الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تموت بضدّه، فأصابه ذرب فى شهر رمضان، فكان يتصدّق فى كل يوم يمكنه صومه بمائة درهم، ثم ضعف عن الصوم فلم يطقه ومات فى الشهر. ولما نعى إلى المتوكل غمّه وحزن عليه وقال: ذهب صدر عظيم من جمال الملك وبهائه وزينته. رحمه الله تعالى.
ذكر أخبار علّويه
هو أبو الحسن على بن عبد الله بن سيف. وجدّه سيف من الصّغد الذين سباهم الوليد بن عثمان بن عفّان واسترقّ منهم جماعة اختصهم لخدمته وأعتق بعضهم ولم يعتق الباقين فقتلوه. قال أبو الفرج الأصفهانى: وكان علىّ هذا مغنّيا حاذقا، ومؤدّبا محسنا، وصانعا متقنا، وضاربا متقدّما، مع خفّة روح وطيب مجالسة وملاحة نوادر. وكان إبراهيم الموصلىّ علّمه وخرّجه وعنى بتحذيقه جدّا، فبرع وغنّى لمحمد الأمين وعاش إلى أيام المتوكّل ومات بعد إسحاق الموصلى بيسير. وكان سبب وفاته أنه خرج عليه جرب، فشكاه إلى يحيى بن ماسويه، فبعث إليه بدواء مسهل وطلاء، فشرب الطلاء واطّلى بالدواء، فقتله ذلك. قال: وكان علّويه أعسر، فكان عوده مقلوب الأوتار: البمّ أسفل الأوتار كلها ثم المثلث فوقه ثم المثنى ثم الزّير؛ فكان عوده إذا كان فى يد غيره يكون مقلوبا، وإذا أخذه كان فى يده اليمنى وضرب باليسرى فيكون مستويا. وكان إسحاق يتعصّب له فى أكثر أوقاته على مخارق. وقال حماد ابن إسحاق: قلت لأبى: أيّما أفضل عندك مخارق أم [1] علّويه؟ فقال: يا بنىّ، علّويه أعرقهما فهما بما يخرج من رأسه، وأعلمهما بما يغنّيه ويؤدّيه، ولو خيّرت [2] بينهما من يطارح جوارىّ، أو شاورنى من يستنصحنى لما أشرت إلا بعلّويه؛ لأنه يؤدّى
[1] فى الأصل: «أو» .
[2]
كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «خيرنى» .
الغناء، [و][1] إذا صنع شيئا صنعه صنعة محكمة، ومخارق لتمكّنه من حلقه وكثرة نغمه لا يقنع بالأخذ منه، لأنه لا يؤدّى صوتا واحدا كما أخذه ولا يغنيّه مرّتين غناء واحدا لكثرة زوائده فيه، ولكنهما إذا اجتمعا عند خليفة أو سوقة غلب مخارق على المجلس والجائزة بطيب صوته وكثرة نغمه.
وقال أبو عبد الله بن حمدون: حدّثنى أبى قال: اجتمعت مع إسحاق يوما فى بعض دور بنى هاشم، وحضر علّويه فغنّى أصواتا ثم غنّى من صنعته:
ونبّئت ليلى أرسلت بشفاعة
…
إلىّ فهلّا نفس ليلى شفيعها!
فقال له إسحاق: أحسنت أحسنت والله يا أبا الحسن! أحسنت ما شئت! فقام علّويه من مجلسه فقبّل رأس إسحاق وعينيه وجلس [2] بين يديه وسرّ بقوله سرورا كثيرا؛ ثم قال: أنت سيدى وابن سيدى [وأستاذى [3]] وابن أستاذى، ولى إليك حاجة.
قال: قل، فو الله إنى أبلغ فيها ما تحبّ. قال: أيّما أفضل أنا عندك أم مخارق؟
فإنى أحبّ أن أسمع منك فى هذا المعنى قولا يؤثر ويحكيه عنك من حضر، فشرّفنى به.
فقال إسحاق: ما منكما إلا محسن مجمل، فلا ترد أن يجرى فى هذا شىء. قال: سألتك بحقّى عليك وبتربة أبيك وبكل حقّ تعظّمه إلا حكمت! فقال: ويحك! والله لو كنت أستجيز أن أقول غير الحق لقلته فيما تحب، فأمّا إذا أبيت إلا ذكر ما عندى، فلو خيّرت أنا من يطارح جوارىّ ويغنّينى لما اخترت غيرك، ولكنكما إذا غنيّتما بين يدى خليفة أو أمير غلبك على إطرابه واستبدّ عليك بجائزته. فغضب علّويه وقام وقال: أفّ من رضاك وغضبك! وكان الواثق بالله يقول: علّويه أصحّ الناس صنعة بعد إسحاق، وأطيب الناس صوتا بعد مخارق، وأضرب الناس بعد زلزل وملاحظ، فهو مصلّى كلّ سابق نادر
[1] زيادة نراها لازمة.
