3) .
وهذا النص موجود في طبعة مكارثي من التمهيد، يبين ما في اتهام كل من الكوثري ومحققي التمهيد - الخضيري وأبي زيدة - من تجن على شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، اللذين نقلا هذا النص ونسباه إلى الباقلاني في التمهيد (4) . ومع أن محققي التمهيد قد ذكرا في ذيول تحقيقهما لهذا الكتاب ما يدل دلالة قاطعة على أن المخطوط الذي اعتمداه ناقص (5)، إلا أنهما جزما بخطأ ابن تيمية وابن القيم فقالا:" ونحن نثق على كل حال بنسخة التمهيد التي بين أيدينا ثقة أقوى من ثقتنا بنقل ابن تيمية وابن القيم، والله أعلم "(6) ، ولما نشر التمهيد - عن عدة نسخ خطية بتحقيق رجل نصراني - تبين صدق شيخي الإسلام وتثبتهما في النقل، وخطأ هؤلاء الذين اتهموهما بالتحيز والخداع، وكيف يعتمد هؤلاء على أقول الكورثي المشهور بالتجهم والحاقد على أئمة أهل السنة؟ (7) .
(1) انظر: التمهيد (ص: 261-262) .
(2)
هذا البيت منسوب إلى الأخطل النصراني، انظر: البداية والنهاية (9/7) في ترجمة بشر ابن مروان أخو عبد الملك بن مروان، وتاج العروس مادة سوا من حرف الياء.
(3)
التمهيد (ص: 262)، وقد ذكر السجزي في الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 143) ، أن الباقلاني يقول إن الاستواء فعل فعله الله في العرش.
(4)
انظر: درء التعارض (6/206 - 207)، واجتماع الجيوش (ص: 193) .
(5)
انظر: التمهيد - ط القاهرة - (ص: 260-261) ، ذيول المحققين - حيث ذكرا سببين يدلان على نقص المخطوطة التي اعتمدا عليها، ومع ذلك- ولا أدري ما السبب - جزماً بكمالها.
(6)
المصدر السابق - نفس الطبعة (ص: 265) .
(7)
سأل المحققان الكوثري عما نقله ابن القيم من التمهيد حول الاستواء فقال: " لا وجود لشيء مما عزاه ابن القيم إلى كتاب التمهيد في كتاب التمهيد هذا، ولا أدري ما إذا كان ابن القيم عزا إليه ما ليس فيه زوراً ليخادع المسلمين في نحلته أم ظن بكتاب آخر أنه كتاب التمهيد للباقلاني"، التمهيد (ص: 265) ، وممن نبه إلى ما وقع فيه هؤلاء من خطأ في هذا الموضوع جلال موسى في كتابه نشأة الأشعرية (ص: 331) ، مع أنه ممن لا يوافق ابن تيمية في آرائه لكنه قال هنا كلمة الحق والإنصاف.
والباقلاني وإن كان يثبت الاستواء والعلو إلا أنه يرى عدم إطلاق الجهة على الله تعالى، يقول:" ويجب أن يعلم أن كل ما يدل على الحدوث أو على سمة النقص فالرب تعالى يتقدس عنه، فمن ذلك: أنه تعالى متقدس عن الاختصاص بالجهات والانصاف بصفات المحدثات، وكذلك لا يوصف بالتحول والانتقال، ولا القيام ولا القعود، لقوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى:11) ، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الاخلاص:4) ، ولأن هذه الصفات تدل على الحدوث، والله تعالى بتقديس عن ذلك، فإن قيل: أليس قد قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه:5) ، قلنا: بلى، قد قال ذلك، ونحن نطلق ذلك وأمثاله على ما جاء في الكتاب والسنة لكن ننفي عنه أمارة الحدوث، ونقول: استواؤه لا يشبه استواء الخلق، ولا نقول: إن العرش له قرار ولا مكان، لأن الله تعالى كان ولا مكان، فلما خلق المكان لم يتغير عما كان"(1)، ثم ينقل عن أبي عثمان المغربي أنه قال:" كنت اعتقد شيئاً من حديث الجهة، فلما قدمت بغداد وزال ذلك عن قلبي، فكتبت إلى أصحابنا: إني قد أسلمت جديداً"(2) . ولفظ الجهة -كما سيأتي - لفظ مجمل.
ز- أما رأيه في كلام الله تعالى فهو يقول: " اعلم أن الله تعالى متكلم، له كلام عند أهل السنة والجماعة، وأن كلامه قديم، ليس بمخلوق ولا مجعول ولا محدث، بل كلامه قديم، صفة من صفات ذاته، كعلمه وقدرته وإرادته ونحو ذلك من صفات الذات، ولا يجوز أن يقال: كلام الله عبارة ولا حكاية
…
" (3) ، ويقول: " ويجب أن يعلم أن كلام الله تعالى مكتوب في المصاحف على الحقيقة" (4) و" مسموع لنا على الحقيقة لكن بواسطة وهو القاري" (5) ، وحقيقة الكلام عنده
(1) رسالة الحرة (ص: 41) .
