الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول
في الأمر ومقتضاه
وفيه مسائل:
المسألة الأولي
اعلم أن أصحابنا: اتفقوا على أن لفظ الأمر مشترك بين الاستدعاء النفساني: الذي هو مدلول الصيغة / (121/أ)، وبين الصيغة: التي هي "افعل" وما يجري مجراه. إلا الذين قالوا: الكلام: حقيقة في المعني القائم بالنفس مجاز في العبارة، تسمية الدال باسم المدلول، كإمام الحرمين وغيره ممن وافقه فإنه لا يشك في هؤلاء أن يقولوا: بمثله في أنواعه.
واختلفوا في أنه هل هو حقيقة في غيرهما أم لا؟
فذهب المحققون منا: إلى أنه ليس بحقيقة في غيرهما.
وقال بعض الفقهاء: إنه حقيقة في الفعل أيضًا لحصول كونه فعلاً.
وأما المعتزلة: فقد اتفقوا على أنه حقيقة في القول المخصوص فقط إلا أبا الحسين البصري منهم: فإنه زعم أنه مشترك بينه وبين الشيء والصفة، والشأن، والطريق، وأنه ليس حقيقة في الفعل بخصوص كونه فعلاً
بل لعموم كونه شأنًا.
واحتج المحققون بوجوه:
أحدها: أنا أجمعنا على أنه حقيقة في غير الفعل، والشيء، والشأن، والصفة، والطريق، بخصوصيته وبعينه. وهو، إما القول المخصوص، أو مدلوله، أو هما جميعًا. فوجب أن لا يكون حقيقة فيما عداه، دفعًا للاشتراك، أو تقليلاً له.
وإنما قلنا: لخصوصيته ولعينه، ليسقط المنع المتوجه على هذه الحجة. وهو أنه لا نسلم أنه يلزم من كونه حقيقة في غير الفعل أو الشأن أو في غيرهما، مع كونه حقيقة فيه الاشتراك اللفظي، لجواز أن يكون حقيقة فيهما باعتبار أمر مشترك بينهما، فعلى هذا لا يلزم إلا الاشتراك المعنوي.
فإن قلت: فحينئذ نمنع المقدمة الأولي: وهي أنه حقيقة في القول المخصوص لخصوص كونه ذلك القول ولم لا يجوز أن يكون حقيقة فيه لعموم كونه شأنًا أو صفة ولا نسلم انعقاد الإجماع عليه.
قلت: نحن لا ندعى امتناع هذا الاحتمال، كيف وهو راجح على احتمال الاشتراك والمجاز إذا التواطؤ خير منهما، وإنما ندعى على أن الخصوم وافقونا على أنه حقيقة في القول المخصوص لخصوص كونه ذلك القول، بل الأمة أجمعت على أنه في غير الفعل والشأن لخصوص ذلك الغير،
وهو إما القول أو مدلوله، وذلك يكاد أن يكون معلومًا بالضرورة بعد تتبع كلامهم عن مؤلفاتهم إذ نقل ذلك بعضهم بصراحته، ويعرف من كلام الآخرين بسياقه، فمنعه معاندة محضة ولا اعتبار بما ذهب إليه بعض المؤتمرين فإنه مسبوق بالإجماع.
وثانيها: أنه لو كان حقيقة في الفعل لا طرد في كل فعل إذ هو لازم الحقيقة عند عدم المانع على ما تقدم تقريره، لكنه غير مطرد إذ لا يقال: للأكل والشرب أمر فوجب أن لا يكون حقيقة فيه.
"واعترض عليه بمنع نفي اللازم غايته أنه لم يستعمل فيه / (122/أ) كاستعماله في غيره من الفعل وذلك لا يدل على أنه ليس بحقيقة فيه".
واعترض عليه بعضهم بنوع آخر: وهو أن عدم اطراده [في كل فعل لو كان مما يمنع حقيقة في بعضه، فعدم اطراده في كل قول مما يمنع كونه حقيقة في بعضه، ولا يخفى عدم اطراده] في كل قول.
