الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال عمر بن عبد العزيز لابنه عبد الملك وقد اشتدّ به الألم: كيف تجدك يا بنىّ؟ قال: أجدنى فى الموت، فاحتسبنى، فإنّ ثواب الله خير لك منى. قال:
والله يا بنىّ لأن تكون فى ميزانى أحبّ إلىّ من أن أكون فى ميزانك. قال: وأنا والله لأن يكون ما تحبّ أحب إلىّ من أن يكون ما أحبّ.
وعزّى شبيب بن شبّة أبا جعفر المنصور بأخيه أبى العباس السفّاح فقال:
جعل الله ثواب ما رزئت لك أجرا، وأعقبك عليه صبرا؛ وختم لك بعافية تامّة، ونعمة عامّة؛ فثواب الله خير لك منه، وأحقّ ما صبر عليه ما ليس إلى تغييره سبيل.
ودخل البلاذرىّ على علىّ بن موسى الرّضا يعزّيه بآبنه فقال: أنت تجلّ عن وصفنا، ونحن نقصر عن عظتك، وفى علمك ما كفاك، وفى ثواب الله ما عزّاك.
فهذه نبذة فى التعازى كافية، وجنّة لمن تحصّن بها من ذوى الفجائع واقية.
فلنذكر المراثى.
ذكر شىء من المراثى والنوادب
ولنبدأ من ذلك بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبشىء مما قيل عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن ذلك ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم وفاة ولده إبراهيم عليه السلام: «يا إبراهيم لولا أنه أمر حقّ ووعد صدق وأن آخرنا سيلحق أوّلنا لحزنّا عليك حزنا هو أشدّ من هذا وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون تبكى العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الربّ»
. ذكره الجوّانىّ النسابة فى شجرة الأنساب، وذكره غيره مختصرا.
ومنه ما روى أن فاطمة رضى الله عنها وقفت على قبره صلى الله عليه وسلم وقالت:
إنّا فقد ناك فقد الأرض وابلها
…
وغاب مذغبت عنّا الوحى والكتب
فليت قبلك كان الموت صادفنا
…
لمّا نعيت وحالت دونك الكتب
ووقف علىّ رضى الله عنه على قبره صلى الله عليه وسلم ساعة دفن وقال: إنّ الصبر لجميل إلّا عنك، وإن الجزع لقبيح إلا عليك؛ وإنّ المصاب بك لجليل، وإنه قبلك وبعدك لجلل. وقد ألّم الشعراء بهذا المعنى؛ فقال إبراهيم بن إسماعيل فى علىّ ابن موسى الرّضا:
إنّ الرزيّة يابن موسى لم تدع
…
فى العين بعدك للمصائب مدمعا
والصبر يحمد فى المواطن كلّها
…
والصبر أن نبكى عليك ونجزعا
ووقف أعرابىّ على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قلت فقبلنا، وأمرت فحفظنا؛ وقلت عن ربّك فسمعنا: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً
، وقد ظلمنا أنفسنا وجئناك فاستغفر لنا؛ فما بقيت عين إلا سالت.
ودخل عمر بن الخطاب على أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنهما فى مرض موته، فقال: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقد كلّفت القوم بعدك تعبا، وولّيتهم نصبا؛ فهيهات من شقّ غبارك! وكيف باللّحاق بك!.
وقالت عائشة أمّ المؤمنين رضى الله عنها وأبوها يغمّض:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
…
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
فنظر إليها وقال: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أغمى عليه، فقالت:
لعمرك ما يغنى الثّراء عن الفتى
…
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فنظر إليها كالغضبان وقال: قولى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ
مِنْهُ تَحِيدُ
. ثم قال: انظروا ملاءتىّ فاغسلوهما وكفّنونى فيهما، فإن الحىّ أحوج إلى الجديد من الميّت. ووقفت رضى الله عنها على قبره رضى الله عنه فقالت:
نضّر الله وجهك، وشكر لك صالح سعيك؛ فقد كنت للدنيا مذلّا بإدبارك عنها، وكنت للآخرة معزّا بإقبالك عليها؛ ولئن كان أجلّ الحوادث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رزءك، وأعظم المصائب بعده فقدك؛ إن كتاب الله ليعد بحسن الصبر فيك وحسن العوض منك؛ فإنا لنتنجّز موعود الله بحسن العزاء عليك، وأستعيضه منك بالاستغفار لك. أما لئن كانوا أقاموا بأمور الدنيا لقد قمت بأمر الدّين حين وهى شعبه، وتفاقم صدعه، ورجفت جوانبه. فعليك السلام ورحمة الله توديع غير قالية لك، ولا زارية على القضاء فيك. ثم انصرفت.
ولما قبض رضى الله عنه سجّى عليه بالثوب، فارتجّت المدينة بالبكاء ودهش القوم كيوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وجاء علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه باكيا مسرعا مسترجعا حتى وقف بالباب وهو يقول: رحمك الله أبا بكر، كنت والله أوّل القوم إسلاما، وأخلصهم إيمانا، وأشدّهم يقينا، وأعظمهم غناء، وأحفظهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحدبهم على الإسلام، وأحناهم على أهله، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم خلقا وفضلا وهديا وسمتا؛ فجزاك الله عن الإسلام وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، صدّقت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذّبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا، وأسماك الله فى كتابه صدّيقا فقال: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ
، يريد محمدا ويريدك. كنت والله للإسلام حصنا وعلى الكافرين عذابا، لم تفلل حجّتك، ولم تضعف بصيرتك؛ ولم تجبن نفسك. كنت كالجبل الذى لا تحرّكه العواصف ولا تزيله القواصف. كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفا فى بدنك،
قويّا فى أمر الله، متواضعا فى نفسك، عظيما عند الله؛ جليلا فى الأرض، كبيرا عند المؤمنين. لم يكن لأحد عندك مطمع ولا لأحد عندك هوادة؛ فالقوى عندك ضعيف حتى تأخذ الحقّ منه، والضعيف عندك قوىّ حتى تأخذ الحقّ له. فلا حرمنا الله أجرك، ولا أضلّنا بعدك.
فانظر إلى هذا الأسلوب العجيب، وتأمّل هذا النّمط الغريب؛ الذى جمع بين سلاسة الألفاظ وإيجازها، وإصابة المعانى وإعجازها. ولا يستكثر على من أنزل القرآن بلغتهم، أن يكون هذا القول من بديهتهم.
ولنذكر لمعة من رسائل البلغاء والفضلاء، ولمحة من أشعار الأدباء والشعراء.
فمن ذلك رسالة كتبها الوزير الفقيه الكاتب أبو القاسم محمد بن عبد الله بن الجدّ، إلى الوزير الفقيه أبى القاسم الهورينى يعزّيه عن أخيه، ابتدأها بأن قال:
لا بدّ من فقد ومن فاقد
…
هيهات ما فى الناس من خالد
كن المعزّى لا المعزّى به
…
إن كان لا بدّ من الواحد
إذا لم يكن بدّ من تجرّع الحمام، وتشتّت النّظام، وانصداع شمل الكرام؛ فمن الاتفاق السعيد والقدر الحميد أن يرث أعمار البنية الكريمة مشيّد علاها، وتسلم من القلادة وسطاها، فمدار الكنانة على معلّاها، وفخار الحلبة بمحرز مداها. وفى هذه النّبذة إشارة إلى من فرط من الإخوة النبلاء، ودرج من السادة النّجباء؛ فإنهم وإن كانوا فى رتبة الفضل صدورا، وغدوا فى سماء النّبل بدورا؛ فإنّ شمس علائك أبهر أضواء وأزهر أنوارا، وظلّ جنابك على بنيهم ومخلّفيهم أندى آصالا وأبرد أسحارا.
نعى إلىّ- أوشك الله سلوانك، ولا أخلى من شخصك الكريم مكانك! - الوزير
أبو فلان، بردّ الله ثراه، وكرّم مثواه؛ فكأنّما طعن ناعيه فى كبدى، وظعن باكيه بذخيرة جلدى. لا جرم أنّى دفعت إلى غمرة من التّلدّد لو صدم بها النجم لحار، أودهم بها الحزم لخار؛ ثم ثابت إلىّ نفسى وقد وقذها الجزع، وعضّها الوجع؛ فأطلت الاسترجاع، وجمعت الجلد الشّعاع، وها أنا عند الله أحتسبه جماع فضائل، وجمال محافل؛ وحديقة مكارم صوّحت، وصحيفة محاسن درست وانمحت. وما اقتصرت من رسم التعزية المألوف، على القليل المحذوف؛ إلا لعلمى بأن المعزّى لا يورد عليك غريبا، ولا يسمعك من مواعظه عجيبا؛ فبك يقتدى اللّبيب، وعلى مثالك يحتذى الأديب، وإلى غرضك فى كل موطن يوفى [1] المصيب؛ وفى تجافى الأقدار عن حوبائك، وسقوطها دون فنائك؛ ما يدعو إلى حسن التعزية. لا صدع الله جمعك، ولا قرع بنبأة المكروه سمعك.
ومن إنشاء القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانى:
ورد الخبر بمصرع فلان الذى عزّ على المعالى، وعزّيت به الليالى؛ وسقط به نجم الشرف وهوى، وجفّ به روض الكرم وذوى؛ ونقصت الأرض من أطرافها، ورجفت الجبال من أعرافها؛ وبكت عليه السماء فإنّ يده كانت من سحبها، وتناثرت له النجوم فإنّ عزمه كان من شهبها؛ واظلمت فى عينى الدنيا الظالمة، وتجرّعت منها كأسا لا تسيغها النفس كاظمة؛ وتقسّمت الأيام فريقين فى مودّتى وعداوتى، فآها على السالفة ولا مرحبا بالقادمة؛ وأصبحت أخوض الماء وأحشائى تتقطّع غليلا، وأرى الناس كثيرا بعينى وبقلبى قليلا.
وما النّاس فى عينىّ إلّا حجارة
…
لبينك والأعراس إلا مآتم
[1] كذا بالأصول. ولعله محرف عن: «يرمى» .
فقد استوحشت الدنيا لفقده، وارتابت بنفسها من بعده، وعلمت حلاوة قربه بمرارة بعده؛ وانصرف ذوو الأبواب عن بابه، واجتنبت الآمال مغنى جنابه، وبكت الرياض على آثار سحابه.
فإن يمس وحشا بابه فلربّما
…
تناطح أفواجا عليه المواكب
ومن إنشائه أيضا رحمه الله تعالى: ما شككت- أطال الله بقاءك- حين ورد النعى بالمصائب التى قصمت الظهور بمكروهها، وحسرت فيها الحسرات عن وجوهها؛ أنّ السماء على الأرض قد انطبقت، وأنّ الأيام ما أبقت والسعادة قد أبقت؛ والحياة لم يبق فى طولها طائل، والصبر بهجير اللوعة ظلّ منسوخ زائل؛ وشمس الفضائل قد غربت وكيف بطلوعها، ونفس المكارم قد نزعت من بين ضلوعها؛ وغاب الإسلام قد غاب منه أىّ ليث، ورياض الآمال قد أقلع عن سقياها أىّ غيث. فإنّا لله وإنا اليه راجعون، رضا بحكمه، وتجلّدا على ما رمى به الحادث من سهمه، وطبّا للقلوب على مضض البلاء وكلمه، وفرارا من الجمع بين مصيبة الفاقد وإثمه. وسقى الله ذاك الضريح ما شاء أن يسقيه من سحاب كصوب يديه، ورحمه رحمة تحفّ بجانبيه. وآها للماء العذب كيف ارتشفته النوازل وأبقت الملح، ثم آها للصباح الطّلق كيف اغتالته الأصائل وأطلقت الجنح؛ ووا أسفا لتلك الذخيرة التى فذلكت بها الأيّام ذخائرى، والسريرة التى طالما صنتها أن تمرّ بسرائرى؛ شفقا عليها من سهام دهر بالذخائر مولعة، وسترا لها من عين زمان على السرائر موقعة. ولئن صحب قلبى بعده أضلعى، وتحمّلت بعد فقده على ظلعى؛ فإنّا غدا على أثره، وإن كنّا اليوم على خبره. وقصر الحياة الى قصور، كما أن محصول غرورها غرور. والتأدّب بأدب الله أولى ما خفّف به المسلوب عن منكبه، وطريق السّلوان لابدّ أن يراجعه عزم منكبّه.
