المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر أخبار عبد الله بن العباس الربيعى - نهاية الأرب في فنون الأدب - جـ ٥

[النويري، شهاب الدين]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الخامس

- ‌[تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به]

- ‌[القسم الثالث في المدح والهجو والمجون والفكاهات وغيرها]

- ‌[تتمة الباب السادس في الغناء والسماع]

- ‌تابع أخبار المغنين الذين نقلوا الغناء من الفارسية إلى العربية ومن أخذ عنهم ومن اشتهر بالغناء

- ‌ذكر أخبار إسحاق بن إبراهيم

- ‌ذكر أخبار علّويه

- ‌ذكر أخبار معبد اليقطينى

- ‌ذكر أخبار محمد الرف

- ‌ذكر أخبار محمد بن الأشعث

- ‌ذكر أخبار عمرو بن بانة

- ‌ذكر أخبار عبد الله بن العباس الربيعىّ

- ‌ذكر أخبار وجه القرعة

- ‌ذكر أخبار محمد بن الحارث بن بسخنّر [1]

- ‌ذكر أخبار أحمد بن صدقة

- ‌ذكر أخبار أبى حشيشة

- ‌ذكر أخبار القيان

- ‌ذكر أخبار جميلة

- ‌ذكر أخبار عزّة الميلاء

- ‌ذكر أخبار سلّامة القسّ

- ‌ذكر أخبار حبابة

- ‌ذكر أخبار خليدة المكّيّة

- ‌ذكر أخبار متيّم الهشاميّة

- ‌ذكر أخبار ساجى جارية عبيد الله بن عبد الله بن طاهر

- ‌ذكر أخبار دقاق

- ‌ذكر أخبار قلم الصالحيّة

- ‌ذكر أخبار بصبص جارية ابن نفيس

- ‌ذكر أخبار جوارى ابن رامين وهنّ سلّامة الزّرقاء، وربيحة، وسعدة

- ‌ذكر أخبار عنان جارية الناطفىّ

- ‌ذكر أخبار شارية جارية إبراهيم بن المهدىّ

- ‌ذكر أخبار بذل

- ‌ذكر أخبار ذات الخال

- ‌ذكر أخبار دنانير البرمكيّة

- ‌ذكر أخبار عريب [1] المأمونيّة

- ‌ذكر أخبار محبوبة

- ‌ذكر أخبار عبيدة الطّنبوريّة

- ‌الباب السابع من القسم الثالث من الفنّ الثانى فيما يحتاج إليه المغنّى ويضطرّ إلى معرفته، وما قيل فى الغناء، وما وصفت به القيان، ووصف آلات الطّرب

- ‌ذكر ما يحتاج إليه المغنّى ويضطرّ إلى معرفته وما قيل فى الغناء والقيان من جيّد الشعر

- ‌ذكر ما قيل فى وصف آلات الطرب

- ‌القسم الرابع من الفنّ الثانى فى التهانى والبشائر والمراثى والنوادب والزهد والتوكل والأدعية وفيه أربعة أبواب

- ‌الباب الأوّل من هذا القسم فى التهانى والبشائر

- ‌ذكر شىء مما هنّئ به ولاة المناصب

- ‌ذكر نبذة من التهانى العامّة والبشائر التامّة

- ‌وكتب أيضا فى مثل ذلك:

- ‌ومما قيل فى التهانى بالفتوحات، وهزيمة جيوش الأعداء

- ‌الباب الثانى من القسم الرابع من الفن الثانى فى المراثى والنوادب

- ‌ذكر شىء من المراثى والنوادب

- ‌ومما قيل فى شواذّ المراثى:

- ‌الباب الثالث من القسم الرابع من الفن الثانى فى الزهد والتوكل

- ‌ذكر بيان حقيقة الزهد

- ‌ذكر فضيلة الزهد وبغض الدنيا

- ‌ذكر بيان ذمّ الدنيا وشىء من المواعظ والرقائق الداخلة فى هذا الباب

- ‌ذكر بيان الزهد وأقسامه وأحكامه

- ‌ذكر بيان تفصيل الزهد فيما هو من ضروريات الحياة

- ‌ذكر بيان علامات الزهد

- ‌ذكر ما ورد فى التوكل من فضيلته وحقيقته

- ‌ذكر بيان أعمال المتوكلين

- ‌الباب الرابع من القسم الرابع من الفن الثانى فى الأدعية

- ‌ذكر الأوقات التى ترجى فيها إجابة الدعاء

- ‌ذكر دعوات ساعات الأيام السبعة ولياليها

- ‌ذكر ما يدعى به فى المساء والصباح، والغدوّ والرواح، والصلاة والصوم، والجماع والنوم؛ والورد والصدر، والسفر والحضر؛ وغير ذلك

- ‌ ذكر ما ورد فى أسماء الله الحسنى والاسم الأعظم

- ‌النمط الأوّل

- ‌النمط الثانى

- ‌النمط الثالث

- ‌النمط الرابع

- ‌النمط الخامس

- ‌النمط السادس

- ‌النمط السابع

- ‌النمط الثامن

- ‌النمط التاسع

- ‌النمط العاشر

- ‌صورة ما ورد بآخر الجزء الخامس فى أحد الأصلين الفتوغرافيين:

- ‌صورة ما ورد بآخر الجزء الخامس فى الأصل الثانى الفتوغرافى:

الفصل: ‌ذكر أخبار عبد الله بن العباس الربيعى

‌ذكر أخبار عبد الله بن العباس الربيعىّ

هو أبو العباس عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع، والربيع، على ما يدّعيه أهله، ابن يونس بن أبى فروة. وآل أبى فروة يدفعون ذلك ويزعمون أنه لقيط وجد منبوذا كفله يونس، فلما خدم المنصور ادّعى إليه. قال أبو الفرج الأصفهانى:

وكان شاعرا مطبوعا ومغنّيا محسنا جيّد الصنعة نادرها. قال: وهو أوّل من غنّى بالكنكلة فى الإسلام.

وكان سبب دخوله فى الغناء على ما رواه أبو الفرج بسنده إليه قال: كان سبب دخولى فى الغناء وتعلّمى إياه أنّى كنت أهوى جارية لعمّتى رقيّة بنت الفضل ابن الربيع، وكنت لا أقدر على ملازمتها والجلوس معها خوفا من أن يظهر ما لها عندى، فيكون ذلك سبب منعى منها؛ فأظهرت لعمّتى أنى أشتهى أن أتعلّم الغناء ويكون ذلك فى ستر عن جدّى- وكان جدّى وعمّتى على حال من الرقّة علىّ والمحبّة لى لا نهاية وراءها، لأن أبى توفّى فى حياة جدّى الفضل- فقالت:

يا بنىّ، وما دعاك إلى ذلك؟ فقلت: شهوة غلبت على قلبى، إن منعت منها متّ غمّا- قال: وكان لى فى الغناء طبع قوىّ- فقالت لى: أنت أعلم وما تختاره، والله ما أحبّ منعك من شىء، وإنى كارهة أن تحذق فى ذلك وتشتهر فتسقط ويفتضح أبوك وجدّك. فقلت: لا تخافى من ذلك، فإنما آخذ منه مقدار ما ألهو به.

ولازمت الجارية لمحبتى إياها بعلّة الغناء، فكنت آخذ عنها وعن صواحباتها حتى تقدّمت الجماعة حذقا وأقرّت لى بذلك، وبلغت ما كنت أريد من الجارية، وصرت ألازم مجلس جدّى. ثم لم يكن يمرّ لإسحاق ولا لابن جامع ولا للزّبير بن دحمان ولا لغيرهم صوت إلا أخذته، وكنت سريع الأخذ، إنما كنت أسمعه مرّتين أو ثلاثا

ص: 22

وقد صحّ لى. وأحسست فى نفسى قوّة فى الصناعة، فصنعت أوّل صوت صنعته فى شعر العرجىّ:

أماطت كساء الخزّ عن حرّ وجهها

وأدنت على الخدّين بردا مهلهلا

ثم صنعت:

أقفر من بعد خلّة شرف

فالمنحنى فالعقيق فالجرف

وعرضتهما على الجارية التى كنت أهواها وسألتها عما عندها فيهما؛ فقالت:

لا يجوز أن يكون فى الصنعة فوق هذا. وكان جوارى الحارث بن بسخنّر وجوارى أبيه يدخلن إلى دارنا فيطرحن على جوارى عمّتى وجوارى جدّى ويأخذن أيضا ما ليس عندهن، فأخذنهما منّى، وسألن الجارية عنهما فأخبرتهن أنهما من صنعتى.