(2)
المصدر السابق (ص: 42) .
(3)
نفسه (ص: 71)، وانظر:(ص: 110) .
(4)
نفسه (ص: 93) .
(5)
نفسه (ص: 94) .
- على الإطلاق في حق الخالق والمخلوق - " إنما هو المعنى القائم بالنفس، لكن جعل لنا دلالة عليه تارة بالصوت والحروف نطقاً، وتارة بجمع الحروف بعضها إلى بعض كتابة دون الصوت ووجوده، وتارة إشارة ورمزاً دون الحرف والأصوات ووجودهما "(1) ، وكلام الله عنده ليس بحروف ولا أصوات، ولا يحل في شيء من المخلوقات (2) .
هذه خلاصة أقوال الباقلاني في كلام الله، ولكن إذا كان الكلام هو المعنى القائم في النفس، فالكلام النازل علينا كلام من؟ ، سبق قبل قليل أن الباقلاني يقول: إن كلام الله مكتوب في المصاحف على الحقيقة، ومتلو بالألسن على الحقيقة، لكنه بعد ذلك يقول كلاماً خطيراً حيث يزعم
…
إن كلام النازل كلام جبريل، يقول الباقلاني:" ويجب أن يعلم أن كلام الله تعالى منزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم نزول إعلام وإفهام لا نزول حركة وانتقال "، ثم يقول بعد كلام: " والنازل على الحقيقة المنتقل من قطر إلى قطر قول جبريل عليه السلام، يدل على ذلك قوله تعالى:{فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ* وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ *تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الأيات: (الحاقة38-43)، وقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ
…
} الآيات: (التكوير:15-29)، يقول الباقلاني معلقاً على هذا:" هذا إخبار من الله تعالى بأن النظم العربي الذي هو قراءة كلام الله تعالى قول جبريل لا قول شاعر ولا قول كاهن"(3) ،
ثم يقول - بعد كلام- " فحاصل هذا الكلام أن الصفة القديمة كالعلم والكلام ونحو ذلك من صفات الذات، لا يجوز أن تفارق الموصوف، لأن الصفة إذا فارقت الموصوف اتصف بضدها، والله تعالى متنزه عن الصفة وضدها، فافهم ذلك، فجاء من ذلك أن جبريل
(1) رسالة الحرة (ص: 108) .
(2)
انظر: نفس المصدر (: 99) .
(3)
رسالة الحرة (ص: 96-97) ..
عليه السلام علم كلام الله وفهمه، وعلمه الله النظم العربي الذي هو قراته، وعلم هو القراءة نبينا صلى الله عليه وسلم، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه
…
لكن المقروء والمتلو هو كلام الله القديم الذي ليس بمخلوق ولا يشبه كلام الخلق " (1) .
وهذا كلام عجيب، ولا شك أن الباقلاني متابع في هذا الأصل لشيوخه الأشاعرة.
ح - أما مسألة الصفات الاختيارية القائمة بالله تعالى، وهي المسماة بمسألة حلول الحوداث، فالباقلاني ينفيها بقوة، ويدل على ذلك:
1-
قوله في النص السابق لما ذكر الصفات الفعلية قال: غير أن وصفه لنفسه بجميع ذلك قديم، لأنه كلامه الذي هو قوله: إني خالق، رازق، باسط، وهو تعالى لم يزل متكلماً بكلام غير محدث ولا مخلوق" فهو لا يرى أن الصفات الفعلية تقوم بالله، بل يجعل أمر الله وقوله أزلياً، وهو كلامه، أما المخلوق فهو منفصل عن الله لا يقوم به.
2-
قوله عن صفات الله: " إنه لا يجوز حدوثها له، لأن ذلك يوجب أن تكون من جنس صفات المخلوقين، وأن تكون ذات أضداد كصفات المخلوقين، وأن يكون الباري سبحانه قبل حدوثها موصوفاً بما يضادها وينافيها من الأوصاف، ولو كان ذلك كذلك، لوجب قد إضدادها، ولاستحال أن يكون القديم سبحانه موصوفاً بها في هذه الحال، وأن يوجد منه من ضروب الأفعال ما يدل على كونه عالماً قادراً حياً، وفي بطلان ذلك دليل على قدم هذه الصفات وأن الله سبحانه لا يجوز أن يتغير بها ويصير له حكم لم يكن قبل وجودها، إذ لا أول لوجودها"(2) ويقول في كلامه عن نفي السنة والنوم عن الله عزوجل: " والمعتمد في هذا أنه سبحانه ذكر السنة والنوم تنبيهاً على أن جميع الأعراض ودلالات الحدوث لا تجوز عليه"(3) .
(1) رسالة الحرة (ص: 98) ، وفيما يتعلق بالمعجز من القرآن يرى أنه يقع على نظم الحروف التي هي دلالات وعبارات عن كلام الله، انظر: إعجاز القرآن (ص: 394-395) .
(2)
التمهيد (ص: 214) .
(3)
المصدر السابق (ص: 269) .
