المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة العاشرة[في الأمر المطلق هل يقتضي التكرار أو لا - نهاية الوصول في دراية الأصول - جـ ٣

[الصفي الهندي]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الأولفي الأمر ومقتضاه

- ‌المسألة الثانيةفي حد الأمر بمعني القول

- ‌المسألة الثالثة[هل للأمر صيغة في اللغة أو لا]

- ‌المسألة الرابعة[هل تكفي الصيغة عن الإرادة أو لا]

- ‌المسألة الخامسة[أن الأمر به نفس الصيغة خلافًا لأبي علي وأبي هاشم]

- ‌المسألة السادسة[خلاف العلماء في اعتبار علو رتبة الآمر والاستعلاء]

- ‌المسألة السابعةفي تعديد موارد استعمال صيغة افعل

- ‌المسألة الثامنة[في أن مدلول الصيغة الطلب والاستدعاء، أو ما فيه الطلب والاستدعاء]

- ‌المسألة التاسعة[في حكم الأمر بعد الحظر]

- ‌المسألة العاشرة[في الأمر المطلق هل يقتضي التكرار أو لا

- ‌المسألة الحادية عشرة[هل الأمر المعلق يقتضي التكرار

- ‌المسألة الثانية عشرة[في الأمر المطلق هل يقتضي الفور أو لا

- ‌المسألة الثالثة عشرةفي أن القضاء في العبادة المؤقتة بالتنصيص الفائتة عن وقتها هل هو بالأمر الأول أو بالأمر الجديد

- ‌المسألة الرابعة عشرة[في الإتيان بالمأمور به هل يقتضي الإجزاء أو لا

- ‌المسألة الخامسة عشرة[الأمر بالشيء نهي عن ضده]

- ‌المسألة السادسة عشرةفي أن الأمر بالأمر بالشيء، هل هو / (159/أ) أمر بذلك الشيء أم لا

- ‌المسألة السابعة عشر[هل الأمر بالماهية يقتضي الأمر بالجزئيات

- ‌المسألة الثامنة عشرة[في أن الآمر هل يدخل تحت الأمر أم لا

- ‌المسألة التاسعة عشرة[في الأمر الوارد عقيب الأمر]

- ‌الفصل الثاني"في الآمر

- ‌المسألة الأولي[في الآمر]

- ‌المسألة الثانية[في الآمر الذي تجب طاعته]

- ‌المسألة الثالثةوجوب فعل المأمور به على المأمور

- ‌الفصل الثالثفي المأمور به

- ‌المسألة الأولى[في التكليف بالمحال]

- ‌المسألة الثانية[في حصول الشرط الشرعي]

- ‌المسألة الثالثة[هل يجب أن يكون المأمور به مقدورًا للمأمور]

- ‌الفصل الرابع"في المأمور

- ‌المسألة الأولى[في شرط المأمور]

- ‌المسألة الثانية[في تعلق الأمر بالمعدوم]

- ‌المسألة الثالثة[اشتراط القصد في إيقاع المأمور به]

- ‌المسألة الرابعة[في تكليف المكره]

- ‌المسألة الخامسة[فيما يصير به المأمور مأمورًا والفعل المأمور به مأمورًا به]

- ‌المسألة السادسة[علم المأمور بكونه مأمورًا قبل التمكن]

- ‌النوع الرابعالكلام في النهي وما يتعلق به من المسائل

- ‌المسألة الأولىاعلم أن صيغة النهي مستعملة في ثمانية محامل بالاستقراء

- ‌المسألة الثانية[في أن النهي للتكرار]

- ‌المسألة الثالثةفي أن مطلق النهي عند من يقول: إنه للتحريم، أو المقترن بقرينة للتحريم عند من لا يقول: به. هل يقتضي فساد المنهي عنه أم لا

- ‌المسألة الرابعة[فيما إذا أمر الشارع بشيء مطلقا ثم نهي عن بعض أحواله]