ثم اشتهرا حتى غنّى الرشيد بهما يوما فاستظرفهما، وسأل إسحاق: هل تعرفهما؟

فقال: لا، وإنهما لمن أحسن الصنعة وجيّدها ومتقنها. ثم سأل الجارية عنهما فوقفت خوفا من عمّتى وحذرا أن يبلغ جدّى أنها ذكرتنى؛ فانتهرها الرشيد فأخبرته القصّة؛ فوجّه من وقته فدعا بجدّى فقال له: يا فضل، أيكون لك ابن يغنّى ثم يبلغ فى الغناء المبلغ الذى يمكنه أن يصنع صوتين يستحسنهما إسحاق وسائر المغنين ويتداولهما جوارى القيان فلا تعلمنى بذلك، كأنك رفعت قدره عن خدمتى فى هذا الشأن! فقال له جدّى: وحقّ ولائك يا أمير المؤمنين ونعمتك وإلا فأنا برئ من بيعتك وعلىّ العهد والميثاق [1] والعتق والطلاق إن كنت علمت بشىء من هذا قط إلا منك الساعة. [فمن هذا من ولدى؟ قال: عبد الله بن العباس هو [2] ، فأحضرنيه.

الساعة [3]] . فجاء جدّى وهو يكاد أن ينشق غيظا، فدعانى؛ فلما خرجت إليه شتمنى

[1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «والبيان» .

[2]

لعل العبارة: «هو عبد الله ابن العباس» .

[3]

زيادة عن الأغانى.

ص: 23

وقال: [يا كلب [1]] بلغ من أمرك أنك تجسر على أن تتعلّم الغناء بغير إذنى! ثم زاد ذلك حتى صنعت، ولم تقنع بهذا حتى ألقيت صنعتك على الجوارى فى دارى، ثم تجاوزهن إلى جوارى الحارث بن بسخنّر، فاشتهرت، وبلغ أمير المؤمنين فتنكّر لى ولا منى، وفضحت آباءك فى قبورهم وسقطت للأبد إلا من المغنّين! فبكيت مما جرى علىّ وعلمت أنه صدقنى؛ فرحمنى وضمّنى إليه وقال: قد صارت الآن مصيبتى فى أبيك مصيبتين، إحداهما به وقد مضى وفات، والأخرى بك وهى موصولة بحياتى، ومصيبة [2] باقية العار علىّ وعلى أهلى بعدى، وبكى وقال: عزّ علىّ يا بنىّ أنّى أراك أبدا ما بقيت على غير ما أحبّ؛ وليست لى فى هذا الأمر حيلة لإنه أمر قد خرج عن يدى. وقال: جئنى بعود حتى أسمعك وأنظر كيف أنت، فإن كنت تصلح للخدمة فى هذه الفضيحة وإلا جئت بك منفردا وعرّفته خبرك واستعفيته لك.

فأتيت بعود وغنّيته غناء قديما؛ فقال: لا، بل صوتيك اللذين صنعتهما، فغنيّته إياهما، فاستحسنهما وبكى، ثم قال: بطلت والله يا بنىّ وخاب أملى فيك. فوا حزنا عليك وعلى أبيك! فقلت: ليتنى متّ قبل ما أنكرته أو أخرست! ومالى حيلة! لكنى وحياتك يا سيّدى- وإلا فعلىّ عهد الله وميثاقه والعتق والطلاق وكل يمين يحلف بها [حالف [3]] لازمة [لى [3]]- لا غنيّت أبدا إلا لخليفة أو ولىّ عهد. فقال:

قد أحسنت فيما نبهت [4] عليه من هذا. فركب وأمر بى فأحضرت، ووقفت بين يدى الرشيد وأنا أرعد؛ فاستدعانى واستدنانى حتى صرت أقرب الجماعة إليه، ومازحنى

[1] زيادة عن الأغانى.