فأنشدها الله إلا جعلت مصيبتها مصيبة على الشامت بما تلبسه من صبر يلبس عليه
المصيبة فيشبّهها بنعمة، وبما تستشعره من تجلّد فى النازلة ينزل عليها صلوات من ربّها ورحمة. ولن ترى أعجب من مصاب لا ترى به إلا مصابا، وساكن ترب لم يبق بعده إلا من سقى بدمعه ترابا؛ اشترك فيه الأمّتان العرب والعجم، وعزّى به العزيزان المجد والكرم، واستباح الدهر به الصيد فى الحرم.
وتشابه الباكون فيه فلم يبن
…
دمع المحقّ لنا من المتعمّل
وكتب أيضا فى مثل ذلك: أخّرت مكاتبة الحضرة- مدّ الله فى عمرها وفى صبرها وفى أجرها، وألهمها التسليم لحكم من هو غالب على أمرها- إلى أن تنقضى نبوة الخطب، وتضع الأنفاس أوزارها للحرب، ويخرج ماء الجفن نار القلب؛ وتراجع الخواطر إلى عاداتها، وتنظر فى الدنيا التى ما صحبت إلا على عادياتها ومعاداتها؛ فتكون الحضرة عرفت من غير تعريف، ووقفت على الحزم من غير توقيف؛ وتوفّر عليها الثواب بغير مشارك، ورجعت إلى فهم مدرك وصواب مدارك. وتأخير التعزية عن البادرة خلاف ما شرع فيها، ولكن إنما يحتاج أن يثبّت من صبره هاف، ويرمّ من تجلّده عاف. وقد علم الله اهتمامى واغتمامى بفقد شيخها رحمه الله وعدمها منه من لا عوض عنه إلا ثواب الله الذى يهوّن الوقائع، ويوطّن على الروائع. وأسباب التعزية غير واحدة، منها أنه إنما درج فى السنّ التى هى معترك المنايا، ومنها أنه ما خرج عن الدنيا الى أن رأى منها خلفا يهوّن الرزايا؛ ومنها أنه لقى الله بعمل صالح هو بمشيئة الله نجاته، ومنها أنه فارقها على الرضا عنها ويكفيها مرضاته، وعلى الدعاء المقبول لها ونعمت الجنن دعواته.
ولكن للألّاف لا بدّ حسرة
…
إذا جعلت أقرانها تنقطع
ومنها أن الحزن لو أطيع والحزم لو أضيع لما أفضى إلى مراد، ولا أعاد ميّتا قبل المعاد. وأحقّ متروك ما يأثم طالبه، ويؤجر مجانبه.
عن الدهر فاصفح إنه غير معتب
…
وفى غير من قد وارت التّرب فاطمع
والحضرة تعلمنى من لا حقة رجوعها إلى الله بعد الاسترجاع، ومن تسليم خاطر الحزن إلى حكم الله ما يسرّ خاطر الاستطلاع؛ وحسبه- أبقاه الله تعالى- من كل هالك، ولا يجزع المحاسب من فذالك، ومثله من أخذ بعزائم الله فيما هو آخذ وتارك.
جبر الله مصابه، وعظّم ثوابه، وسقى الماضى وروّى ترابه، ولا تذهب النفس حسرة لما شهدت العين ذهابه.
وتخطّفته يد الرّدى فى غيبتى
…
هبنى حضرت فكنت ماذا أصنع
ومن إنشاء الشيخ ضياء الدين أحمد بن محمد القرطبىّ ما كتب به الى الصاحب شرف الدين الفائزىّ يعزّيه فى مملوك توفّى له، وكان الصاحب قد جزع لفقده. ابتدأ كتابه بأن قال:
فدى لك من يقصّر عن مداكا
…
فلا أحد إذا إلا فداكا
إنا لله وإنا إليه راجعون. لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة، وسنّة فى الأسى مستحسنة؛ وإنما الأنفس ودائع مستودعة، وعوار مسترجعة، ومواهب بيد الفناء مستنزعة.
فالعمر نوم والمنيّة يقظة
…
والمرء بينهما خيال سارى
وما برح ذوو العزمات يتلقّون واردات المصائب بصبرهم، وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم. وإنّ يد الله لمليّة بفيض المواهب، وفى الله عوض من كل بائن وخلف من كل ذاهب. وإذا سلم مولانا فى نفسه وولده، فلا بأس إذا تطرّقت يد الردى إلى ملك يده.
فأنت جوهرة الأعناق، ما ملكت
…
كفّاك من طارف أو تالد عرض
والحمد لله الذى جعل المصيبة عندك لا بك، والرزيّة لك لا فيك.
إذا سلمت فكلّ الناس قد سلموا
واذا تخطّتكما المنيّة فلها فى سواكما الخيار، ولنا القدح المعلّى إذا أورى زند هذا الاختيار. ولا بدّ فى مشرع المنيّة من مفقود وفاقد.
كن المعزّى لا المعزّى به
…
إن كان لا بدّ من الواحد
وهذا فقد وهبه الله لمولانا من حيث إنه أخذه منه، وأبقاه له من حيث رآه ذاهبا عنه؛ فهو بالأمس عارية مردودة، واليوم ذخيرة موجودة؛ وكان عطيّة مسلوبة وهو الآن نعمة موهوبة؛ كنت له وهو الآن لك، وفزت به والسعيد من فاز بما ملك. وهذه دار دواؤها داؤها، وبقاؤها فناؤها؛ طالبها مطلوب، وسالبها مسلوب؛ وإن لنا فيمن سلف لعزاء، ولنا برسول الله صلى الله عليه وسلم اقتداء؛ ولا بدّ من ورود هذا المشرع، وملاقاة هذا المصرع.
ومن إنشاء المولى شهاب الدين محمود الحلبى ما كتب به عن بعض النوّاب إلى الأمير عزّ الدّين الحموىّ النائب- كان بدمشق- تعزية بولده:
أعزّ الله أنصار المقرّ الكريم العالى، ولا هدمت له الخطوب ركنا، ولا فجأت له الحوادث حمّى ولا طلبت عليه إذنا، ولا هصرت أيدى الأقدار من عروشه الناضرة غصنا، ولا أذاقته الأيّام بعد ما مرّ أسفا على من يحبّ ولا حزنا، ولا سلبه الجزع رداء الصّبر الذى يخصّه بجزيل الأجر وإن شركه فى الأسى والأسف كلّ منا.
المملوك يقبّل اليد الكريمة، وينهى أنه اتّصل به النبأ الذى صدع قلبه، وشغل بالبكاء طرفه وبالأسف لسانه وبالحزن لبّه؛ وهو ما قدّره الله تعالى من وفاة المولى الأمير ركن الدين عمر- تغمده الله برضوانه- الذى اختار الله له ما لديه، وارتضى له البقاء
الدائم على الفانى فنقله إليه؛ على أن الدين فقد منه ركنا شديدا، ورأيا سديدا، وعزما وحزما معينا مفيدا، وأميرا أردنا أن يعيش سعيدا، فأبى الله إلا أن يموت شهيدا؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون. لقد كان للرجاء فى اعتضاد الدولة القاهرة به أىّ مجال، وللآمال فى الانتظار ببأسه ظنون تحقّق أن الغلبة للدّين دائما مع أن الحروب سجال؛ وللمواكب بطلوع طلعته أىّ إشراق، وللعيون عن مشاهدة كماله وأبهة جلاله أىّ إغضاء وأىّ إطراق. ولله أىّ بدر هوى من أفق بروجه [1] عن فلك، وأىّ شمس ما رأته الجوارى الكنّس إلا قلن: حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك؛ وأىّ حصن كانت منه ثمار الشجاعة تجتنى، وأىّ أسد براثنه الصوارم وأجماته القنا. لقد فتّ فى عضد الدين مصابه، وأذهب صحّة الأنس به وحلاوة وجوده أوصاب فقده وصابه؛ وكادت الصوارم أن تشقّ عليه غمودها، والرّايات أن تقطّع عليه ذوائبها وتغيّر بنودها، والرماح أن تعرض على النار لتقصف لا لتثقّف قدودها؛ والجياد أن تتعثّر للحزن بذيولها، وتعتاض بالنّوح عن صهيلها. ولو أنصف لأكنّته القلوب فى ضمائرها، ولو قبل الفداء لسمحت فيه النفوس بالنفائس ولو كانت الحياة من ذخائرها؛ أو لو كان الحتف مما يدافع بالجنود تحطّمت دونه القنا فى دروع عساكرها، ولكنه السبيل الذى لا محيد عن طريقه، والمعرّس الذى لا بدّ لكل حىّ من النزول على فريقه؛ وهو الغاية التى تستنّ إليها النفوس استنان الجياد، والحلبة التى كنّا نحن وهذا الدارج نركض إليها ولكنّ السابق كان الجواد؛ على أن المتأخّر لا بدّ له من اللّحاق، وماذا عسى يسرّ البدر بكماله وهو يعلم أن وراءه المحاق! وفى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يعلم أن كلّ رزء بعده جلل، وإذا انتقل العبد إلى الله تعالى غير مفتون فى دينه ولا مثقل الظهر من الأوزار حمد فى غد ما فعل؛ وغبط بقدومه
[1] فى الأصل: «من أفق سروجه» .
على أكرم الأكرمين مسرورا، ولقى الله وقد جعل فى قلبه نورا وفى سمعه نورا وفى بصره نورا. والمولى أعزه الله تعالى أولى من تلقّى أمر الله بالتسليم والرضا، وقابل أقداره بأن الخيرة فيما قدّر وقضى؛ وحمد الله على ما وهب من بقاء إخوته الذين فيهم أعظم خلف، وأجمل عوض يقال به للدّهر الذى اعتذر بدوام المسرّة فيهم: عفا الله عمّا سلف؛ وعلم أنّ الخطب الذى هدّ ركن الدين باحترابه واجتراحه، قد صرفه إلى الأمد عن الإلمام بساحة شهابه والتعرّض إلى حمى فخره والنظر إلى حىّ صلاحه؛ ففى بقائهم ما يرغم العدا، ويعزّ حزب الهدى؛ ويقيم كلّا منهم فى خدمة الدولة القاهرة بين يدى المولى مقام الشّبل المنتمى للأسد، وينهضهم من مصالح الإسلام مع ما يعلمه منهم من حسن الثّبات من الوالد وسرعة الوثبات من الولد. والله تعالى يجزل له من الأجر أوفاه، ويحفظ عليه- وقد فعل- أخراه؛ ويجعله للإسلام ذخرا، ولا يسمعه مع طول البقاء بعدها تعزية أخرى.
ومن أحسن الرثاء وأشجاه ما نطقت به الخنساء فى رثائها لأخيها صخر، فمن ذلك قولها:
ألا يا صخر إن أبكيت عينى
…
لقد أضحكتنى دهرا طويلا
دفعت بك الجليل وأنت حىّ
…
فمن ذا يدفع الخطب الجليلا
إذا قبح البكاء على قتيل
…
رأيت بكاءك الحسن الجميلا
وقالت أيضا فيه:
الا هبلت أمّ الذين غدوا به
…
إلى القبر، ماذا يحملون إلى القبر!
وماذا يوارى القبر تحت ترابه
…
من الجود! يا بؤس الحوادث والدهر!