وهو ضعيف جدًا، لأن عدم اطراده في كل فعل إنما يدل على أنه ليس بحقيقة [في الفعل، لأنه ليس بحقيقة] في فعل دون فعل عند القائلين به، وإلا كان من حقهم أن يعينوا ذلك الفعل بالتعيين أو يضبطوه بالوصف ليمتاز عن غيره، إذ لا يحسن أن يقال: الإنسان حقيقة في الحيوان، لكونه حقيقة في الحيوان المخصوص، ولما لم يفعلوا ذلك بل أطلقوا القول بكونه حقيقة
في الفعل، [دل] ذلك على أنه حقيقة في مطلقه لا في مخصوصة، وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى القول، إذ لم يقل أحد منهم أنه حقيقة [في القول حتى يفهم منه أنه حقيقة في مطلق القول، بل قالوا: إنه حقيقة] في القول المخصوص فلا يلزم من دلالة عدم اطراده في كل فعل على أنه ليس بحقيقة في الفعل، دلالة عدم اطراده في كل فعل على أنه ليس بحقيقة في القول المخصوص.
وثالثها: أنه يصح نفي الأمر عن الفعل، إذ يصح أن يقال: إنه ما أمر به ولكن فعله وصحة النفي تدل على المجاز على ما تقدم.
واعترض عليه: بمنع صحته مطلقًا، بل لو صح فإنما يصح بمعني القول وعلى هذا التقدير لا يدل صحة النفي على أنه ليس بحقيقة فيه، فإن ذلك جار في الحقيقة المشتركة، إذ يصح أن يقال: اعتدت بقرء لا بطهر، بمعني اعتدت بحيض لا بطهر، ويكون نفي الطهر قرينة دالة على إرادة الحيض من القرء.
ولو أجيب عنه بما سبق في اللغات لرجع حاصله إلى الدليل الأول.
ورابعها: أن الأمر له لوازم: نحو كونه ممتثلاً به، أو غير ممتثل به،
وأن ضده النهي، وأنه يمنع منه الخرس والسكوت، وأنه من أقسام الكلام، وشيء من هذه اللوازم لا يوجد في الفعل لا يكون أمرًا، لأن انتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم.
واعترض عليه بمنع كون هذه الأمور من لوازم الأمر مطلقًا، بل هو عندنا من لوازمه بمعني القول، فلم لا يجوز أن يكون كذلك؟ لابد لهذا من دليل.
وخامسها: أن الأمر بمعني القول يشتق منه الآمر والمأمور بالمأمور به، وبمعني الفعل لا يشتق منه ذلك، إذ لا يقال: للفاعل آمر، وللمفعول مأمور ولا للمفعول به مأمور به. والاشتقاق دليل الحقيقة وعدمه دليل المجاز على ما تقدم بيانه في اللغات.
واحتج الفقهاء بوجوه:
أحدها: أنه أطلق الأمر على الفعل واستعمل فيه، وذلك يدل على أنه حقيقة فيه، إما بالاشتراك المعنوي، أو اللفظي، وعلى التقديرين يحصل [المقصود].
أما الأول: فيدل عليه قوله تعالى: {أتعجبين من أمر الله} وليس المراد منه القول، لأن إحبالها / (122/ب) وخلق الولد فيها لا يحصل منه. وأما قوله تعالى:{إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} ليس المراد منه ظاهره، على ما ذهب إليه الظاهرية، فإنه خطاب المعدوم باطل من جهة العقل ومجرد القول من غير قصد الخطاب منه ليس له تأثير في الإيجاب، بل هو إخبار عن سرعة التكوين، وإذا كان كذلك تعين أن يكون المراد منه: الفعل. وكذلك يدل عليه قوله تعالى، {وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر} وهو ظاهر، فإن أمره بمعني القول، مختلف بحسب الصنع، وبحسب مدلولاتها فإن مدلول الأمر بالصلاة، غير مدلول الأمر بالزكاة ومخالف له، وإذا تعذر الحمل على القول ومدلوله وجب الحمل على الفعل، ضرورة انتفاء القول الثالث. وكذلك يدل عليه قوله تعالى:{وما أمر فرعون برشيد} أي فعله.
