الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكتب الصّاحب بن عبّاد تهنئة بزواج أمّ وتعزية بموت أب، فقال:
الأيّام- أطال الله بقاءك- تجرى على أنحاء مختلفة، وشعب متفرّقة؛ وأحكامها تتفاوت بيننا بما يسوء ويسرّ، وينفع ويضرّ. وبلغنى من نفوذ قضاء الله فى شيخك- رحمه الله ما أزعجنى، وأبهم طرق السلوة دونى، وإن كان من خلّفك غير خارج عن مزيّة الأحياء، ولا حاصل فى زمرة الأموات. والله يأسو كلمك، ويسدّ ثلمك. وقد فعل ذلك بأن أتاح الله لك بعد أبيك أبا لا يقصر عنه شفقة عليك وحنوّا، وإيثارا لك وبرّا. وقد لعمرى وفّقت حين وصلت بحبلك حبله، وأسكنت الكبيرة- حرسها الله تعالى- ظلّه؛ لئلا تفقد من الماضى- عفا الله عنه- إلّا شخصه. فالحمد لله الذى أرشدك لما يعيد الشّمل مجتمعا بعد فراقه، والعدد موفورا بعد انتقاصه؛ حمدا يقضى لك بالمسرّة، ويحسم دونك مراد الوحشة، ويلقّيك ثواب ما قضيته من الحق، وتحمّلته فيه من الأوق [1] ؛ إنه فعّال لما يريد.
فهذه نبذة كافية فى التهانى الخاصة؛ فلنذكر العامّة.
ذكر نبذة من التهانى العامّة والبشائر التامّة
ولنبدأ من ذلك بما قيل فى البشارة بوفاء النيل، لما فيه من عموم المنافع الشاملة، وشمول النّعم الكاملة، والخصب الذى يتساوى فى الانتفاع به الغنىّ والفقير، والمأمور والأمير.
فمن ذلك ما كتب به المولى الفاضل، الصدر الكبير الكامل، ذو المناقب والمآثر، والفضائل وللفاخر، شهاب الدين محمود الحلبىّ:
[1] الأوق: الثقل.
وسرّه بنبأ النيل الذى عمّ نيلا، وجرّ على وجه الأرض ملاءة ملأته، فشمّر المحل للرّحلة ذيلا، وجرّد على الجدب سيف خصبه فسال محمرّ دمه على وجه الصّعيد سيلا، وجرى وسرى فى ضياء إشراقه وظلمة تراكمه إلى الأرض التى بارك به حولها، فجلّ من أجراه نهارا وسبحان من أسرى به ليلا. صدرت هذه المكاتبة إليه- أعزّه الله تعالى- ونعم الله قد عمّت، وآلاؤه مع تحقّق المزيد قد تمّت، وموادّ فضله قد أمّت الأقطار فقامت صلاة الصّلات إذ أمّت؛ وكلمة الخصب قد نمت فى الآفاق، فوشت بمكنون حديثها للأرض ونمّت؛ والخصب قد أقبل على الجدب فلم يكن له بمقاومته قبل، وطوفان الرّحمة قد طبق الوهاد، فلم يغن المحل أن قال: سآوى منه إلى جبل. والسيل قد بلغ فى تتبّع بقايا القحط الزّبى، والنّيل قد عمّ بنيله الأرض حتى كلّل مفارق الآكام وعمّم رءوس الرّبا؛ وحمى الأرض من تطرّق المحول إليها فأصبحت منه فى حرم، وظهرت به عجائب القدرة، ومنها أنّ ابن الستة عشر بلغ إلى الهرم، وبثّ جوده فى الوجود فلو صوّر نفسه لم يزدها على ما فيه من كرم؛ وتلقّت منه النفوس أبهج محبوب طرد ممقوتا، ووثقت من حمرته بالغنى والمنى إذ لم تدر أياقوتا تشاهد منه أم قوتا. وجرى فى الوفاء على أكمل ما ألف من عادته، وظهر بإشراقه وعموم نفعه ظهور الشّمس فألقى على الأرض أشعّة سعادته؛ وأقبلت به على الخلق بوادر الإقبال، وركب الناس منه فى سفن النجاح والنجاة فهى تجرى بهم فى موج كالجبال. وبلّغ الله به المنافع فزعزع الشّمّ ولم يتجاسر على الجسور، وأمن الناس به طروق المحل المطرود به عنهم فضرب بينهم بسور، وأقطع الخصب الأرض كلها فله فى كل بقعة مثال مرئىّ ومنشور منشور، وبعث إلى كل عمل من سرايا جوده عارضا مغضبا على المحل ما يخطر إلّا وسيفه مشهور؛ وأودع بطن الثّرى موادّ ثرائه، واستقبل الورى بوجه ما تأمّله امرؤ
صادى الجوانح إلا ارتوى من مائه، وأظهر الله به مثال ما سلف من كرامة أصفيائه؛ إذ جعل تحت كل نخلة من سراه سريّا، وجلا به عن الأمّة ظلم الغمّة إذ أطلع منه فى أوّل مطالعه المرتقبة محيّا بدريّا. وذلك أنه لما كان فى اليوم الفلانىّ وفى النّيل المبارك ستة عشر ذراعا، ومدّ بحسن صنع الله إلى مصالح البلاد يدا صناعا؛ وركبنا إلى المقياس الذى تعلم به مواقع الرحمة فى كلّ يوم، وتهدى منه واردات السرور إلى كلّ قوم؛ ووقفنا به لابسين من رحمة الله تعالى أحسن لباس، آنسين من أنوار رحمة الله التى أزالت اليأس وأذهبت الباس، ناظرين إلى أثر رحمة الله التى أحيت الأرض بعد موتها، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس. وجرى الأمر فى التخليق على أجمل عادات البدور، وعلّقت ستارة المقياس لا للإخفاء على عادة الأستار، بل للإشاعة والظهور؛ واستقرّ حكم المسرّة على السّنن المعهود، وعاد للناس عيد سرورهم إذ ذاك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود. وركب مولانا السلطان إلى سدّ الخليج والماء قد استطال عليه، وسرت سرايا أمواجه إليه، وصدمه بقوّة فاندفع منكسرا بين يديه؛ فانجبرت القلوب بكسره، واستوفت الأنفس السّرور بأسره، وأيقن كل ذى عسر بحصول يسره؛ وساق الله به الماء إلى الأرض الجرز فأحياها وحيّاها، ورقّ لوجهها المغبرّ فستر بردائه المحمرّ صفحة محيّاها. كل ذلك وهو- بحمد الله تعالى- آخذ فى الازدياد، جار على وفق المراد إلى حدّه المعتاد، سالك ببلاغه سبيل أهل البلاغة إذ يهيمون فى كلّ واد. وها هو الآن يرتفع إلى كلّ ربوة على جناح النّجاح، ويخيف السّبل وما عليه حرج ويقطع الطّرق وليس عليه جناح.
فليأخذ مولانا حظّه من هذه البشرى التى عمّ بشرها، ووجب على كل مؤمن شكرها؛ ويتحقق أنّ هذه بوادر خير تسرى إليه على ركائب السّحائب، وطلائع خصب هى لديه أقرب غائب وأسرع آئب. والله تعالى يعزّ أنصاره، ويوالى مبارّه، بمحمد وآله.