فشأن المنايا إذ أصابك ريبها
…
لتغد على الفتيان بعدك أو تسرى
وقالت:
يذكّرنى طلوع الشمس صخرا
…
وأبكيه لكلّ غروب شمس
ولولا كثرة الباكين حولى
…
على إخوانهم لقتلت نفسى
وما يبكون مثل أخى ولكن
…
أسلّى النفس عنه بالتأسّى
وقالوا: أرثى بيت قالته العرب قول متمّم بن نويرة فى أخيه مالك، وكان قد قتله خالد بن الوليد فى الرّدّة. وكان متمم قدم العراق، فأقبل لا يرى قبرا إلا بكى؛ فقيل له: يموت أخوك بالملا وتبكى على قبر بالعراق! فقال:
لقد لامنى عند القبور على البكا
…
رفيقى لتذراف الدموع السّوافك
أمن أجل قبر بالملا أنت نائح
…
على كلّ قبر أو على كلّ هالك
وقال: أتبكى كلّ قبر رأيته
…
لقبر ثوى بين اللّوى فالدّكادك
فقلت له: إن الشّجا يبعث الشجا
…
فدعنى فهذا كلّه قبر مالك
معناه قد ملأ الأرض مصابه عظما، فكأنه مدفون بكلّ مكان. وهو أبلغ ما قيل فى تعظيم ميّت. وقيل أرثى بيت قالته العرب قول المحدث:
على قبره بين القبور مهابة
…
كما قبلها كانت على صاحب القبر
وقيل: بل قول الآخر:
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوّه
…
فطيب تراب القبر دلّ على القبر
وقالوا: بل بيت غيره:
فما كان قيس هلكه هلك واحد
…
ولكنّه بنيان قوم تهدّما
وقال الأصمعى: أرثى بيت قالته العرب قول الشاعر:
ومن عجب أنّ بتّ مستشعر الثّرى
…
وبتّ بما زوّدتنى متمتّعا
ولو أننى أنصفتك الودّ لم أبت
…
خلافك حتى ننطوى فى الثرى معا
ومن أحسن الرثاء قول حسين بن مطير الأسدىّ:
ألمّا بمعن ثم قولا لقبره:
…
سقتك الغوادى مربعا ثم مربعا
فتى عيش فى معروفه بعد موته
…
كما كان بعد السيل مجراه مرتعا
أيا قبر معن كنت أوّل حفرة
…
من الأرض خطّت للسماحة مضجعا
ويا قبر معن كيف واريت جوده
…
وقد كان منه البرّ والبحر مترعا!
بلى قد وسعت الجود والجود ميّت
…
ولو كان حيّا ضقت حتى تصدّعا
ولمّا مضى معن مضى الجود والنّدى
…
وأصبح عرنين المكارم أجدعا
قال أبو هلال العسكرىّ: هذه الأبيات أرثى ما قيل فى الجاهلية والإسلام.
وقال بكر بن النّطّاح يرثى معقل بن عيسى:
وحدّثنى عن بعض ما قال أنه
…
رأت عينه فيما ترى عين نائم
كأن النّدى يبكى على قبر معقل
…
ولم تره يبكى على قبر حاتم
ولا قبر كعب إذ يجود بنفسه
…
ولا قبر حلف الجود قيس بن عاصم
فأيقنت أن الله فضّل معقلا
…
على كل مذكور بفضل المكارم
وقال آخر:
لعمرك ماوارى التراب فعاله
…
ولكنما وارى ثيابا وأعظما
ومثله لمنصور النّمرىّ:
فإن تك أفنته الليالى وأوشكت
…
فإن له ذكرا سيبقى اللياليا
وقال التميمىّ فى منصور بن زياد:
أمّا القبور فإنّهنّ أوانس
…
بفناء قبرك والدّيار قبور
عمّت صنائعه فعمّ مصابه
…
فالناس فيه كلّهم مأجور
يثنى عليك لسان من لم توله
…
خيرا لأنك بالثناء جدير
ردّت صنائعه إليه حياته
…
فكانه من نشرها منشور
فالناس مأتمهم عليه واحد
…
فى كل دار رنّة وزفير
وقال ابن القزّاز المغربىّ:
سأبكيك لا أن البكا عدل لوعتى
…
ولا أنّ وجدى فيك كفء تندّمى
وقلّ لعينى أن تفيض دموعها
…
عليك ولو أنّ الذى فاض من دمى
وقال الخريمىّ
وأعددته ذخرا لكلّ ملمّة
…
وسهم الرّزايا بالذخائر مولع
وإنى وإن اظهرت منّى جلادة
…
وصانعت أعدائى عليه لموجع
ولو شئت أن أبكى دما لبكيته
…
عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
وقال أبو هلال العسكرىّ:
على الرغم من أنف المكارم والعلا
…
غدت داره قفرا ومغناه بلقعا
ألم تر أنّ البأس أصبح بعده
…
أشلّ وأن الجود أصبح أجدعا
فمرّا على قبر المسوّد وانظرا
…
إلى المجد والعلياء كيف تخشّعا
فإن يك واراه التراب فكبّرا
…
على الجود والمعروف والفضل أربعا
ولا تسأما نوحا عليه مكرّرا
…
ونوحا لفقد العارفات مرجّعا
فما كان قيس هلكه هلك واحد
…
ولكنّه بنيان قوم تضعضعا
ولا تحسبا أنّى أواريه وحده
…
ولكنّنى واريته والنّدى معا
وقال أيضا:
ألست ترى موت العلا والفضائل
…
وكيف غروب النجم بين الجنادل!
فما للمنايا أغفلت كلّ ناقص
…
ونقّبن فى الآفاق عن كلّ فاضل!
على الرغم من أنف العلاسيق للرّدى
…
بكل كريم الفعل حر الشمائل
على أنّ من أبقته ليس بخالد
…
وليس امرؤ يرجو الخلود بعاقل
رأيت المنايا بين غاد ورائح
…
فما للبرايا بين ساه وغافل!
ولم أر كالدنيا حبيبا مضرّة
…
ولم أر مثل الموت حقّا كباطل
وقال الرّقاشىّ فى البرامكة:
ألان استرحنا واستراحت ركابنا
…
وقلّ الذى يحدى ومن كان يحتدى
فقل للمطايا: قد أمنت من السّرى
…
وطىّ الفيافى فدفدا بعد فدفد
وقل للمنايا: قد ظفرت بجعفر
…
ولن تظفرى من بعده بمسوّد
وقل للعطايا بعد فضل: تعطّلى
…
وقل للرزايا كل يوم: تجدّدى
ودونك سيفا برمكيّا مهنّدا
…
أصيب بسيف هاشمىّ مهنّد
وقال آخر:
سأبكيك للدّنيا وللدّين، إننى
…
رأيت يد المعروف بعدك شلّت
ربيع إذا ضنّ الغمام بمائه
…
وليث إذا ما المشرفيّة سلّت
وقال عبد الله بن المعتزّ:
ألست ترى موت العلا والمحامد
…
وكيف دفنّا الخلق فى قبر واحد
وللدّهر أيّام يسئن عوامدا
…
ويحسنّ إن أحسنّ غير عوامد
وقال أبو الطيّب المتنّبى:
إنى لأعلم- واللبيب خبير-
…
أن الحياة وإن حرصت غرور
ما كنت أعلم قبل دفنك [1] فى الثرى
…
أن الكواكب فى التّراب تغور
خرجوا به ولكلّ باك حوله
…
صعقات موسى يوم دكّ الطّور
[1] كذا فى ديوان المتنبى طبع مطبعة هندية سنة 1898. وفى الأصل: «قبل تنزل فى الثرى» على حذف أن المصدرية.
حتى أتوا جدثا كأنّ ضريحه
…
فى قلب كلّ موحّد محفور
نبكى عليه وما استقرّ قراره
…
فى اللحد حتى صافحته الحور
ومنها:
صبرا على المكروه [1] فيه تكرّما
…
إنّ العظيم على العظيم صبور
ولكلّ مفجوع سواكم مشبه
…
ولكلّ مفقود سواه نظير
وقال آخر:
كفى حزنا أنّى تخلّفت بعده
…
أدور مع الباكين فى عرصاته
وصارت يمينى ما حلفت بقبره
…
وكانت يمينى قبلها بحياته
وقال آخر:
وكنت أخاف الدّهر ما كان باقيا
…
فلما تولّى مات خوفى على الدّهر
وقال آخر:
ولما دعوت الصبر بعدك والبكا
…
أجاب البكا طوعا ولم يجب الصبر
وإن ينقطع منك الرجاء فإنه
…
سيبقى عليك الحزن ما بقى الدهر
وقال آخر:
فو الله لو أسطيع قاسمته الرّدى
…
فمتنا جميعا أو يقاسمنى عمرى
ولكنما أرواحنا ملك غيرنا
…
فما لى فى نفسى ولا فيه من أمر
أحمّله ثقل التّراب وإننى
…
لأخشى عليه الثقل من موطئ الذّرّ
وما انا بالوافى وقد عشت بعده
…
وربّ اعتراف كان أبلغ من عذر
وقال آخر:
يا راحلا لم يبق لى
…
من بعده فى العيش نفعا
[1] فى الديوان: «صبرا بنى إسحاق فيه تكرما» .
ضاقت علىّ الأرض في
…
ك وضقت بالإخوان ذرعا
ورعيت فيك النّجم يا
…
من كان يحفظنى ويرعى
أبكيك بالشعر الذى
…
قد رقّ حتى صار دمعا
وقال تاج الملوك بن أيّوب يرثى أخاه:
لو كان يشفى الدمع غلّة واجد
…
لشفى غليلى فيض دمعى الهامر
هيهات لا برد الغليل وقد ثوى
…
من كان من عددى وخير ذخائرى
يا للرّجال لنكبة قد أذهبت
…
جلد الجليد وحسن صبر الصابر
طرقت فتى الملك المعظّم فانثنى
…
من بعد بهجته كربع داثر
ومنها:
جبل هوى فارتجّت الدنيا له
…
فكأنما ركبت جناحى طائر
ومنها:
من للنّوائب يوم تفترس الورى
…
قسرا بأنياب لها وأظافر
أضحى وحيدا فى التراب كأنّه
…
ما سار بين مواكب وعساكر
قد كان لا تعصى البريّة أمره
…
فانقاد ممتثلا لأمر الآمر
مولاى دعوة واله غادرته
…
وقفا على نوب الزمان الغادر
هل من سبيل للزيارة عندها
…
هيهات حال الموت دون الزائر
لو كان خصمك غير حادثة الرّدى
…
لرددته بذوابل وبواتر
أو كان يدرك ثأر من أودى به
…
ريب المنون لكنت أوّل ثائر
لكنّه الموت الذى قهر الورى
…
من حيث لا تثنيه قدرة قادر
وقال كمال الدين بن النبيه يرثى الأمير على ابن الخليفة الناصر لدين الله:
الناس للموت كخيل الطّراد
…
فالسابق السابق منها الجوادّ
والله لا يدعو إلى داره
…
إلا من استصلح من ذى العباد
والموت نقّاد، على كفه
…
جواهر يختار منها الجياد
والمرء كالظلّ ولا بدّ أن
…
يزول ذاك الظلّ بعد امتداد
لا تصلح الأرواح إلّا إذا
…
سرى إلى الأجسام هذا الفساد
أرغمت يا موت أنوف القنا
…
ودست أعناق السيوف الحداد
كيف تخرّمت أميرا وما
…
أنجده كلّ طويل النّجاد
مصيبة أذكت قلوب الورى
…
كأنما فى كلّ قلب زناد
نازلة عمّت فمن أجلها
…
سنّ بنو العباس لبس السّواد
مأتمة فى الأرض لكن لها
…
عرس على السبع الطّباق الشّداد
طرقت يا موت كريما فلم
…
يقنع بغير النفس للضيف زاد
قصمته من سدرة المنتهى
…
غصنا فشلّت يد أهل العناد
يا ثالث السّبطين خلّفتنى
…
أهيم من همّى فى كلّ واد
يا نائما فى غمرات الرّدى
…
كحلت اجفانى بميل السّهاد
ويا ضحيع التّرب أسقمتنى
…
كأنما فرشى شوك القتاد
دفنت فى الترب ولو أنصفوا
…
ما كنت إلا فى صميم الفؤاد
خليفة الله اصطبر واحتسب
…
فما وهى البيت وأنت العماد
فى العلم [1] والحلم بكم يقتدى
…
إذا دجا الخطب وضلّ الرشاد
وأنت لجّ البحر ما ضرّه
…
أن سال من بعض نواحيه واد
ولما مات الإخشيد محمد بن طغج رثاه جماعة من الشعراء منهم محمد بن الحسن ابن زكريا فقال:
[1] كذا فى ديوان ابن النبيه طبع مصر. وفى الأصلين: «فالعلم والحلم» .
