الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى الشّمّاسيّة فيتنزّه، فركبت يوما فى زلالى [1] وجئت أتبعه، فرأيت حرّاقة علىّ بن هشام، فقلت للملّاح: اطرح زلالى على الحرّاقة ففعل، واستؤذن لى فدخلت وهو يشرب مع الجوارى، وما كانوا يحجبون جواريهم، فغنيّته الصوت فاستحسنه جدّا وطرب عليه، وقال: لمن هذا؟ فقلت: هذا صوت صنعته وأهديته لك ولم يسمعه أحد قبلك؛ فأزداد به عجبا وطربا، وقال للجارية: خذيه عنه، فألقيته عليها حتى أخذته، فسرّ بذلك وطرب، وقال لى: ما أجد لك مكافأة على هذه الهديّة إلا أن أتحوّل عن هذه الحرّاقة بما فيها وأسلمه إليك؛ فتحوّل إلى أخرى وسلّمت لى بخزانتها وجميع آلاتها وكل شىء فيها؛ فبعت ذلك بمائة ألف وخمسين ألف درهم، واشتريت ضيعتى الصالحيّة.
وقال علّويه: خرج المأمون يوما ومعه أبيات قد قالها وكتبها فى رقعة بخطّه وهى:
خرجت إلى صيد الظّباء فصادنى
…
هناك غزال أدعج العين أحور
غزال كأنّ البدر حلّ جبينه
…
وفى خدّه الشّعرى المنيرة تزهر
فصاد مؤادى إذ رمانى بسهمه
…
وسهم غزال الإنس طرف ومحجر
فيا من رأى ظبيا يصيد، ومن رأى
…
أخا قنص يصطاد قهرا ويقسر
قال: فغنّيته فأمر لى بعشرين [2] ألف درهم.
ذكر أخبار معبد اليقطينى
قال أبو الفرج: كان معبد هذا غلاما مولّدا من مولّدى المدينة، أخذ الغناء عن جماعة من أهلها، واشتراه بعض ولد علىّ بن يقطين. وأخذ الغناء بالعراق عن إسحاق وابن جامع وطبقتهما، وخدم الرشيد ولم يخدم غيره من الخلفاء، ومات فى أيامه.
[1] زلال (على وزن غراب مضاف الى ياء المتكلم) : ضرب من سفن دجلة كالحراقة والطيار.
[2]
فى الأغانى: «عشرة آلاف» .
وكان أكثر انقطاعه إلى البرامكة. وروى أبو الفرج الأصفهانىّ حكاية عنه أحببت أن أذكرها فى هذا الموضع، وهى ما رواه بسنده إلى محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعىّ، قال حدّثنى معبد الصغير المغنّى مولى على بن يقطين قال: كنت منقطعا إلى البرامكة أحدّثهم وألازمهم. فبينا أنا ذات يوم فى منزلى إذا أتانى آت فدقّ بابى، فخرج غلامى ثم رجع إلىّ فقال لى: على الباب فتى ظاهر المروءة يستأذن عليك؛ فأذنت له، فدخل شابّ ما رأيت أحسن وجها منه ولا أنظف ثوبا ولا أجمل زيّا منه من رجل دنف عليه آثار السّقم [ظاهرة] [1] . فقال لى: إنى أحلول لقاءك منذ مدّة ولا أجد إلى ذلك سبيلا، وإن لى حاجة. فقلت: وما هى؟ فأخرج ثلاثمائة دينار فوضعها بين يدىّ فقال: أسألك أن تقبلها وتصنع فى بيتين قلتهما لحنا تغنّينى به. فقلت: هاتهما؛ فأنشدنى:
والله يا طرفى الجانى على بدنى
…
لتطفئنّ بدمعى لوعة الحزن
أو لأبوحنّ [2] حتى يحجبوا سكنى
…
فلا أراه وقد أدرجت فى كفنى
قال: فصنعت فيه لحنا ثم غنيّته إياه، وأغمى عليه حتى ظننته قدمات، ثم أفاق فقال: أعد، فديتك! فنا شدته الله فى نفسه وقلت: أخشى أن تموت؛ فقال:
هيهات! أنا أشقى من ذلك. وما زال يخضع لى ويتضرّع حتى أعدته، فصعق صعقة أشدّ من الأولى حتى ظننت أن نفسه قد فاضت. فلما أفاق رددت عليه الدنانير فوضعتها بين يديه، وقلت: يا هذا، خذ دنانيرك وانصرف عنى، قد قضيت حاجتك وبلغت وطرا مما أردته، ولست أحبّ أن أشرك فى دمك. فقال:[يا][1] هذا، لا حاجة لى فى الدنانير، وهذه مثلها لك، ثم أخرج ثلاثمائة دينار فوضعها بين يدىّ وقال: أعد الصوت علىّ مرة أخرى وحلّ لك دمى! فشرهت نفسى فى الدنانير،
وقلت: لا والله ولا بعشرة أضعافها إلا على ثلاث شرائط. قال: وما هى؟ قلت:
أولاهن أن تقيم عندى وتتحرّم بطعامى. والثانية أن تشرب أقداحا من النهيذ تطبّب [1] قلبك وتسكّن ما بك. والثالثة أن تحدّثنى بقصّتك. قال: أفعل ما تريد. فأخذت الدنانير ودعوت بطعام فأصاب منه إصابة معذّر، ثم دعوت بالنبيذ فشرب أقداحا، وغنيّته بشعر غيره فى معناه وهو يشرب ويبكى، ثم قال: الشرط أعزّك الله! فغنيّته صوته فجعل يبكى أحرّ بكاء وينشج أشدّ نشيج وينتحب. فلما رأيت ما به قد خفّ عما كان يلحقه ورأيت النبيذ قد شدّ قلبه، كررت عليه صوته مرارا. ثم قلت: حدّثنى حديثك، فقال: أنا رجل من أهل المدينة خرجت متنزّها فى ظاهرها وقد سال العقيق فى فتية من أقرانى وأخذانى، فبصرنا بفتيات قد خرجن لمثل ما خرجنا له، فجلسن حجرة [2] منا، وبصرت منهن بفتاة كأنها قضيب قد طلّه الندى، تنظر بعينين ما ارتد طرفهما إلا بنفس من يلاحظهما. فأطلنا وأطلن حتى تفرّق الناس، وانصرفن وانصرفنا وقد أبقت بقلبى جرحا بطيئا اندماله؛ فعدت إلى منزلى وأنا وقيذ، وخرجت من الغد إلى العقيق وليس به أحد فلم أر لها ولا لصواحبها أثرا، ثم جعلت أتتبّعها فى طرق [3] المدينة وأسواقها، وكأنّ الأرض أضمرتها فلم أحسّ لها بعين ولا أثر، وسقمت حتى أيس منى أهلى. وخلت بى ظئرى فاستعلمتنى حالى وضمنت لى كتمانها والسعى فيما أحبّه منها، فأخبرتها بقصتى؛ فقالت: لا بأس عليك، هذه أيام الربيع وهى سنة خصب وأنواء وليس يبعد عنك المطر، ثم هذا العقيق فتخرج حينئذ وأخرج معك فإن النسوة سيجئن؛ فإذا فعلن ورأيتها أتبعها حتى أعرف موضعها ثم أصل بينك وبينها وأسعى لك فى تزويجها. فكأنّ نفسى اطمأنت إلى ذلك ووثقت به وسكنت إليه، فقويت وطمعت وتراجعت إلىّ نفسى. وجاء مطر بعقب ذلك وسال العقيق
[1] فى الأغانى: «تشد» .
[2]
ناحية.
[3]
كذا بالأغانى. وفى الأصل: «طريق المدينة» .
وخرج الناس وخرجت مع إخوانى اليه، فجلسنا مجلسنا الأوّل بعينه، فما كنا والنسوة إلا كفرسى رهان؛ فأومأت إلى ظئرى فجلست، وأقبلت على إخوانى فقلت: لقد أحسن القائل:
رمتنى بسهم أقصد القلب وانثنت
…
وقد غادرت جرحا به وندوبا
فأقبلت على صواحباتها وقالت: أحسن والله القائل، وأحسن من أجابه حيث يقول:
بنا مثل ما تشكو فصبرا لعلنّا
…
نرى فرجا يشفى السّقام قريبا
فسكتّ عن الجواب خوفا من أن يظهر منى ما يفضحنى وإياها، وعرفت ما أرادت. ثم تفرّق الناس وانصرفنا، وتبعتها ظئرى حتى عرفت منزلها، وصارت إلىّ فأخذت بيدى ومضينا إليها، فلم نزل نتلطّف حتى وصلت إليها، فتلاقينا وتزاورنا على حال مخالسة ومراقبة، حتى شاع حديثى وحديثها وظهر ما بينى وبينها، فحجبها أهلها وسدّوا أبوابها؛ فما زلت أجهد فى لقائها فلا أقدر عليه، وشكوت ذلك إلى أبى لشدّة ما نالنى وسألته خطبتها لى. فمضى أبى ومشيخة أهلى إلى أبيها فحطبوها؛ فقال:
لو كان بدأ بهذا قبل أن يفضحها ويشهرها لأسعفته بما التمس، ولكنه قد فضحها فلم أكن لأحقّق قول الناس فيها بتزويجه إياها؛ فانصرفت على يأس منها ومن نفسى.
قال معبد: فسألته أن ينزل بجوارى، وصارت بيننا عشرة. ثم جلس جعفر بن يحيى ليشرب فأتيته، فكان أوّل صوت غنيّته صوتى فى شعر الفتى، فشرب وطرب عليه طربا شديدا، وقال: ويحك! إن لهذا الصوت حديثا فما هو؟ فحدّثته، فأمر بإحضار الفتى فأحضر من وقته، واستعاده الحديث فأعاده؛ فقال: هى فى ذمتى حتى أزوّجك إياها؛ فطابت نفسه وأقام معنا ليلتنا حتى أصبح، وغدا جعفر إلى الرشيد فحدّثه الحديث، فعجب منه وأمر بإحضارنا جميعا فأحضرنا، وأمر بأن أغنيّه الصوت