الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سادساً: إرجاع أقوالهم المخالفة لمذهب أهل السنة إلى أصول الفلاسفة والجهمية والمعتزلة
.
مما سبق تبينت بعض الأصول في نقد ابن تيمية للأشاعرة وهي:
- عدم اعتمادهم أساساً على الكتاب والسنة.
- خوضهم في علم الكلام المذموم.
- اعتقادهم أن مذهب الخلف أعلم وأحكم من مذهب السلف.
- جهلهم بالسنة وبمذهب السلف وبعدهم عنه.
ولا شك أن تحقق هذه الأمور فيهم يدل على أنهم في أقوالهم وكتبهم قد اعتمدوا على أصول ومناهج وطرق بعيدة عن الكتاب والسنة ومذهب أهل السنة والجماعة، ولذلك ركز شيخ الإسلام -في نقده لهم - على إرجاع أقوالهم إلى أصولها الفلسفية والاعتزالية والجهمية.
وقد كان منهج شيخ الإسلام في ذلك كما يلي:
أ - بيان الأصول المختلفة التي ترجع إليها أقوال هؤلاء، وقد بنى هذا على التطور الذي حدث للمذهب الأشعري، حين بدأ متأثراً ببعض أصول المعتزلة، ثم زاد ليشمل أصولاً أخرى لهم، ثم زاد ليكون التأثر بالفلاسفة أيضاً، يقول شيخ الإسلام - مرتباً هذا التأثر من الأعلى إلى الأدنى - وهو يتكلم عن الفخر الرازي: " ولهذا يوجد في كلام هذا وأبي حامد ونحوهما من الفلسفة ما لا يوجد في كلام أبي المعالي وذويه، ويوجد في كلام هذا وأبي المعالي وأبي حامد من مذهب النفاة المعتزلة ما لا يوجد في كلام أبي الحسن الأشعري وقدماء أصحابه، ويوجد في كلام أبي الحسن من النفي الذي أخذه من المعتزلة ما لا يوجد في كلام أبي محمد بن كلاب الذي أخذ أبو الحسن طريقه، ويوجد في ابن كلاب من النفي الذي قارب فيه المعتزلة مالا يوجد في كلام أهل الحديث والسنة والسلف والأئمة، وإذا كان الغلط شبراً صار في الاتباع ذراعاً ثم باعاً،
حتى آل هذا المآل، فالسعيد من لزم السنة " (1) ، ويقول عن ابن كلاب وإثباته العلو وقوله عن النفاة: " إذا قالوا ليس هو فوق وليس هو تحت فقد أعدموه، لأن ما كان لا تحت ولا فوق فعدم "، قال شيخ الإسلام معلقاً: " وهذا كله يناقض قول هؤلاء الموافقين للمعتزلة والفلاسفة من متأخري الأشعرية ومن وافقهم من الحنبلية والمالكية والحنفية والشافعية وغيرهم من طوائف الفقهاء الذين يقولون: ليس هو تحت وليس هو فوق " (2) ،
وأحياناً يعرض للمصادر المختلفة للعلم الواحد من أعلامهم، يقول عن الرازي:" أبو عبد الله الرازي غالب مادته في كلام المعتزلة ما يجده في كتب أبي الحسن البصري وصاحبه محمود الخوارزمي، وشيخه عبد الجبار الهمذاني ونحوهم، وفي كلام الفلاسفة: ما يجده في كتب ابن سينا وأبي البركات ونحوهما، وفي مذهب الأشعري: يعتمد على كتب أبي المعالي كالشامل ونحوه، وبعض كتب القاضي أبي بكر وأمثاله، وهو ينقل أيضاً من كلام الشهرستاني وأمثاله "(3) ، وفي موضع آخر يذكر أن مادته الكلامية من كلام أبي المعالي والشهرستاني، وفي الفلسفة مادته من كلام ابن سينا والشهرستاني أيضاً (4) ، ويذكر أيضاً أن فيه تجهماً قوياً وميلاً للدهرية والفلاسفة (5) .
ب - إرجاع أقوالهم تفصيلاً إلى طائفة من الطوائف المنحرفة ومنها:
1-
الجهمية:
يقوم مذهب الجهمية على عدة أصول منحرفة أبرزها: نفي الأسماء والصفات، والجبر، والإرجاء (6) ، وتأثر الأشاعرة بهم جاء في هذه الأمور،
(1) السبعينية (ص: 108) .
(2)
درء التعارض (6/122)، وانظر: شرح الأصفهانية (ص: 78) ..
(3)
درء التعارض (2/159) .
(4)
انظر: السبعينية (ص: 107) .
(5)
انظر: نقض التأسيس المطبوع (1/122) .
(6)
انظر في أقوال ومذهب الجهمية: مقالات الإسلاميين (ص: 279) - ريتر، والتنبيه للملطي (ص:96) ، والفرق بين الفرق (ص: 211) ، والملل والنحل للبغدادي (ص: 145) ، وللشهرستاني (1/86)، والتبصير بالدين للأسفراييني (ص: 96) ، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي (ص: 68) ، النشار، والبرهان للسكسكي (ص: 17) ، والمنية والأمل (ص: 107) ، ت جواد مشكور، والفرق الإسلامية، ذيل شرح المواقف للكرماني (ص: 89) ، وغيرها.
