الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بهما قبل الزدراد؛ والمنكح والمركب فأنت وهما فى الموت والفناء على ميعاد، والملابس فستخلقها الأيام بعد الجدّة، والمساكن فستعفّى الليالى آثارها ولو بعد مدّة.
فإذا علمت أن مآل الدنيا إلى الزوال، وقصاراها إلى الانتقال؛ وملاذّها إلى هذه الغاية، والعمر فيها وإن طال سريع النهاية؛ فتقلّل منها حسب طاقتك، واقتصر على ما تسدّ به بعض خلّتك وفاقتك؛ واعمل لآخرتك التى لا ينقضى أمدها، ولا يفنى من النعيم الدائم مددها. وقد أمرتك الخير وليتنى به لو ائتمرت، وأوضحت لك سبيل الرشاد وليتنى به لو مررت.
أمرتك الخير لكن ما ائتمرت به
…
وما استقمت فما قولى لك: استقم!
وسأورد إن شاء الله على سمعك من هذا الباب ما إن تمسّكت به كان سببا لإرشادك، وذخيرة تجدها فى يوم معادك.
ذكر بيان حقيقة الزهد
قال الإمام الأوحد العالم زين الدين حجّة المتكلّمين أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالىّ الطّوسىّ رحمه الله تعالى فى كتابه المترجم بإحياء علوم الدين: إعلم أن الزهد فى الدنيا مقام شريف من مقامات السالكين. وينتظم هذا المقام من علم وحال وعمل كسائر المقامات؛ لأن أبواب الإيمان كلّها كما قال السلف ترجع إلى عقد وقول وعمل. وكأن القول لظهوره أقيم مقام الحال، إذ به يظهر الحال الباطن، وإلا فليس القول مرادا بعينه؛ وإذا لم يكن صادرا عن حال سمّى إسلاما ولم يسمّ إيمانا.
والعلم هو السبب فى الحال يجرى مجرى المثمر، والعمل يجرى مجرى الثمرة.
فأما الحال فنعنى بها ما يسمّى زهدا، وهو عبارة عن انصراف الرغبة عن الشئ إلى ما هو خير منه؛ فكلّ من عدل عن شئ إلى غيره بمعاوضة وبيع وغيره فإنّما عدل
عنه لرغبته عنه، وإنما عدل إلى غيره لرغبته فيه. فحاله بالإضافة إلى المعدول عنه يسمّى [زهدا، وبالإضافة إلى المعدول إليه يسمّى [1]] رغبة وحبّا. فإذا يستدعى حال الزهد مرغوبا عنه ومرغوبا فيه [2] هو خير من المرغوب عنه. وشرط المرغوب عنه أن يكون هو أيضا مرغوبا فيه بوجه من الوجوه؛ فمن رغب عما ليس مطلوبا فى نفسه لا يسمّى زاهدا، فتارك التراب والحجارة والحشرات لا يسمّى زاهدا، لأن ذلك ليس فى مظنّة الرغبة، وإنما يسمّى زاهدا تارك الدراهم والدنانير. وشرط المرغوب فيه أن يكون عنده خيرا من المرغوب عنه حتى تغلب هذه الرغبة؛ فالبائع لا يقدم على البيع إلا والمشترى عنده خير من المبيع، فيكون حاله بالإضافة إلى المبيع زهدا فيه، وبالإضافة إلى العوض رغبة وحبّا؛ ولذلك قال الله تعالى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ
وشروه بمعنى باعوه، ووصف إخوة يوسف بالزهد فيه إذ طمعوا أن يخلو لهم وجه أبيهم، وكان ذلك عندهم أحبّ إليهم من يوسف فباعوه طمعا فى العوض. فإذا كلّ من باع الدنيا بالآخرة فهو زاهد فى الدنيا، وكلّ من باع الاخرة بالدنيا فهو أيضا زاهد ولكن فى الاخرة؛ ولكن العادة جارية بتخصيص اسم الزهد بمن زهد فى الدنيا؛ كما خصّص اسم الإلحاد بمن يميل إلى الباطل خاصّة، وإن كان هو الميل فى وضع اللسان. قال: ولما كان الزهد رغبة عن محبوب بالجملة لم يتصوّر إلا بالعدول إلى شىء هو أحبّ منه، وإلا فترك المحبوب بغير الأحبّ محال. والذى يرغب عن كلّ ما سوى الله تعالى حتى الفردوس ولا يحبّ إلا الله تعالى فهو الزاهد المطلق. والذى يرغب عن كل حظّ ينال فى الدنيا ولم يزهد فى مثل تلك الحظوظ فى الآخرة بل طمع فى الحور العين
[1] زيادة عن الإحياء.
