الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عاشراً: حيرة الأشاعرة وشكهم ورجوعهم:
لاشك أن هذا متولد عن الوجه السابق الذي هو التناقض، لأن وجود التناقض في المذهب وفي طرق الاستدلال له يؤدي إلى عدم الثقة فيه فإذا انضاف إلى ذلك تعظيم شيوخ المذهب وأنهم لا يمكن أن يقولوا إلا ما هو حق موافق للعقل؛ فإن الأمر يتطور إلى الشك والحيرة، والرجوع لمن هدى الله منهم.
وكل ذلك لأجل أنهم خاضوا في علم الكلام والفلسفة، وتركوا الاعتماد على الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح ولذلك صار لهم سمات خاصة بهم منها:
"إنك تجدهم أعظم الناس شكاً واضطراباً، وأضعف الناس علماً ويقيناً
…
" (1) .
ومنها: "إنك تجد أهل الكلام أكثر الناس انتقالاً من قول إلى قول وجزماً بالقول في موضع، وجزماً بنقيضه وتكفير قائله في موضع آخر وهذا دليل عدم اليقين"(2) .
ومنها: أن منتهى هؤلاء المعرضين عن الكتاب المعارضين له: "السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات، يتأولون كلام الله وكلام رسوله بتأويلات يعلم بالاضطرار أن الله ورسوله لم يردها بكلامه، وينتهون في أدلتهم العقلية إلى ما يعلم فساده بالحس والضرورة العقلية، ثم إن فضلاءهم يتفطنون لما بهم من ذلك فيصيرون في الشك والحيرة والارتياب وهذا منتهى كل من عارض نصوص الكتاب"(3) .
فالشك والحيرة - خاصة في المسائل الكبار - من سمات أهل الكلام، وفي مقدمتهم أعلام الأشاعرة، وقد استخدم شيخ الإسلام في منهجه وردوده عليهم هذه الطريقة التي تبين أن كل من أعرض عن كتاب الله وسنة رسوله فهذا مآله ومنتهاه، كما أنها تدل على حقيقة هؤلاء الأعلام المشهورين الذين يقتدى بهم فئام وفئام من الناس.
(1) مجموع الفتاوى (4/27) - وقد شرح شيخ الإسلام ذلك وضرب له عدة أمثلة.
(2)
المصدر السابق (4/50) .
(3)
درء التعارض (5/256) .
أما رجوع كثير منهم عما كان عليه وتعويله على الكتاب والسنة ففيه دلالة قوية على بطلان ما كانوا عليه، وهو حجة قاطعة على أن تعويل السلف على النصوص الواردة عن الله وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم لم يكن عن جهل بما عداها مما هو موجود في عهدهم من مذاهب اليونان وغيرها، وإنما كان نابعاً من اعتقاد جازم وإيمان عميق أن الهدى والرشاد والطمأنينة القلبية لن تكون إلا باتباع الوحي المنزل.
وشيخ الإسلام وهو يذكر ما في رجوع أهل الكلام من الخير لهم ولغيرهم إلا أنه يثير مشكلة كتبهم التي انتشرت وتناقلها الناس فيقول: "وأما اعتراف المتكلمة من الإسلاميين فكثير، وقد جمع العلماء فيه شيئاً، وذكروا رجوع أكبارهم عما كانوا يقولونه، وتوبتهم، إما عند الموت، وإما قبل الموت، وهذا من أسباب الرحمة إن شاء الله في هذه الأمة، فإن الله يقبل التوبة من عباده، ويعفو عن السيئات، وهذا أصح القولين في قبول توبة الداعي، لكن بقاء كتبهم وآثارهم محنة عظيمة في الأمة، وفتنة عظيمة لمن نظر فيها، ولا حول ولا قوة إلا بالله"(1) .
إن شيخ الإسلام وهو يقول هذا الكلام الرقيق، بحيث يجعل رجوع هؤلاء من أسباب الرحمة في هذه الأمة لأن الله تعالى يقبل التوبة عن عباده، لا ينسى الجانب الآخر وهو أن هؤلاء تابوا ورجعوا ولكن كتبهم بقيت، يتناقلها الناس ويفتنون بها، وهذا يفسر ما قام به شيخ الإسلام من ردود طويلة على هؤلاء وعلى كتبهم، وإن كان قد أثر عنهم التوبة والرجوع.