أما بالنسبة لمسألة القدر والإيمان فواضح، وأما الصفات فمن المعلوم أن المعتزلة تأثروا فيها بالجهمية، ولذلك يسمون - في هذا الباب - بالجهمية، والأشاعرة تأثروا بالمعتزلة في نفيهم لكثير من الصفات.
يقول شيخ الإسلام عن الأشاعرة: " والأشعري وأمثاله، برزخ بين السلف والجهمية، أخذوا من هؤلاء كلاماً صحيحاً، ومن هؤلاً أصولاً عقلية ظنوها صحيحة وهي فاسدة، فمن الناس من مال إليه من الجهة السلفية، ومن الناس من مال إليه من الجهة البدعية الجهمية كأبي المعالي وأتباعه "(1) ، وفي موضع آخر يحدد شيخ الإسلام هذه الأصول، فيقول عن الجويني: " والأصول التي يقررها هي أصول جهمن بن صفوان في الصفات والقدر والإرجاء، وقد ظهر ذلك في اتباعه كالمدعي المغربي في مرشدته وغيره، فإن هؤلاء في القدر يقولون بقول جهم يميلون إلى الجبر، وفي الإرجاء بقول جهم أيضاً، لأن الإيمان هو المعرفة، وأما الصفات فيهم يخالفون جهماً والمعتزلة، فهم يثبتون الصفات في الجملة، لكن جهم والمعتزلة حقيقة قولهم نفي الذات والصفات وإن لم يقصدوا ذلك ولم يعتقدوه، وهؤلاء حقيقة قولهم إثبات صفات بلا ذات، وإن يعتقدوا ذلك ويقصدوه، ولهذا هم متناقضون لكن هم خير من المعتزلة، ولهذا إذا حقق قولهم لأهل الفطر السليمة يقول أحدهم، فيكون الله شبحاً، وشبحه خيال الجسم، مثل ما يكون من ظله على الأرض، وذلك هو عرض، فيعلمون أن من وصف الرب بهذه الأسلوب، مثل قولهم: لا داخل العالم ولا خارجه ونحوه، فلا يكون الله على قوله شيئاً، قائماً بنفسه، موجوداً، بل يكون كالخيال الذي يشبحه الذهن من غير
(1) مجموع الفتاوي (16/471) .
أن يكون ذلك الخيال قائماً بنفسه، ولا ريب أن هذا حقيقة قول هؤلاء الذين يزعمون أنهم ينزهون الرب بنفي الجسم وما يتبع ذلك، ثم إنهم مع هذا النفي، إذا نفوا الجسم وملازيمه وقالوا: لا داخل العالم ولا خارجه، فيعلم أهل العقول أنهم لم يثبتوا شيئاً قائماً بنفسه موجوداً" (1) ،
ويلاحظ في هذا النص لشيخ الإسلام كيف بين أن متأخري الأشعرية نفاة العلو، والصفات الخبرية، يؤول قولهم إلى قول الجهمية نفاة الأسماء والصفات، لأنهم إذا قالوا: إن الله ليس بجسم، ثم قالوا: إنه لا داخل العالم ولا خارجه، فكأنهم أعدموه وهذا وجه شبههم بالجهمية.
أما في المسألة القدر: فيقول شيخ الإسلام عن الصوفية وموافقتهم للجهمية في القدر والميل إلى الجبر - " وهو قول الأشعري وأتباعه، وكثير من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة، ومن أهل الحديث والصوفية، فإن هؤلاء أقروا بالقدر موافقة للسلف وجمهور الأئمة، وهم مصيبون في ذلك، وخالفوا القدرية من المعتزلة وغيرهم في نفي القدر، ولكن سلكوا في ذلك مسلك الجهم بن صفوان وأتباعه "(2) ، ولكنهم مع موافقتهم له" نازعوه في بعض ذلك نزاعاً لفظياً أتوا بما لا يعقل"(3) ، كما أن الأشاعرة وافقوا الجهمية في الحسن والقبح وكونه مأموراً أو محظوراً (4) ، كما وافقوهم في نفي التعليل (5)، وفي مسألة المشيئة والإرادة وهل هي بمعنى المحبة فإن الجهمية قالت: " هو يشاء ذلك فهو يحبه ويرضاه، وأبو الحسن وأكثر أصحابه وافقوا هؤلاء، فذكر أبو المعالي الجويني أن أبا الحسن أول من خالف السلف في هذه المسألة، ولم يفرق بين المشيئة
(1) التسعينية (ص: 255-256) ..
(2)
مجموع الفتاوي (8/339-340) .
(3)
منهاج السنة (1/326) ، المحققة، وانظر: مجموع الفتاوي (8/230) .
(4)
انظر: مجموع الفتاوي (8/231) .
(5)
انظر: منهاج السنة (1/94-95) ، المحققة.
والمحبة والرضا " (1) .
