الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيا: مقارنة بين الأشعرية والماتريدية:
تكون على إثر الأشعري مذهب الأشعرية، وعلى إثر الماتريدي مذهب الماتريدية ولكل من المذهبين أعلامه ورجاله، وكتبه ومتونه العقيدية، ومع غلبة المذهب الأشعري في العالم الإسلامي وانتشاره، إلا أن المذهب الماتريدي بقي متميزا نوعا ما، ولعل ارتباط كل واحد من المذهبين بمذهب فقهي مخالف للآخر كان له أثر في ذلك (1) .
وليس المقصود هنا متابعة التطور الذي حدث لأحدهما أو كليهما، ولا تفصيل المقارنة بين المذهبين، ولكن يمكن الإشارة بإجمال إلى الملاحظات التالية:
14-
تبين أنه لم يكن هناك لقاء بين الأشعري والماتريدي، إذ لم يجمعهما مكان ولا حتى منطقة معينة، فالأشعري عاش ومات في العراق، والماتريدي عاش ومات في بلاد ما وراء النهر، كما لم يجمعهما شيخ أو شيوخ تتلمذوا على أيديهم، والسؤال الذي يطرح هنا هو: إذا كان الأمر كذلك فم يفسر التوافق بين الرجلين في المنهج والموقف من المعتزلة وممن يسمونهم بالمشبهة؟ أحد الباحثين أجاب بعد إيراد هذا التساؤل بقوله: " ويمكن تفسير وجوه الشبه بينهما في الآراء بأنه يرجع إلى تشابه منهج كل منهما إلى حد ما في التوسط بين العقل والنقل"(2) ، وهذا التفسير تحصيل حاصل، لأن السؤال يرد مرة أخرى: لماذا كان منهج كل منهما أدى إلى التوسط بين العقل والنقل؟، الحقيقة أنه ليست هناك إجابة واضحة لهذا التساؤل، وإن كان انتشار المذهب الكلابي في العراق والري وخراسان - كما في قصة ابن خزيمة مع الكلابية - ما يدفع إلى القول باحتمال أن يكون هذا المذهب الذي ظهر فيه تلامذة - تناءت بهم الديار -
(1)(ن) انظر في الفلسفة الإسلامية: إبراهيم مذكور (2/56) .
(2)
إمام أهل السنة (الماتريدي)(ص: 424) .
قد انتشر أيضا في بلاد ما وراء النهر، خاصة وأن تلك المنطقة كانت كما يقول المقدسي تغص بمختلف الطوائف والفرق (1) ، ولذلك فمن المحتمل أن يكون الماتريدي أو أحد شيوخه قد تلقى هذا المذهب عن بعض أعلام أو أتباع الكلابية.
15-
تطور المذهب الأشعري - كما سيأتي - وكان تطوره بالقرب من مذهب المعتزلة أو بالالتصاق بالفلسفة أو التصوف، أما المذهب الماتريدي فلم يقع في التطور، بل بقيت أقوال الماتريدي - الذي لم يحدث له تطور كما حدث للأشعري - هي المعتمدة لدى متأخري الماتريدية كأبي المعين النسفي (2) ، ونجم الدين أبي حفص النسفي (3) ، ونور الدين الصابوني (4) ، وابن الهمام (5) ، وغيرهم، فهؤلاء وإن كان قد يقع لبعضهم مخالفة لمذهب شيخهم، إلا أن الأمر لا يصل إلى مستوى التطور الذي حدث للمذهب الأشعري.
16-
اهتم العلماء ببيان الفروق بين مذهبي الأشاعرة والماتريدية، وقسموا الفروق أحيانا إلى لفظية ومعنوية (6) .
(1) انظر أحسن التقاسيم (ص:323) .