فى الرزايا روائع الأوجال
…
والبرايا دريئة الأجال
وكذا الليل والنهار اعتبار
…
للورى فى تفكّر الأحوال
كلّ شىء وإن تمادى مداه
…
قصره للفناء أو للزّوال
وأرى كلّ عيشة لأناس
…
كونها مؤذن بوشك انتقال
كل ذى جدّة- إذا ما الجديدا
…
ن ألّحا عليه- مود بال
ما لخلق من المنون مفرّ
…
لا ولا دون بطشها من مآل
كان [1] غيث الأيّام إن أخلف الغي
…
ث أطلّت سحابه بانهمال
فجعتنا بواهب لا نراه
…
يخلق الوجه عنده بابتذال
فجعتنا ببهجة الأرض فى الأر
…
ض وشمس الضّحى وبدر اللّيالى
فجعتنا بمن حمى حرمة الإس
…
لام من حادث ومن ختّال
فجعتنا بالباسل البطل السا
…
مى غداة الوغى إلى الأبطال
فجعتنا بالواهب المجزل المر
…
تاح حين السؤال للسّؤال
عجب إذ دنت إليه المنايا
…
وحمى عزّه المنيع العالى
أين من يشترى المدائح والشك
…
ر بأسنى وفر وأوفى نوال
قطع الموت وصلنا منه كرها
…
والردى قاطع لكل اتّصال
رحمة الله والسلام عليه
…
فى الضّحى والعشاء والاصال
وسقى الله حفرة ضمّنته
…
شكر واه من الحيا هطّال
ثم خرج من الرثاء إلى مدح ابنه فقال:
إن خبا بدره فقد لاح للأمّ
…
ة لمّا خبا طلوع الهلال
نوره مشرق مضىء مدى الده
…
ر منير وليس ذا اضمحلال
[1] فى الأصول: «كل» .
وقال أبو الطيب المتنبّى يرثيه:
هو الزمان مشتّ بالذى جمعا
…
فى كل يوم نرى من صرفه بدعا
لو كان ممتنع تغنيه منعته
…
لم يصنع الدهر بالإخشيد ما صنعا
ذاق الحمام فلم تدفع كتائبه
…
عنه القضاء ولا أغناه ما جمعا
لقد نعى من نعاه كلّ مفتخر
…
وكلّ جود لأهل الأرض حين نعى
لله ما حلّ بالإسلام حين ثوى!
…
لقد وهى شعب هذا الدّين فآنصدعا
فمن تراه يقود الخيل ساهمة
…
سدّ الفضاء وملء الأرض ما وسعا
ترى الحتوف غلوقا فى أسنّته
…
لدى الوغى وشهاب الموت قد لمعا
لو كان يسطيع قبر ضمّه لسعى
…
إليه شوقا ليلقاه وإن شسعا
فليعجب الناس من لحد تضمّن من
…
تضمّن الرزق بعد الله فاضطلعا
لو يعلم اللحد ما قد ضمّ من كرم
…
ومن فخار ومن نعماء لاتّسعا
يا لحده إن تضق عنه فلا عجب
…
فيه الحجا والنّهى والبأس قد جمعا
يا لحد طل إنّ فيك البحر محتبسا
…
واللّيث منهصرا والجود مجتمعا
يا يومه لم تخصّ الفجع أسرته
…
كلّ الورى بردى الإخشيد قد فجعا
يا يومه لم تدع صبرا لمصطبر
…
ولم تدع مدمعا إلا وقد دمعا
اردى الرّفاق ردى الإخشيد فآنقرضوا
…
فما ترى منهم فى الأرض منتجعا
يأيها الملك المخلى مجالسه
…
أحميت أعيننا الإغماض فامتنعا
ومنها:
لئن مضيت حميد الأمر مفتقدا
…
لقد تركت حميد الأمر متّبعا
ثم خرج من الرثاء إلى مدح ولد الإخشيد:
ثبت الجنان فلا نكس ولا ورع
…
تلقاه مؤتزرا بالحزم مدّرعا
أعطت أبا القاسم الأملاك بيعتها
…
ولو أبت أخذت أسيافه البيعا
وانقاد أعداؤه ذلّا لهيبته
…
وظلّ متبوعهم من خوفه تبعا
أضحت به همم الغلمان عالية
…
كأنّ مولاهم الإخشيد قد رجعا
وقال مهلهل بن يموت يرثيه أيضا:
أىّ عزّ مضى من الإسلام!
…
أىّ ركن أضحى حديث انهدام!
ذاق موتا محمد بن طغج
…
هو ليث الشّرى وغيث الغمام
فقد الناس مولى الإنعام
…
فهم سائمون كالأنعام
مات ربّ العلا وراعى الرعايا
…
والسرايا وكافل الأيتام
أين ما كنت فيه من عزّك البا
…
ذخ والمرتقى عزيز المرام!
أين ذاك الحجاب والملك والهي
…
بة أين الزّحام وقت الزّحام!
من أمير وقائد وخطير
…
ورئيس وماجد وهمام
كلّهم مطرق لديك من الهي
…
بة خوف الإجلال والإعظام
أين تلك الخيام حولك إن عرّ
…
ست والأسد حول تلك الخيام
من عديد وعدّة لك ما بي
…
ن قعود فيها وبين قيام
لم يطق جمعهم دفاع الرّدى عن
…
ك ولم يمنعوك منع اعتصام
أسلمتك الخيول قسرا وقد كن
…
ت عليها سورا على الإسلام
خانك السيف وهو يصدر عن أم
…
رك مستعديا بغير احتجام
خذل الرمح وهو عونك لوحا
…
ن لقاء وثار نقع قتام
لم تردّ القسىّ عنك سهام ال
…
حتف والحتف عندها فى السهام
ما وقتك الحراب حرب المنايا
…
حين وافاك جيشها من أمام
لم يحصّنك ما اقتنيت من الآ
…
لات من جوشن ولا من لام [1]
حكم الموت فيك من بعد ما كن
…
ت ترى حاكما على الحكّام
فقدتك الفسطاط وجدا مدى الده
…
ر ومن بعدها بلاد الشام
فجعت يثرب ومكّة والبي
…
ت إلى زمزم أجل والمقام
عمّ فيك المصاب فاشترك العا
…
لم فى الرّزء منه والآلام
حسبنا الله عزّ من حكم يج
…
رى على الحاكمين بالأحكام
كلّ شىء إلى زوال، ومن ذا
…
نال ملك الدنيا بغير اخترام
أين أين الملوك فى سالف الدّه
…
ر دهتهم حوادث الأيّام
أين من قد كانوا يخافون فى البأ
…
س ويرجون للعطايا الجسام
ليس يبقى إلا الإله تعالى
…
من له الملك ثابتا بالدّوام
أيّهذا الأمير بل يا أبا القا
…
سم يابن السّميدع القمقام
ارض حكم الإله فى الملك الما
…
ضى وسلّم لنافذ الأحكام
وهناك الذى بلغت من الأم
…
ر وما حزته بحسن انتظام
ما كمثل الذى رزئت ولا مث
…
ل الذى قد ملكت فى ذا العام
أنت مثل الإخشيد فانهض بما ملّ
…
كت بالجدّ منك والإعتزام
وقال بعض الشعراء يرثى الوزير يعقوب بن كلّس وزير العزيز بن المعزّ خليفة مصر:
إن التصبر فى الأمور جميل
…
إلا عليك فما إليه سبيل
يا حاملا ثقل العلا وكأنه
…
لعلوّ همّته بها محمول
يا واهبا فوق المنى وكأنه
…
لسخائه مما يجود بخيل
[1] لام: مخفف «لأم» جمع «لأمة» وهى الدرع.
جاء منها:
يا ترب لا تأكل لسانا طالما
…
والى به التحميد والتهليل
يا ترب لا تعنف بكفّ طالما
…
قد كان يؤلم ظهرها التقبيل
ومنها:
يا دهر تعلم ما جنيت على الورى؟!
…
خطب لعمرك إن علمت جليل
ما كان ضرّك لو مهلت بمثله
…
يا دهر إنك بعدها لعجول
ومن المراثى المشهورة التى عنى بها، واتصلت أسباب الشارحين بسببها، المرثية العبدونيّة التى نظمها الوزير الكاتب أبو محمد عبد المجيد بن عبدون يرثى بها بنى مسلمة المعروفين ببنى الأفطس، وهى من أمهات القصائد ووسائط القلائد؛ فإنه ذكر فيها عدّة من مشاهير الملوك والخلفاء والأكابر ممن أبادهم الدهر بحوادثه ونكباته، ووثب عليهم الزمن فما وجدوا جنّة تقيهم من وثباته؛ ودبّت [عليهم [1]] الأيام بصروفها، وسقتهم المنيّة بكأس حتوفها. وها نحن نذكرها ونزيدها تبيانا بشرح من استبهمت أخباره، وخفيت على المطالع آثاره.
وأوّل القصيدة:
الدّهر يفجع بعد العين بالأثر
…
فما البكاء على الأشباح والصّور
أنهاك أنهاك لا آلوك معذرة
…
عن وقفة بين ناب الليث والظّفر
فالدهر حرب وإن أبدى مسالمة
…
فالبيض والسّمر مثل البيض والسّمر
ولا هوادة بين الرأس تأخذه
…
يد الضّراب وبين الصارم الذّكر
فلا تغرّنك من دنياك نومتها
…
فما صناعة عينيها سوى السّهر
[1] زيادة يقتضيها السياق.
ما للّيالى- أقال الله عثرتنا
…
من اللّيالى وخانتها يد الغير-
فى كلّ حين لها فى كلّ جارحة
…
منّا جراح وإن زاغت عن البصر
تسرّ بالشىء لكن كى تغرّ به
…
كالأيم [1] ثار إلى الجانى من الثمر
كم دولة وليت بالنصر خدمتها
…
لم تبق منها! وسل ذكراك من خبر
هوت «بدار:» وفلّت غرب قاتله
…
وكان عضبا على الأملاك ذا أثر
«دارا» الذى ذكره هو دارا بن دارا آخر ملوك الفرس؛ وقاتله الإسكندر.
وسنذكر إن شاء الله أخبارهما فى فنّ التاريخ.
واسترجعت من بنى ساسان ما وهبت
…
ولم تدع لبنى يونان من أثر
«بنو ساسان» هم الفرس الأخر ولهم دولة مشهورة انقرضت فى الإسلام.
و «بنو يونان» أيضا من الملوك أرباب الدول المشهورة، ومن مشاهير ملوكهم الإسكندر بن فيلبس. وسترد إن شاء الله أخبارهم.
وأتبعت أختها طسما، وعاد على
…
عاد وجرهم منها ناقض المرر
أخت «طسم» جديس، وهما أبناء عمّ كثر نسلهما وهم العرب العاربة.
وسنذكر أخبارهما إن شاء الله فى وقائع العرب. و «عاد» هم قوم هود. و «جرهم» هو ابن عوف بن زهير بن أنس بن الهميسع بن حمير بن سبأ الأكبر بن يشجب ابن يعرب بن قحطان، وقيل: إن العمالقة من ولد جرهم. أراد بذكرهم أنهم كلّهم أبادهم الموت.
وما أقالت ذوى الهيئات من يمن
…
ولا أجارت ذوى الغايات من مضر
[1] الأيم: الأفعى.
«اليمن» كلّهم باتفاق العلماء بالأنساب من ولد قحطان، ومنهم ملوك نذكرهم إن شاء الله فى التاريخ. و «مضر» بن نزار بن معدّ بن عدنان. وقدّ تقدم ذكرهم فى الأنساب.
ومزّقت سبا فى كلّ قاصية
…
فما التقى رائح منهم بمبتكر
«سبأ» الذى أشار إليه هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، واسمه عبد شمس، وإنما قيل فيه سبأ لأنه أوّل من أدخل بلاد اليمن السّبى. وكان له عشرة أولاد سكن الشام منهم أربعة وهم: لخم وغسّان وجذام وعاملة، وسكن اليمن منهم ستة: كندة ومذحج والأزد وأنمار [والأشعر وعمرو [1]] ؛ وقد ذكر الله عز وجل تمزيقهم بقوله: وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ
. وسنذكر أخبار سيل العرم وسدّ مأرب.
وأنفذت فى كليب حكمها ورمت
…
مهلهلا بين سمع الأرض والبصر
«كليب» الذى ذكر هو كليب بن ربيعة بن الحارث الذى ضرب به المثل فقيل: «أعزّ من كليب وائل» . وأشار ابن عبدون فى هذا البيت إلى ما كان من قتل جسّاس بن مرّة كليبا وما وقع بين بكر وتغلب من الحروب التى نشرحها إن شاء الله فى وقائع العرب. وقوله: «ورمت مهلهلا بين سمع الأرض والبصر» كأنه أراد ما حكى أنه قتل فى موضع لم يطّلع عليه أحد، وهو مثل؛ يقال: فعل كذا وكذا بين سمع الأرض وبصرها إذا فعله خاليا.