وأما الإيمان فيقول شيخ الإسلام: " الإيمان مجرد تصديق القلب، وإن لم يتكلم به هذا قول جهم ونصره الأشعري وأصحابه، ولكن قالوا مع ذلك: إن كل من حكم الشارع بكفره حكمنا بكفره، واستدللنا بتكفير الشارع له على خلو قلبه من المعرفة "(2)، وفي موضع آخر يوضح مدى تأثر الأشاعرة بالجهمية في الإيمان فيقول:" وأما الأشعري فالمعروف عنه وعن أصحابه أنهم يوافقون جهماً في قوله في الإيمان، وأنه مجرد التصديق القلب أو معرفة القلب، لكن قد يظهرون مع ذلك قول أهل الحديث ويتأولونه ويقولون بالاستثناء على الموافاة، فليسوا موافقين لجهم من كل وجه"(3) ، ويذكر أن الباقلاني نصر قول جهم في مسألة الإيمان متابعة للأشعري، وكذلك أكثر أصحابه (4) ، ويذكر في شرح الأصفهانية أن المتأخرين من أصحاب الأشعري وافقوا الجهم في مسألة الإيمان (5) .
والسؤال الذي يرد هنا هو أنه قد يلحظ أن الأشعرية يوافقون الجهمية في بعض الأصول كالإيمان والقدر وكثير من فروع مسائله فلماذا؟ ويمكن أن يقال في الجواب بأن الأشعري - وقد فرّ من مذهب المعتزلة بعد أن اعتنقه زمناً طويلاً - كان هارباً من المعتزلة ومن كل ما جاؤوا به من عقائد، فصار يعارضهم في جميع عقائدهم، فلما كانوا في الإيمان وعيدية يخلدون في النار مرتكب الكبيرة، فرّ إلى المرجئة ظناً منه أنه قول السلف، وكذلك لما كانوا قدرية ينكرون القدر قال بضد قولهم فمال إلى الجبر. والله أعلم.
(1) مجموع الفتاوي (8/474-475) ، وانظر أيضاً (8/230) .
(2)
الفرقان بين الحق والباطل، مجموع الفتاوي (13/47) .
(3)
النبوات (ص: 199) .
(4)
انظر: الإيمان (ص:114) ، -ط المكتب الإسلامي، وانظر أيضاً (ص: 385) .
(5)
انظر: شرح الأصفهانية (ص: 143) .
2-
المعتزلة:
يقوم مذهب المعتزلة على الأصول الخمسة المعروفة، وقد تفرعت عنها الأقوال التي اشتهروا بها كنفي القدر، ونفي الصفات، والقول بخلق القرآن، وإنكار الرؤية، وغيرها (1) ،
والأشعري وأصحابه خالفوا المعتزلة في كثير من أصولهم، وردوا عليهم ردوداً طويلة، وصات مخالفة المعتزلة عندهم من الأمور التي يوردونها ويركزون عليها في جميع كتبهم تقريباً.
(1) لابد من الانتباه إلى أن هناك تداخلاً بين مذهبي المعتزلة والجهمية نظراً لاتفاقهما في مسألة خلق القرآن وإنكار الصفات والرؤية، وكثير من السمعيات، واختلافهما في مسألة: القدر، والإيمان، ولتوضيح هذه المسألة يمكن الإشارة إلى ما يلي:
1-
كانت بدعة القدرية من أوائل البدع ظهوراً، حيث ظهرت في عهد الصحابة وأول من قال بها معبد الجهني الذي قتله الحجاج سنة 80هـ تقريباً، وكان قد نشأ في المدينة المنورة ثم انتقل إلى البصرة، وقد رد الصحابة كابن عمر وابن عباس على هؤلاء ثم جاء بعد الجعد غيلان الدمشقي الذي توفي بعد سنة 105هـ، وكان من قوله بالقدر على مذهب المرجئة (انظر: مقالات الأشعري ص: 136-137، سنة 105هـ، وهؤلاء القدرية هم شيوخ المعتزلة في باب القدر، وذلك أنه لما حدثت بدعتهم أوائل المئة الثانية وكانت تقوم على مسألة الإيمان والمنزلة بين المنزلتين وإنفاذ الوعيد، ضموا إلى ذلك القول بالقدر لتناسبه مع التكليف وانفاذ الوعيد، ويلاحظ أن غيلان الدمشقي من شيوخ المعتزلة في القدر فقط أما الإيمان فهم على الضد منه.
2-
أول من قال بخلق القرآن وإنكار الصفات الجعد بن درهم، قتل نحو سنة 118هـ، وتبعه على ذلك الجهم بن صفوان الذي قتل أيضاً سنة 128هـ، وعاش بسمرقند وترمذ، وقد ضم الجهم إلى قوله بذلك القول الجبر، والإرجاء الغالي، وقوله في هذين الأمرين على الضد من قول المعتزلة.=
=3- نشأت المعتزلة على يد واصل بن عطاء - ت 131هـ، وعمرو بن عبيد ت 144هـ، وكان ذلك زمن الحسن البصري الذي توفي سنة 110هـ، ومعنى ذلك أن نشأتهم كان أوائل المئة الثانيةن وقد أورد البعض أن هناك نوع مراسلات بين واصل والجهم، ولم يلتقيا، وقد ذكر الإمام أحمد في الرد على الزنادقة (ص:66-67 ضمن عقائد السلف) أن ممن تبع الجهم في أقواله في نفي الصفات أصحاب عمرو بين عبيد بالبصرة، وقد كان واصل يقول أيضاً بالقدر، إضافة إلى مسألة المنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، ولكن مصطلح الأصول الخمسة لم يوجد إلا في عهد بشر بن المعتمر المعتزلي ت 210 تقريباً، (كما أشار إلى ذلك الملطي في التنبيه ص38) .
