الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فى منزلها فتغنّيهم. وغنّت عمر بن أبى ربيعة لحنا لها فى شىء من شعره، فشقّ ثيابه وصاح صيحة عظيمة صعق معها. فلما أفاق قال له القوم: لغيرك الجهل يا أبا الخطّاب؛ قال: إنى سمعت والله ما لم أملك معه نفسى ولا عقلى.
وكان حسّان بن ثابت معجبا بها، وكان يقدّمها على سائر قيان المدينة. وقد ذكرنا خبرها مع النعمان بن بشير وحسّان بن ثابت، وأن كلّ واحد منهما سمع غناءها، فبكى حسّان بن ثابت واستعاد النعمان بن بشير صوتها مرارا؛ وتقدّم أيضا من أخبارها فى خبر عائشة بنت طلحة وأخبار جميلة ما يستغنى عن إعادته فى هذا الموضع. فلنذكر من سواها.
ذكر أخبار سلّامة القسّ
كانت سلّامة القسّ هذه مولّدة من مولّدات المدينة، وبها نشأت، وأخذت الغناء عن معبد وابن عائشة وجميلة ومالك بن أبى السّمح ومن دونهم، فمهرت فيه.
وإنما سمّيت سلّامة القسّ لأنّ رجلا يعرف بعبد الرحمن بن أبى عمّار بن جشم بن معاوية- وكان منزله بمكة، وهو من قرّاء أهل المدينة، كان يلقّب بالقسّ لعبادته- شغف بها وشهر بحبها. وكان سبب ذلك أنه سمع غناءها على غير تعمّد منه فبلغ منه كلّ مبلغ. فرآه مولاها فقال: هل لك أن تدخل فتسمع؟ فأبى. فقال له مولاها:
أنا أقعدها حيث تسمع غناءها ولا تراها. فلم يزل به حتى دخل، فأسمعه غناءها فأعجبه. فقال: هل لك أن أخرجها إليك؟ قال لا. فلم يزل به حتى أخرجها فأقعدها بين يديه، فغنّت فشغف بها وشغفت به وعرف ذلك أهل مكة. فقالت له يوما: أنا والله أحبّك. فقال: وأنا والله الذى لا إله إلا هو أحبّك. فقالت:
والله أشتهى أن أعانقك وأقبّلك. فقال: والله وأنا أشتهى مثل ذلك. قالت:
وأشتهى والله أن أضاجعك وأضع بطنى على بطنك وصدرى على صدرك قال:
وأنا والله كذلك. قالت: فما يمنعك من ذلك؟ والله إنّ المكان لخال. قال:
يمنعنى منه قول الله عز وجل: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ
، فأنا أكره أن تحول مودّتى إياك عداوة يوم القيامة. ثم قام وانصرف وعاد إلى ما كان عليه من النّسك، ولم يعد إليها بعد ذلك. وكان يشبّه بعطاء بن أبى رباج.
وله فيها أشعار كثيرة، منها قوله:
إنّ التى طرقتك بين ركائب
…
تمشى بمزهرها وأنت حرام
لتصيد قلبك أو جزاء مودّة
…
إنّ الرّفيق له عليك ذمام
باتت تعلّلنا وتحسب أننا
…
فى ذاك أيقاظ ونحن نيام
حتى إذا سطع الضياء لناظر
…
فإذا وذلك [1] بيننا أحلام
قد كنت أعذل فى السّفاهة أهلها
…
فاعجب لما تأتى به الأيام
فاليوم أعذرهم وأعلم أنما
…
سبل الضّلالة والهدى أقسام
وقوله أيضا فيها:
ألم ترها- لا يبعد الله دارها-
…
إذا رجّعت فى صوتها كيف تصنع!
تمدّ نظام القول ثم تردّه
…
إلى صلصل من صوتها يترجّع
وقوله فيها:
ألا قل لهذا القلب هل أنت مبصر
…
وهل أنت عن سلّامة اليوم مقصر
ألا ليت أنّى حيث صارت بى النّوى
…
جليس لسلمى كلّما عجّ مزهر
[1] كذا فى الأصل. ولعلها: «فاذا بذلك» .
وله من قصيدة طويلة أوّلها:
سلّام هل لى منكم ناصر
…
أم هل لقلبى عنكم زاجر
قد سمع الناس بوجدى بكم
…
فمنهم اللائم والعاذر
فى أشعار كثيرة يطول الشرح بذكرها. ومدحها الأحوص أيضا بشعر كثير.