(2)
هو: ميمون بن محمد بن محمد بن معتمد، أبو المعين النسفي المكحولي، من أشهر كتبه التمهيد وتبصرة الأدلة في العقائد توفي سنة 508هـ، وهو الذي روى عن أبي حنيفة القول بفساد صلاة من يرفع يديه عند الركوع وعند الرفع، مما سبب في قول كثير من الأحناف بعدم صحة صلاة الحنفي خلف الشافعي، انظر تفاصيل هذا الموضوع ومدى صحة نسبته إلى أبي حنيفة في الفوائد البهية في ترجمة أبي المعين النسفي (ص: 216-217) .
وانظر في ترجمته: الجواهر المضية (3/527)، وتاج التراجم (ص: 78) .
(3)
هو: عمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل النسفي السمرقندي، كان من المهتمين بالحديث ولذلك نعته السمعاني بالحافظ لكنه قال: إن مجموعاته الحديثة فيها أخطاء وأوهام كثيرة، انظر، التحبير (1/527-5287) ، توفي أبو حفص النسفي سنة 537هـ، وانظر في ترجمته أيضا معجم الأدباء (16/70) ، والجواهر (2/657) .
(4)
هو: أحمد بن محمود بن أبي بكر الصابوني، أبو محمد له البداية في أصول الدين، توفي سنة 580هـ، انظر: الجواهر (1/328)، وتاج التراجم (ص:10) .
(5)
هو: محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد، كمال الدين، الشهير بابن الهمام الكندري السيواس، ولد سنة 790هـ، وتوفي سنة 861هـ، من كتبه مسايرة في العقيدة، انظر: الفوائد البهية (ص: 180) .
(6)
هناك في هذا الموضوع كتب مخطوطة كثيرة، ومن المطبوع، كتاب نظم الفرائد لشيخ زاده، والروضة البهية لأبي عذبه.
17-
على الرغم من وجود الفروق بين المذهبين إلا أنه قد وقع نوع امتزاج بينهما، ومن أبرز الأمثلة على ذلك:
أ - ما فعله ابن الهمام في كتابه المشهور، "المسايرة" حيث اعتمد على كتاب الرسالة القدسية - وهي المسماة قواعد العقائد التي ألفها الغزالي لأهل القدس، ثم أدخلها ضمن إحياء علوم الدين - وكان هدف ابن الهمام أن يختصر كتاب الغزالي إلا أنه بعد أن بدأ بالكتابة رأي أن يزيد عليه زيادات مهمة، ولم يزل يزيد فيها - كما يقول - "حتى خرج عن القصد الأول، فلم يبق إلا كتابا مستقلا، غير أنه يسايره في تراجمه، وزدت عليها خاتمة ومقدمة "(1) ، ولذلك سمى كتابه المسايرة، فابن الهمام اعتمد على أحد كتب الأشاعرة، وهذا وحده كاف للتدليل على ما كان بين المذهبين من تقارب، لذلك فابن الهمام؛ وإن ذكر قول الأشعرب - بناء على ما في كتاب الغزالي - إلا أنه أعقبه بذكر مذهب الماتريدي، انظر كأمثلة على ذلك مسألة سماع موسى لكلام الله وهل سمع الكلام النفسي أم يستحيل أن يسمع ما ليس بصوت (2) ، وفي مسألة صفات الأفعال لله، وصفة التكوين، والعجيب في هذه المسألة أن ابن الهمام ذكر قولي الماتريدية والأشعرية، ثمن رجح قول الأشعرية معتمدا على أن مذهب أبي حنيفة وأصحابه الذين ذكر عقيدتهم الطحاوي يخالف ما ذهب إليه الماتريدي ومن جاء بعده (3) ، وقد تعقب ابن الهمام شارحو كتابه وضعفوا ما رجحه (4) ،
ومن المسائل التي ذكر الخلاف فيها مسألة التحسين والتقبيح (5) ، وتكليف ما لا يطاق (6) ،وغيرها.
(1) المسايرة - ضمن شرحها - المسامرة (1/7-8) .
(2)
انظر: المسامرة شرح المسايرة (1/80) .
(3)
انظر: المسامرة شرح المسايرة (1/89-93) .