4-
مما سبق يلاحظ كيف أن غيلان الدمشقي شيخ المعتزلة في القدر. أما في الإيمان فهو مرجئ موافق للجهم، وأن الجهم بن صفوان تأثر به المعتزلة في الصفات، حتى غلب عليهم اسم الجهمية، بينما هم مخالفون له في القدر والإيمان، ومما يوضح هذا أن بشراً المريس ت 218هـ، الذي رد عليه أئمة السنة، والذي تأثر بتأويلاته وتجهمه المعتزلة وبعض الأشاعرة كان في مسألة الإيمان على مذهب المرجئة (انظر: مقالات الأشعري ص: 140-149) ، ومثله أحمد بن أبي داؤد فإنه جمع في المحنة أنصاره الجهمية من المعتزلة وغيرهم.
5-
كانت محنة الإمام أحمد وأهل السنة مع جنس الجهمية -ومنهم المعتزلة، وليست مع المعتزلة فقط - ولذلك رد عليهم الإمام أحمد والدارمي وغيرهما وسموهم بالجهمية، لأن كل معتزلي فهو جهمي في الصفات، وليس كل جهمي معتزلياً (انظر: رسالة القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة - رسالة ماجستير (ص؟: 160-166) ط على الآلة الكاتبة.
(وانظر: فيما سبق أيضاً: المنية والأمل ص 122 وما بعدها، ت مشكور، ونشأة الفكر الفلسفي للنشار 1/314، وما بعدها، وعمرو بن عبيد وآراؤه الكلامية ص 88 وما بعدها، وانظر أيضاً: الحسنة والسيئة لشيخ الإسلام ابن تيمية -مجموع الفتاوي 14/347 وما بعدها) .
وشيخ الإسلام مع تسليمه بهذا يقر في كتبه أن الأشاعرة تتلمذوا وتأثروا بالمعتزلةن وسلموا لهم بعض الأصول المخالفة لمذهب أهل السنة، وليس في هذا تناقض لأن الأصول التي سلموها غير الأصول التي ردوها، وقد أوضح شيخ الإسلام هذا الأمر فقال تعليقاً على قول خلف المعلم المالكي:" أقام الأشعري أربعين سنة على الاعتزال، ثم أظهر التوبة، فرجع عن الفروع، وثبت على الأصول"، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " قلت: ليس مراده بالأصول ما أظهروه من مخالفة السنة، فإن الأشعري مخالف لهم فيما أظهروه من مخالفة السنة، كمسألة الرؤية، والقرآن، والصفات.
ولكن أصولهم الكلامية العقلية التي بنوا عليها الفروع المخالفة للسنة، مثل هذا الأصل الذي بنوا عليه حدوث العالم وإثبات الصانع، فإن هذا أصل من أصولهم، كما قد بينا كلام أبي الحسن البصري وغيره في ذلك، وأن الأصل الذي بنت عليه المعتزلة كلامها في أصول الدين، هو هذا الأصل الذي ذكره الأشعري، لكنه مخالف لهم في كثير من لوازم ذلك وفروعه، وجاء كثير من أتباعه المتأخرين كأتباع صاحب الإرشاد، فأعطوا الأصول - التي سلمها للمعتزلة- حقها في اللوازم، فوافقوا المعتزلة على موجبها، وخالفوا شيخهم أبا الحسن وأئمة أصحابه، فنفوا الصفات الخبرية، ونفوا العلو، وفسروا الرؤية بمزيد علم لا ينازعهم فيه المعتزلة، وقالوا: ليس بيننا وبين المعتزلة خلاف في المعنى، وإنما خلافهم مع المجسمة، وكذلك قالوا في القرآن: إن القرآن الذي قالت المعتزلة: إنه مخلوق نحن نوافقهم على خلقه، ولكن ندعي ثبوت معنى آخر وأنه واحد قديم، والمعتزلة تنكر تصور هذا بالكلية، وصارت
المعتزلة والفلاسفة مع جمهور العقلاء يشننعون عليهم بمخالفتهم لصريح العقل، ومكابرتهم للضرورياتن وسبب ذلك تسليمهم لهم صحة تلك الأصول، التي ذكر الأشعري أنها مبتدعة في الإسلام" (1)، فقد أوضح شيخ الإسلام عدة حقائق في هذه المسألة:
- أن الأشعري خالف المعتزلة في مسائلهم الكبار التي خالفوا فيها أهل السنة وأهمها: أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وإثبات الصفات، والرؤية، وغيرها من السمعيات كالشفاعة في أهل الكبائر وعذاب القبر ونعيمه وغيرها.
- أن الأِشعري مع ذلك مسلم لهم بعض الأصول العقلية مثل دليل حدوث الأجسام الذي جاءوا بهن ولكن الأشعري مع قوله بصحة هذا الدليل إلا أنه خالف المعتزلة في أمرين:
أحدهما: بيانه أنه يمكن الاستغناء عن هذا الدليل لإثبات الصانع وحدوث العالم، وأن الرسل لم يدعوا إلى هذا الدليل لغموضه ووعورة مسلكه.
والثاني: أنه لم يلتزم لوازمه وفروعه، مثل إنكار العلو، ونفي كل صفة دلت على التجسيم حسب مصطلحهم، بل خالفهم الأشعري في ذلك فأثبت لله صفة العلو، والاستواء، كما أثبت الصفات الخبرية كالوجه واليد والعين.