[2]

فى الأغانى: مصيبته، ولعلها: مصيبتك.

[3]

زيادة عن الأغانى.

[4]

الذى فى أساس البلاغة: «تنبهت على الأمر: تفطنت له» .

ص: 24

وأقبل علىّ وسكّن منى [1]، وأمر جدّى بالانصراف؛ وأما إلى الجماعة فحدّثونى وسقيت أقداحا [2] وغنّى المغنون جميعا؛ وأومأ إلىّ إسحاق بعينه أن ابدأ فغنّ إذا بلغت النوبة إليك قبل أن تؤمر بذلك ليكون ذلك أملح وأجمل بك. فلما جاءت النّوبة إلىّ أخذت عودا ممن كان إلى جنبى وقمت قائما واستأذنت فى الغناء؛ فضحك الرشيد وقال: غنّ جالسا؛ فغنيّت لحنى الأوّل، فطرب واستعاده ثلاث مرّات وشرب عليه ثلاثة أنصاف. ثم غنيّت الثانى فكانت هذه حاله، فسكر ودعا بمسرور وقال: احمل الساعة مع عبد الله عشرة آلاف دينار وثلاثين ثوبا من فاخر ثيابى وعيبة مملوءة طيبا، فحمل ذلك كله معى. قال عبد الله: ولم أزل كلما أراد ولىّ عهد أن يعلم من الخليفة بعد الخليفة هو أم غيره دعانى وأمرنى أن أغنّى، فأعرّفه يمينى فيستأذن الخليفة فى ذلك، فإن أذن لى فى الغناء علم أنه ولىّ عهد وإلا عرف أنه غيره، حتى كان آخرهم الواثق فدعانى فى ايام المعتصم وسأله أن يأذن لى فى الغناء، فأذن لى ثم دعانى من الغد فقال: ما كان غناؤك إلا سببا لظهور سرّى وأسرار الخلفاء قبلى! والله لقد هممت أن آمر بضرب رقبتك! لا يبلغنى أنك امتنعت من الغناء عند أحد، فو الله لئن امتنعت لأضربن عنقك! فأعتق من كنت تملكه يوم حلفت، وطلّق من كان عندك يومئذ، وأرحنا من يمينك هذه المشئومة. فقمت وأنا لا أعقل جزعا منه؛ فأعتقت جميع ما كان بقى عندى من مماليكى الذين حلفت يومئذ وهم فى ملكى ثم تصدّقت بجملة، واستفتيت فى يمينى أبا يوسف القاضى حتى خرجت منها؛ وغنيّت بعد ذلك إخوانى جميعا حتى اشتهر أمرى، وبلغ المعتصم خبرى فتخلّصت منه.

[1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «وأقبل على الجماعة وشكر منى الخ» .

[2]

فى الأغانى: «وسقيت الجماعة وغنى الخ» .

ص: 25

وروى أبو الفرج أيضا عن الصّولىّ عن الحسين بن يحيى قال: قلت لعبد الله ابن العباس: إنه بلغنى لك خبر مع الرشيد أوّل ما شهرت بالغناء فحدّثنى به؛ فقال:

نعم! أوّل صوت صنعته:

أتانى يؤامرنى فى الصّبو

ح ليلا فقلت له غادها

فلما دار [1] لى وضربت عليه بالكنكلة، عرضته على جارية [2] لنا يقال لها راحة، فاستحسنته، وأخذته عنى. وكانت تختلف إلى إبراهيم الموصلى، فسمعها يوما تغنيّه وتناغى [3] به جارية من جواريه، فآستعادها إياه فأعادته؛ فقال: لمن هذا الصوت؟

قالت: صوت قديم. قال: كذبت، لو كان قديما لعرفته. وما زال يداريها ويتغاضب عليها حتى اعترفت له أنه من صنعتى، فعجب من ذلك. ثم غناه يوما بحضرة الرشيد ليغرب به على المغنّين؛ فاستحسنه الرشيد، فقال له: لمن هذا يا إبراهيم؟