3-
ويقطع في هذه المسألة عند كلامه عن كلام الله والرد على القول بخلق القرآن فيقول: " ويستحيل من قولنا جميعاً أن يفعله في نفسه تعالى لأنه ليس بمحل للحوادث"(1) .
4-
ومن ذلك قوله في صفة المجيء والإتيان فقد ذكر فيهما عدة أقوال، وكلها ذكر فيها ما يدعم قوله في نفي حلول الحوادث بذات الله تعالى، يقول عن المخالفين المعترضين على آيات القرآن: " واعترضوا أيضاً [ب-] قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} (الفجر:22)، وقوله:{يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} (البقرة:210)، قالوا: والمجيء والإتيان حركة وزوال وذلك عندهم محال في صفته، فالجواب عن هذا عند بعض الأمة: أنه يجيء ويأتي بغير زوال ولا انتقال ولا تكييف، بل يجب تسليم ذلك على ما ورد وجاء به القرآن، والجواب الآخر أنه يفعل معنى يسميه مجيئاً وإتياناً، فيقال: جاء الله، بمعنى أنه فعل فعلاً كأنه جائياً (2)، كما يقال: أحسن الله وأنعم وتفضل، على معنى أنه فعل فعلاً استوجب به هذه الأسماء، ويمكن أن يكو أراد بذلك إتيان أمره وحكمه والأهوال الشديدة التي توعدهم بها وحذرهم من نزولها، ويكون ذلك نظيراً لقوله عزوجل:{وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} (الحشر:2)، ولا خلاف في أن معنى هذه الآية: أنها أمره وحكمه إياهم (3) ، وعقوبته ونكاله، وكذلك قوله:{فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} (النحل:26)(4) .
فهذه ثلاثة أقوال في معنى المجيء والإتيان: أحدهما: التسليم بهتين الصفتين بشرط نفي ما يدل على قيام الحوادث بالله بحيث تكون بغير زوال ولا انتقال.
(1) التمهيد (ص: 238) .
(2)
هكذا في المخطوطة، والصواب: جاء.
(3)
في نكت الانتصار حيث اختصر النص السابق وردت هنا كلمة: وحكمته بدل وحكمه إياهم.
(4)
الانتصار للقرآن - مخطوط - (1/539-540)، وانظر: نكت الانتصار المطبوع (ص: 194) .
والثاني: جعلهما من صفات الفعل المنفصلة عن الله لا تقوم به مثل خلقه الخلق وإحسانه إليهم، وهذا يوافق ما نسب إليه من قوله عن الاستواء: إنه فعل فعله الله في العرش سماء استواء، وقد سبقت الإشارة إليه، والثالث: التأوي كما هو مذهب متأخري الأشعرية.
5-
والباقلاني ممن يقول بالأحوال (1)، ولكنه يخالف أبا هاشم الجبائي المعتزلي - أول من قال بالحال - في قوله: إن الحال لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة، بل يرى أنها معلومة، ويرد ردوداً طويلة على الجبائي، ويقول بعد تقريره أن الحال لابد أن تكون معلومة:" وإن كانت هذه الحال معلومة، وجب أن تكون إما موجودة أو معدومة، فإن كانت معدومة استحال أن توجب حكماً وأن تتعلق بزيد دون عمرو، ويالقديم دون المحدث، وإن كانت موجودة وجب أن تكون شيئاً وصفة متعلقة بالعالم، وهذا قولنا الذي نذهب إليه إنما يحصل الخلاف في العبارة وفي تسمية هذا الشيء علماً أو حالاً، وليس هذا بخلاف في المعنى فوجب صحة ما نذهب إليه في إثبات الصفات"(2) ،
وقد عرف الشهر ستاني الحال عند القاضي بأنها: " كل صفة لموجود لا تتصف بالوجود فهي حال، سواء كان المعنى الموجب مما يشترط في ثبوته الحياة أو لم يشترط ككون الحي حياً وعالماً وقادراً وكون المتحرك متحركاً والساكن ساكناً والأسود والأبيض إلى غير ذلك "(3) .
والباقلاني بذلك يعتبر من أوائل من قال بالحال من الأشاعرة، ومن المعلوم أن أبا الحسن الأشعري ممن ينكر الأحوال، والباقلاني يثبت الصفات ويقول
(1) أول من قال بالأحوال أبو هاشم الجباني - والحال يصعب تعريفها بشكل دقيق- " انظر: نهاية الإقدام (ص: 131-132" ولذلك فهي مع كسب الأشعري وطفرة النظام مما قيل فيه: إنه لا حقيقة له، والحال تطلق على ما هو وسط بين الموجود والمعدوم، وهو صفة لا موجودة ولا معدومة، لكنها قائمة بموجود كالعالمية، وهي النسبة بين العالم والمعلوم، والحال عند أبي هاسم لا هي موجودة ولا معدومة، ولا هي معلومة ولا هي مجهولة، ولا هي قديمة ولا هي حديثة، انظر: المعجم الفلسفي، صليباً (1/438)، ولمجمع اللغة (ص: 66) .
(2)
التمهيد (ص: 201) ..
(3)
نهاية الإقدام (ص: 132) .