- أن متأخري الأشعرية خالفوا إمامهم الأشعري وأصحابه، ووافقوا المعتزلة وذلك من خلال أمرين:
أحدهما: حصرهم دليل إثبات الصانع وحدوث العالم بدليل حدوث الأجسام الذي جاءت به المعتزلة، وقولهم بأن بطلانه يؤدي إلى بطلان دليل حدوث العالم، فيؤدي هذا إلى القول بقدم العالم وهو قول الفلاسفة والدهرية وهو كفر صراح.
الثاني: وهو مرتب على الأول، أن هؤلاء المتأخرين أعطوا أصول المعتزلة التي سلموها لهم حقها من اللوازم، فنفوا العلو والصفات الخبرية، وفسروا الرؤية بما يتوافق مع نفي العلو، وكذلك القرآن قالوا فيه قولاً لا يناقض قول المعتزلة
(1) انظر: درء التعارض (7/236-238) .
القائلين بخلق القرآن.
وهؤلاء بذلك يكونون قد قربوا من المعتزلة كثيراً.
وقد أورد شيخ الإسلام في نقض التأسيس سؤالاً مهماً حول هذا الموضوع ومضمونه: إنه إذا كانت مسألة العلو- ودلائلها من الكتاب والسنة والإجماع، والفطرة والعقل - أظهر من أدلة " الرؤية " فلماذا أقر متأخرو الأشعرية بهذه وأنكروا تلك، مع أن المسألتين من مقالات المعتزلة التي خالفوا فيها أهل السنة؟ وقد أجاب شيخ الإسلام- بعد إن أورد السؤال مختصراً - بقوله:" قيل: سببه أن الجهمية كانت متظاهرة بدعوى خلق القرآن، وإنكار الرؤية، ولم تكن متظاهرة بإنكار العلو.. فكان الذين يناظرونهم من متكلمة إثبات الصفة كأبي سعيد ابن كلاب، وأبي الحسن الأشعري وأصحابهما، فظهر من مخالفتهم لهم في هاتين المسألتين (1) ، بسبب ظهور الخلاف فيهما ما لا يظهر فيما يخفونه من المسائل، ومع هذا فقد كان أولئك يخالفونهم أيضاً في إنكار أن الله فوق العرش.. لكن لم يأتوا في مناظرتهم بما يقطع مادة التجهم ويقلع عروقه، بل سلموا لهم بعض الأصول التي بنوا عليها التجهم، ومباحثهم في مسألة حدوث العالم، والكلام في الأجسام والأعراض، وهو من الكلام الذي ذمه السلف والأئمة، حتى قال محمد بن حويز منداد: أهل البدع والأهواء عند مالك وأصحابه هم أهل الكلام، فكل متكلم في الإسلام فهو من أهل البدع والأهواء؛ أشعرياً كان أم غير أشعري (2) ، وذكر ابن خزيمة وغيره أن الإمام أحمد كان يحذر مما ابتدعه عبد الله بن سعيد بن كلاب وعن أصحابه كالحارث، وذلك لما علموه في كلامهم من المسائل والدلائل الفاسدة، وإن كان في كلامهم من الأدلة الصحيحة ما لا يوجد في كلام عامة الطوائف، فإنهم أقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة والحديث..".
(1) أي مسألة: خلق القرآن، وإنكار الرؤية.
(2)
نقض التأسيس - مطبوع - (2/86-88) .
"
فلما كان الأمر كذلك جاء بعض المتأخرين من أتباعهمن فنظروا في الأصول التي وافقوا فيها الجهمية، وأخذوا لوازمها.. وكان أبو المعالي كثير المطالعة لكتب أبي هاشم، فصار هو وغيره يقودون الأصول التي وافق قدماؤهم فيها المعتزلة فرأوا أن من لوازمها نفي أن يكون الله على العرش، فتظاهروا بإنكار ذلك موافقة للمعتزلة، ولم يكن الخلاف في ذلك مع المعتزلة من المسائل المشهورة لما قدمناه، وأما مسألة الرؤية والقرآن فهي من شعائر المذهبين، فجعلوا ينصبون الخلاف مع المعتزلة في مسألة الرؤية، ويسلمون لهم نفي علو الله على العرش، وهذا عكس الواجب " (1) .
فمن هذا التحليل الدقيق الذي بناه شيخ الإسلام على التفريق بين متقدمي الأشاعرة ومتأخريهم، وأن المتقدمين لما ردوا على المعتزلة في المسائل المشهورة لم ينطلقوا من منهج السلف الخالص، وإنما ردوا عليهم ببعض الأصول الكلامية التي سلموها لهم، فلما جاء المتأخرون - وكان تأثرهم ومطالعتهم لكتب المعتزلة أقوى- التزموا لوازم تلك الأصول الفاسدة فنفوا العلو والصفات الخبرية ووافقوا المعتزلةفي كثير من المسائل، أو على الأقل لم يصبح الخلاف كبيراً وقوياً كما كان في السابق.