فأمسك عن الجواب وخشى أن يكذبه فينمى إليه الخبر من غيره، وخاف من جدّى إن يصدقه؛ فقال له: مالك لا تجيبنى؟ قال: ما يمكننى يا أمير المؤمنين. فاستراب بالقصّة، فأقسم الرشيد أنه إن لم يعرّفه عاقبه عقوبة توجعه، وتوهّم أنه لعليّة بنت المهدىّ أو لبعض حرمه فأستطير غضبا. فلما رأى إبراهيم الجدّ منه صدقه فيما بينه وبينه سرّا. فدعا لوقته بالفضل بن الربيع وقال له: أيصنع ولدك غناء يرويه الناس ولا تعرّفنى! فجزع وحلف بحياته وبيعته أنه ما عرف ذلك قط ولا سمع به إلا فى وقته ذلك. وساق باقى الخبر نحو ما تقدّم.

قال عبد الله بن العباس: دخل محمد بن عبد الملك الزيات على الواثق وأنا بين يديه أغنّيه وقد استعادنى صوتا فأعدته، فآستحسنه محمد بن عبد الملك [وقال:[4]] هذا والله

[1] فى الأغانى: «تأتى لى» .

[2]

كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «على جارة» .

[3]

كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «تغانى» .

[4]

زيادة نراها لازمة.

ص: 26

يا أمير المؤمنين أولى الناس بإقبالك عليه وإصغائك إليه؛ فقال: أجل! هذا والله مولاى وابن موالىّ لا يعرفون غير ذلك. فقال: ليس كل مولى يا أمير المؤمنين مولى لمواليه، ولا كل مولى يتجمّل بولائه يجمع ما جمعه عبد الله من ظرف وأدب وصحّة عقل وفضل علم وجودة شعر. فقال له: صدقت يا محمد. فلما كان من الغد جئت محمد بن عبد الملك شاكرا لحسن محضره، فقلت فى أضعاف كلامى: وأفرط الوزير، أعزّه الله تعالى، فى وصفى وتقريظى بكل شىء حتى وصفنى بجودة الشعر، وليس ذلك عندى، وإنما أعبث بالبيتين والثلاثة. ولو كان عندى أيضا شىء من ذلك لصغر عن أن يصفه الوزير ويحكيه فى هذا المجلس الرفيع المشهور [1] . فقال:

والله يا أخى لو عرفت مقدار قولك:

يا شادنا رام إذ م

رّ فى الشّعانين [2] قتلى

يقول لى: كيف أصبح

ت؟ كيف يصبح مثلى

لما قلت هذا القول. والله لو لم يكن لك شعر فى عمرك إلا قولك: «كيف يصبح مثلى» لكنت شاعرا مجيدا. وهذا الشعر قاله عبد الله بن العباس فى نصرانية كان يهواها ولا يصل إليها إلا إذا خرجت إلى البيعة. وله معها أخبار وأشعار له فيها أصوات. منها قوله:

إنّ فى القلب من الظّبى كلوم

فدع اللّوم فإنّ اللّوم لوم

حبذا يوم الشّعانين وما

نلت فيه من نعيم لو يدوم

إن أكن أعظمت أن همت به

فالذى تركب من عذلى عظيم

لم أكن أوّل من سنّ الهوى

فدع العذل فذا داء قديم

[1] لعله «المشهود» .

[2]

الشعانين: عيد للنصارى قبل الفصح بأسبوع.