بالأحوال إلا أنه يخص الأحوال بالأمور التي تتصف بالوجود كالعرضية واللونية والاجتماع والافتراق والقادرية والعالمية وغيرها مما به تتفق المتماثلات، وتختلف المختلفات (1) ، على أنه قد ذكر رجوعه عن القول بها (2) .
6-
أما رأيه في القدر فهو لا يختلف عن رأي الأشاعرة فهو يثبت القدر من الله تعالى وأن الله خالق كل شيء، كما أنه يقول بالموافاة وأن الله رضي في الأزل عمن علم أنه يمون مؤمناً وإن عاش أكثر عمره كافراً، وسخط في الأزل عمن علم أنه يموت كافراً وإن كان أكثر عمره مؤمناً (3) ، وهذا بناء على أنه ينفي حلول الحوادث بذات الله تعالى، أما الاستطاعة والقدرة فلا تكون إلا مع الفعل، لكن الباقلاني خالف شيخه الأشعري بأن قال: إن قدرة العبد مؤثرة، يقول: " فإن قالوا: إن قلتم إن القادر منا على الفعل لا يقدر عليه إلا في حال حدوثه، ولا يقدر على تركه وفعل ضده، لزمكم أن يكون في حكم المطبوع المضطر إلى الفعل، قيل لهم: لا يجب ما قلتم لأنه ليس ها هنا مطبوع على كون شيء أو تولد عنه، أما المضطر إلى الشيء فهو المكره المحمول على الشيء الذي يوجد به، شاء أم أبى، والقدر على الفعل يؤثره ويهواه ولا يستنزل عنه برغبة ولا رهبة فلم يجز أن يكون مضطراً مع كونه مؤثراً مختاراً
…
" (4) ، وهذا يوافق ما ذكره عنه الشهرستاني (5) ، كما أنه ينفي تعليل أفعال الله كقول الأشاعرة (6) ، ويقول بالكسب (7) ، كما أنه يقول بإنكار الضرورة بين العلة والمعلول، ويرى إنكار السببية، وربط الأمر كله بالله، فالإحراق لا يكون بالنار
(1) انظر: الشامي للجويني (ص: 630-642)، ونشأة الأشعرية (ص: 340) .
(2)
ممن ذكر تردده في إثبات الأحوال ونفيها الجويني في الشامل (ص: 294-629)، وفي بعض أجوبته انظر: المعيار المعرب (11/246) ، والشهرستاني في الملل والنحل (1/95) .
(3)
انظر: رسالة الحرة (ص: 24-45) .
(4)
التمهيد (ص: 293) .
(5)
انظر: الملل والنحل (1/97)، ونهاية الإقدام (ص: 73) ، وما فيهما أصرح مما هنا.
(6)
انظر: تعليقه على قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذريات:56)، في الانتصار (ص: 480-481) من المجلد الأول المخطوط.
(7)
انظر: الحرة (ص: 144) ، والانتصار (1/491) .
وإنما يقع عندها لا بها، وهذا مبدأ السببية الذي اشتهر إنكاره عند الأشاعرة (1) .
7-
يثبت الرؤية بالنصوص الواردة، والله يرى لأنه موجود (2) ، ولكنه مع أنه يقول بالعلو والاستواء إلا أنه يلمح إلا أنه الله تعالى يرى وليس حالاً في مكان أو مقابلاً أو خلفاً، أو عن يمين أو عن شمال (3) ، وهذه عبارات استخدمها نفاة العلو ممن يقول بالرؤية.
8-
أما الإيمان فهو عنده التصديق بالله تعالى، وهو العلم. والتصديق يوجد بالقلب، ويستدل لذلك بإجماع أهل اللغة قاطبة، وبأن الإيمان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم هو التصديق، كما يستدل بقوله تعالى:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} (يوسف:17) وبقولهم: فلان يؤمن بالشفاعة أي يصدق (4) ، ويرى أن " ما يوجد من اللسان وهو الإقرار، وما يوجد من الجوارح وهو العمل، فإنما ذلك عبارة في القلب ودليل عليه"(5) .
ولا ينكر الباقلاني أن يطلق القول على الإيمان بأنه عقد بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان، ويفسر ذلك بأن المقصود به الإيمان الذي ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة (6) ، كما أنه لا ينكر أن يطلق على الإيمان أنه يزيد وينقص على أن يرجع ذلك إما إلى القول والعمل دون التصديق، أو إلى الثواب والجزاء والمدح والثناء دون التصديق الذي إذا انخرم منه شيء بطل الإيمان (7) .
(1) انظر: التمهيد (ص: 40) ، وما بعدها، وانظر: الأشاعرة أحمد صبحي (ص: 87) .
(2)
انظر: التمهيد (ص: 266) .
(3)
انظر: الحرة (ص: 187)، والتمهيد (ص: 277) .
(4)
انظر: التمهيد (ص: 346)، ورسالة الحرة (ص: 22،55) .
(5)
الحرة (ص:55) .
(6)
انظر: المصدر السابق (ص: 56) .
(7)
الحرة (ص: 57-58) .
