الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فعجب المتوكل، وأحسّت بمكانه فأمرت بخدمها فخرجوا وتنحيّنا، وخرجت إليه فحدّثته أنها رأته فى منامها فانتبهت وقالت هذه الأبيات وغنّت فيها؛ فحدّثها هو أيضا رؤياه واصطلحا. فلما قتل المتوكل سلاه جميع جواريه غيرها؛ فإنها لم تزل حزينة هاجرة لكل لذّة حتى ماتت. ولها فيه مراث.
حكى أبو الفرج: أنّ وصيفا بعد قتل المتوكل أحضرها يوما وأحضر الجوارى، فجئن وعليهن الثياب الملوّنة المذهبة والحلىّ وقد تزيّنّ وتعطّرن، وجاءت محبوبة وعليها ثياب بيض غير فاخرة حزنا على المتوكل. فغنّى الجوارى جميعا وشربن، وطرب وصيف وشرب. ثم قال: يا محبوبة، غنّى؛ فأخذت العود وغنّت وهى تبكى:
أىّ عيش يطيب لى
…
لا أرى فيه جعفرا
ملكا قد رأته عي
…
نى قتيلا معفّرا
كلّ من كان ذا هيا
…
م وحزن فقد برا
غير محبوبة التى
…
لو ترى الموت يشترى
لاشترته بملكها
…
كلّ هذا لتقبرا
إنّ موت الكثيب أص
…
لح من أن يعمّرا
فاشتدّ ذلك على وصيف وأمر بقتلها؛ فاستوهبها بغا منه فوهبها له. فأعتقها وأمر بإخراجها وأن تكون حيث تختار من البلاد. فخرجت إلى بغداد من سرّ من رأى، وأخملت ذكرها طول عمرها؛ وما طمع فيها أحد. رحمها الله تعالى.
ذكر أخبار عبيدة الطّنبوريّة
قال أبو الفرج الأصفهانى: كانت عبيدة الطّنبوريّة من المحسنات المتقدّمات فى الصّنعة والأدب، شهد لها بذلك إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ؛ قال: وحسبها
بشهادته. قال: وكان أبو حشيشة يعظّمها ويعترف لها بالرياسة والأستاذيّة.
وكانت من أحسن الناس وجها وأطيبهم صوتا، وكانت لا تخلو من عشق. قال:
ولم يعرف فى الدنيا امرأة أعظم صنعة منها فى الطّنبور. وكانت لها صنعة عجيبة.
فمنها فى الرمل:
كن لى شفيعا إليكا
…
إن خفّ ذاك عليكا
وأعفنى من سؤالى
…
سواك ما فى يديكا
يا من أعزّ وأهوى
…
مالى أهون لديكا
قال: وحضرت يوما عند علىّ بن الهيثم اليزيدىّ وعنده عمرو بن مسعدة وهارون بن أحمد بن هشام؛ فجاءه إسحاق بن إبراهيم الموصلى فأخبره خبرهم. فقال له إسحاق: إنى كنت أشتهى أن أسمع عبيدة، ولكنها إن عرفتنى وسألتمونى أن أغنّى بحضرتها انقطعت ولم تصنع شيئا، فدعوها على جبلّتها [1] ؛ فوافقوه على ذلك، ودخل وكتموها أمره، وكانت لا تعرف إسحاق. وقدّم النبيذ، فغنّت لحنا لها:
قريب غير مقترب
…
ومؤتلف كمجتنب
له ودّى ولى منه
…
دواعى الهمّ والكرب
أواصله على سبب
…
ويهجرنى بلا سبب
ويظلمنى على ثقة
…
بأنّ إليه منقلبى
قال: فطرب إسحاق وشرب نصفا، ثم تغنّت وشرب، حتى والى بين عشرة أنصاف؛ قال علىّ بن الهيثم: وشربنا معه. وقام إسحاق ليصلّى؛ فقال لها هارون: ويحك يا عبيدة! ما تبالين والله متى متّ! قالت: ولم؟ قال: أتدرين من المستحسن غناءك والشارب عليه ما شرب؟ قالت: لا والله. قال: إسحاق بن إبراهيم، فلا
[1] كذا فى الأغانى. وفى الأصل: «فدعوها على حملتها» .
تعرّفيه أنك قد عرفتيه. فلما جاء إسحاق ابتدأت تغنّى فلحقتها هيبة له واختلاط، فنقصت نقصانا بيّنا. قال: أعرّفتموها من أنا؟ فقلت: نعم، عرّفها هارون. فقال إسحاق: نقوم إذا فننصرف؛ فإنه لا خير فى عشرتكم الليلة ولا فائدة لى ولا لكم؛ وقام فانصرف.
وقال ملاحظ غلام أبى العبّاس: اجتمع الطّنبوريّون عند أبى العباس بن الرشيد يوما وفيهم المسدود وعبيدة. فقالوا للمسدود: غنّ؛ فقال: لا والله، لا تقدّمت على عبيدة وهى الأستاذ، فما غنّى حتى غنّت. وقال محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعىّ: سمعت إسحاق يقول: الطنبور إذا تجاوز عبيدة هذيان.
هذا ما أمكن إيراده فى هذا الباب من أخبار من اشتهر بالغناء، وأخبار القيان، وهو مختصر مما أورده أبو الفرج الأصفهانى- رحمه الله تعالى- فى كتابه المترجم بالأغانى من أخبارهم. ولم نلتزم استيعابهم بل ذكرنا أكثرهم وأشهرهم بالغناء، وذكرنا من أخبارهم ما فيه كفاية. فلنذكر خلاف ذلك.