ولم تردّ على الضّلّيل صحّته
…
ولا ثنت أسدا عن ربّها حجر
«الضّلّيل» الذى أشار إليه هو امرؤ القيس بن حجر بن عمرو، والحارث هو آكل المرار؛ وسمّى امرؤ القيس بالضلّيل لأنه ترك ملكه وتوجّه إلى قيصر يطلب منه
[1] التكملة عن قلائد الجمان فى التعريف بقبائل عرب الزمان للعلامة القلقشندى مؤلف كتاب صبح الأعشى. وفى الأصل بيان.
جيشا يأخذ به ثأر أبيه من بنى أسد. وإشارته إلى الصحّة لقول امرئ القيس فى قصيدته السينيّة:
وبدّلت قرحا داميا بعد صحّة
…
لعلّ منايانا تحوّلن أبؤسا
لقد طمح الطمّاح من بعد أرضه
…
ليلبسنى من دائه ما تلبّسا
و «الطّماح» رجل من بنى أسد أرسله قيصر إلى امرئ القيس بحلّة مسمومة، فلما لبسها تقطّع ومات بأنقرة. وإشارته إلى أسد لأن بنى أسد كانوا قتلوا حجر ابن الحارث يوم ماقط.
ودوّخت آل ذبيان وإخوتهم
…
عبسا وعضّت بنى بدر على النّهر
أشار إلى ما كان بين عبس وذبيان من الحروب بسبب داحس والغبراء.
وسير ذلك فى وقائع العرب إن شاء الله تعالى.
وألحقت بعدىّ بالعراق على
…
يد ابنه أحمر العينين والشّعر
أراد عدىّ بن أيوب بن زيد مناة بن تميم الشاعر. وأحمر العينين والشعر هو النّعمان بن المنذر. وكان عدىّ هذا ترجمانا لأبرويز وكاتبه بالعربيّة، فلما مات قابوس بن المنذر تلطّف عدىّ وتحيّل على أبرويز حتى ولّى النعمان إمرة العرب وقدّمه على إخوته وكان أدمّهم، ثم اتهمه النعمان أنه وشى به فاحتال عليه حتى ظفر به وحبسه ثم قتله بالعراق؛ فتلطّف ابنه زيد بن عدىّ وتوصّل حتى خدم أبرويز على عادة أبيه، وأوقع بين أبرويز والنعمان حتى قتله أبرويز، على ما يرد إن شاء الله تعالى فى التاريخ. والله أعلم.
وأشرفت بخبيب فوق فارعة
…
وألصقت طلحة الفيّاض بالعفر
أشار إلى خبيب بن عدىّ الأنصارىّ وهو بدرىّ وأسر فى السريّة التى خرج فيها مرثد بن أبى مرثد فانطلق به المشركون إلى مكّة واشتراه حجر بن إهاب التميمىّ
حليف بنى نوفل لعقبة بن الحارث بن نوفل ليقتله بأبيه، وكان خبيب قتل الحارث أبا عقبة يوم بدر، فصلبه عقبة على خشبة بالتّنعيم وقتله. وطلحة الفيّاض هو طلحة ابن عبد الله التميمىّ أحد العشرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل يوم الجمل، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ومزّقت جعفرا بالبيض، واختلست
…
من غيله حمزة الظّلام للجزر
«جعفر» الذى ذكره هو جعفر بن أبى طالب أخو علىّ رضى الله عنهما قتل فى غزوة مؤتة. «حمزة» هو ابن عبد المطلب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل يوم أحد قتله وحشىّ غلام جبير بن مطعم؛ وجعله ظلّاما للجزر وصفه بالكرم.
وبلّغت يزدجرد الصّين واختزلت
…
عنه سوى الفرس جمع التّرك والخزر
ولم تردّ مواضى رستم وقنا
…
ذى حاجب عنه سعدا فى ابنة الغير
«يزدجرد» الذى ذكر هو ابن شهريار آخر الملوك الساسانيّة. ورستم هو الأرمينىّ وهو الذى قاتل سعد بن أبى وقّاص وقتل يوم القادسيّة، على ما ياتى شرح ذلك فى مواضعه إن شاء الله تعالى.
وخضّبت شيب عثمان دما، وخطت
…
إلى الزبير، ولم تستحى من عمر
أشار فى هذا البيت إلى مقتل عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان والزبير بن العوّام رضى الله عنهم. وسترد إن شاء الله أخبارهم.
وما رعت لأبى اليقظان صحبته
…
ولم تزوّده إلا الضّيح فى الغمر
«أبو اليقظان» هو عمّار بن ياسر العنسىّ قتل بصفّين وكان مع علىّ؛ وعنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تقتل عمّارا الفئة الباغية» . ولما قتل كانت الراية يومئذ بيده فعطش فدعا بشربة من الماء فأتى بضيحة [1] فشربها ثم قال: أخبرنى
[1] الضيحة: الشربة من الضياح أو الضيح بالفتح فيهما وهو اللبن الرقيق الممزوج بالماء.
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اللّبن آخر شربة أشربها فى الدنيا؛ فقتل يومئذ رضى الله عنه.
وأجزرت سيف أشقاها أبا حسن
…
وأمكنت من حسين راحتى شمر
أشقاها هو عبد الرحمن بن ملجم المرادىّ قاتل علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه لقوله صلى الله عليه وسلم: «يا علىّ، أشقاها الذى يخضب هذه من هذه» وأشار إلى لحية علىّ ورأسه. والحسين الذى ذكره هو الحسين بن علىّ. وشمر هو شمر ابن ذى الجوشن وهو الذى أرسله عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد يحرّضه على قتل الحسين؛ وقيل: إن شمرا لم يباشر قتل الحسين، والذى قتله سنان بن [1] أنس النّخعى، وشمر فهو المجهز والمحرّض على قتله، فلذلك ذكره.
وليتها إذ فدت عمرا بخارجة
…
فدت عليّا بمن شاءت من البشر
عمرو الذى أشار إليه هو عمرو بن العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سهم ابن عمرو بن هصيص بن كعب، أمير مصر لمعاوية بن أبى سفيان. وخارجة رجل من سهم بن عمرو. وكان من خبره أن الخوارج كانت قد اجتمعت على قتل علىّ ومعاوية وعمرو، فكان الذى انتدب لقتل عمرو زادويه مولى بنى العنبر، ورصده إلى ليلة المعاد التى اتفقوا على الفتك بهم فيها؛ فاشتكى عمرو تلك الليلة من بطنه ولم يخرج للصلاة واستخلف خارجة ليصلّى بالناس؛ فلما قام فى المحراب وثب عليه زادويه وهو يظن أنه عمرو بن العاص فقتله؛ وأخذ زادويه وأدخل على عمرو، فسمع الناس
[1] كذا فى الطبرى طبع أوربا (ق 2 ص 362، 366، 367) وابن الأثير طبع أوربا (ج 4 ص 66- 68) . وفى الأصل: «ابن أبى أنس» .
يخاطبونه بالإمرة، فقال: أو ما قتلت عمرا؟ قيل له: [لا [1]] إنما قتلت خارجة؛ فقال:
«أردت عمرا وأراد الله خارجة» . فلذلك قال:
وليتها إذ فدت عمرا بخارجة
وفى ابن هند وفى ابن المصطفى حسن
…
أتت بمعضلة الألباب والفكر
فبعضنا قائل ما اغتاله أحد
…
وبعضنا ساكت لم يؤت من حصر
ابن هند الذى أشار إليه هو معاوية بن أبى سفيان، أراد ما كان بينه وبين الحسن بن علىّ فى أمر الخلافة. وأراد بالبيت الثانى ما وقع الاختلاف فيه من أن الحسن مات مسموما وأنّ معاوية وعد زوجة الحسن جعدة بنت قيس الكندىّ بمائة ألف درهم ويزوّجها لابنه يزيد إن قتلت الحسن، ففعلت وسمّته. ولما مات الحسن وفّى لها بالمال وقال: حبّ حياة يزيد منعنى تزويجه منك؛ وقيل: مات الحسن حتف أنفه. والله أعلم.
وعمّمت بالرّدى فودى أبى أنس
…
ولم تردّ الردى عنه قنا زفر
أبو أنس هو الضحاك بن قيس الفهرى. يشير إلى ما وقع بينه وبين مروان ابن الحكم بمرج راهط، وكان الضحاك يدعو لابن الزبير فقتل الضحّاك، على ما نذكره إن شاء الله فى أخبار مروان. وكان زفر بن الحارث الكلابىّ مع الضحّاك ففرّ عنه.
وأردت ابن زياد بالحسين فلم
…
يبؤ بشسع له قد طاح أو ظفر
أشار إلى عبيد الله بن زياد ابن أبيه عامل يزيد بن معاوية على العراق، وهو الذى جهّز عمر بن سعد لحرب الحسين بن علىّ رضى الله عنهما. وقوله «يبؤ بشسع له» أخذه من قول مهلهل حين قتل يجير بن الحارث وقال: بؤبشسع نعل كليب.
[1] زيادة من شرح القصيدة العبدونية لابن بدرون، طبع ليدن سنة 1846 م.
وأنزلت مصعبا من رأس شاهقة
…
كانت به مهجة المختار فى وزر [1]
أشار إلى مصعب بن الزبير بن العوّام وقتله. والشاهقة هى الكوفة. جعلها شاهقة لمنعتها وكثرة رجالها. وأراد ما كان بين مصعب وعبد الملك بن مروان من الحرب التى قتل فيها مصعب. والمختار الذى ذكره هو المختار بن أبى عبيد بن مسعود ابن عمرو الثّقفىّ. أشار إلى ما كان بينه وبين مصعب من الحرب وقتل المختار.
وسنورد كلّ هذه الوقائع إن شاء الله فى التاريخ.
ولم تراقب مكان ابن الزبير ولا
…
راعت عياذته بالبيت والحجر
أراد عبد الله بن الزبير، وكان يسمّى العائذ لأنه كان يقول: أنا العائذ بالبيت، وقتله الحجّاج بن يوسف الثقفىّ لما وجّهه عبد الملك لحربه.
ولم تدع لأبى الذّبّان قاضيه
…
ليس اللّطيم لها عمرو بمنتصر
أبو الذّبّان هو عبد الملك بن مروان بن الحكم، سمّى بذلك لبخره. وقوله «قاضيه» لأنه كان مظفّرا على أعدائه فإنه غلب من كان يناوئه فى سلطانه مثل عبد الله ومصعب ابنى الزبير، وعمرو بن سعيد، وعبد الرحمن بن الأشعث، ما منهم إلا من قتل وحكم فيه قاضيه وهو سيفه، ولم يغن ذلك عنه لمّا أتته منيّته.
وأما اللّطيم فهو عمرو بن سعيد الأشدق، سمّى بذلك لميل كان فى فمه فقيل له من أجله لطيم الشيطان، وقتله عبد الملك بن مروان.
وأظفرت بالوليد بن اليزيد ولم
…
تبق الخلافة بين الكأس والوتر
الوليد هذا هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وهو الذى يقال له الجبّار العنيد. أشار إلى ظفر يزيد بن الوليد بن عبد الملك به وقتله. و [قوله [2]] :
[1] الوزر: الملجأ والمعتصم.
[2]
من عادته أن يذكر هذه الكلمة. فلعلها سقطت من الناسخ.
.............. .... ولم
…
تبق الخلافة بين الكأس والوتر
أراد بذلك ما كان عليه الوليد من الاشتهار باللهو واللّعب.
ولم تعد قضب السفّاح نابية
…
عن رأس مروان أو أشياعه الفجر
السفّاح هو أبو العباس عبد الله بن محمد بن علىّ بن عبد الله بن عباس، وهو أوّل خلفاء الدولة العباسيّة. يشير إلى ظفره بمروان بن محمد وقتله، وانقراض دولة بنى أميّة وقتلهم على يديه.
وأسبلت عبرات للعيون على
…
دم بفخّ [1] لآل المصطفى هدر
أشار فى هذا البيت إلى ذكر من قتل بفخّ وهم الحسين بن علىّ بن حسن بن حسن بن على، والحسن بن محمد بن الحسن بن الحسن بن علىّ، وعبد الله بن إسحاق ابن إبراهيم بن الحسن بن الحسن، على ما نذكره فى التاريخ إن شاء الله تعالى.