- ‌المسألة الخامسة[في النهي عن أشياء متعددة

- ‌النوع الخامسالكلام في العموم والخصوص

- ‌القسم الأول: في العموم

- ‌المسألة الأولىفي تحديد اللفظ العام

- ‌المسألة الثانية[هل العموم من خواص الألفاظ في الاصطلاح واللغة أو لا

- ‌المسألة الثالثة[في ألفاظ العموم]

الفصل: ‌المسألة العاشرة[في الأمر المطلق هل يقتضي التكرار أو لا

‌المسألة العاشرة

[في الأمر المطلق هل يقتضي التكرار أو لا

؟]

الأمر المجرد عن القرينة، هل يقتضي التكرار أم لا؟

فذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وجماعة من الفقهاء والمتكلمين أنه يقتضي التكرار المستوعب لزمان العمر، بحسب الإمكان.

ولا يخفى عليك أنه ليس المراد من التكرار ها هنا معناه الحقيقي، وهو: إعادة الفعل الأول، فإن ذلك غير ممكن من المكلف، بل المراد منه: تحصيل مثل الفعل الأول.

وذهب الجم الغفير إلى أنه مقتضى للمرة الواحدة لا محالة.

ص: 922

وهؤلاء اختلفوا:

فمنهم من قال: يقتضيها لفظًا.

ومنهم من نفى ذلك وزعم: أن اقتضاءه لها إنما هو بحسب الدلالة المعنوية، وهي أنه لا تفيد إلا الطلب تحصيل الماهية من غير إشعار بالوحدة والكثرة، لكن لما لم يمكن تحصيلها بدون المرة الواحدة لا جرم.

قلنا: دل الأمر عليها، لأن ما دل على الشيء دل على ما هو من ضروراته بخلاف الكثرة، فإنه لا يدل عليها لا بحسب اللفظ ولا بحسب المعنى.

وهذا القول: اختاره أبو الحسين البصري - رحمه الله تعالى - والإمام وكثير من الأصوليين.

ومنهم من قال: إن مقتضى الصيغة الامتثال والمرة الواحدة لابد منها لما سبق، وأما الزائد عليها فمتوقف فيه "وهو قول" اختاره إمام الحرمين

ص: 923

- رحمه الله تعالى - وإليه ميل الغزالي - رحمه الله تعالى -

وذهب بعضهم: إلى أنه مشترك بين المرة الواحدة وبين التكرار، وقياس مذهب الواقفية التوقف فيه: بين أن يكون للمرة الواحدة، أو للتكرار، أو لهما، أو للمشترك بينهما لتردده [بينهما، كتردده] بين الوجوب والندب.

وقال بعضهم: نحو عيسي بن أبان. إن كان / (143/ب) فعلاً له

ص: 924

غاية يمكن إيقاعه في جميع المدة يلزمه في جميعها، وإلا فيلزمه الأول.

احتج القائلون بالتكرار بوجوه:

أحدها: أن أكثر أوامر الشرع، كالصلاة، والزكاة، والصوم، محمول على التكرار، فوجب أن يكون حقيقة فيه إعمالاً للأصل ودفعًا لتكثير المجاز.

وثانيها: أن الصديق رضي الله عنه تمسك على أهل الردة في وجوب تكرار الزكاة بقوله تعالى: {وآتوا الزكاة} ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعًا.

وثالثها: أن الأمر لا إشعار له بالتخصص بزمان دون زمان، وليس حمله على بعض الزمان أولى من البعض، فوجب التعميم وإلا لزم التعطيل.

ورابعها: أن الأمر طلب الفعل، والنهي طلب الترك، فإذا كان النهي الذي هو أحد الطلبين يفيد التكرار، فكذا الآخر والجامع، أما الطردي فكونهما مشتركين في الاقتضاء "والطلب"، وأما المناسب فتكميل الغرض وتحصيل المصلحة الناشئة من التكرار.

وخامسها: أن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده، والنهي عن جميع

ص: 925

الأضداد يقتضي الامتناع عنها في جميع الأزمان، وذلك يستلزم فعل المأمور به في جميع الأزمان.