وكذلك يدل عليه قول العرب في الزباء. لأمر ما جدع قصير
أنفه أي لحيلة يفعلها.
وكذلك يدل عليه قول الشاعر:
لأمر ما سود من سود
وأما الثاني: فلما تقدم من أن الأصل في الاستعمال الحقيقة.
الاعتراض عليه: هو أنا وإن سلمنا أن الأمر في الآيات المتلوة والكلمات المذكورة مستعمل في الفعل، لكنا لا نسلم أنه مستعمل فيه لخصوص كونه فعلاً، "ولم لا يجوز أن يكون مستعملاً فيه لعموم كونه شأنًا وصفة، وحينئذ لا يحصل مقصودكم. وهو أنه حقيقة في الفعل بخصوص كونه فعلاً، فإن" ذلك هو مذهبكم.
فإن قلت: هب أنه لا يثبت به مذهبنا، لكن ثبت به إبطال مذهبكم، وهو أنه حقيقة في القول المخصوص، أو في مدلوله، أو فيهما فقط، وهو مقصودنا أيضًا.
قلت: لا نسلم أنه يحصل ذلك المقصود أيضًا، وهذا لأن المقدمة الثانية ممنوعة على التقديرين، سواء كان المطلوب منه إثبات مذهبكم أو إبطال مذهب الخصم، وهذا فإن الإطلاق والاستعمال دليل الحقيقة عندنا إذا "لم" يلزم منه الاشتراك أو تكثيره، أما إذا لزم ذلك منه فلا نسلم أنه دليل الحقيقة، وعلى هذا التقدير وإن كان التجوز لازمًا وهو خلاف الأصل، لكنه خير من الاشتراك فكان التزامه أولى، والاستعمال فيما نحن فيه لو كان بطريق الحقيقة
يلزم منه الاشتراك أو تكثيره، فلا نسلم أنه يكون دليل الحقيقة.
فإن قلت: هذا إنما يلزم لو كان الأمر حقيقة في الفعل إما لخصوص كونه فعلاً أو لعموم كونه شأنًا أو صفة، مع كونه حقيقة في القول المخصوص/ (123/أ) باعتبار خصوصيته، أما إذا كان حقيقة فيه وفي الفعل باعتبار عام يوجد فيهما نحو الشأن أو غيره، لم يلزم منه الاشتراك ولا التجوز اللازم من مذهبكم، بل هو على [هذا] التقدير يكون متواطئًا فيهما وقد عرف أنه خير من الاشتراك والمجاز، فلم لا يجوز أن يكون كذلك؟
قلت: الدليل على أنه لا يجوز أن يكون كذلك وجهان:
أحدهما: ما سبق من الإجماع من أنه حقيقة في غير الفعل والشأن لخصوصيته.
وثانيهما: أنه لو كان حقيقة فيهما باعتبار أمر مشترك بينهما لوجب أن يكون حقيقة في غير القول المخصوص، نحو الخبر والنهي والاستفهام، لأن كل ما يمكن أن يجعل مدلوله من الأمور المشتركة بينهما نحو الوجوب والسنية والشأن والصفة، فهو مشترك بين ذلك القول المخصوص وبين غيره من الأقوال، لكنه باطل لمساعدة الخصم عليه. أعني القائلين بأنه حقيقة في الفعل إذا اتفقوا على أنه مجاز في غير القول والفعل ولو كان حقيقة فيهما: باعتبار الشأن والصفو ولما كان مجازًا في غيرهما.
وهذا الدليل الثاني: الدال على بطلان كون الأمر متواطئًا في القول المخصوص وفي الفعل إنما يستقيم على الفقهاء. دون أبي الحسين البصري
لأن عنده يجب أن يكون الأمر حقيقة في كل قول باعتبار الشأن، كما هو في الفعل عنده فيستدل عليه بالوجه الأول فقط، فإن كلامه صريح في أنه حقيقة في القول المخصوص لخصوصيته.
