المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر أخبار إسحاق بن إبراهيم - نهاية الأرب في فنون الأدب - جـ ٥

[النويري، شهاب الدين]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الخامس

- ‌[تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به]

- ‌[القسم الثالث في المدح والهجو والمجون والفكاهات وغيرها]

- ‌[تتمة الباب السادس في الغناء والسماع]

- ‌تابع أخبار المغنين الذين نقلوا الغناء من الفارسية إلى العربية ومن أخذ عنهم ومن اشتهر بالغناء

- ‌ذكر أخبار إسحاق بن إبراهيم

- ‌ذكر أخبار علّويه

- ‌ذكر أخبار معبد اليقطينى

- ‌ذكر أخبار محمد الرف

- ‌ذكر أخبار محمد بن الأشعث

- ‌ذكر أخبار عمرو بن بانة

- ‌ذكر أخبار عبد الله بن العباس الربيعىّ

- ‌ذكر أخبار وجه القرعة

- ‌ذكر أخبار محمد بن الحارث بن بسخنّر [1]

- ‌ذكر أخبار أحمد بن صدقة

- ‌ذكر أخبار أبى حشيشة

- ‌ذكر أخبار القيان

- ‌ذكر أخبار جميلة

- ‌ذكر أخبار عزّة الميلاء

- ‌ذكر أخبار سلّامة القسّ

- ‌ذكر أخبار حبابة

- ‌ذكر أخبار خليدة المكّيّة

- ‌ذكر أخبار متيّم الهشاميّة

- ‌ذكر أخبار ساجى جارية عبيد الله بن عبد الله بن طاهر

- ‌ذكر أخبار دقاق

- ‌ذكر أخبار قلم الصالحيّة

- ‌ذكر أخبار بصبص جارية ابن نفيس

- ‌ذكر أخبار جوارى ابن رامين وهنّ سلّامة الزّرقاء، وربيحة، وسعدة

- ‌ذكر أخبار عنان جارية الناطفىّ

- ‌ذكر أخبار شارية جارية إبراهيم بن المهدىّ

- ‌ذكر أخبار بذل

- ‌ذكر أخبار ذات الخال

- ‌ذكر أخبار دنانير البرمكيّة

- ‌ذكر أخبار عريب [1] المأمونيّة

- ‌ذكر أخبار محبوبة

- ‌ذكر أخبار عبيدة الطّنبوريّة

- ‌الباب السابع من القسم الثالث من الفنّ الثانى فيما يحتاج إليه المغنّى ويضطرّ إلى معرفته، وما قيل فى الغناء، وما وصفت به القيان، ووصف آلات الطّرب

- ‌ذكر ما يحتاج إليه المغنّى ويضطرّ إلى معرفته وما قيل فى الغناء والقيان من جيّد الشعر

- ‌ذكر ما قيل فى وصف آلات الطرب

- ‌القسم الرابع من الفنّ الثانى فى التهانى والبشائر والمراثى والنوادب والزهد والتوكل والأدعية وفيه أربعة أبواب

- ‌الباب الأوّل من هذا القسم فى التهانى والبشائر

- ‌ذكر شىء مما هنّئ به ولاة المناصب

- ‌ذكر نبذة من التهانى العامّة والبشائر التامّة

- ‌وكتب أيضا فى مثل ذلك:

- ‌ومما قيل فى التهانى بالفتوحات، وهزيمة جيوش الأعداء

- ‌الباب الثانى من القسم الرابع من الفن الثانى فى المراثى والنوادب

- ‌ذكر شىء من المراثى والنوادب

- ‌ومما قيل فى شواذّ المراثى:

- ‌الباب الثالث من القسم الرابع من الفن الثانى فى الزهد والتوكل

- ‌ذكر بيان حقيقة الزهد

- ‌ذكر فضيلة الزهد وبغض الدنيا

- ‌ذكر بيان ذمّ الدنيا وشىء من المواعظ والرقائق الداخلة فى هذا الباب

- ‌ذكر بيان الزهد وأقسامه وأحكامه

- ‌ذكر بيان تفصيل الزهد فيما هو من ضروريات الحياة

- ‌ذكر بيان علامات الزهد

- ‌ذكر ما ورد فى التوكل من فضيلته وحقيقته

- ‌ذكر بيان أعمال المتوكلين

- ‌الباب الرابع من القسم الرابع من الفن الثانى فى الأدعية

- ‌ذكر الأوقات التى ترجى فيها إجابة الدعاء

- ‌ذكر دعوات ساعات الأيام السبعة ولياليها

- ‌ذكر ما يدعى به فى المساء والصباح، والغدوّ والرواح، والصلاة والصوم، والجماع والنوم؛ والورد والصدر، والسفر والحضر؛ وغير ذلك

- ‌ ذكر ما ورد فى أسماء الله الحسنى والاسم الأعظم

- ‌النمط الأوّل

- ‌النمط الثانى

- ‌النمط الثالث

- ‌النمط الرابع

- ‌النمط الخامس

- ‌النمط السادس

- ‌النمط السابع

- ‌النمط الثامن

- ‌النمط التاسع

- ‌النمط العاشر

- ‌صورة ما ورد بآخر الجزء الخامس فى أحد الأصلين الفتوغرافيين:

- ‌صورة ما ورد بآخر الجزء الخامس فى الأصل الثانى الفتوغرافى:

الفصل: ‌ذكر أخبار إسحاق بن إبراهيم

‌الجزء الخامس

[تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به]

[القسم الثالث في المدح والهجو والمجون والفكاهات وغيرها]

[تتمة الباب السادس في الغناء والسماع]

‌تابع أخبار المغنين الذين نقلوا الغناء من الفارسية إلى العربية ومن أخذ عنهم ومن اشتهر بالغناء

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه توفيقى

‌ذكر أخبار إسحاق بن إبراهيم

هو أبو محمد إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ، وقد تقدّم نسبه فى أخبار أبيه. وكان الرشيد يولّع به فيكنيه أبا صفوان. قال أبو الفرج الأصفهانى فى ترجمة إسحاق:

وموضعه من العلم، ومكانه من الأدب، ومحلّه من الرواية، وتقدّمه فى الشعر، ومنزلته فى سائر المحاسن [1] أشهر من أن يدلّ عليها بوصف. قال: فأما الغناء فكان أصغر علومه وأدنى ما يوسم به وإن كان الغالب عليه وعلى ما كان يحسنه، فإنه كان له فى سائر أدواته نظراء وأكفاء ولم يكن له فى هذا نظير. لحق بمن مضى فيه وسبق من قد بقى، وسهّل طريق الغناء وأنارها، فهو إمام أهل صناعته جميعا وقدوتهم ورأسهم ومعلّمهم؛ يعرف ذلك منه الخاصّ والعامّ، ويشهد له به الموافق والمفارق. على أنه كان أكره الناس للغناء وأشدّهم بغضا له لئلا يدعّى اليه ويسمّى به. وكان المأمون يقول: لولا ما سبق على ألسنة الناس وشهر [2] به عندهم من الغناء لوليّته القضاء بحضرتى، فإنه أولى به وأعفّ وأصدق وأكثر دينا وأمانة من هؤلاء القضاة. وقد روى الحديث ولقى أهله مثل مالك بن أنس وسفيان بن عيينة [وهشيم بن بشير [3]] وإبراهيم بن سعد وأبى معاوية الضرير وروح

[1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «المجالس» .

[2]

كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «لولا ما سبق إسحاق على ألسنة الناس وشهرته

الخ» .

[3]

زيادة عن الأغانى.

ص: 1

ابن عبادة وغيرهم من شيوخ العراق والحجاز. وكان مع كراهته للغناء أضنّ خلق الله به وأشدّهم بخلا على كل أحد حتى على جواريه وغلمانه ومن يأخذ عنه منتسبا إليه ومتعصّبا له فضلا عن غيرهم. قال: وهو صحّح أجناس الغناء وطرائقه وميّزها تمييزا لم يقدر عليه أحد قبله.