وسادسها: أن الأمر لو لم يفد التكرار، لما جاز ورود النسخ عليه لاستلزامه البداء، وهو على الله تعالى محال، ولما جاز الاستثناء [منه لاستحالة الاستثناء] من المرة الواحدة.

وسابعها: أنه لو لم يكن للتكرار كان للمرة الواحدة، وحينئذ يلزم أن يكون قوله: صل مرة واحدة تكرار، أو صل مرارًا تناقضًا ومعلوم أنه ليس كذلك.

وثامنها: أن القول بالتكرار أحوط للمكلف، لأنه إن أراد الأمر فقد حصل غرضه، وإن لم يرده بل أراد مرة واحدة فقد حصل غرضه أيضًا ضرورة حصولها في ضمن التكرار، بخلاف ما إذا قيل إنه للمرة الواحدة

وتاسعها: قوله عليه السلام: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" والتكرار بحسب ما يمكن مستطاع، فوجب أن يجب إذا قيل: ثبت أن الأمر للوجوب.

وعاشرها: روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم لما رآه قد جمع بطهارة واحدة بين صلوات عام الفتح، وقال:"أعمدًا فعلت هذا يا رسول الله؟ فقال: نعم" ولولا أنه فهم تكرار الطهارة من

ص: 926

قوله تعالى:} إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} لما كان للسؤال معنى.

وحادي عشرها: روى أنه عليه السلام لما أتي بشارب الخمر قال: "اضربوه" فكرروا عليه الضرب ولو لم يكن الأمر للتكرار لما فعلوه، ولا أنكر عليهم عليه السلام، ولما لم ينكر عليهم دل على أنه للتكرار.

ص: 927

وثاني عشرها: أنه يفيد التكرار في استعمال أهل العرف، فإن الرجل إذا / (144/أ) قال لغيره:"أحسن عشرة فلان" و "خالط الناس بحسن السير""وأجمل في الطلب" و "اتجر لمعاشك و "تزود لمعادك"، فإنه يفهم منها التكرار والأصل عدم التغيير.

وثالث عشرها: أن الأمر اقتضى فعل المأمور به واقتضى اعتقاد وجوبه أيضًا ثم اعتقاد وجوبه على الدوام، فكذا فعله حملاً لأحد الاقتضائين على الآخر.

وأجيبوا: عن الأول: بأنه لا يلزم من كون تلك الأوامر محمولة على التكرار، أن تكون مستعملة فيه حتى يلزم أن تكون تلك الأوامر حقائق فيه لما ذكرتم من الدليلين لجواز أن تكون مستعملة في القدر المشترك بين التكرار وغيره، وإنما حملت على التكرار لدليل من خارج لا لكونها ظاهرة فيه، ثم الذي يدل عليه هو: أن التكرار لو كان مستفادًا من ظواهرها لزم التناقض أو الترك بالظاهر في الأوامر المحمولة على المرة الواحدة نحو الحج وغيره، لأنه إن كان ظاهرًا فيها لزم الأول: وإلا لزم الثاني: وهما باطلان، ولا يعارض بمثله، لأنا لا ندعى الظهور في المرة الواحدة أيضًا، وإنما ندعى أنه حقيقة في القدر المشترك بينهما فقط، والمرة الواحدة إنما وجبت لأنها من ضروراته.

ص: 928

وعن الثاني: أنا لا نسلم أنه تمسك بمجرد الأمر سنده ما تقدم، بل لأنه كان من المعلوم عندهم بالضرورة من دين محمد عليه السلام أن أمر الصلاة، والزكاة، والصوم للتكرار.

وعن الثالث: أن القائلين بالفور: يمنعون عدم أولوية بعض الأزمنة من البعض، فإن الزمان الأول عندهم متعين لفعله فيكون أولى.