ص: 27

وروى أبو الفرج بسنده إلى محمد بن جبير قال: كنا عند أبى عيسى بن الرشيد فى زمن ربيع وعندنا مخارق وعلّويه وعبد الله بن العباس الربيعىّ وعبد الله بن الحارث بن بسخنّر ونحن مصطبحون فى طارمة مضروبة على بستانه وقد تفتّح فيه ورد وياسمين وشقائق والسماء متغيّمة غيما مطبقا وقد بدأت ترشّ رشّا ساكبا، فنحن فى أكمل نشاط وأحسن يوم، إذ خرجت قيّمة دار أبى عيسى فقالت: يا سيّدى، قد جاءت عساليج؛ قال: تخرج إلينا فليس بحضرتنا من تحتشمه. قال: فخرجت إلينا جارية شكلة حلوة حسنة العقل والهيئة والأدب فى يدها عود فسلّمت، وأمرها أبو عيسى بالجلوس فجلست. وغنّى القوم حتى انتهى الدّور إليها، وظننا أنها لا تصنع شيئا وخفنا أن تهابنا فتحصر، فغنّت غناء حسنا مطربا متقنا، لم تدع أحدا ممن حضر إلا غنّت صوتا من صنعته فأدّته على غاية الإحكام؛ فطربنا واستحسنّا غناءها وخاطبناها بالاستحسان؛ وألح عبد الله بن العباس من بيننا بالاقتراح عليها والمزاح معها والنظر اليها. فقال أبو عيسى: عشقتها وحياتى يا عبد الله! فقال: لا والله يا سيّدى وحياتك ما عشقتها، ولكن استملحت كل ما شاهدته منها من منظر وشكل وعقل وعشرة وغناء. فقال له: ويحك! فهذا والله هو العشق وسببه. ورب جدّ جرّه اللعب. قال: وشربنا؛ فلما غلب النبيذ على عبد الله غنّى أهزاجا قديمة وحديثة، وغنّى فيما بينها هزجا فى شعر قاله فيها لوقته، فما فطن له إلا أبو عيسى، وهو:

نطق المكتوم منّى فبدا

كم ترى المكتوم منّى لا يضح

سحر عينيك إذا ما رنتا

لم يدع ذا صبوة أو يفتضح

ملكت قلبا فأمسى غلقا

عندها صبا بها لم يسترح [1]

[1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل:

ملكت نفسى وأمسى علقا

عندنا صبا بها لم يسترح

ص: 28

بجمال وغناء حسن

جلّ عن أن ينتقيه [1] المقترح

أورث القلب هموما ولقد

كنت مسرورا بمرآه فرح

ولكم مغتبق همّا وقد

باكر اللهو بكور المصطبح

فقال له أبو عيسى: فعلتها والله يا عبد الله، صح والله قولى لك فى عساليج وأنت تكابر حتى فضحك السّكر. فجحد وقال: هذا غناء كنت أرويه. فخلف أبو عيسى أنه ما قاله وما غنّاه إلا فى يومه؛ وقال له: احلف بحياتى أنّ الأمر ليس هو كذلك! فلم يفعل. فقال أبو عيسى: والله لو كانت لى لوهبتها لك، ولكنها لآل يحيى ابن معاذ، وو الله إن باعوها لأملّكنّك إياها ولو بكل ما أملك! ووحياتى لتنصرفنّ قبلك إلى منزلك. ثم دعا بحافظتها وخادما من خدمه فوجّه بها معهما إلى منزله.

والتوى عبد الله قليلا وتجلّد ثم انصرف. واتصل الأمر بينهما بعد ذلك فاشترتها عمته رقيّة بنت الفضل بن الربيع من آل يحيى بن معاذ، وكانت عندهم حتى ماتت.

قال: وقالت بذل الكبيرة لعبد الله بن العباس: قد بلغنى أنك عشقت جارية اسمها عساليج، فأعرضها علىّ، فإما أن عذرتك أو عذلتك؛ فوجّه إليها فحضرت، وقال لبذل: هذه هى يا سيّدتى، فاسمعى وانظرى ثم مرينى بما شئت أطعك. فأقبلت عليه عساليج وقالت: يا عبد الله، أتشاور فىّ! فو الله ما شاورت فيك لمّا سحبتك.

فقالت بذل: أحسنت والله يا صبيّة! ولو لم تحسنى شيئا و [لا [2]] كانت فيك خصلة تحمد لوجب أن تعشقى لهذه الكلمة. ثم قالت لعبد الله: ما ضيّعت، احتفظ بصاحبتك هذه.

وقال حمدون بن إسماعيل: دخلت يوما على عبد الله بن العباس الربيعىّ وخادم له يسقيه، وبيده عود وهو يغنّى:

[1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «أن يقنفيه» .

[2]

التكملة عن الأغانى.

ص: 29