9-
أما الإمامة فيذهب فيها إلى ما يذهب إليه السلف، وله في التمهيد بحوث طويلة في الدفاع عن الصحابة، وخاصة عثمان وعلياً رضي الله عنهما، كما أنه يثبت إمامة الخلفاء الأربعة على الترتيب، ويرد على الرافضة ودعاواهم الباطلة (1) .
10-
ومن الأمور التي ركز عليها الباقلاني مسألة المعجزات، والفرق بينهما وبين الكرامات والسحر، وقد فصل رأيه في ذلك في كتابه المتعلق بهذا الموضوع.
ويمكن تلخيص رأيها فيها بمايلي:
أ- أن الدلالة على صدق الرسول لا تتم إلا بالمعجزة، "فمتى أهله الله لهذه المنزلة وأحلّه في هذه الرتبة وألزم الأمم العلم بنبوته والتصديق بخبره، لم يكن بد له من آية تظهر على يده ما يفصل بها المكلفون لصدقه بينه وبين الكاذب المتنبئ، وإلا لم يكن لهم إلا فعل العلم بما كلفوه من صدقه وتعظيمه، والقطع على ثبوت نبوته وطهارة سريرته سبيل
…
وقد اتفق على أنه لا دليل يفصل بين الصادق والكاذب في إدعاء الرسالة إلا الآيات المعجزة " (2) ، ومعنى هذا إن الدلائل الأخرى العديدة للنبوات - غير المعجز الخارق للعادة - لا يثبت بها صدق الأنبياء.
ب- والمعجز لا يكون معجزاً " حتى يكون مما ينفرد الله عزوجل بالقدرة عليه ولا يصح دخوله تحت قدر الخلق من الملائكة والبشر والجن، ولابد أن يكون ذلك من حقه وشرطه "(3) ، ويعرض الباقلاني للرأي الآخر لبعض أصحابه الأشاعرة وجمهور القدرية وهو جواز أن يكون المعجز مما ينفرد الله بالقدرة عليه، كما يجوز أن يكون مما يدخل جنسه تحت قدر العباد، ومثال الأول:
(1) انظر: التمهيد - ط القاهرة - تحقيق الخضيري وأبي زيدة (ص: 164-249) .
(2)
كتاب البيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات والحيل والكهانة والسحر (ص: 37-38) .
(3)
المصدر السابق (ص:8) .
اختراع الأجسام وإبداع الجوارج والأسماع والأبصار، ورفع العمى، والزمانة وغيرهما من العاهات والضرب الآخر: شيء يقع مثله وما هو من جنسه تحت قدرة العباد، غير أنه يقع من الله على وجه يتعذر على العباد مثله، وذلك نحو تفريق أجزاء الجبال الصم، ورفعها إلى السماء، وتغييض ماء البحار، وحنين الجذع، ونظم القرآن
…
(1) ، ويرى الباقلاني أن هذا القول ليس ببعيد (2) ، لكنه يقيد ذلك بأن يمنعوا وأن يرفع عنهم القدرة على فعل مثل ذلك الذي جاء به النبي، ويمثل لذلك بأن النبي لو قال:" آيتي وحجتي أنني أقوم من مكاني وأحرك يدي، وأنكم لا تستطيعون مثل ذلك، فإذا منعوا من فعل مثل ما فعله، كانت الآية له خرق العادة بخلق المنع لهم من القيام وتحريك الجوارح ورفع قدرهم على ذلك مع كونه معتاداً من أفعالهم"(3) .
جـ - أما شروط المعجزة عنده فهي:
1-
أن تكون مما ينفرد الله بالقدرة عليه.
2-
أن يكون ذلك الذي يظهر على أيديهم خارقاً للعادة.
3-
أن يكون غير النبي صلى الله عليه وسلم ممنوعاً من إظهار ذلك على يده.
4-
أن يقع عند تحدي النبي وادعائه النبوة وأن ذلك آية له (4) .
د - ولكن كيف يفرق بين المعجزة وبين حيل المشعوذين وأصحاب الخوارق الشيطانية؟ يجيب الباقلاني بما أجاب به سابقاً، من أن معجزات الرسل لا يصح أن يقدر عليها إلا الله تعالى مثل إحياء الموتى واختراع الأجسام (5) .
وكذلك بالنسبة لما يأتي به الساحر (6)، ولكنه يقول: " إن الساحر إذا احتج
(1) انظر: كتاب البيان (ص: 14-15) .
(2)
انظر: نفس المصدر (ص:16) .
(3)
البيان (ص: 16-17) .
(4)
انظر: البيان (ص: 45-46) .
(5)
انظر: نفس المصدر (ص: 56-58)، وانظر: بعض التفاصيل لذلك في نكت الانتصار المطبوع (ص: 299-306) .
(6)
انظر: نفس المصدر (ص: 94) .