وأما الذين لم يقولوا به: فإنهم يمنعون لزوم التعميم عند انتفاء الأولوية ويمنعون لزوم التعطيل عند انتفاء التعميم، وهذا لأنه يجوز أن يكون تعيين الزمان موكولاً إلى اختيار المكلف كالمكان، وكما فيما إذا أمر الشارع بإعتاق رقبة.

وبتقدير تسليمه: فالدليل منقوض بالصورتين المذكورتين.

وعن الرابع: بمنع كون النهي يفيد التكرار.

ولئن سلم: فيمنع القياس في اللغات.

ولئن سلم: فبالفرق، وهو من وجهين:

أحدهما: أن الانتهاء عن الفعل أبدا متيسر وغير مفض إلى تعطيل الحوائج المهمة، وغير مانع من الإتيان بالمأمورات، وأما الاشتغال به، وإن كان بحسب الإمكان فمتعسر ومفض إلى تعطيل الحوائج ومانع من الإتيان بالمأمورات التي لا يمكن اجتماعها.

ص: 929

وثانيهما: أن النهي مقتضاه عدم إدخال ماهية الفعل المنهي عنه في الوجود، لأن معني قولنا:"لا تضرب" مثلاً لا تدخل ماهية الضرب في الوجود / (144/ب)، وذلك إنما يحصل بالكف عنه دائمًا حتى لو انكف عنه المخاطب في بعض الأزمنة دون البعض لم يصدق عليه أنه لم يدخل الماهية في الوجود وأما الأمر فليس فيه دلالة على إدخال جميع أفراد الماهية في الوجود، لأن معني "اضرب" إدخال ماهية الضرب في الوجود فإذا ضرب مرة واحدة صدق عليه أنه أدخل الضرب في الوجود، فلا حاجة إلى المصير إلى التعميم، ولأنه لما ثبت أن النهي يفيد الدوام وجب أن لا يفيد الأمر ضرورة كونه مناقضًا له ونقيض السلب الكلي الإيجاب الجزئي.

وعن الخامس: منع كون الأمر بالشيء منهيًا عن ضده، ولئن سلم فجوابه ما سبق في المسألة السالفة.

وعن السادس: أنا لا نسلم أنه لو لم يكن للتكرار لما جاز نسخه، وهذا لأنه يجوز نسخ الشيء قبل "حضور" وقت العمل به عندنا.

وأما الذين لم يجوزوا فهم يقولون: إن قرينة النسخ دالة على إرادة التكرار منه، ولا يبعد حمل الأمر على التكرار لقرينة.

وأما الاستثناء فممنوع على رأي القائلين بالفور.

وأما الذين لم يقولوا به: فهم يجوزون الاستثناء فيه، وفائدة المنع من الفعل في وقت يصح فعله فيه لولا الاستثناء، فإن كان الاستثناء حقيقة في

ص: 930

هذا المعنى فلا إشكال وإلا فهو مستعمل فيه بطريق التجوز.

سلمنا: أنه مستعمل في حقيقته. فلم لا يجوز أن يقال: الاستثناء قرينة دالة على إرادة التكرار؟.

وعن السابع: منع الملازمة، وقد عرفت سنده.

سلمنا: الملازمة لكن لا نسلم أن قوله مرة واحدة تكرار، بل فائدته نفي احتمال التكرار وإن كان ذلك على وجه التجوز ولا نسلم، أن قوله: مرارًا، تناقض، بل غايته أنه يكون قرينة دالة على إرادة المجاز المعين من اللفظ.

سلمنا: ذلك لكنه معارض بما أنه لو كان للتكرار، لكان قوله:"صل مرارًا تكرارًا و "صل مرة واحدة" تناقضًا، ومعلوم أنه ليس كذلك.

وعن الثامن: أنه إذا علم أنه لا يجوز أن يراد من اللفظ غير حقيقته عند عرايته عن القرنية.

واعلم أن اللفظ ليس بحقيقة في التكرار فقد أمنا إرادته وحينئذ يأمن عن العقاب على تركه.