وقد شرح شيخ الإسلام بعض هذه الأصول التي تبعوا فيها المعتزلة فقال مخاطباً الأشاعرة: " وبالجملة فعامة ما ذمه السلف والأئمة وعابوه على المعتزلة من الكلام المخالف للكتاب والسنة والإجماع القديم، لكم منه أوفر نصيب، بل تارة تكونون أشد مخالفة لذلك من المعتزلة، وقد شراكتموهم في أصول ضلالهم التي فارقوا بها سلف الأمة وأئمتها ونبذوا بها كتاب اله وراء ظهورهم، فإنهم لا يثبتون شيئاً من صفات الله تعالى، ولا ينزهونه عن شيء بالكتاب والسنة. والإجماع موقوف على العلم وبذلك، والعلم بذلك لا يحصل به لئلا يلزم الدور، فيرجعون إلى مجرد رأيهم في ذلك، وإذا استدلوا بالقرآن كان ذلك على وجه الاعتضاد والاستشهاد لا على وجه الاعتماد والاعتقاد، وما خالق قولهم تأولوه على مقتضى آرائهم، واستخفوا بالكتاب والسنة، وسموها ظواهر،
(1) نقض التأسيس -مطبوع - (2/86-88) .
وإذا استدلوا على قولهم بمثل قوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (الأنعام:103)، وقوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى:11)، أو قوله {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (الحديد:4) ، ونحو ذلك، لم تكن هذه النصوص هي عمدتهم، ولكن يدفعون بها عن أنفسهم عند المسلمين، وأما الأحاديث فلا حرمة لها عندهم، بل تارة يردونها بكل طريق ممكن، وتارة يتأولونها، ثم يزعمون أن ما وضعوه برأيهم قواطع عقلية، وأن هذه القواطع العقلية ترد لأجلها نصوص الكتاب والسنة إما بالتأويل وإما بالتفويض وإما بالتكذيب " - قال شيخ الإسلام بعد ذكره لهذه الأصول الاعتزالية، مخاطباً الأشاعرة: " وأنتم شركاؤهم في هذه الأصول كلها، ومنهم أخذتموها، وأنت فروخهم فيها، كما يقال: الأشعرية مخانيث المعتزلة، والمتعزلة مخانيث الفلاسفة (1) ،
لكن لما شاع بين الأمة فساد مذهب المعتزلة ونفرت القلوب عنه صرتم تظهرون الرد عليهم في بعض المواضع مع مقاربتكم أو موافقتكم لهم في الحقيقة " (2) ، ثم يذكر شيخ الإسلام بعض الأمور التي شابه فيها الأشاعرة المعتزلة فيقول: " وهم سموا أنفسهم أهل التوحيد لاعتقادهم أن التوحيد هو نفي الصفات، وأنتم وافقتموهم على تسمية أنفسكم أهل التوحيد، وجعلتم نفي بعض الصفات من التوحيد، وسموا ما ابتدعوه من الكلام الفاسد إما في الحكم وإما في الدليل أصول الدين، وأنتم شاركتموهم في ذلك، وقد علمتم ذم السلف والأئمة لهذا الكلام، بل علم من يعرف دين الإسلامن وما بعث الله به نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام ما فيه من المخالفة لكتب الله وأنبيائه ورسله،
(1) هذه العبارات ترد كثير..شيخ الإسلام ليس هو أول من استخدمهان بل استخدمها قبله شيخ الإسلام الأنصاري المتوفى سنة 481هـ، الذي قال:" الأشعرية الأناث هم مخانيث المعتزلة" -مجموع الفتاوي (8/227) ، كما أن الشهرستاني المتوفى سنة 548هـ، قال عن المعتزلة:" الخناثي من المعتزلة لا رجال ولا نساء " نهاية الإقدام (ص: 159) ، وعبارة المعتزلة مخنثة الفلاسفة وردت في نفخ الطيب (5/307) ، وشيخ الإسلام ابن تيمية يصدر عبارته غالباً بقوله - قيل أو يقال، انظر مجموع الفتاوي (12/13)، والنبوات (ص: 79) ، وأحياناً يورد العبارة فيقول:" فالمعتزلة في الصفات مخانيث الجهمية" مجموع الفتاوي (8/227-14/348) ، وقال مرة عن السهروردي -عمر بن محمد - ت 632هـ، لما ذكر نفيه للعلو: " وهؤلاء مخانيث الفلاسفة ليست دقيقة لأنه جهماً سبقهم إلى هذه الأصول، إلا أن يقال أن يقال: إنهم مخانيثهم من بعض الوجوه. انظر: مجموع الفتاوي (8/227-14/349) .
(2)
التسعينية (ص: 272) .
وقد.. بينا أن دلالة الكتاب والسنة التي يسمونها السمع ليست مجرد الخبر، كما تظنونه أنتم وهم، حتى جعلتم ما دل عليه السمع إنما هو بطريق الخبر الموقوف على تصديق المخبر، ثم جعلتم تصديق المخبر - وهو الرسول - موقوفاً على هذه الأصول التي سميتموها أنتم وهم عقليات وجعلوا منها نفي (1) الصفات والتكذيب بالقدر، ووافقتموهم على أن منها نفي كثير من الصفات " (2) . ولاشك أن متأخري الأشاعرة هم على هذه الصفة التي ذكرها، ولذلك فكثيراً ما يقررها شيخ الإسلام في مناسبات مختلفة (3) ، ويربط التأثر أحياناً بأعلام الأشاعرة كالجويني (4) ، وابن تومرت (5) ، والرازي (6) ، وغيرهم.