وقال فيها أيضا ابن قيس الرّقيّات.
وروى أبو الفرج الأصفهانىّ قال: كانت سلّامة وريّا أختين، وكانتا من أجمل النساء وأحسنهنّ غناء؛ فاجتمع الأحوص وابن قيس الرقيّات عندهما. فقال لهما ابن قيس الرقيّات: إنى أريد أن أمدحكما بأبيات فأصدق فيها و [لا [1]] أكذب.
فإن أنتما غنيّتمانى بذلك وإلّا هجوتكما ولم أقربكما أبدا. قالتا: فما قلت؟ قال: قلت:
لقد فتنت ريّا وسلّامة القسّا
…
فلم يتركا للقسّ عقلا ولا نفسا
فتاتان أمّا منهما فشبيهة ال
…
هلال وأخرى منهما تشبه الشمسا
تكنّان أبشارا رقاقا وأوجها
…
عتاقا وأطرافا مخضّبة ملسا
فغنّته سلّامة فاستحسنه. وقال ابن قيس الرقيّات للأحوص: يا أخا الأنصار، ما قلت؟ قال قلت:
سلّام هل لمتيّم تنويل
…
أم قد صرمت وغال ودّك غول
لا تصرمى عنّى ولاءك إنه
…
حسن لدىّ وإن بخلت جميل
أزعمت أنّ مودّتى وصبابتى
…
كذب وأنّ زيارتى تقليل [2]
فغنّت الأبيات. فقال ابن قيس الرقيّات: أحسنت والله! ما أظنك إلا عاشقة لهذا الجلف. فقال له الأحوص: وما الذى أخرجك إلى هذا؟ قال: حسن غنائها
[1] التكملة عن الأغانى.
[2]
فى الأغانى: «تعليل» .
بشعرك، فلولا أنّ لك فى قلبها محبّة مفرطة ما جاء هكذا [1] حسنا على هذه البديهة.
فقال الأحوص: على قدر حسن شعرى على شعرك هكذا حسن الغناء به. وما هذا [منك][2] إلا حسد، وليس ذلك إلا ما حسدت عليه. فقالت سلّامة: لولا أنّ الدخول بينكما يوجب بغضة لحكمت بينكما حكومة لا يردّها أحد. قال الأحوص: فأنت [من ذلك [2]] آمنة. قال ابن قيس الرقيّات: كلّا! قد أمنت أن تكون الحكومة عليك، فلذلك سبقت بالأمان لها. فتفرّقا على ذلك. ثم مشى ابن قيس الرقيّات إلى الأحوص فاعتذر إليه فقبل عذره. ومن شعر الأحوص فيها:
سلّام إنّك قد ملكت فأسجحى
…
قد يملك الحرّ الكريم فيسجح
منّى على عان أطلت عناءه
…
فى الغلّ عندك والعناة تسرّح
إنّى لأنصحكم وأعلم أنه
…
سيّان عندك من يغشّ وينصح
وإذا شكوت إلى سلامة حبّها
…
قالت أجدّ منك ذا أم تمزح
وحكى أبو الفرج قال: لمّا قدم عثمان بن حيّان المرّى المدينة واليا عليها، قال له قوم من وجوه الناس: إنك قد وليت المدينة على كثرة من الفساد؛ فإن كنت تريد أن تصلح فطهّرها من الغناء والرّثاء [3] . فصاح فى ذلك وأجّل أهله ثلاثا يخرجون فيها من المدينة، وكان ابن أبى عتيق غائبا، وكان من أهل الفضل والعفاف والصلاح. فلما كان آخر ليلة من الأجل قدم فقال: لا أدخل منزلى حتى أدخل على سلّامة القسّ.
فدخل عليها فقال: ما دخلت منزلى حتى جئتكم لأسلّم عليكم. فقالوا: ما أغفلك عن أمرنا! وأخبروه الخبر. فقال: اصبروا علىّ الليلة. فقالوا: نخاف ألّا يمكنك شىء.
[1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل،: «ما جاء هذا
…
» .
[2]
زيادة عن الأغانى.
[3]
فى الأغانى: «والزنا» .