سلمنا: جواز إرادته عند عرايته عن القرينة، لكن لا نسلم: أن يكون أحوط، وهذا لأنه ربما يكون ترك التكرار أحوط، كما إذا قال: السيد لعبده: "اشتر اللحم والخبز أو "ادخل الدار" فإنه لو فعل ذلك على الدوام، وإن كان بحسب ما يمكن فإنه يلام.

سلمنا: أنه أحوط، لكنه معارض بما أنه / (145/أ) يلزم من حمله

ص: 931

على التكرار من الإضرار اللازم من التكرار المشق بتقدير فعله والعقاب بتقدير تركه، وبما فيه من مخالفه البراءة اليقينية.

وعن التاسع: أنه إنما يدل على المطلوب أن لو ثبت أن التكرار مأمور به حتى يقال: بأن التكرار بحسب ما يمكن مستطاع من المأمور به، فيجب لكنه أول المسألة.

وإن شئت فقل بعبارة أخرى: وهي أن دلالته على المطلوب تتوقف على كون التكرار مأمورًا به، فلو أثبتنا كون التكرار مأمورًا به لزم الدور.

وعن العاشر: أنا لا نسلم أنه رضي الله عنه سأل ذلك بناء على أنه فهم التكرار من النص المذكور وإلا لم يكن للسؤال معنى، وهذا لأنه يجوز أن يكون السؤال إنما كان لأجل إنه كان يرى النبي عليه السلام مداومًا على التوضؤ عند كل صلاة فظن أنه أريد التكرار عن النص المذكور، فإن الأمر عندنا وإن لم يكن للتكرار، لكنه يحتمله، فسأل النبي عليه السلام عن عمده ليعلم أنه فعله كذلك لم يكن التكرار مرادًا من الأمر فيه وإن كان سهوًا فقد أريد به التكرار لقرينة مداومته عليه السلام على التجديد عند كل صلاة.

سلمنا: أنه إنما سأل ذلك بناء على أنه فهم التكرار [من] الآية، لكن إنما كان ذلك، لأنه [أمر] معلق بالصفة وهو يقتضي التكرار على رأي بعض من أنكر أن مطلقه للتكرار، فلم قلت: إن مطلقه يقتضيه؟.

سلمنا: أنه ليس كذلك أو، وأن كان كذلك لكن الخلاف فيهما واحد، لكن فهمه رضي الله عنه معارض بفهمه عليه السلام، فإنه لم يفهم منه التكرار، وإلا لما فعل ذلك عمدًا، ثم لا يخفى أن الترجيح معنا.

وعن الحادي عشر: أنا لا نسلم أنه حصل تكرير الضرب من كل

ص: 932

واحد منهم حتى يقال: إنهم فهموا التكرار، بل صدر ذلك من مجموعهم، وقوله: فكرروا عليه الضرب من مقابلة فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد.

سلمنا: ذلك لكن التكرار مستفاد من قرينة الحد، وهذا لأنه شرع زاجر ومانع ومعلوم أن ذلك لا يحصل لضربه واحدة.

وعن الثاني عشر: أن ذلك للقرينة، فإن من المعلوم بالضرورة أنه لا يكفي في حسن العشرة مع الناس ومخالطتهم بحسن السيرة حصول ذلك من الرجل مرة واحدة، بل المراد منه الدوام لتحصيل الأخلاق الفاضلة وجلب قلوب الناس، وكذلك الكلام في البواقي.

وعن الثالث عشر: أنا لا نسلم أن اعتقاد وجوب المأمور به على سبيل الدوام من مقتضي الأمر سواء كان ذلك في مطلق الأمر عند من يقول: إنه للوجوب أو في المقترن بقرينة تدل على أنه للوجوب عند من لم يقل إن مطلقه للوجوب، بل هو من مقتضى الإيمان ولوازمه، ولهذا يكفر / (145/ب) جاحده في المقطوع ولا يكفر تارك فعله فيه.