وتأثر الأشاعرة بالمعتزلة شهد به أساطين الأشاعرة، حتى قال تاج الدين السبكي في كتابه الذي جرده للدفاع عن الأشاعرة: في ترجمة أبي بكر الصيرفي المتوفى سنة 330هـ، بعد ذكره لمناظرة بينه وبين الأشعري: قال السبكي: " قلت: وفي المناظرة دلالة على ما قاله القاضي أبو بكر في كتاب التقريب، والأستاذ أبو إسحاق في التعليقة، من أن الطوائف من الفقهاء ذهبت إلى مذهب المعتزلة في بعض المسائل، غافلين عن تشعبها عن أصولهم الفاسدة"(7)، وقال في ترجمة محمد بن علي بن إسماعيل الشاش - القفال الكبير - ت 365-:" وقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر: " بلغني أنه كان مائلاً عن الاعتدال، قائلاً بالاعتزال في أول مرة ثم رجع إلى مذهب الأشعري" (8)، قلت:
(1) في المطبوعة: نفس، وهو تحريف أو خطأ مطبعي.
(2)
التسعينية (ص: 272-273) .
(3)
انظر: التسعينية (ص: 207) ، ودرء التعارض (9/135) ، والحموية - مجموع الفتاوي (5/23) .
(4)
انظر: نقض التأسيس مطبوع (1/86) حيث قال عنه: " وإنما هو كثير الاستغراق في كلام المعتزلة" وانظر أيضاً: السبعينية (ص: 107) .
(5)
انظر: شرح الأصفهانية (ص: 23) .
(6)
انظر: نقض التأسيس المخطوط (3/409) .
(7)
طبقات السبكي (3/187) .
(8)
نص كلام ابن عساكر في التبيين (ص: 183) ، وبلغني أنه كان في أول مرة مائلاً عن الاعتدال، قائلاً بمذاهب أهل الاعتزال، والله أعلم ".
وهذه فائدة جليلة انفرجت بها كربة، وحسيكة (1) في الصدر جسيمة، وذلك في مذاهب تحكي عن هذا الإمام في الأصول لا تصح إلا على قواعد المعتزلة، وطالما وقع البحث في ذلك حتى توهم أنه معتزلي " (2) ، والسبكي يقول في تردد:" ولا يخفي أن الأشاعرة إنما هم نفس أهل السنة أو هم أقرب الناس إلى أهل السنة" (3) .
3-
الفلاسفة:
وقد تأثر بهم كثيراً متأخرو الأشاعرة، لكثرة مطالعتهم لكتبهم، وأبرزهم الغزالي والرازي والآمدي، فإنهم وإن ردوا عليهم وأبطلوا كثيراً من الباطل الموجود عندهم إلا أنهم تأثروا بأقوالهم كثيراً، ولذلك يقول شيخ الإسلام عن الغزالي - بعد أن ذكر أقوال الفلاسفة في النبوات كالفارابي وابن سينا ونحوهما- قال:" وقد ذكر الغزالي ذلك عنهم، تعريفاً بمذهبهم، وربما حذر عنه، ووقع في كلامه طائفة من هذا في الكتب المضنون بها على غير أهلها، وفي غير ذلك، حتى في كتاب الإحياء يقول: الملك، والملكوت، والجبروت، ومقصوده،' الجسم، والنفس، والعقل الذي أثبته الفلاسفة، ويذكر اللوح المحفوظ ومراده به النفس الفلكية، إلى غير ذلك، وهو في التهافت يكفرهم، وفي المضمون به يذكر ما هو حقيقة مذهبهم، حتى يذكر في النبوات عين ما قالوه، وكذلك في الإلهيات"(4)، ويذكر شيخ الإسلام في معرض رده على الرازي وابن سينا اللذين استدلا على حدوث الأجسام بالأفوال في قول إبراهيم عليه السلام:{لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (الأنعام:76)، قال: " وقد ابتدعت القرامطة الباطنية تفسيراً آخر كما ذكره أبو حامد في بعض مصنفاته كمشكاة الأنوار
(1) الحسك: نبات له ثمرة خشنة تعلق بصوف الغنم، وكل ثمرة تشبها كالسعدان فهو حسك، واحدته حسكة، انظر: لسان العرب مادة " حسك ".
(2)
طبقات السبكي (3/201) .
(3)
المصدر السابق (6/144) .
(4)
النبوات (ص: 249)، وانظر: درء التعارض (10/189-205) .
وغيرها: أن الكواكب، والشمس، والقمر، هي النفس، والعقل الفعال، والعقل الأول، ونحو ذلك " (1) ،
ثم قال شيخ الإسلام: " والكلام على فساد هذا طويل، ليس هذا موضعه، لولا أن هذا وأمثاله هو من أسباب ضلال كثير من الداخلين في العلم والعبادة، إذ صاحب كتاب " مشكاة الأنوار " إنما بنى كلامه على أصول هؤلاء الملاحدة، وجعل ما يفيض على النفوس من المعارف من جنس خطاب الله عزوجل لموسى بن عمران النبي صلى الله عليه وسلم، كما تقوله القرامطة الباطنية ونحوهم من المتفلسفة، وجعل خلع النعلين الذي خوطب به موسى صلوات الله عليه وسلامه، إشارة إلى ترك الدنيا والآخرة، وإن كان يقرر خلع النعلين حقيقة، لكن جعل هذا إشارة إلى أن خلع الدنيا والآخرة فقد حصل له ذلك الخطاب الإلهي، وهو من جنس من يقول: إن النبوة مكتسبة "(2) ، والغزالي في كلامه مادة فلسفية بسبب اطلاعه على كتب ابن سينا ورسائل إخوان الصفا وغيرها (3) .