[2]
كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «وصلى» .
[3]
زيادة من الأغانى.
وثانى كل أوّل، وأصل كل متقدّم. وكان يقول:[غناء][1] علّويه مثل نقر الطست يبقى ساعة فى السمع بعد سكوته.
وقال عبد الله بن طاهر: لو اقتصرت على رجل واحد يغنّينى لما اخترت سوى علّويه؛ لأنه إن حدّثنى ألهانى، وإن غنّانى أشجانى، وإن رجعت إلى رأيه كفانى.
وقال محمد بن عبد الله بن مالك: كان علّويه يغنّى بين يدى الأمين، فغنّى فى بعض غنائه:
ليت هندا أنجزتنا ما تعد
…
وشفت أنفسنا مما تجد
وكان الفضل بن الربيع يضطغن عليه شيئا، فقال للأمين: إنما يعرّض بك ويستبطئ المأمون فى محاربته إياك؛ فأمر به فضرب خمسين سوطا وجرّ برجله حتى أخرج، وجفاه مدّة؛ حتى سأل كوثرا أن يترضّاه له فترضّاه له وردّه إلى الخدمة وأمر له بخمسة آلاف درهم [2] . فلما قدم المأمون تقرّب إليه بذلك فلم يقع له بحيث يحبّ، وقال: إن الملك بمنزلة الأسد أو النار فلا تتعرّض لما يغضبه، فإنه ربما جرى منه ما يتلفك ثم لا يقدر بعد ذلك على تلافى ما فرط منه؛ ثم قرب من المأمون بعد ذلك.
قال علّويه: أمرنا المأمون أن نباكره لنصطبح، فلقينى عبد الله بن إسماعيل المراكبى مولى عريب فقال: أيها الظالم المعتدى، أما ترحم ولا ترقّ! عريب هائمة من الشوق إليك تدعو الله وتستحكمه عليك وتحلم بك فى نومها فى كل ليلة ثلاث مرات. قال [علّويه: فقلت أمّ الخلافة زانية] [1] ومضيت معه. فحين دخلت قلت: أستوثق من الباب فإنى أعرف الناس بفضول الحجّاب؛ وإذا عريب جالسة على كرسىّ تطبخ ثلاث قدور من دجاج. فلما رأتنى قامت فعانقتنى وقبّلتنى وقالت: أىّ شىء تشتهى؟
[1] زيادة عن الأغانى.
[2]
فى الأغانى: «دينار» .
فقلت: قدرا من هذه القدور؛ فأفرغت قدرا بينى وبينها فأكلنا، ودعت بالنبيذ فصبّت رطلا فشربت نصفه وسقتنى نصفه؛ فما زلت أشرب حتى كدت أن أسكر.
ثم قالت: يا أبا الحسن، غنّيت البارحة فى شعر لأبى العتاهية أعجبنى، أفتسمعه [1] وتصلحه؟ فغنّت:
عذيرى من الإنسان لا إن جفوته
…
صفا لى ولا إن صرت طوع يديه
وإنّى لمشتاق إلى ظلّ صاحب
…
يروق ويصفو إن كدرت عليه
فصيّرناه مجلسنا. وقالت: قد بقى فيه شىء؛ فلم أزل أنا وهى حتى أصلحناه، ثم قالت: أحبّ أن تغنّى أنت أيضا فيه لحنا ففعلت، وجعلنا نشرب على اللحنين ثلاثا [2] . ثم جاء الحجّاب فكسروا الباب واستخرجونى، فدخلت على المأمون فأقبلت أرقص من أقصى الإيوان وأصفّق وأغنّى بالصوت؛ فسمع المأمون والمغنّون ما لم يعرفوه فاستطرفوه، وقال المأمون: ادن يا علّويه وردّده، فردّدته عليه سبع مرات.
فقال لى فى آخرها عند قولى: «يروق ويصفو إن كدرت عليه» : يا عليوه خذ الخلافة وأعطنى هذا الصاحب.
وقال علّويه: قال إبراهيم الموصلىّ يوما: إنى قد صنعت صوتا وما سمعه منى أحد بعد، وقد أحببت أن أنفعك به وأرفع منك بأن ألقيه عليك وأهبه لك، وو الله ما فعلت هذا بإسحاق قطّ، وقد خصصتك به، فآنتحله وادّعه، فلست أنسبه إلى نفسى، وستكسب به مالا. فألقى علىّ:
إذا كان لى شيئان يا أمّ مالك
…
فإنّ لجارى منهما ما تخيّرا
فأخذته عنه وادّعيته، وسترته طول أيام الرشيد خوفا من أن أتّهم فيه وطول أيام الأمين، حتى حدث عليه ما حدث وقدم المأمون من خراسان، وكان يخرج
[1] كذا بالأغانى؛ وليس فى الأصل همزة الاستفهام.
[2]
فى الأغانى: «مليا» .