(4)
ومنهم كمال الدين محمد بن محمد المعروف بابن أبي شريف المقدسي المتوفى سنة 905هـ، وهو صاحب المسامرة - انظر: تعليقه فيها (1/93-96) ، ومنهم زين الدين قاسم بن قطلوبغا الحنفي - صاحب تاج التراجم في طبقات الحنفية - توفي سنة 878هـ، انظر: حاشيته على المسايرة، طبعت مع المسامرة - في الحاشية (1-92-96) ..
(5)
انظر: المسامرة (2/35-39)، وقد ذكر ابن الهمام نفسه القولين في ذلك: قول الماتريدية الذين وافقوا المعتزلة، وقول الأشعرية.
(6)
انظر: المصدر السابق (2/41) .
ب - لما ألف النسفي - عمر بن محمد - متن العقيدة الذي سمي بالنسفية اعتني يشرحها - من منطلق المذهب الأشعري - بعض الحنفية، ومنهم سعد الدين التفتازاني (1) ، في شرحه المشهور الذي اشتهر ووضعت له حواش عديدة، انظر كمثال على منهجه كلامه حول صفة التكوين (2) .
جـ - ألف البزدوي (3) ، كتابا في أصول الدين، حاول فيه أن يجمع بين طريقتي الأشعرية والماتريدية.
د - ومن الأمثلة على تداخل المذهبين أن نور الدين الصابوني الماتريدي رجح - خلافا لشيخ الماتريدية - أن دليل الرؤية الوجود (4) ، ومن المعلوم أن الماتريدي يحتج للرؤية بالسمع فقط، أما معاصره فخر الدين الرازي - وهو دليل الوجود (5) ، ثم في الأخير رجح مذهب الماتريدي ونص على ذلك، ذاكرا اسم الماتريدي (6) .
(1) هو: مسعود بن عمر التفتازاني، صاحب المقاصد وشرحه، وشرح النسفية وغيرها، ولد سنة 712هـ، وتوفي سنة 791هـ، انظر: الدرر الكامنة (6/112) ، "هندية" وبغية الوعاة (2/285) .
(2)
انظر: شرح النسفية ضمن مجموعة الحواشي البهية عليها (ط الكردي - القاهرة 1/129) مع حاشية ملا أحمد الجندي، والخيالي، ونظر: أيضا - حاشية السيالكوتي في نفس الكتاب - آخر الجزء الأول (ص: 269)، وانظر: حاشية العصام على شرح النسفية (ص: 146) وما بعدها - طبعة مستقلة.
(3)
هو: أبو اليسر محمد بن محمد بن الحسين النسفي، الزدوي، له كتاب أصول الدين - مطبوع - ولد سنة 421هـ وتوفي سنة 493هـ، وأخوه أبو الحسن فخر الدين البزدوي - على ابن محمد - ونسبتهم إلى بزدة، قلعة على بعد ستة فراسخ من نسف، انظر: في ترجمة أبي اليسر الجواهر المضية (4/98)، وتاج التراجم (ص:65) ، وسير أعلام النبلاء (19/49) .
(4)
انظر: مناظرات فخر الدين الرازي فيما وراء النهر (ص: 15-16) وقد ناظر الرازي الصابوني في هذه المسألة.
(5)
انظر: الأربعين للرازي (ص: 191-198) .
(6)
انظر: المصدر السابق (ص: 198) .
هذه لمحات في مذهب الماتريدي والماتريدية، وبها يتبين كيف دخل في مذهب الأشاعرة وامتزج به، وهذا ما يفسر إغفال كثير من العلماء - ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية - في كتبهم وردودهم لذكرهم إلا في مسائل معينة اشتهروا بالخلاف فيها (1) .
* * *
(1) ذكر ابن القيم في أسماء مؤلفات ابن تيمية (ص: 23) ، ورقم (79) ، أن من مؤلفات شيخ الإسلام " رسالة في عقيدة الأشعرية وعقيدة الماتريدية وغيره من الحنفية، نحو خمسين ورقة" وحتى الآن لم يعثر على هذه الرسالة.