وعلماء وفضلاء الأشعرية معترفون بما في مذهب الأشعري من إشكالات حتى إن العالم الفاضل المجاهد العز بن عبد السلام لما قيل له في مسألة القرآن: كيف يعقل شيء واحد هو أمر ونهي وخبر واستخبار؟ قال رحمه الله: "ما هذا بأول إشكال ورد على مذهب الأشعري"(2) .
(1) الاستقامة (1/79-80) .
(2)
التسعينية (ص: 261) .
وقد سبق في تراجم أعلام الأشاعرة ذكر نماذج لرجوع بعضهم، وللحيرة والشك عند كثير منهم، ولا يخلو كتاب من كتب شيخ الإسلام العقدية من التعرض لهذه المسألة حتى إنه قال:"ولو جمعت ما بلغني في هذا الباب عن أعيان هؤلاء كفلان وفلان لكان شيئاً كثيراً، وما لم يبلغني من حيرتهم وشكهم أكثر وأكثر"(1) .
وهذه المسألة واضحة ومعروفة، ولذلك نكتفي بذكر نماذج من أقواله ونقوله عنهم:
1-
يقول شيخ الإسلام مبيناً اضطراب الأشاعرة وعلى رأسهم الأشعري: "وقد قيل: إن الأشعري - مع أنه من أقربهم إلى السنة والحديث وأعلمهم بذلك - صنف في آخر عمره كتاباً في تكافؤ الأدلة، يعني أدلة علم الكلام فإن ذلك هو صناعته التي يحسن الكلام فيها، وما زال أئمتهم يخبرون بعدم الأدلة والهدى في طريهم، كما ذكرناه عن أبي حامد وغيره حتى قال أبو حامد الغزالي: أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام"، وهذا أبو عبد الله الرازي من أعظم الناس في هذا الباب - باب الحيرة والشك والاضطراب - لكن هو مسرف في هذا الباب له تهمة في التشكيك دون التحقيق، بخلاف غيره فإنه يحقق شيئاً ويثبت على نوع من الحق.. " (2) . والقول بتكافؤ الأدلة سمة عامة لغالب أئمة الأشاعرة خاصة في مثل المسائل الكبار كمسألة دليل حدوث الأجسام (3) .
2-
وكثيراً ما يؤدي خوض هؤلاء في علم الكلام إلى الشك والوقف والحيرة، وهذه من الحالات الخطيرة، والأمراض المزمنة، لأن تؤدي بهؤلاء إلى أنواع من الشكوك التي قد يكون من أثارها زيغ القلوب - ولا حول ولا قوة إلا بالله - وشيخ الإسلام يبين أنه لما كثرت عند هؤلاء الأدلة العقلية وتناقضت وتناقض أصحابها أدى بمن اعتمد عليها إلى الحيرة والوقف، يقول - بعد إلى تناقض الأدلة العقلية عند هؤلاء: "ثم من جمع منهم بين هذه الحجج أداه الأمر
(1) درء التارض (1/166) .
(2)
نقض المنطق (ص: 25-26) ، وهو في مجموع الفتاوى (4/28) ، وانظر منهاج السنة (3/68) .
(3)
انظر: التسعينية (ص: 201) ، والدرء (1/164) .
إلى تكافؤ الأدلة، فيبقى في الحيرة والوقف أو إلى التناقض وهو أن يقول هنا قولاً، ويقول هنا قولاً يناقضه كما تجده من حال كثير من هؤلاء المتكلمين والمتفلسفة، بل تجد أحدهم يجمع بين النقيضين أو بين رفع النقيضين، والنقيضان اللذان هما الإثبات والنفي لا يجتمعان ولا يرتفعان، بل هذا يفيد صاحبه الشك والوقف فيتردد بين الاعتقادين المتناقضين الإثبات والنفي، كما يتردد بين الإرادتين المتناقضين وهذا هو حال حذاق هؤلاء كأبي المعالي وأبي حامد والشهرستاني والرازي والآمدي" (1) .