وثانيها: أنه لو كان مجازًا في الفعل لتحقق جهة من جهات التجوز فيه لكنها غير متحققة، لأن جهات التجوز منحصرة في الجهات التي ذكرناها في اللغات للاستقراء، وهو وإن كان لا يفيد القطع لكن ليس هو المقصود في المباحث اللغوية، بل المقصد الأقصى فيها الظن على ما عرفت ذلك من قبل وهو يفيده، وإذا لم يكن جهة من جهات التجوز متحققة فيه لم يكن مجازًا فيه لانتفاء شرطه، وإذا لم يكن مجازًا فيه كان حقيقة ضرورة انتفاء القول الثالث.
وجوابه: أنا لا نسلم أن جهة من جهات التجوز [غير متحققة فيه، وهذا لأن من جملة جهات التجوز،] إطلاق اسم الدليل على المدلول والقول المخصوص يدل على الفعل، فإطلاق اسمه على الفعل إطلاق اسم الدليل على المدلول.
فإن قلت: فعلى هذا يجب أن يكون مجازًا في الفعل المخصوص وهو مدلول الصيغة دون غيره من الأفعال التي ليست هي باستدعاء نحو الماضي والحال، كما هو حقيقة في القول المخصوص دون غيره من الأقوال.
قلت: لا نسلم أنه يكون مجازًا في شيء منها لخصوصيته، بل لو استعمل في شيء منها نحو الماضي / (123/ب) والحال مثلاً، فإنما يستعمل فيه باعتبار الفعل فقط، وهو لما دل على الفعل المخصوص بطريق المطابقة دل على مطلق الفعل بطريق التضمن، فيكون مندرجًا تحت إطلاق اسم الدليل على المدلول، فإن الدليل أعم من أن يكون دليلاً بطريق المطابقة أو غيرها، وهذه الجهة من التجوز وإن كان حاصلاً في سائر الأقوال غير القول المخصوص مع أنا لو سلمنا: أنه لم يجز جعله مجازًا فيها فإنما ذلك، لأن المجاز غير لازم الاطراد.
وثالثها: أن الأمر بمعني "الفعل" يجمع على أمور، والاشتقاق علامة الحقيقة.
وجوابه: أنا لا نسلم مثل هذا الاشتقاق علامة الحقيقة، وهذا لأنه لو كان كذلك لزم النقض بقولهم: للبلد حمر مع أن الحمار في البليد مجاز، قال الله تعالى:{كأنهم حمر مستنفرة} وأنه خلاف الأصل.
وأجيب: أيضًا بمنع كون الأمور جمع الأمر بمعني الفعل، بل هما لفظان يستعمل كل واحد منهما في مكان الآخر، ولهذا يفهم من قولنا: أمر فلان
مستقيم ما يفهم من قولنا: أمور فلان مستقيمة.
وفيه نظر لا يخفى على الفطن.
واحتج أبو الحسين على ما ذهب إليه بأن القائل: إذا قال: هذا أمر لم يتبادر إلى فهم السامع شيء من مفهوماته إلا إذا ضم إليه شيئًا آخر، مثل أن يقول:"هذا أمر نحب أن نتأسي به" فيفهم منه الفعل، لقرينة التأسي، أو أمر الغائب، أو المخاطب، فيفهم منه القول بقرينة التقسيم إلى الغائب، والحاضر أو أمره مستقيم، فيفهم منه الشأن لقرينة الاستقامة، أو لأمر محرك، فيفهم منه الغرض لقرينة لام التعليل، أو أمر ينبغي أن يتخلق به فيفهم منه الصفة لقرينة التخلق، فعند انضمام تلك القرائن نفهم تلك المعاني ولا شك أنه دليل الاشتراك.
وجوابه منع توقف الذهن عن الفهم عند السماع بدون القرينة، بل يفهم منه القول المخصوص، وذلك يجده العارف بلغة العرب المنصف من نفسه، ولو أحيل فهمه بدون القرينة إلى اعتقاد السامع بكونه موضوعًا له، لتعذر الاستدلال بسبق المعني إلى الفهم عند سماع اللفظ على كونه حقيقة فيه لاحتمال أن يقال: إنما سبق إليه لاعتقاده أنه وضع له.