بالسحر وادعى به النبوة أبطله الله تعالى عليه بوجهين: أحدهما: أنه إذا علم ذلك في حال الساحر وأنه سيدعي به النبوة أنساه عمل السحر جملة. والثاني: أن ينجد خلق من السحرة يفعلون مثل فعله ويعارضونه بأدق مما أورده فينتقض بذلك ما ادعاه (1) ، أما الفرق بين المعجزة والكرامة فليس موجوداً في المطبوعة الناقصة من البيان، ولكن الباقلاني، ذكر ذلك في رسالته لأحد العلماء، وذكر فيها أن الفرق هو أن الأمر الخارق للنبي مقرون بالتحدي والاحتجاج، وأن صاحب الكرامة لا يدعي النبوة بكرامته ولو علم الله أنه يدعي بها النبوة لما أجراها على يديه (2) .
دور الباقلاني في تطور المذهب الأشعري:
يعتبر الباقلاني المؤسس الثاني للمذهب الأشعري (3) ؛ والباقلاني تلميذ لتلامذة الأشعري فهو قريب العهد به، وعلى الرغم من أن تلامذة الأشعري كانوا أقوياء وذوي تأثير واسع إلا أن أحداً منهم لم يبلغ ما وصل إليه الباقلاني، ولعل الفترة التي عاشها الأشعري وتلامذته كان السائد فيها المذهب الكلابي، فكان المذهبان متداخلين، والأشعري وغيره من معاصريه كانوا تلامذة لابن كلاب، وتلامذة هؤلاء لم يتميزوا كأشاعرة وإنما كانوا كلابية لأن تتلمذهم لم يكن مقتصراً على الأشعري، وإنما كان عليه وعلى غيره من الكلابية، وهذا حسب الأغلب فقط.
فلما جاء الباقلاني جرد نفسه لنصرة أبي الحسن الأشعري ومذهبه، والعمل على دعمه بأوجه جديدة من الحجاج والمناظرات، وقد تمثل ذلك بعد طرق أهمها:
(1) البيان (ص: 94-95) .
(2)
انظر: المعيار المعرب (ص: 11/250-251) ، ضمن رسالة كتبها الباقلاني إلى محمد بن أحمد ابن المعتمر المرقى.
(3)
انظر في الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيقه، إبراهيم مدكور (2/47) ، وفي علم الكلام، الأشاعرة أحمد صبحي (ص:75) .
1-
أن الباقلاني ربط اسمه بالأشعري، فصار علماً عليه يذكر في نسبه فيقال: أبو بكر بن الطيب الباقلاني الأشعري، وهذا موجود في الكتب التي ترجمت له، وفي صور عناوين مخطوطات كتبه (1) ، ولحماسة في الانتساب إلا الأشعري ونصرة مذهبه عدة الأشاعرة المجدد على رأس المئة الرابعة بعد الأشعري الذي يعتبرونه مجدد المئة الثالثة (2) .
2-
مع انتسابه إلى الأشعري وطد علاقته بالحنابلة، تبعاً لأبي الحسن الأشعري الذي أعلن في الإبانة رجوعه إلى قول الإمام أحمد، وقد وصل الأمر بالباقلاني إلى أنه كان يكتب أحياناً في أجوبته: محمد بن الطيب الحنبلي، كما كان يكتب: الأشعري؛ لأن الأشعري وأصحابه كانوا منتسبين إلى الإمام أحمد وأمثاله من أئمة السنة (3) .
وكانت علاقة الباقلاني بالتميميين الحنابلة قوية، ويذكر ابن عساكر وغيره نماذج لهذه العلاقات الوطيدة بينهم (4) ، وقد استفاد الباقلاني من ذلك سمعة طيبة عند الحنابلة مع أنه أشعري جلد، كما أن بعض الحنابلة كالتميميين مالوا إلى بعض أقوال الأشاعرة، ولا شك أن علاقتهم بالباقلاني صاحب البلاغة والفصاحة والحجج المنطقية كان لها تأثير في ذلك.
3-
حرص الباقلاني على مناقشة المبتدعة من المعتزلة وغيرهم، ومناظرتهم مناظرة علنية أمام السلاطين، ولذلك لما جاء خطاب عضد الدولة يدعوه إلى مجلسه في سيراز قال شيخ الباقلاني أبو الحسن الباهلي - وفي رواية أبو بكر بن مجاهد -
(1) انظر: صور عناوين المخطوطات لكل من: الأنتصار، والتمهيد، طبعة القاهرة، وإعجاز القرآن، ت السيد أحمد صقر، والبيان عن الفرق بين المعجزات والكرامات.
(2)
انظر: تبيين كذب المفتري (ص: 53) ، أما المجدد الأول والثاني فعند جمهور العلماء أن مجدد المئة الأولى عمر بن عبد العزيز والثانية الإمام الشافعي، وهذا قول الإمام أحمد وغيره، انظر: توالي التأسيس لابن حجر (ص: 47-48) .
(3)
انظر: درء التعارض (1/270) .
(4)
انظر: تبيين كذب المفتري (ص: 221-390) ، والمعيار المعرب (11/76) .