3-
والأشاعرة توقفوا حتى في أهم المسائل كمسألة الصفات، يقول شيخ الإسلام:"ومثل هذا النظر - وهو تعارض الأدلة التي يظن صاحبها أنها أدلة عقلية - يوجب الحيرة والشك والتوقف، ولهذا صرح طائفة من هؤلاء بالتوقف والحيرة في مسائل الصفات، وهذا شأن الرازي والآمدي وغيرهما في مسائل لهم، وهو منتهى نظر أهل النظر والكلام المذموم في الشرع، فإنه ينتهي بهم الأمر إلى الحيرة والشك كما قال ابن عقيل وغيره من العلماء: آخر المتكلمين الخارجين عن الشرع هو الشك، وآخر الصوفية الخارجين عن الشرع هو الشطح. وهو كما قالوا: فإن من تدبر كلام كثير منهم الثابت عنهم وجد منتهى أمرهم إلى الشك والتوقف، كما يوجد في كلام الرازي وغيره؛ فإنه واقف في مسألة الجوهر الفرد، ومسألة الصفات والأفعال وغير ذلك، كما هو أخبر به عن نفسه وكما يوجد في كتبه، وكذلك أبو حامد الغزالي واقف في كثير من المسائل، وكذلك أبو المعالي حصل له التوقف قبل أن يموت في الصفات الخبرية كالاستواء وفي قيام الأمور الاختيارية به"(2) .
4-
ومن أعظم الأشاعرة حيرة واضطراباً الرازي والآمدي، فالرازي كثيراً ما "يعترف بالحيرة في المواضع العظيمة: مسائل الصفات وحدوث العالم، ونحو ذلك" (3) ، وقد صرح في آخر كتبه وهو المطالب العالية بتكافؤ الأدلة (4) ،
(1) الصفدية (1/294) .
(2)
شرح الأصفهانية (ص: 71-82) - ت العودة، وكل نص من هذا الكتاب أحلت فيه على هذا التحقيق - الذي لا يزال مطبوعاً على الآلة الكاتبة - فهو من الزيادات التي ليست في المطبوعة.
(3)
درء التعارض (4/290) .
(4)
انظر: التسعينية (ص: 201) .
وهو كثيراً ما يصرح بالحيرة (1)، وقد انتقل هذا إلى كبار تلاميذه حتى إن أبرزهم - وهو الخسروشاهي - دخل عليه ابن بادة فقال له: يا فلان ما تعتقد؟ - قال ابن بادة - قلت: أعتقد ما يعتقده المسلمون. قال: وأنت جازم بذلك وصدرك منشرح له، قلت: نعم. قال فبكى بكاء عظيماً، أظنه قال: لكني والله ما أدري ما أعتقد، لكني والله ما أدري ما أعتقد، لكني والله ما أدري ما أعتقد" (2) . وهكذا تكون حيرة الأستاذ والتلاميذ.
أما الآمدي فكثيراً ما يصرح في المسائل العظام عند عرض الأدلة والمناقشات بمثل قوله: هذا إشكال مشكل، ولعل عند غيري حله (3)، وذكر شيخ الإسلام عن الثقة أنه حدثه عنه أنه قال:"أمعنت النظر في الكلام وما استفدت منه شيئاً إلا ما عليه العوام، أو كلاماً هذا معناه"(4) .
5-
ورجوع الأشاعرة وكلامه في ذلك كثير ومشهور، وعلى رأسهم الجويني (5) ، والشهرستاني (6) ، والرازي (7) ، وغيرهم.
وقد وفق شيخ الإسلام في التركيز على هذه المسألة، لأنه وإن كانت كتب هؤلاء موجودة، ويعتمد عليها كثير من أتباعهم، إلا أن بيان هذه القضية وإيضاحها للناس يفيد الموافق والمخالف، أما الموافق فتزيده ثقة فيما عنده من الحق المعتمد على الكتاب والسنة، وأما المخالف فلابد أن تزرع في نفسه شيئاً من عدم الثقة فيما يقول هؤلاء في كتبهم الكثيرة التي أعلنوا رجوعهم عنها ورضاهم بطريقة القرآن.
(1) انظر مثلاً: درء التعارض (3/12،88، 9/188-190)، التسعينية (224-225) وشرح الأصفهانية (ص: 162-164) - ت العودة وغيرها.
(2)
التسعينية (ص: 201-202) .
(3)
انظر مثلاً: درء التعارض (1/162، 164، 3/93، 95، 282، 4/119، 232 - 233) وغيرها.
(4)
انظر: درء التعارض (3/262) .
(5)
انظر: درء التعارض (1/158، 4/173، 8/47)، والتسعينية (ص: 251-252) ، والفتوى الحموية - مجموع الفتاوى (5/11) .
(6)
انظر: مجموع الفتاوى (4/73) .
(7)
انظر: درء التعارض (1/159-160) ، والحموية - مجموع الفتاوى (5/10-11) ، ومجموع الفتاوى (4/72) .