ومن أخطر القضايا التي تأثر بها بعض الأشاعرة، وهي من مقالات الفلاسفة الإلحادية المشهورة، القول بأن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - أظهروا للناس في الإيمان بالله واليوم الآخر، خلاف ما الأمر عليه في نفسه، لينتفع الجمهو، يقول شيخ الإسلام - هنا - عن الغزالي:" وأبو حامد - في مواضع - يرى هذا الرأي، ونهيه عن التأويل في إلجام العوام، والتفرقة بين الإيمان والزندقة مبني على هذا الأصل، وهؤلاء يرون: إقرار النصوص على ظواهرها هو المصلحة التي يجب حمل الناس عليها مع اعتقادهم أن الأنبياء لم يبينوا الحق، ولم يورثوا علماً ينبغي للعلماء معرفته.. "(4) ، ويذكر شيخ الإسلام في موضع آخر أن هذا قوله وقول الرازي أيضاً، فيقول: " فالفارابي يقول
(1) درء التعارض (1/315) ..
(2)
المصدر السابق (1/317-318) .
(3)
انظر: محموع الفتاوي (6/54)، وانظر: الرد على المنطقيين (509-511) ،حيث قيل أمرضه الشفاء.
(4)
درء التعارض (10/270) ، وانظر (10/282-283) ، والصفدية (1/237-237) .
إن خاصة النبوة جودة تخييل الأمور المعقولة في الصور المحسوسة (1) ، أو نحو هذه العبارة.
وابن سينا يذكر هذا المعنى في مواضع (2)، ويقول: ما كان يمكن موسى ابن عمران مع أولئك العبرانيين، ولا يمكن محمداً مع أولئك العرب الجفاة أن يبينا لهم الحقائق على ما هي عليه، فإنهم كانوا يعجزون عن فهم ذلك، وإن فهموه على ما هو عليه انحلت عزماتهم عن أتباعه، لأنه لا يرون فيه من العلم ما يقتضي العمل (3)
…
" (4) ، قال ابن تيمية معلقاً: " وهذا المعنى يوجد في كلام أبي حامد الغزالي وأمثاله ومن بعده، طائفة منه في الإحياء وغير الإحياء، وكذلك في كلام الرازي " (5) ، وفي مناسبة أخرى يدخل الشهرستاني مع الرازي في التأثر بالمعتزلة والفلاسفة (6) ، وأحياناً يجمع بين الرازي والآمدي في تأثرهم بالفلاسفة وكتب ابن سينا خاصة (7) ، وذكر أنهما تأثرا بالفلاسفة في الاستدلال على حدوث العالم، وفي أن سعادة النفس إنما يكون بتخلصها من الهيولي والمادة (8) .
(1) للفارابي - واسمه محمد بن أوزلغ بن طرخان- ولد سنة 257هـ، وتوفي سنة 339هـ، رأى في النبوة، فهو لم ينكرها كما أنكرها معاصره أبو بكر الرازي، ولكنه فسرها بما في النفس من قوى تجعلها تتصل بالعقل الفعال، فتقوم المخيلة بحفظ الصور الذهنية وتحويلها إلى واقع محسوس، وللاتصال بالعقل الفعال عنده طريقان: طريق النظر العقلي، وهو للفلاسفة، وطريق المخيلة وكمال النفس وهو للأنبياء: انظر تحصيل السعادة (ص: 90-94)، والسياسة المدنية (ص: 79-80) كلاهما للفارابي، وانظر أيضاً: الفارابي: جوزيف الهاشم (ص: 37-142) ، ومع الفارابي المدن الفاضلة، فاروق سعد (ص: 53-56) ، وفيلسوفان رائدان: جعفر آل ياسين (ص: 133-141) ، والفارابي فيلسوف المدينة الفاضلة، فوزي عطوى (ص: 119) .
(2)
سار ابن سينا - الحسين بن عبد الله - ولد سنة 370هـ، وتوفي سنة 428هـ، على طريقة الفارابي في النبوات، انظر: الشفاء (6) في النفس (ص:177-178-212-220)، والتعليقات (ص:82) ، وانظر: نظرية المعرفة عند ابن سينة (ص: 210) ، وما بعدها، والفلسفة الإسلامية في المشرق، فيصل عون (ص: 273) ،وفي الفلسفة الإسلامية (1/105) .
(3)
قارن هذا الكلام لابن سينا بما في الأضحوية له (ص: 101-102) ،ت حسن عامر.
(4)
مجموع الفتاوي (4/99) .
(5)
المصدر السابق، الصفحة نفسها.
(6)
انظر: شرح حديث النزول، مجموع الفتاوي (5/560) .
(7)
انظر: شرح الأصفهانية - ت العودة (ص:272) - ط على الآلة الكاتبة، وهذا النص ضمن الزيادات الكثيرة التي حفلت بها هذه النسخة المحققة.
(8)
انظر: المصدر السابق (ص: 240-245) ، - ط على الآلة الكاتبة.