وأشرقت جعفرا والفضل ينظره
…
والشيخ يحيى بريق الصارم الذّكر
أشار فى هذا البيت إلى قتل جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك ونكبة البرامكة فى أيام الرشيد.
وأخفرت فى الأمين العهد، وانتدبت [2]
…
لجعفر بآبنه والأعبد الغدر
الأمين هو محمد بن هارون الرشيد. يشير إلى ما كان بينه وبين أخيه المأمون وإلى العهد الذى كان الرشيد كتبه بينهما. وجعفر الذى أشار إليه هاهنا هو المتوكل ابن المعتصم. أراد ما كان من قتل باغر التركى له بمواطأة من ابنه المنتصر، على ما نورده فى أخباره.
وروّعت كلّ مأمون ومؤتمن
…
وأسلمت كلّ منصور ومنتصر
[1] فخ: واد بمكة.
[2]
كذا فى شرح القصيدة العبدونية لأبن بدرون. وفى الأصل: «وانتبدت» .
المأمون هو عبد الله بن الرشيد وهو أوّل من لقّب بالمأمون، ولقّب به بعد ذلك ولد من أولاد المعتمد بن عبّاد ويحيى بن ذى النون صاحب طليطلة. والمؤتمن فأوّل من لقب به مروان بن الحكم على قول من يقول إنه كان لبنى أميّة ألقاب، ثم لقّب به القاسم بن الرشيد. وكان الرشيد لما كتب العهد بين الأمين والمأمون جعل ابنه المؤتمن بعد المأمون، وجعل أمر المؤتمن إلى اخيه المأمون إذا أفضت الخلافة إليه إن شاء أمضاه وإن شاء خلعه؛ فلما أفضت الخلافة إلى المأمون أزال المؤتمن فارتاع لذلك. وتلقّب بالمؤتمن محمد بن ياقوت مولى المعتضد صاحب فارس. وتلقّب به سلامة الطّولونى، وعبد العزيز بن عبد الرحمن بن أبى عامر ثم تسمّى بالمنصور. وأما المنصور فأوّل من لقّب به هشام بن عبد الملك بن مروان على تلك الرواية، ثم المنصور أبو جعفر عبد الله بن علىّ العباسى، ثم أبو طاهر إسماعيل ابن القائم بن المهدى صاحب إفريقيّة، ثم محمد بن أبى عامر بالأندلس، وتلقّب به ابن زيرى الصّنهاجى، وتلقّب به سابور صاحب بطليوس، وعبد الله بن محمد ابن مسلمة التّجيبىّ، وحفيده يحيى بن محمد بن عبد الله، وعبد العزيز بن أبى عامر؛ ثم تلقّب به جماعة من الملوك بعد نظم هذه المرثية. وأما المنتصر فهو محمد ابن المتوكّل؛ وممّن تلقّب بالمنتصر مدرار بن اليسع صاحب سجلماسة. وكلّ هؤلاء أبادهم الموت.
وأعثرت آل عبّاس- لعا لهم-
…
بذيل زبّاء [1] من بيض ومن سمر
أشار فى هذا البيت إلى ما كان من تغلّب الأتراك والدّيلم على خلفاء الدولة العباسيّة حتى لم يبق لهم إلا اسم الخلافة، على ما سيرد فى أخبارهم. وقوله:
[1] الزباء: الداهية الشديدة.
بذيل زباء من بيض ومن سمر
تنبيها على كثرة عدد المتغلّبين على الأمر وقدرتهم على السّلاح.
ولا وفت بعهود المستعين ولا
…
بما تأكّد للمعتزّ من مرر
المستعين هو أحمد بن المعتصم العبّاسى. أشار إلى ما كان من قيام المعتزّ على المستعين وهرب المستعين من سامرّا إلى بغداد. والمعتزّ هو أبو عبد الله محمد بن المتوكّل، وسترد أخبارهم إن شاء الله تعالى:
وأوثقت فى عراها كلّ معتمد
…
وأشرقت بقذاها كلّ مقتدر
المعتمد هو أبو العباس بن المتوكّل، وهو أوّل من لقّب بهذا اللقب، وتلقّب به محمد بن عبّاد بإشبيلية. والمقتدر هو أبو الفضل جعفر بن المعتضد، وهو أوّل من لقّب بالمقتدر، ثم لقّب به أحمد بن سليمان بن هود الجذامىّ بسرقسطة. ثم أخذ ابن عبدون فى رثاء بنى الأفطس فقال:
بنى المظفّر والأيّام ما برحت
…
مراحلا والورى منها على سفر
سحقا ليومكم يوما ولا حملت
…
بمثله ليلة فى مقبل العمر
من للأسرّة أو من للأعنّة أو
…
من للأسنّة يهديها إلى الثّغر
من للبراعة أو من لليراعة أو
…
من للسماحة أو للنفع والضّرر
أو رفع كارثة أو دفع آزفة
…
أو قمع حادثة تعيا على القدر
من للظّبى [1] وعوالى الخطّ قد عقدت
…
أطراف ألسنها بالعىّ والحصر
وطوّقت بالثنايا [2] السّود بيضهم
…
أعجب بذاك وما منها سوى ذكر
[1] كذا فى شرح ابن بدرون. وفى الأصل: «من للعدى
…
» .
[2]
كذا فى شرح ابن بدرون طبع ليدن سنة 1846. وفى الأصلين: «فطرّفت بالثنايا
…
» . ولعل المراد بالثنايا ما يعلو السيوف من الصدأ لإهمالها بعد موت أصحابها. وفى هامش شرح ابن بدرون إشارة الى أنه فى نسخة أخرى «وطوّقت بالمنايا السود
…
» الخ.
ويح السّماح وويح الجود لو سلما
…
وحسرة الدّين والدّنيا على عمر
سقت ثرى الفضل والعبّاس هامية
…
تعزى إليهم سماحا لا إلى المطر
ثلاثة ما ارتقى [1] النّسران حيث رقوا
…
وكلّ ما طار من نسر ولم يطر
ثلاثة ما رأى العصران مثلهم
…
فضلا ولو عزّزا بالشمس والقمر
ومرّ من كل شىء فيه أطيبه
…
حتى التمتع بالآصال والبكر
من للجلال الذى عمّت مهابته [2]
…
قلوبنا وعيون الأنجم الزّهر
أين الإباء الذى أرسوا قواعده
…
على دعائم من عزّ ومن ظفر
أين الوفاء الذى أصفوا مشاربه
…
فلم يرد أحد منها على كدر
كانوا رواسى أرض الله منذ نأوا
…
عنها استطارت بمن فيها ولم تقر
كانوا مصابيحها فمذ خبوا غبرت
…
هذى الخليقة يالله فى سدر
كانوا شجا الدهر فاستهوتهم خدع
…
منه بأحلام عاد فى خطا الخضر
من لى ولا من بهم إن أطبقت محن
…
ولم يكن وردها يفضى إلى صدر
من لى ولا من بهم إن أظلمت نوب
…
ولم يكن ليلها يفضى إلى سحر
من لى ولا من بهم إن عطّلت سنن
…
وأخفتت ألسن الأيام والسّير
على الفضائل إلّا الصبر بعدهم
…
سلام مرتقب للأجر [3] منتظر
يرجو عسى، وله فى أختها طمع
…
والدّهر ذو عقب شتّى وذو غير،
قرّطت آذان من فيها بفاضحة
…
على [4] الحسان حصى الياقوت والدّرر
[1] كذا فى شرح ابن بدرون. وفى الأصل: «رقا» .
[2]
فى شرح ابن بدرون: «غضت مهابته» .
[3]
كذا فى شرح ابن بدرون. وفى الأصل: «مرتقب للأمر
…
» .
[4]
كذا فى شرح ابن بدرون. وفى الأصل: «من الحسان
…
» .
ومن أجود الرثاء وأصنعه وأتقنه وأبدعه مراثى أبى تمام حبيب بن أوس الطائى؛ فمن ذلك ما قاله يرثى به غالب بن السّعدىّ:
هو الدّهر لا يشوى وهنّ المصائب
…
وأكثر آمال الرّجال كواذب
فيا غالبا لا غالب لرزيّة
…
بل الموت لا شك الذى هو غالب
وقلت: أخى، قالوا: أخ من قرابة؟
…
فقلت لهم إن الشّكول أقارب
نسيبى فى رأى وعزم ومنصب [1]
…
وإن باعدتنا فى الأصول المناسب
كأن لم يقل يوما: كأنّ، فتنثنى
…
إلى قوله الأسماع وهى رواغب [2]
ولم يصدع النادى بلفظة فيصل
…
سنانيّة فى صفحتيها التّجارب [3]
ومنها:
مضى صاحبى واستخلف البثّ والأسى
…
علىّ، فلى من ذا وهذاك صاحب
عجبت لصبرى بعده وهو ميّت
…
وكنت امرأ أبكى دما وهو غائب
على أنّها الأيام قد صرن كلّها
…
عجائب حتى ليس فيها عجائب
وقال يرثى محمد بن الفضل الحميرىّ:
ريب دهر أصمّ دون العتاب
…
مرصد بالأوجال والأوصاب
جفّ درّ الدنيا فقد أصبحت تك
…
تال أرواحنا بغير حساب
لو بدت سافرا أهينت ولكن
…
شغف الخلق أنّها فى النّقاب
إن ريب الزمان يحسن أن يه
…
دى الرّزايا إلى ذوى الأحساب
فلهذا يجفّ بعد اخضرار
…
قبل روض الوهاد روض الرّوابى
[1] فى ديوان أبى تمام: «ومذهب» .
[2]
كذا فى الديوان. وفى الأصل: «وهى لواعب» .
[3]
فى الديوان:
ولم يصدع النادى بخطبة فيصل
…
سنانية قد دربتها التجارب
وقال فى الأصل: ويروى، ثم وضع تحت بعض الكلمات ما هو مذكور فى رواية الديوان.
جاء منها:
ذهبت يا محمد الغرّ من أيّ
…
امك الواضحات أىّ ذهاب
عبّس اللحد والثرى منك وجها
…
غير ما عابس ولا قطّاب
أطفأ اللحد والثرى لبّك المس
…
روج فى وقت ظلمة الألباب
وتبدّلت منزلا ظاهر الجد
…
ب يسمّى مقطّع الأسباب
منزلا موحشا وإن كان معمو
…
را بجلّ الصديق والأحباب
يا شهابا خبا لآل عبيد الله
…
أعزز بفقد هذا الشّهاب
ومنها:
أنزلته الأيّام عن ظهرها من
…
بعد إثبات رجله فى الرّكاب
حين تمّ الشّباب [1] واغتدت الدن
…
يا إليه مفتوحة الأبواب
وحكى الصارم المحلّى سوى أنّ
…
حلاه جواهر الآداب
قصدت نحوه المنيّة حتى
…
وهبت حسن وجهه للتراب
وقال يرثى إسحاق بن أبى ربعىّ:
أىّ ندى بين الثرى والجيوب [2]
…
وسؤدد لدن ورأى صليب
يا بن أبى ربعىّ استقبلت
…
من يومك الدنيا بيوم عصيب
شقّ جيوبا من أناس لو اس
…
تطاعوا لشقّوا ما وراء الجيوب
كنت على البعد قريبا فقد
…
صرت على قربك غير القريب
راحت وفود الأرض عن قبره
…
فارغة الأيدى ملاء القلوب
قد علمت ما رزئت، إنما
…
يعرف فقد الشّمس بعد المغيب
[1] فى الديوان: «سامى الشباب» .
[2]
كذا فى الأصل. وفى بعض نسخ الديوان: «الجنوب» وفى بعض آخر: «الجبوب» .
والجبوب: الأرض الغليظة.