وقال محمد بن عمران الجرجانى: كان والله إسحاق غرّة فى زمانه، وواحدا فى عصره علما وفهما وأدبا ووقارا وجودة رأى وصحّة مودّة. وكان والله يخرس الناطق إذا نطق، ويحيّر السامع إذا تحدّث، لا يملّ جليسه مجلسه، ولا تمجّ الآذان حديثه، ولا تنبو النفس عن مطاولته. إن حدّثك ألهاك، وإن ناظرك أفادك، وإن غنّاك أطربك. وما كانت خصلة من الأدب، ولا جنس من العلم يتكلم فيه إسحاق فيقدم أحد على مساجلته أو مناوأته فيه.

حكى أبو الفرج عن إسحاق قال: دعانى المأمون وعنده إبراهيم بن المهدىّ وفى مجلسه عشرون جارية قد أجلس عشرا عن يمينه وعشرا عن شماله. فلما دخلت سمعت من الناحية اليسرى خطأ فأنكرته. فقال المأمون: أسمعت خطأ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. فقال لإبراهيم بن المهدىّ: هل تسمع خطأ؟ قال لا. قال:

فأعاد علىّ السؤال، فقلت: بلى والله يا أمير المؤمنين، وإنه لفى الجانب الأيسر.

فأعاد إبراهيم سمعه إلى الناحية اليسرى ثم قال: لا والله يا أمير المؤمنين ما فى هذه الناحية خطأ. فقلت: يا أمير المؤمنين، مر الجوارى اللاتى على اليمين يمسكن، فأمرهنّ فأمسكن، ثم قلت لإبراهيم: هل تسمع خطأ؟ فتسمّع ثم قال: ما هاهنا خطأ. فقلت: يا أمير المؤمنين، يمسكن وتضرب الثانية [1] ، فأمسكن وضربت الثانية [2]، فعرف إبراهيم الخطأ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، هاهنا خطأ. فقال المأمون عند ذلك

[1] فى الأغانى: «الثامنة» .

[2]

فى الأغانى: «الثامنة» .

ص: 2

لإبراهيم بن المهدىّ: لا تمار إسحاق بعدها، فإن رجلا عرف الخطأ بين ثمانين وترا وعشرين حلقا لجدير ألّا تماريه؛ قال: صدقت.

وقال ابن حمدون: سمعت الواثق يقول: ما غنّانى إسحاق قطّ إلا ظننت أنه قد زيد فى ملكى، ولا سمعته قط يغنّى غناء ابن سريح إلا ظننت أنّ ابن سريح قد نشر، وإنى ليحضرنى غيره إذا لم يكن حاضرا، فيتقدّمه عندى بطيب الصوت، حتى إذا اجتمعا عندى رأيت إسحاق يعلو ورأيت من ظننت أنه يتقدّمه ينقص.

وإن إسحاق لنعمة من نعم الملوك التى لم يحظ أحد بمثلها. ولو أن العمر والشباب والنشاط مما يشترى لاشتريتهنّ له بشطر ملكى.

وحكى عن أحمد بن المكّى عن أبيه قال: كان المغنّون يجتمعون مع إسحاق وكلهم أحسن صوتا منه ولم يكن فيه عيب إلا صوته فيطمعون فيه، ولا يزال بلطفه وحذقه ومعرفته حتى يغلبهم جميعا ويفضلهم ويتقدّم عليهم. قال: وهو أوّل من أحدث المجتثّ ليوافق صوته ويشاكله فجاء معه عجبا من العجب، وكان فى حلقه نبوّ عن الوتر.

وحكى قال: سأل إسحاق الموصلىّ المأمون أن يكون دخوله مع أهل العلم والأدب والرّواة لا مع المغنّين، فإذا أراد الغناء غنّاه، فأجابه إلى ذلك. ثم سأله بعد مدّة طويلة أن يأذن له فى الدخول مع الفقهاء فأذن له؛ قال: فكان يدخل ويده فى يد قاضى القضاة يحيى بن أكثم. ثم سأل إسحاق المأمون فى لبس السواد يوم الجمعة والصلاة معه فى المقصورة؛ قال: فضحك المأمون وقال: ولا كلّ هذا يا إسحاق! وقد اشتريت منك هذه المسئلة بمائة ألف دينار [1] وأمر له بها.

[1] فى الأغانى: «درهم» .