وبعض أصحابه: هؤلاء قوم كفرة، فسقه، لأن الديلم كانوا روافض، لا يحل لنا أن نطأ بساطهم وليس غرض الملك من هذا إلا أن يقال: إن مجلسه مشتمل على أصحاب المحابر كلهم، ولو كان خالصاً لله لنهضت، قال القاضي [الباقلاني] : فقلت لهم: كذا قال ابن كلاب، والمحاسبي، ومن في عصرهم: إن المأمون فاسق، لا يحضر مجلسه، حتى ساق أحمد بن حنبل إلى طرسوس، وجرى عليه بعده ما عرف، ولو ناظروه لكفوه عن هذا الأمر، وتبين لهم ما هم عليه من الحجة، وأنت أيضاً أيها الشيخ تسلك سبيلهم حتى يجري على الفقهاء ما جرى على أحمد، ويقولون بخلق القرآن، ونفي الرؤية، وها أنا خارج إن لم تخرج، فقال الشيخ: إذا شرح الله صدرك لهذا فاخرج، فخرجت مع الرسول إلى شيراز (1) ، وكان من نتيجة ذلك تلك المناظرات مع المعتزلة في مجلس عضد الدولة، ولما انتصر عليهم قربه الملك وأمره أن يعلم ولده، فألف له التمهيد (2) ، كما أن عضد الدولة أرؤسله إلى ملك الروم وجرت له مناظرات عديدة مع النصارى اشتهرت حكاياتها عند الناس.
فالباقلاني حين عزم على مناقشة المعتزلة (3) ، ومناظراتهم كان ذلك بناء على منهج اختطه لنفسه، ورأى أنه وسيلة لازمة لمقاومة مخالفيه من أهل البدع، ولذلك نعى على شيوخه كابن كلاب والمحاسبي حين تركوا المأمون ومن معه من أهل الاعتزال يفرضون على الناس مقالتهم الاعتزالية، وحين يضرب الباقلاني المثل بهذين كان يقصد أن تمكنهما من علم الكلام يعطيهما قدرة على مناقشة المعتزلة أصحاب الكلام والجدل العقلي فهو يرى أن الواجب عليهما أكبر من غيرهما.
4-
كان للباقلاني دور واضح في تطوير المذهب الأشعري، ويكاد يجمع جميع الباحثين على أن له دوراً في ذلك، يقول ابن خلدون: " وكثر أتباع الشيخ
(1) ترتيب المدارك (7/52-53) .
(2)
انظر: تبيين كذب المفتري (ص: 118-120، 215-219) .
(3)
في الانتصار - المخطوط - (1/495) ، يشن الباقلاني هجوماً على المعتزلة وأسالبيهم في نشر أقوالهم ومنها دعاواهم في وصف خصومهم بأنهم حشو وعامة ونابتة.
أبي الحسن الأشعري، واقتفي طريقته من بعده تلميذه (1) ، كابن مجاهد وغيره، وأخذ عنهم القاضي أبو بكر الباقلاني، فتصدر للإمامة في طريقتهم، وهذبها، ووضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار، وذلك مثل إثبات الجوهر الفرد، والخلاء، وإن العرض لا يقوم بالعرض، وأنه لا يبقى زمانين، وأمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم، وجعل هذه القواعد تبعاً للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها لتوقف تلك الأدلة عليها، وأن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول" ثم يعقب ابن خلدون مشيراً إلى الظروف التاريخية للقول بهذه الأمور، فيقول: " وجملت هذه الطريقة وجاءت من أحسن الفنون النظرية والعلوم الدينية، إلا أن صور الأدلة فيها جاءت بعض الأحيان على غيرالوجه القناعي لسذاجة القوم، ولأن صناعة المنطق التي تسير بها الأدلة وتعتبر بها الأقيسة لم تكن حينئذ ظاهرة في الملة، ولو ظهر منها بعض الشيء، لم يأخذ به المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة لعقائد الشرع بالجملة فكانت مهجورة عندهم لذلك" (2) ، ويرى الدكتور إبراهيم مدكور أنه يعتبر: الخليفة للأشعري، وأنه " تأثر بالمعتزلة، فاعتنق نظرية الجوهر الفرد كما اعتنقها الأشعري، ودعمها وعمقها، وقال بفكرة الأحوال، وحاول أن يسوي بين الحال والصفة، ولا شك في أنه بعد أو من ثبت دعائم المذهب الأشعري، وأضاف إليه أسساً عقلية، وإن قال بمبدأ له خطره وهو: إن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول" (3) .
ويشير محققاً التمهيد - أبو ريدة ومحمود الخضيري - إلى جوانب من دور الباقلاني في تطوير مذهب الأشاعرة، فيقولان:" أما القيمة الكبرى لعمل الباقلاني فهي.. كانت في التنهيج وفي بناء مذهب الأشاعرة الكلامي والاعتقادي بناء منظماً لا من حيث الطريقة المنطقية الجدل فحسب، بل من حيث وضع المقدمات التي تبني عليها الأدلة، ومن حيث ترتيب هذه المقدمات بعضها بعد بعض على نحو يدل على امتلاك ناصية الجدل وعلى طول اعتبار في أصول الاستدلال"(4) ، ثم يذكران
(1) كذا في طبعات مقدمة ابن خلدون، ومنها - ط بولاق - (ص: 388) ، - وط كاترمير- (3/40)، - وط دار الكتاب اللبناني - المجلد الأول (ص: 934) ، إضافة إلى طبعة الشعب، ولعل الصواب، تلاميذه.