إذا البعيد الوطن انتابه
…
حلّ إلى نهى وواد خصيب
أدنته أيدى العيس من ساحة
…
كأنها مسقط رأس الغريب
أظلمت الآمال من بعده
…
وعرّيت من كل حسن وطيب
كانت خدودا صقلت برهة [1]
…
واليوم صارت مألفا للشّحوب
كم حاجة صارت ركوبا به
…
ولم تكن من قبله بالرّكوب
حلّ عقاليها كما أطلقت
…
من عقد المزنة ريح الجنوب
إذا تيمّمناه فى مطلب
…
كان قليبا ورشاء القليب
ونعمة منه تسربلتها
…
كأنها طرّة برد قشيب
من اللّواتى إن ونى شاكر
…
قامت لمسديها مقام الخطيب
متى تنخ ترحل بتفضيله
…
أو غاب يوما حضرت بالمغيب
فما لنا اليوم ولا للعلا
…
من بعده غير الأسى والنّحيب
وقال يرثى أحمد بن هارون القرشىّ:
دأب عينى البكاء، والحزن دابى
…
فاتركينى- وقيت ما بى- لمابى
سأجزّى بقاء أيام عمرى
…
بين بثّى وعبرتى واكتئابى
فيك يا أحمد بن هارون خصّت
…
ثم عمّت رزيّتى ومصابى
فجعتنى الأيّام فى الصادق النّط
…
ق فتى المكرمات والآداب
بخليل دون الأخلّاء [لا [2]] بل
…
صاحبى المصطفى على أصحابى
أفلمّا تسربل المجد واجتا
…
ب من الحمد أيّما مجتاب
وتراءته أعين النّاظريه
…
قمرا باهرا ورئبال غاب
[1] كذا فى الديوان. وفى الأصل: «صقلت مرة» .
[2]
التكملة عن الديوان
وعلا عارضيه ماء النّدى الجا
…
رى وماء الحجا وماء الشباب
أرسلت نحوه المنيّة عينا
…
قطّعت منه أوثق الأسباب
وقال يرثى أبا الصقر:
لو صحّح الدمع لى أو ناصح الكمد
…
لقلّما صحبانى الرّوح والجسد
خان الصفاء أخ خان الزمان له
…
أخا فلم يتخوّن جسمه الكمد
تساقط الدمع أدنى ما بليت به
…
للوجد إذ لم تساقط مهجة ويد
فو الذى رتكت [1] تطوى الفجاج له
…
سفائن البرّ فى خدّ الثرى تخد
لأنفدنّ أسى إن لم أمت أسفا
…
وينفد العمر بى أو ينفد الأمد
عنّى إليك فإنى عنك فى شغل
…
لى منه يوم سيبلى مهجتى وغد
وإن بجريّة [2] نابت جأرت لها
…
إلى ذرى جلدى فاستؤهل الجلد
هى النوائب فاشجى أوفعى عظة
…
فإنها شجر [3] أثمارها رشد
هبّى ترى قلقا من تحته أرق
…
يحدوهما كمد يعنو [4] له الجسد
صمّاء سمّ العدا فى جنبها ضرب
…
وشرب كأس الردى فى ظلّها شهد
هناك أمّ النّهى لم تود من حزن
…
ولم تجد لبنى الدنيا بما تجد
لو يعلم الناس علمى بالزمان وما
…
عائت يداه لما ربّوا ولا ولدوا
لا يبعد الله ملحودا أقام به
…
شخص الحجا وسقاه الواحد الصّمد
يا صاحب القبر، دعوى غير متّئب [5]
…
إن قال أودى النّدى والبدر والأسد
[1] رتك (من باب ضرب) : عدا فى مقاربة خطو.
[2]
فى الديوان: «وإن بجيرية» بالتصغير، والبجرية: الداهية.
[3]
فى الديوان: «فانها فرض» : جمع فرضة وهى موضع الاستقاء.
[4]
كذا فى الديوان. ويعنو: يذل ويخضع. وفى الأصل: «يحنو له الجسد» .
[5]
متئب: مستح أو منخذل.
بات الثرى بأخى جذلان مبتهجا
…
وبتّ يحكم فى أجفانى السّهد
لهفى عليك وما لهفى بمجدية
…
ما لم يزرك بنفسى حرّ ما أجد
أمسى أبو الصقر يعفو الترب أحسنه
…
دونى ودلو الرّدى فى مائه يرد
ويل لأمّك أقصر إنه حدث
…
لم يعتقد مثله قلب ولا خلد [1]
غال الزمان شقيق [2] الجود لم يقه
…
أهل ولم يفده مال ولا ولد
حين ارتوى الماء وافترّت شبيبته
…
عن مضحك للمعالى ثغره برد
وقيل: أحمدها، بل قيل: أمجدها
…
بل قيل: أنجدها إن فرّت النّجد
رؤد الشباب كنصل السيف لا جعد
…
فى راحتيه ولا فى عوده أود
سقى الحبيس ومحبوسا ببرزخه
…
من السّمىّ كغيث الودق يطّرد
بحيث حلّ أبو صقر فودّعه
…
صفو الحياة ومن لذّاتها الرّغد
بحيث حلّ فقيد المجد مغتربا
…
ومورثا حسرات ليس تفتقد
وقال يرثى عمير بن الوليد:
أعيدى النّوح معولة أعيدى
…
وزيدى فى بكائك ثم زيدى
وقومى حاسرا فى حاسرات
…
خوامش للنّحور وللخدود
هو الخطب الذى ابتدأ الرّزايا
…
وقال لأعين الثّقلين جودى
ألا رزئت خراسان فتاها
…
غداة ثوى عمير بن الوليد
ألا رزئت بمسئول منيل
…
ألا رزئت بمتلاف مفيد
ألا إنّ النّدى والجود حلّا
…
بحيث حللت من حفر الصّعيد
بنفسى أنت من ملك رمته
…
منيّته بسهم ردّى سديد
[1] كذا فى الديوان. وفى الأصل «حلد» .
[2]
فى الديوان: «رضيع الجود» .
تجلّت غمرة الهيجاء عنه
…
خضيب الوجه من دمه الجسيد
فيابحر المنون ذهبت منه
…
ببحر الجود فى السّنة الصّلود
ويا أسد المنون فرست منه
…
غداة فرسته أسد الأسود
أبا لبطل النّجيد فتكت [1] منه
…
نعم وبقاتل البطل النّجيد
تراءى للطّعان وقد تراءت
…
وجوه الموت من حمر وسود
فيالك وقعة جللا أعادت
…
أسى وصبابة جلد الجليد
ويا لك ساعة أهدت غليلا
…
الى أكبادنا أبد الأبيد
ألا أبلغ مقالتى الإمام ال
…
خليفة والأمين بن الرشيد
بأن أميرنا لم يأل عدلا
…
ونصحا فى الرّعايا والجنود
أفاض نوال راحته عليهم
…
وسامح بالطّريف وبالتّليد
وأضحى دونهم للموت حتى
…
سقاه الموت من مقر هبيد [2]
وما ظفروا به حتى قراهم
…
قشاعم أنسر وضباع بيد
بطعن فى نحورهم رشيق
…
وضرب فى رءوسهم عتيد
فيا يوم الثلاثاء اصطبحنا
…
غداة منك هائلة الورود
ويا يوم الثلاثاء اعتمدنا
…
بفقد فيك للسّند العميد
وكم أسخنت فينا من عيون
…
وكم أعثرت فينا من جدود
فما زجرت طيورك عن سنيح
…
ولا طلعت نجومك بالسّعود
ألا يأيها الملك المردّى
…
رداء الموت فى جدث جديد
حضرت فناء بابك واعترانى
…
شجى بين المخنّق والوريد
[1] فى الديوان: «فتكت منا» .
[2]
المقو: السم أو الصبر أو شبهه. والهبيد: الحنظل.
رأيت به مطايا مهملات
…
وأفراسا صوافن بالوصيد
فكنت عتاد إما فكّ عان
…
وإما قتل طاغية عنود
رأيت مؤمّليك عدت عليهم
…
عواد صعّدتهم فى كؤود
وأضحت عند غيرك فى هبوط
…
حظوظ كنّ عندك فى صعود
وأصبحت الوفود إليك وقفا
…
على أن لا مفاد لمستفيد
فكلّهم أعدّ اليأس وقفا
…
عليك ونصّ راحلة القعود
لقد سخنت عيون الجود لمّا
…
ثويت وأقصدت غرر القصيد
وقال يرثى محمد بن حميد الطّوسىّ:
كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر
…
فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
توفّيت الآمال بعد محمد
…
وأصبح فى شغل عن السّفر السّفر
وما كان إلا مال من قلّ ماله
…
وذخرا لمن أمسى وليس له ذخر
وما كان يدرى المجتدى جود كفّه
…
إذا ما استهلّت أنه خلق العسر
ألا فى سبيل الله من عطّلت له
…
فجاج سبيل الله واثّغر الثغر [1]
فتى كلما فاضت عيون قبيلة
…
دما ضحكت عنه الأحاديث والذّكر
[فتى دهره شطران فيما ينوبه
…
ففى بأسه شطر وفى جوده شطر [2]]
فتى مات بين الضرب والطعن ميتة
…
تقوم مقام النّصر إذ فاته النّصر
وما مات حتى مات مضرب سيفه
…
من الشّلّ [3] واعتلّت عليه القنا السّمر
وقد كان فوت الموت سهلا فردّه
…
عليه الحفاظ المرّ والخلق الوعر
ونفس تعاف العار حتى كأنه
…
هو الكفر يوم الرّوع أو دونه الكفر
[1] الإثغار: أن يلقى الصبى ثغره على أسنانه.
[2]
زيادة من الديوان.
[3]
شل الأعداء بسيفه: طردهم بين يديه. وفى الديوان: «من الضرب» .
فأثبت فى مستنقع الموت رجله
…
وقال لها من تحت أخمصك الحشر
غدا غدوة والحمد نسج رداثه
…
فلم ينصرف إلا وأكفانه الأجر
تردّى ثياب الموت حمرا فما أتى
…
لها الليل إلا وهى من سندس خضر
كأنّ بنى نبهان يوم وفاته
…
نجوم سماء خرّ من بينها البدر
يعزّون عن ثاو تعزّى به العلا
…
ويبكى عليه الجود والبأس والشعر
وأنّى لهم صبر عليه وقد مشى
…
إلى الموت حتى استشهدا هو والصّبر!
فتى كان عذب الروح لا عن غضاضة
…
ولكنّ كبرا أن يكون له كبر [1]
فتى سلبته الحيل وهو حمى لها
…
وبزّته نار الحرب وهو لها جمر
وقد كانت البيض المآثير فى الوغى
…
بواتر فهى الآن من بعده بتر
أمن بعد طىّ الحادثات محمدا
…
يكون لأثواب العلا أبدا نشر!
[إذا شجرات العرف جذّت أصولها
…
ففى أىّ فرع يوجد الورق النّضر! [2]]
لئن أبغض الدهر الخؤن لفقده
…
لعهدى به ممّن يحبّ له الدهر
لئن غدرت فى الرّوع أيامه به
…
لما زالت الأيام شميتها الغدر
لئن ألبست فيه المصيبة طيئ
…
لما عرّيت منها تميم ولا بكر
كذلك ما ننفكّ نفقد هالكا
…
يشاركنا فى فقده البدو والحضر
سقى الغيث غيثا وارت الأرض شخصه
…
وإن لم يكن فيها سحاب ولا قطر
وكيف احتمالى للسّحاب صنيعة
…
بإسقائها قبرا وفى لحده البحر
ثوى فى الثّرى من كان يحيا به الثّرى
…
ويغمر صرف الدهر نائله الغمر
[1] رواية الديوان:
فتى كان عذب الروح لا من غضاضة
…
ولكن كبرا أن يقال به كبر
[2]
زيادة من الديوان.
مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة
…
غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
عليك سلام الله وقفا فإننى
…
رأيت الكريم الحرّ ليس له عمر
وقال يرثى إدريس بن بدر السّامىّ:
دموع أجابت داعى الحزن همّع
…
توصّل منا عن قلوب تقطّع
عفاء على الدنيا طويل فإنها
…
تفرّق من حيث ابتدت تتجمّع
تبدّلت الأشياء حتى لخلتها
…
ستثنى غروب الشمس من حيث تطلع
لها صيحة فى كل روح ومهجة
…
وليست لشىء ما خلا القلب تسمع
أإدريس ضاع المجد بعدك كلّه
…
ورأى الذى يرجوه بعدك أضيع
وغودر وجه العرف أسود بعد ما
…
يرى وهو كالبكر الكعاب تصنّع
وأصبحت الأحزان لا لمبرّة
…
تسلّم شزرا والمعالى تودّع
وضلّ بك المرتاد من حيث يهتدى
…
وضرّت بك الأيام من حيث تنفع
وأضحت قريحات القلوب من الجوى
…
تقيظ [1] ولكن المدامع تربع [2]
عيون حفظن الليل فيك محرّما
…
وأعطينك الدمع الذى كان يمنع
وقد كان يدعى لابس الصبر حازما
…
فأصبح يدعى حازما حين يجزع
وقالوا عزاء: ليس للموت مدفع
…
فقلت: ولا للحزن للمرء مدفع
لإدريس يوم ما تزال لذكره
…
دموعى وإن سكّنتها تتفرّع
ولما نضا ثوب الحياة وأوقعت
…
به نائبات الدهر ما يتوقّع
غدا ليس يدرى كيف يصنع معدم
…
درى دمعه من وجده كيف يصنع
وماتت نفوس الغالبيّين كلهم
…
وإلا فصبر الغالبيّين أجمع
[1] تقيظ: يشتد حرها. وفى الأصل والديوان: «تقاظ» .