ص: 3

وكان لإسحاق مع إبراهيم بن المهدىّ مخاطبات ومنازعات ومحاورات بسبب الغناء، وكان الرشيد ينصر إسحاق على إبراهيم أخيه. من ذلك ما حكاه إسحاق قال:

كنت عند الرشيد يوما، وعنده ندماؤه وخاصّته وفيهم إبراهيم بن المهدىّ؛ فقال لى الرشيد: غنّ:

شربت مدامة وسقيت أخرى

وراح المنتشون وما انتشيت

فغنيته. فأقبل علىّ إبراهيم بن المهدىّ فقال لى: ما أصبت يا إسحاق ولا أحسنت. فقلت له: ليس هذا مما تعرفه ولا تحسنه، وإن شئت فغنّه فإن لم أجدك أنك تخطئ فيه منذ ابتدائك إلى انتهائك فدمى حلال. ثم أقبلت على الرشيد فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه صناعتى وصناعة أبى، وهى التى قرّبتنا منك واستخدمتنا لك فأوطاتنا بساطك، فإذا نازعنا أحد بغير علم لم نجد بدّا من الإفصاح والذبّ؛ فقال: لا غرو ولا لوم عليك. وقام الرشيد ليبول؛ فأقبل إبراهيم بن المهدىّ علىّ وقال: ويحك يا إسحاق! أتجترئ علىّ وتقول لى ما قلت يا ابن الفاعلة! لا يكنى.

فداخلنى ما لم أملك نفسى معه، فقلت له: أنت تشتمنى ولا أقدر على إجابتك وأنت ابن الخليفة وأخو الخليفة، ولولا ذلك لقلت لك: يا ابن الزانية كما قلت لى يا ابن الزانية. أو ترانى كنت لا أحسن أن أقول: يا ابن الزانية! ولكن قولى فى ذمّك ينصرف كله إلى خالك الأعلم [1]، ولو لاك لذكرت صناعته ومذهبه- قال إسحاق:

وكان بيطارا- قال: ثم سكتّ، وعلمت أن إبراهيم سوف يشكونى إلى الرشيد، وسوف يسأل من حضر عما جرى فيخبرونه، فتلافيت ذلك بأن قلت: إنك تظن أن الخلافة [2] تصير اليك، فلا تزال تتهدّدنى بذلك وتعادينى كما تعادى سائر أولياء أخيك حسدا

[1] الأعلم: الذى بشفته العليا أو فى جانبيها شق.

[2]

كذا فى الأغانى. وفى الأصل:

«أن الخلافة لك

»

ص: 4

له ولولده على الأمر! وأنت تضعف عنه وعنهم، وتستخفّ بأوليائهم شفّيا، وأرجو ألا يخرجها الله من الرشيد وولده، وأن يقتلك دونها. فإن صارت إليك- والعياذ بالله تعالى من ذلك- فحرام علىّ حينئذ العيش! والموت أطيب من الحياة معك، فاصنع حينئذ ما بدالك! قال: فلما خرج الرشيد وثب إبراهيم فجلس بين يديه وقال:

يا أمير المؤمنين، شتمنى إسحاق وذكر أمّى واستخفّ بى. فغضب وقال لى: ويلك! ما تقول؟ قلت: لا أعلم، فسل من حضر. فأقبل على مسرور وحسين فسألهما عن القصة فجعلا يخبرانه ووجهه يربدّ الى أن انتهيا إلى ذكر الخلافة فسّرى عنه ورجع لونه، وقال لإبراهيم: لا ذنب له، شتمته فعرّفك أنه لا يقدر على جوابك، ارجع إلى موضعك وأمسك عن هذا. فلما انفضّ المجلس وانصرف الناس أمر الرشيد بألّا أبرح. وخرج كل من حضر حتى لم يبق غيرى، فساء ظنّى وهمّتنى نفسى. فأقبل علىّ وقال:

يا إسحاق، أترانى لم أفهم قولك ومرادك! قد والله زنّيته ثلاث مرات! أترانى لا أعرف وقائعك وأقدامك وأين ذهبت! ويلك لا تعد! حدّثنى عنك لو ضربك إبراهيم أكنت أقتصّ لك منه فأضربه وهو أخى يا جاهل! أتراه لو أمر غلمانه فقتلوك أكنت أقتله بك! فقلت: والله يا أمير المؤمنين، قد قتلنى هذا الكلام، وإن بلغه ليقتلنّى، وما أشك أنه قد بلغه الآن. فصاح بمسرور وقال له: علىّ بإبراهيم فأحضر، وقال لى: قم فانصرف. فقلت لجماعة من الحدم- وكلهم كان لى محبّا وإلىّ مائلا ولى مطيعا-: أخبرونى بما يجرى؛ فأخبرونى من غد أنه لمّا دخل عليه وبّخه وجهّله وقال له: أتستحفّ بخادمى وصنيعتى وابن خادمى وصنيعتى وصنيعة أبى فى مجلسى! وتقدم علىّ وتستخفّ بمجلسى وحضرتى! هاه هاه هاه! وتقدم على هذا وأمثاله! وأنت مالك وللغناء! وما يدريك ما هو! ومن أخذك به وطارحك إياه حتى تتوهّم أنك تبلغ منه مبلغ إسحاق الذى غذّى به وعلّمه وهو من صناعته! ثم تظن أنك

ص: 5

تخطّئه فيما لا تدريه، ويدعوك الى إقامة الحجة عليه [1] فلا تثبت لذلك وتعتصم بشتمه! هذا مما يدلّ على السقوط وضعف العقل وسوء الأدب من دخولك فيما لا يشبهك، وغلبة لذّتك على مروءتك [2] وشرفك، ثم إظهارك إياه ولم تحكمه، وادّعائك ما لا تعلمه حتى ينسبك إلى إفراط الجهل. ألا تعلم، ويحك، أن هذا سوء أدب وقلّة معرفة وقلة مبالاة بالخطأ والتكذيب والردّ القبيح! ثم قال: والله العظيم وحق رسوله وإلا فأنا برىء من المهدىّ إن أصابه أحد بسوء أو سقط عليه حجر من السماء أو سقط من دابّته أو سقط عليه سقفه أو مات فجأة لأقتلنك به. والله! والله! والله! فلا تعرض له وأنت أعلم [3] ! قم الآن فاخرج؛ فخرج وقد كاد يموت. فلما كان بعد ذلك دخلت على الرشيد وإبراهيم عنده [فأعرضت عن إبراهيم [4]] فجعل ينظر إلىّ مرة وإليه مرة ويضحك؛ ثم قال: إنى لأعلم محبّتك لإسحاق وميلك إليه وإلى الأخذ عنه، وإن هذا لا يجيئك من جهته كما تريد إلا بعد أن يرضى، والرضا لا يكون بمكروه، ولكن أحسن إليه وأكرمه واعرف حقّه وبرّه وصله، فإذا فعلت ذلك ثم خالف ما تهواه عاقبته بيد مستطيلة منبسطة ولسان منطلق. ثم قال لى: قم إلى مولاك وابن مولاك فقبّل رأسه؛ فقمت إليه وقام إلىّ وأصلح الرشيد بيننا.

قال أبو الفرج: وكان إسحاق جيّد الشعر، كان يقول الشعر وينسبه للعرب.

فمن ذلك قوله:

لفظ الخدور إليك حورا عينا

أنسين ما جمع الكناس قطينا

فإذا بسمن فعن كمثل غمامة

أو أقحوان الرمل بات معينا

وأصحّ ما رأت العيون محاجرا [5]

ولهنّ أمراض ما رأيت عيونا

[1] فى الأغانى: عليك.

[2]

كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «من دخولك فيما لا يشبهك ثم إظهارك إياه وغلبت لذتك الخ» .

[3]

كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «وأنت أعلم ولا تعرض له» .

[4]

زيادة عن الأغانى.

[5]

كذا بالأغانى، وفى الأصل:«جوارحا» .

ص: 6

فكأنما تلك الوجوه أهلّة

أقمرن بين العشر والعشرينا

وكأنهنّ إذا نهضن لحاجة

ينهضن بالعقدات من يبرينا

وأشعاره فى هذا النوع كثيرة.