[2]
كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «إليه» .
والقصور والفواكه والأنهار فهو أيضا زاهد ولكنّه دون الأوّل. والذى يترك من حظوظ الدنيا البعض دون البعض، كالذى يترك المال دون الجاه، أو يترك التوسّع فى الأكل ولا يترك التجمّل فى الزينة، فلا يستحقّ اسم الزهد مطلقا؛ ودرجته فى الزّهاد درجة من يتوب عن بعض المعاصى فى التائبين، وهو زهد صحيح كما أن التوبة عن بعض المعاصى صحيحة؛ فإنّ التوبة عبارة عن ترك المحظورات، والزهد عبارة عن ترك المباحات التى هى حظّ النفس. والمقتصر على ترك المحظورات لا يسمّى زاهدا، وإن كان زهد فى المحظور وانصرف عنه، ولكنّ العادة تخصّص هذا الاسم بتارك المباحات. فإذا الزهد عبارة عن رغبة عن الدنيا عدولا إلى الآخرة أو عن غير الله عدولا إلى الله، وهى الدرجة العليا. وكما يشترط فى المرغوب فيه [1] أن يكون خيرا عنده؛ فيشترط فى المرغوب عنه أن يكون مقدورا عليه، فإنّ ترك ما لا يقدر عليه محال، وبالترك يتبيّن زوال الرغبة؛ ولذلك قيل لابن المبارك:
يا زاهد؛ فقال: الزاهد عمر بن عبد العزيز، إذ جاءته الدنيا راغمة فتركها، وأما أنا ففيم زهدت! وأمّا العلم الذى هو المثمر لهذا الحال فهو العلم يكون المتروك حقيرا بالإضافة إلى المأخوذ، كعلم التاجر بأن العوض خير من المبيع فيرغب فيه؛ وما لم يتحقّق هذا العلم لا يتصوّر أن تزول الرغبة عن المبيع، فكذلك من عرف أن ما عند الله باق وأن الآخرة خير وأبقى، أى لذّتها خير فى نفسها وأبقى. فبقدر قوّة اليقين والمعرفة بالتفاوت بين الدنيا والآخرة تقوى الرغبة فى البيع والمعاملة؛ حتّى إنّ من قوى يقينه يبيع نفسه وماله، كما قال الله عز وجل:
[1] كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «المرغوب اليه» .
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ
…
الآية، ثم بيّن أن صفقتهم رابحة فقال تعالى: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ
. فليس يحتاج من العلم فى الزهد إلا إلى هذا القدر وهو أنّ الآخرة خير وأبقى؛ وقد يعلم ذلك من لا يقدر على ترك الدنيا إمّا لضعف علمه ويقينه، وإما لاستيلاء الدنيا والشهوة فى الحال عليه ولكونه مقهورا فى يد الشيطان، وإما لاغتراره بمواعيد الشيطان فى التسويف يوما فيوما إلى أن يختطفه الموت، ولا يبقى معه إلا الحسرة بعد الفوت. قال: وإلى تعريف خساسة الدنيا الإشارة بقوله تعالى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا
، وإلى تعريف نفاسة الآخرة الإشارة بقوله عز وجل: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ
؛ فنبّه على أنّ العلم بنفاسته هو المرغّب عن عوضه. قال:
ولمّا لم يتصور الزهد إلا بمعاوضة ورغبة عن محبوب فى أحبّ منه
قال رجل:
اللهمّ أرنى الدنيا كما تراها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقل هذا ولكن قل اللهمّ أرنى الدنيا كما أريتها الصالحين من عبادك»
. وهذا لأن الله يراها حقيرة كما هى، وكلّ مخلوق فهو بالإضافة إلى جلاله حقير، والعبد يراها حقيرة فى حقّ نفسه بالإضافة إلى ما هو خير له [1] ، ولا يتصوّر أن يرى بائع الفرس وإن رغب عن فرسه كما يرى حشرات الأرض [مثلا [2]] ، لأنّه مستغن عن الحشرات أصلا وليس مستغنيا عن الفرس؛ والله تعالى غنىّ بذاته عن كلّ ما سواه، فيرى الكلّ فى درجة واحدة بالإضافة إلى جلاله، ويراها متفاوتة بالإضافة إلى غيره، والزاهد هو الذى يرى تفاوتها بالإضافة إلى نفسه لا إلى غيره.