[2]
تربع: تخصب.
غدوا فى زوايا نعشه وكأنما
…
قريش قريش حين مات مجمّع [1]
ولم أنس سعى الجود خلف سريره
…
بأكسف بال يستقيم ويظلع
وتكبيره خمسا عليه معالنا
…
وإن كان تكبير المصلّين أربع
وما كنت أدرى يعلم الله قبلها
…
بأن النّدى فى أهله يتشيّع
وقمنا فقلنا بعد أن أفرد الثرى
…
به ما يقال فى السّحابة تقلع
- هذا مأخوذ من قول مسلم:
فاذهب كما ذهبت غوادى مزنة
…
أثنى عليها السهل والأوعار-
ألم تك ترعانا من الدّهر إن سطا
…
وتحفظ من أموالنا ما نضيّع
وتبسط كفّا فى الحقوق كأنما
…
أناملها فى البأس والجود أذرع
وتلبس أخلاقا كراما كأنها
…
على العرض من فرط الحصانة أدرع
وتربط جأشا والكماة قلوبهم
…
تزعزع خوفا من قنا تتزعزع
وأمنيّة المرتاد يحضرك النّدى
…
فيشفع فى مثل الفلا [2] فيشفّع
فأنطق فيه حامد وهو مفحم
…
وأفحم فيه حاسد وهو مصقع
ألا إنّ فى ظفر المنيّة مهجة
…
تظلّ لها عين العلا وهى تدمع
هى النفس إن تبك المكارم فقدها
…
فمن بين أحشاء المكارم تنزع
ألا إنّ أنفا لم يعد وهو أجدع
…
لفقدك عند المكرمات لأجدع
وإن امرأ لم يمس فيك مفجّعا
…
بملحوده، فى عقله لمفجّع
وقال يرثى القاسم بن طوق بن مالك:
جوى ساور الأحشاء والقلب واغله
…
ودمع يضيم [3] العين والجفن هامله
[1] مجمع: لقب قصى بن كلاب بن مرة وهو الجد الخامس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لقب بذلك لجمعه قريشا للرحلتين: رحلة الصيف ورحلة الشتاء.
[2]
فى ديوان أبى تمام:
فيشفع
…
فى ملء الملا فيشفع
[3]
كذا بالأصل. ولعله محرّف عن «يطم» بمعنى يملا.
وفاجع موت لا عدوّ يخافه
…
فيبقى، ولا يبقى صديقا يجامله
وأىّ أخى عزّ [1] وذى جبرية
…
ينابذه أو أىّ، رام يناضله
إذا ما جرى مجرى دم المرء حكمه
…
وبثّت على طرق النفوس حبائله!
فلو شاء هذا الدهر أقصر شرّه
…
كما أقصرت عنّا لهاه ونائله
سنشكوه إعلانا وسرّا ونيّة
…
شكيّة من لا يستطيع يقاتله
فمن مبلغ عنّى ربيعة أنّه
…
تقشّع طلّ الجود عنها ووابله
وأنّ الحجا منها استطارت صدوعه
…
وأنّ الندى منها أصيبت مقاتله
مضى للزّيال القاسم الواهب اللهى
…
ولو لم يزايلنا لكنّا نزايله
ولم يعلموا أنّ الزمان يريده
…
بفجع ولا أنّ المنايا تراسله
ومنها:
طواه الردى طىّ الرّداء وغيبّت
…
فضائله عن قومه وفواضله
طوى شيما كانت تروح وتغتدى
…
وسائل من أعيت عليه وسائله
فيا عارضا للعرف أقلع مزنه
…
ويا واديا للجود [2] جفّت مسايله
وقال يرثى محمد بن حميد وأخاه [3] قحطبة:
بأبى وغير أبى- وذاك قليل-
…
ثاو عليه ثرى النّباج مهيل
[1] فى الديوان: «وأى أخى عزاء أو جبرية» .
[2]
كذا فى الديوان. وفى الأصل: «ويا واديا للعرف» .
[3]
كذا فى الجزء الثالث من شرح ديوانه لأبى بكر محمد بن يحيى الصولى المحفوظ بدار الكتب المصرية تحت رقم (573 أرب) وكان محمد هو الأكبر والآخر قحطبة. وفى الأصل: «وقال يرثى محمد بن حميد ويسمى قحطبة، وقيل: فحطبة أخوه» والصحيح ما أثبتناه وهو أن قحطبة أخوه ويؤيد هذا قول أبى تمام من مرثية أخرى يرثى بها بنى حميد الطوسى:
ذكرت أبا نصر بفقد محمد
…
وقحطبة ذكرى طويل البلابل
ومنها:
للعمرك ما كانوا ثلاثة إخوة
…
ولكنهم كانوا ثلاث قبائل
خذلته أسرته كأنّ سراتهم
…
جهلوا بأن الخاذل المخذول
أكّال أشلاء الفوارس بالقنا
…
أضحى بهنّ وشلوه مأكول
كفّى، فقتل محمد لى شاهد
…
أن العزيز مع القضاء ذليل
ومنها:
هيهات لا يأتى الزمان بمثله
…
إنّ الزمان بمثله لبخيل
ما أنت بالمقتول صبرا إنّما
…
أملى غداة نعيّك المقتول
ومنها:
من ذا يحدّث بالبقاء ضميره!
…
هيهات! أنت على الفناء دليل
يا ليت شعرى بالمكارم كلّها
…
ماذا، وقد فقدت نداك، تقول؟
ومنها:
يا يوم قحطبة لقد أبقيت لى
…
حرقا أرى أيّامها ستطول
ليث لو انّ الليث قام مقامه
…
لانصاع [1] وهو يراعة إجفيل
لمّا رأى جمعا قليلا فى الوغى
…
وأولو الحفاظ من القليل قليل
لاقى الكريهة وهو مغمد روعه
…
فيها ولكن بأسه [2] مسلول
ومشى إلى الموت الزّؤام كأنما
…
هو من محبّته إليه خليل
ومنها:
أضحت عراص محمد ومحمد
…
وأخيهما وكأنهنّ طلول
أبنى حميد ليس أوّل ما عفا
…
بعد الأسود من الأسود الغيل
ما زال ذاك الصبر وهو عليكم
…
بالموت فى ظلّ السيوف كفيل
ستبسلون كأنّما مهجاتهم
…
ليست لهم إلا غداة تسيل
[1] انصاع: انفتل راجعا مسرعا.
[2]
كذا فى الديوان. وفى الأصل: «ولكن سيفه» .
ألفوا المنايا فالقتيل لديهم
…
من لم يخلّ [1] العيش وهو قتيل
إن كان ريب الدهر أثكلنيكم
…
فالموت أيضا ميّت مثكول
وقال يعزّى مالك بن طوق:
أمالك إنّ الحزن أحلام حالم
…
ومهما تدم فالحزن ليس بدائم
امالك إفراط الصبابة تارك
…
حنا واعوجاجا فى قناة المكارم
تأمّل رويدا هل تعدّن سالما
…
إلى آدم أم هل تعدّ ابن سالم!
متى ترع هذا الموت عينا بصيرة
…
تجد عادلا منه شبيها بظالم
فإن تك مفجوعا بأبيض لم تكن
…
تشدّ على جدواه عقد التمائم
بفارس دغمىّ وهضبة وائل
…
وكوكب عتّاب وحمزة هاشم
شجا الريح فازدادت حنينا لفقده
…
وأحدث شجوا فى بكاء الحمائم
فمن قبله ما قد أصيب نبيّنا
…
أبو القاسم النور المبين بقاسم
وخبّر قيس بالجليّة فى ابنه
…
فلم يتغيّر وجه قيس بن عاصم
وقال علىّ فى التعازى لأشعث
…
وخاف عليه بعض تلك المآثم:
أتصبر للبلوى عزاء وحسبة
…
فتؤجر، أم تسلو سلوّ البهائم؟
خلقنا رجالا للتجلّد والأسى
…
وتلك الغوانى للبكا والمآتم
وأىّ فتى فى الناس أحرض [2] من فتى
…
غدافى خفارات الدموع السّواجم
وهل من حكيم ضيّع الصبر بعدما
…
رأى الحكماء الصبر ضربة لازم
فلا برحت تسطو ربيعة منكم
…
بأرقم عطّاف وراء الأراقم
[1] فى نسخة من الديوان: «من لا تجلى الحرب وهو قتيل» وفى نسخة أخرى منه: «من لم يخل الحرب
…
» .
[2]
من حرض ككرم: طال همه وسقمه وفسد.
فأنت وصنواك الشقيقان إخوة
…
خلقتم سعوطا للانوف الرواغم
ثلاثة أركان، وما انهدّ سؤدد
…
إذا ثبتت فيه ثلاث دعائم
وقال يرثى عمير بن الوليد:
كفّ الندى أمست بغير بنان
…
وقناته أضحت بغير سنان
جبل الجبال غدت عليه ملمّة
…
تركته وهو مهدّم الأركان
أنعى عمير بن الوليد لغارة
…
بكر من الغارات أو لعوان
أنعى فتى الفتيان غير مكذّب
…
قولى، وأنعى فارس الفرسان
عثر الزمان ونائبات صروفه
…
بمقيلنا عثرات كلّ زمان
لم يترك الحدثان يوم سطابه
…
أحدا نصول به على الحدثان
قد كنت حشو الدرع ثم أراك قد
…
أصبحت حشو اللحد والأكفان
شغلت قلوب الناس ثم عيونهم
…
مذ متّ بالخفقان والهملان
واستعذبوا الأحزان حتى إنّهم
…
يتحاسدون مضاضة الأحزان
ما يرعوى أحد الى أحد ولا
…
يشتاق إنسان الى إنسان
أأصاب منك الموت فرصة ساعة
…
فعدا عليك وأنتما أخوان!
فمن الذى أبقى ليوم تكرّم
…
ومن الذى أبقى ليوم طعان [1] !
وقال يرمى ابنا له:
كان الذى خقت أن يكونا
…
إنّا إلى الله راجعونا
أمسى المرجّى أبو علىّ
…
موسّدا فى الثرى يمينا
حين استوى وانتهى شبابا
…
وحقّق الرأى والظنونا
[1] كذا بالأصل. والذى بالديوان:
فمن الذى يبغى ليوم كريهة
…
ومن الذى يدعى ليوم طعان
أصبت فيه وكان عندى
…
على المصيبات لى معينا
كنت كثيرا به عزيزا
…
وكنت صبّا به ضنينا
دافعت إلا المنون عنه
…
والمرء لا يدفع المنونا
آخر عهدى به صريعا
…
للموت بالداء مستكينا
إذا شكا غصّة وكربا
…
لا حظ أو راجع الأنينا
يدير فى رجعه لسانا
…
يمنعه الموت أن يبينا
يشخص طورا بناظريه
…
وتارة يطبق الجفونا
ثم قضى نحبه وأمسى
…
فى جدث للثرى دفينا
باشر برد الثرى بوجه
…
قد كان من قبله مصونا
بعيد دار قريب جار
…
قد فارق الإلف والقرينا
بنىّ يا واحد البنينا
…
غادرتنى مفردا حزينا
هوّن رزئى بك الرزايا
…
علىّ فى الناس أجمعينا
آليت أنساك ما تجلّى
…
صبح [1] نهار لمصبحينا
وما دعا طائر هديلا
…
ورجّعت واله حنينا
تصرّف الدهر بى صروفا
…
وعاد لى شأنه شؤونا
وحزّ فى اللحم بل براه
…
واجتثّ من طلحتى فنونا
أصاب منّى صميم قلبى
…
وخفت أن يقطع الوتينا
والمرء رهن بحالتيه
…
فشدّة مرّة ولينا
[1] كذا فى الديوان. وفى الأصل: «شمس نهار» .