سلمنا: ذلك لكن الفرق قائم، وهو أنه لا ضرر في إيجاب الاعتقاد على سبيل الدوام بخلاف إيجاب الفعل على سبيل الدوام، فإن فيه ضررًا.

سلمنا: أنه لا فرق، لكنه منقوض بالأمر المقيد بالمرة الواحدة.

وأما الذين قالوا: إنه للمرة الواحدة لفظًا فقد احتجوا بوجوه:

أحدها: أنه استعمل فيها، والأصل في الاستعمال الحقيقة.

ص: 933

وثانيها: أن المتبادر إلى الفهم من قول القائل: "صام فلان" أو "صلى" هو المرة الواحدة، فوجب أن يكون حقيقة فيها، إذ التبادر دليل الحقيقة، وكذلك إذا استعمل صيغة الماضي في الإنشاء نحو بعت، وطلقت ولهذا لم تطلق إلا واحدة، وإذا كانت صيغة الماضي حقيقة في المرة الواحدة سواء كانت بمعني الإخبار أو الإنشاء، وجب أن يكون الأمر أيضًا كذلك ضرورة أن اقتضائهما للمصدر اقتضاء واحد.

وثالثها: أنه لو لم يكن للمرة الواحدة، لكان للقدر المشترك بينها وبين التكرار لما ستعرف فساد غيره من المذاهب وحينئذ يجب أن يكون الأمر مجملاً بالنسبة إلى كل واحد منهما، عند عراية عن القرينة المعينة. وهو باطل خلاف الإجماع.

ورابعها: أنه لو قال الرجل لغيره: "طلق زوجتي" لم يملك أكثر من تطليقة واحدة، فلو لم يكن الأمر حقيقة في المرة الواحدة لم يكن كذلك.

الجواب عن الأول: أنا نفعل بمقتضاه فإنه حقيقة فيها عندنا أيضًا لكن باعتبار القدر المشترك بينها وبين التكرار، فإن ادعى أنه استعمل فيها بحسب خصوصيتها فيجب أن يكون حقيقة فيها بحسبها، فممنوع.

وإن سلم: فنعارضه بمثله، ثم الترجيح معنا على ما عرفت ذلك غير مرة.

ص: 934

وعن الثاني: أن ذلك التبادر بناء على أنه لابد منها في تحقيق مدلوله، لا أنه مدلوله.

ولئن سلم: ذلك فلا نسلم مثله في الأمر، وما ذكره فهو قياس في اللغة وهو ممنوع.

وعن الثالث: أنا لا نسلم أنه خلاف الإجماع، بل نحن نقول: إنه مجمل بالنسبة إلى كل واحد منهما من حيث اللفظ، وإنما يوجب الإتيان بالمرة الواحدة، وإن لم يكن هناك قرينة معينة لها لما تقدم من الدلالة المعنوية، فهو نص في المرة الواحدة بحسب الدلالة المعنوية، ومجمل بحسب الدلالة اللفظية ولا غرو في أن يكون اللفظ نصًا ومجملاً في معنى واحد باعتبارين مختلفين.

وعن الرابع: / (146/أ) بمنع الملازمة، وهذا لأنه يجوز أن لا يكون حقيقة في المرة الواحدة بحسب الخصوصية، ومع ذلك يملكها بما تقدم من الدلالة ولا يملك الثلاث لعدم دلالته عليه.

واحتج إمام الحرمين - رحمه الله تعالى -: بأن الصيغة صادرة عن المصدر ومستدعية لإيقاعه، وهو يحتمل الكثير والقليل، وليس معها ما يعين أحد الاحتمالين، إذ الكلام في الأمر المطلق، وإنما أوجبنا مرة واحدة، لأنه لابد منها على التقديرين فيجب التوقف في الزائد عليها.

ص: 935

وجوابه: أن المأمور لم يعلم شغل ذمته بغير إيقاع المصدر، فإذا فعل مرة فقد أوقع المصدر، والأصل براءة ذمته عن الزائد، فيجب الحكم ببراءة ذمته عنه وإلا لزم تجويز تكليف ما لا يطاق، إذا التوقف مع انتفاء ما يدل على زائد تجويز تكليف ما لا يطاق.