(2)
مقدمة ابن خلدون (ص:429) ، - ط الشعب -.
(3)
في الفلسفة الإسلامية (2/51) ..
(4)
مقدمة تحقيق التمهيد - ط القاهرة - (ص: 15) .
قول ابن خلدون، وقبل ذلك ذكرا أن الباقلاني لم يكن " مجرد مواصل لحمل تراث الأشاعرة المتقدمية عليه، بل قد تم على يديه توضيح بعض النقط، وتحديد بعض المفهومات، مما أدى إلى تعديل مذهب الأشعري من بعض الوجوه وإلى تقريبه من رأي المعتزلة، وهذا ما لم يغفله بعض العلماء المتقدمين"(1)، ثم ذكرا نماذج لتعليقات الغزالي والشهرستاني على مخالفة الباقلاني لشيخ الأشاعرة في مسائل: صفة البقاء، والحال، وتأثير القدرة الحادثة، وقد سبق ذكر ذلك عند شرح عقيدة الباقلاني وأقواله.
ويذكر أحمد صبحي أن الأشعري كان يعتمد على النقل كثيراً، لكن أتباعه عدلوا " ابتداء من الباقلاني عن الاستشهاد بدليل النقل إلا فيما ندر، مغلبين أدلى العقل.. وجاء الباقلاني ليختط منهجاً مغايراً لمنهج الأشعري دفاعاً عن المذهب، إذ وضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة كالحديث عن العلم وأقسامه، وعن الموجود قديمه وحديثه، وعن الجوهر والعرض والجسم"(2) .
وهذا ما سار عليه الأشاعرة من بعده، وواضح أن الباقلاني يستشهد بالأدلة النقلية في كتبه ولكن مناقشاته العقلية تطغى عليه كثيراً، حتى وهو يعرض أن يستشهد بالنصوص.
ويرى بروكلمان أن الباقلاني أتى بآراء جديدة أخذها عن الفلسفة اليونانية (3) ، أما مكارثي فيرى أنه يتصف ببعض الأصالة في مناقشته للبيان والمعجز، وأنه عمل كثيراً على نشر المذهب الأشعري (4) ، كما يرى فتح الله خليف أنه أدخل بعض العديلات على مذهب الأشعري (5) .
والمسألة التي اشتهر بها الباقلاني وهي أن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول
(1) مقدمة تحقيق التمهيد - ط القاهرة - (ص: 14) .
(2)
في علم الكلام - الأشاعرة - (ص: 222-223) .
(3)
دائرة المعارف الإسلامية، للمستشرقين (6/105-106) ، ط الشعب.
(4)
المصدر السابق (6/107) ، وهو من زيادات الطبعة الجديدة لدائرة المعارف الإسلامية.
(5)
انظر: معجم أعلام الفكر الإنساني (1/850) .
لم نجد لها نصاً صريحاً فيما وصل من كتب الباقلاني، ولكن ابن خلدون ذكرها، ثم تناقلها عنه الباحثون، وقد حاول النشار، وتبعه محمد عبد الستار نصار أن يوجدا ما يدعم هذا القول في بعض المقدمات التمهيد (1) ، والذي يترجح أنها بنيت على قوله بوجوب المعجزات لثبوت نبوة الأنبياء لأن بطلان المعجزة يؤدي إلى بطلان نبوة الأنبياء، أو أنها بنيت على قوله بالجوهر الفرد وأن بطلانه يؤدي إلى بطلان دليل حدوث الأجسام.
ويتضح من خلال عرض عقيدة وأقوال الباقلاني، وأقوال الباحثين في ذلك أن الباقلاني قد طور المذهب الأشعري من خلال:
1-
الميل في المناقشات إلى العقل، وضعف الاعتماد على النقل، وإن كان الأمر لم يصل إلى إهماله.
2-
وضع المقدمات العقلية لمباحث العقيدة وعلم الكلام، مثل مباحث الجوهر والعرض، وأقسام العلوم، والاستدلال، والكلام عن الموجودات وأنواعها.
3-
الميل إلى بعض أقوال المعتزلة وخاصة في بعض الصفات، وإذا كان الأشعري أخذ يبعد عن الاعتزال في آخر كتبه، فالباقلاني أعاد المنهج الأشعري ليقرب من أهل الكلام.
4-
تقعيد بعض القواعد الكلامية، التي أصبحت فيما بعد أصول الأشاعرة مثل القول بالجوهر الفرد، وأن العرض لا يبقى زمانين، وأنه لا يقول بالعرض.
5 -
التركيز على مبدأ إنكار العلية والسببية التي جعلها الله في الأشياء. كذلك القول في مسألة المعجزات والفرق بينها وبين السحر والكرامات والحيل.
(1) انظر: مناهج البحث للنشار (ص: 112- 113)، والمدرسة السلفية (ص: 281-282) .