روى عن الأصمعىّ قال: دخلت أنا وإسحاق بن إبراهيم الموصلىّ يوما على الرشيد فرأيناه لقس [1] النفس؛ فأنشده إسحاق:

وآمرة بالبخل قلت لها اقصرى

فذلك شىء ما إليه سبيل

أرى الناس خلّان الكرام ولا أرى

بخيلا له حتى الممات خليل

وإنى رأيت البخل يزرى بأهله

فأكرمت نفسى أن يقال بخيل

ومن خير حالات التى لو علمته

إذا نال خيرا أن يكون ينيل [2]

فعالى فعال المكثرين تجمّلا

ومالى كما قد تعلمين قليل

وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى

ورأى أمير المؤمنين جميل!

قال: فقال الرشيد: لا تخف [3] إن شاء الله؛ ثم قال: لله درّ أبيات تأتينا بها ما أشدّ أصولها، وأحسن فصولها، وأقلّ فضولها! وأمر له بخمسين ألف درهم. فقال له إسحاق: وصفك والله يا أمير المؤمنين لشعرى أحسن منه، فعلام آخذ الجائزة! فضحك الرشيد وقال: اجعلوها مائة ألف درهم. قال الأصمعىّ: فعلمت يومئذ أن إسحاق أحذق بصيد الدراهم منّى.

قال أبو عبد الله بن حمدون: سأل المتوكل عن إسحاق، فعرّف أنه كفّ وأنه بمنزله ببغداد، فكتب فى إحضاره. فلما دخل عليه رفعه حتى أجلسه قدّام السرير وأعطاه

[1] لقست نفسه (من باب فرح) : غئت وخبثت.

[2]

كذا فى الأغانى وكتب الأدب.

وفى الأصل:

ومن خير خلات الفتى قد علمته

إذا قال خيرا أن يقال نبيل

[3]

كذا فى الأغانى: وفى الأصل: «لا كيف ان شاء الله» .

ص: 7

مخدّة وقال: بلغنى أن المعتصم دفع إليك فى أوّل يوم جلست بين يديه مخدّة، وقال: إنه لا يستجلب ما عند حرّ مثل إكرامه. ثم سأله: هل أكل؟ فقال نعم؛ فأمر أن يسقى. فلما شرب أقداحا قال: هاتوا لأبى محمد عودا؛ فجىء به فاندفع يغنّى بشعره:

ما علّة الشيخ عيناه بأربعة

تغرورقان بدمع ثم ينسكب

قال ابن حمدون: فما بقى غلام من الغلمان الوقوف [على الحير [1]] إلا وجدته يرقص طربا وهو لا يعلم بما يفعل؛ فأمر له بمائة ألف دينار [2] . ثم انحدر المتوكل الى الرّقة وكان يستطيبها لكثرة تغريد الطير فيها؛ فغنّاه إسحاق:

أأن هتفت ورقاء فى رونق الضّحى

على فنن غضّ النبات من الرّند

بكيت كما يبكى الوليد ولم تزل

جليدا وأبديت الذى لم تكن تبدى

فضحك المتوكل ثم قال: يا إسحاق، هذه أخت فعلتك بالواثق لمّا غنّيته بالصالحيّة:

طربت إلى أصيبية صغار

وذكّرنى الهوى قرب المزار

فكم أعطاك لمّا أذن لك فى الانصراف؟ قال: مائة ألف دينار [2] ؛ فأمر له بمائة ألف دينار [2] وأذن له بالانصراف [3] . وكان آخر عهده بإسحاق. توفى بعد ذلك بشهرين. وكانت وفاته فى شهر رمضان سنة خمس وثلاثين ومائتين. وكان يسأل الله تعالى ألا يبتليه بالقولنج [4] لما رأى من صعوبته على أبيه، فرأى فى منامه كأنّ قائلا يقول له: قد أجيبت دعوتك ولست تموت بالقولنج ولكنّك

[1] زيادة عن الأغانى. والجير: اسم قصر بسرّ من رأى بناه المتوكل وأنفقى على عمارته وأربعة آلاف ألف درهم.

[2]

فى الأغانى: «درهم» .

[3]

عبارة الأغانى: «وأذن له بالانصراف الى بغداد. وكان هذا آخر عهدنا به لأن إسحاق الخ»

[4]

مرض يصيب المعدة يعسر معه خروج الثفل والريح.

ص: 8