قال: إن خفتم شيئا فاخرجوا فى السحر. ثم خرج فاستأذن على عثمان بن حيّان فأذن له، فسلّم عليه وذكر غيبته وأنه جاء ليقضى حقّه، ثم جزاه خيرا على ما فعل من إخراج أهل الغناء والرّثاء، وقال: أرجو ألّا تكون [عملت [1]] عملا هو خير لك من ذلك. قال عثمان: قد فعلت ذلك وأشار علىّ به أصحابك. فقال: قد أصبت، ولكن ما تقول فى امرأة كانت هذه صناعتها وكانت تكره على ذلك، ثم تركته وأقبلت على الصلاة والصيام والخير، وأنا رسولها إليك تقول: أتوجه إليك وأعوذ بك أن تخرجنى من جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسجده؛ قال قال: فإنى أدعها لك ولكلامك. فقال ابن أبى عتيق: لا يدعك الناس، ولكن تأتيك وتسمع من كلامها وتنظر إليها، فإن رأيت أن مثلها ينبغى أن يترك تركتها؛ قال نعم فجاءه بها. وقال:
احملى معك سبحة وتخشّعى ففعلت. فلما دخلت على عثمان سلّمت عليه وجلست وحدّثته، فإذا هى من أعلم الناس بأمور الناس، فأعجب بها؛ وحدّثته عن آبائه وأمورهم ففكه لذلك فقال ابن أبى عتيق: اقرئى للأمير. فقرأت؛ فقال لها: احدى ففعلت.
وكثر عجبه منها. فقال: كيف لو سمعتها فى صناعتها! فلم يزل ينزله شيئا فشيئا حتى أمرها بالغناء فغنّته. فقام عثمان من مجلسه وقعد بين يديها، ثم قال: لا والله ما مثل هذه تخرج. فقال ابن أبى عتيق: لا يدعك الناس تقرّ سلّامة وتخرج غيرها. قال:
فدعوهم جميعا. فتركهم جميعا وأصبح الناس يتحدّثون بذلك.
ثم اشترى يزيد بن عبد الملك سلّامة، وكانت لمصعب بن سهيل الزّهرىّ، وقيل: لسهيل بن عبد الرحمن بن عوف. وكانت حبابة جارية آل لاحق؛ فاشتراهما جميعا؛ فاشترى سلّامة بعشرين ألف درهم، وتسلّمها رسل يزيد فخرجوا بها وشيعّها
[1] زيادة عن الأغانى.
الناس. فلما نزلت سقاية سليمان بن عبد الملك قالت للرّسل: إنّ لى قوما كانوا يغشوننى ويسلّمون علىّ، ولا بدّ لى من وداعهم والسلام عليهم؛ فأذن للناس عليها، فأتوا حتى ملؤا رحبة القصر والفناء؛ ووقفت هى بينهم بارزة ومعها العود فغنّت:
فارقونى وقد علمت يقينا
…
ما لمن ذاق ميتة من إياب
إنّ أهل الحصاب قد تركونى
…
موزعا مولعا بأهل الحصاب
أهل بيت تتايعوا [1] للمنايا
…
ما على الدّهر بعدهم من عتاب
كم بذاك الحجون من حىّ صدق
…
من كهول أعفّة وشباب
سكنوا الجزع جزع بيت أبى مو
…
سى إلى النخل من صفىّ السّباب
فلى الويل بعدهم وعليهم
…
صرت فردا وملّنى أصحابى
قال: فلم تزل تردّد هذا الصوت حتى راحت، وانتحب الناس بالبكاء عند ركوبها؛ فما شئت أن ترى باكيا نبيلا إلا رأيته.
قالوا: وكانت حبابة عند يزيد متقدّمة على سلّامة، وكانت حبابة تنظر الى سلّامة بتلك العين الجليلة المتقدّمة وتعرف فضلها عليها؛ فلما رأت أثرة يزيد لها ومحبّته إيّاها استخفّت بها. فقالت لها سلّامة: أى أخيّة، نسيت فضلى عليك! ويلك! أين تأديب الغناء! أين حق التعليم! أنسيت قول جميلة لك وهى تطارحنا:
خذى إحكام ما أطارحك من أختك سلّامة، فلا تزالين بخير ما بقيت لك وكان أمركما مؤتلفا!. فقالت: صدقت والله لا عدت لشىء تكرهينه أبدا. وماتت حبابة وعاشت سلّامة بعدها دهرا.
[1] كذا فى ديوانه والأغانى ج 1 ص 321 طبع دار الكتب المصرية. وفى الأصول: «تتابعوا» بالباء الموحدة.