وأمّا العمل الصادر عن حال الزهد فهو ترك وأخذ، لأنه بيع ومعاملة واستبدال الذى هو خير بالذى هو أدنى. فكما أنّ العمل الصادر من عقد البيع هو ترك المبيع [1] وإخراجه عن اليد وأخذ العوض، فكذلك الزهد يوجب ترك المزهود فيه بالكلّية وهى الدنيا بأسرها مع أسبابها ومقدماتها وعلائقها، فيخرج من القلب حبّها ويدخل حبّ الطاعات ويخرج من اليد والعين ما أخرجه من القلب، ويوظّف على اليد والعين وسائر الجوارح وظائف من الطاعات، وإلّا كان كمن سلّم المبيع ولم يأخذ الثمن. فإذا وفّى شرط الحالتين فى الأخذ والترك فليستبشر ببيعه الذى بايع به، فإن الذى بايعه بهذا البيع وفىّ بالعهد؛ فمن سلّم حاضرا فى غائب وسلّم الحاضر وأخذ يسعى فى طلب الغائب سلّم إليه الغائب حين فراغه من سعيه إن كان العاقد ممن يوثق بصدقه وقدرته ووفائه بالعهد. وما دام ممسكا للدّنيا فلا يصح زهده أصلا، ولذلك لم يصف الله تعالى إخوة يوسف بالزهد فى بنيامين وإن كانوا قد قالوا:
لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا
، وعزموا على إبعاده كما عزموا على إبعاد يوسف حتى شفع فيه أحدهم فترك، ولا وصفهم أيضا بالزهد فى يوسف عند العزم على إخراجه إلا عند التسليم والبيع. فعلامة الرغبة الإمساك، وعلامة الزهد الإخراج. فإن أخرجت عن اليد بعض الدنيا دون البعض فأنت زاهد فيما أخرجت فقط، ولست زاهدا مطلقا؛ وإن لم يكن لك مال ولم تساعدك الدنيا لم يتصوّر منك الزهد، لإنّ ما لا تقدر عليه لا تقدر على تركه. وربما يستهو يك الشيطان بغروره ويخيّل [إليك [2]] أنّ الدنيا وإن لم تأتك فأنت زاهد فيها، فلا ينبغى أن تتدلّى بحبل
غروره دون أن [تستوثق [1] و] تستظهر بموثق غليظ [2] من الله تعالى؛ فإنّك إذا لم تجرّب حال القدرة فلا تثق بالقدرة على الترك عندها؛ فكم من ظانّ بنفسه كراهة المعاصى عند تعذّرها فلما تيسّرت له أسبابها من غير مكدّر ولا مخوف من الخلق وقع فيها.
وإذا كان هذا غرور النفس فى المحظورات فإيّاك أن تثق بوعدها فى المباحات.
والموثق الغليظ الذى تأخذه عليها أن تجرّبها مرّة بعد مرّة فى حال القدرة، فاذا وفّت بما وعدت على الدوام مع انتفاء الصوارف والأعذار ظاهرا وباطنا فلا بأس أن تثق بها وثوقا ما، ولكن تكون من تغيّرها على حذر، فإنها سريعة النقض للعهد، قريبة الرجوع إلى مقتضى الطبع. وبالجملة فلا أمان منها إلا عند الترك بالإضافة إلى ما تركت فقط وذلك عند القدرة. قال: وليس من الزهد بذل المال على سبيل السخاء والفتوّة وعلى سبيل استمالة القلوب ولا على سبيل الطمع، فذلك كلّه من محاسن العادات ولا مدخل له فى العبادات، إنما الزهد أن تترك الدنيا لعلمك بحقارتها بالإضافة إلى نفاسة الآخرة. [فأمّا كل نوع من الترك فإنه يتصوّر ممن لا يؤمن بالآخرة [1]] فذلك قد يكون مروءة وفتوّة وسخاء وحسن خلق، وحسن الذكر وميل القلوب من حظوظ العالجة، وهى ألذّ وأهنأ من المال؛ بل الزاهد من أتته الدنيا راغمة عفوا وصفوا وهو قادر على التنعّم بها من غير نقصان جاه وقبح اسم وفوات حظّ للنفس، فتركها خوفا من أن يأنس بها فيكون آنسا بغير الله ومحبّا لما سوى الله، ويكون مشركا فى حبّ الله غير الله؛ أو تركها طمعا فى ثواب آخر فترك التمتّع بأشربة الدنيا طمعا فى أشربة الجنّة، وترك التمتّع بالسرارى والنسوان طمعا فى الحور العين، وترك التفرّج فى البساتين طمعا فى بساتين الجنّة وأشجارها، وترك التزيّن والتجمّل بزينة الدنيا طمعا فى زينة الجنّة، وترك المطاعم اللذيذة طمعا
[1] زيادة عن الإحياء.
[2]
كذا فى الإحياء. وفى الأصل: «بموثق عليك» .