وأما القائلون بالاشتراك:

فقد احتجوا أيضًا بوجوه:

أحدها: ما روى عن سراقة بن مالك أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحجنا لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال عليه السلام: "للأبد ولو قلت: نعم لوجبت".

ص: 936

ووجه الاستدلال من وجهين:

أحدهما: أنه لو كان الأمر للمرة الواحدة فقط أو للتكرار فقط لما حسن سؤاله عنه، فإنه كان من أهل اللسان فلا يخفى عليه ذلك، وأما بتقدير أن يكون مشتركًا، فإنه يحسن السؤال طلبًا لتعيين المراد.

وثانيهما: أن قوله عليه السلام: "لو قلت: نعم: لوجبت" لا يجوز أن يكون ذلك بطريق ابتداء التكليف، فإن ذلك لا يتحقق إلا بتحقق النسخ، وأنه خلاف الأصل، بل بطريق البيان لقوله تعالى:{ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} ، وذلك يدل على أن ذلك الإيجاب مشترك بين المرة الواحدة وبين التكرار والخلاف في الإيجاب والأمر واحد.

ص: 937

وثانيها: أنه استعمل فيهما فيكون حقيقة فيهما، إذ الأصل في الاستعمال الحقيقة.

وثالثها: أنه يحسن الاستفهام فيه من الأمر فيقال: أردت به المرة الواحدة أو التكرار وأنه دليل الاشتراك.

ورابعها: أن صيغة "الماضي" من الأفعال مشتركة بين الدعاء والخبر، وصيغة "المضارع" مشتركة بين الحال والاستقبال، وذلك يقتضي أن تكون صيغة الأمر أيضًا مشتركة بين المرة الواحدة وبين التكرار، إلحاقًا للفرد بالأعم والأغلب.

الجواب عن الوجه الأول: بمنع الملازمة، وهذا لأنه يجوز أن يسأل الإنسان عن كلام ينبئ عن المقصود / (146/ب) بنفسه مع علمه به للتأكيد أو لدفع احتمال التجوز.

وعن الوجه الثاني: أنا نسلم أن ذلك بطريق البيان، لكن لا نسلم: أن ذلك يدل على أنه مشترك بينهما فإن الإجمال، كما يكون في المشترك يكون في المتواطئ أيضًا.

وعن الثاني: أيضًا ما سبق في اللغات.

وعن الثالث: منع كون الاستفهام دليل الاشتراك، وستعرف ذلك في العموم والخصوص - إن شاء الله تعالى -.

وعن الرابع: ما تقدم في اللغات، سلمنا: اشتراكهما فهذا لو

ص: 938

اقتضى فإنما يقتضي كون الأمر أيضًا مشتركًا فلم يتعين أن يكون اشتراكه بين التكرار والمرة الواحدة دون غيرهما من المفهومات.

وإذ قد ظهر ضعف هذه المذاهب فلنبين ما هو المختار.

فنقول: المرة الواحدة لابد منها في الامتثال، وهو معلوم قطعًا لا بحسب دلالة اللفظ، بل بحسب الدلالة المعنوية، كما تقدم.

وأما التكرار فمحتمل، فإن اقترن بالأمر ما يدل عليه وإلا كان الاقتصار على المرة الواحدة كاف في سقوط التكليف به، والدليل عليه وجوه:

أحدها: أنه لا شك في ورود الأمر بمعني التكرار وبالمرة الواحدة في أوامر الشارع وأوامر أهل اللسان، والاشتراك والمجاز خلاف الأصل، فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك، وهو تحصيل ماهية المصدر، وحينئذ يجب أن لا يكون للفظ دلالة لا على المرة الواحدة ولا على التكرار، لأن الدال على القدر المشترك بين الصورتين المختلفتين لا دلالة على ما يمتاز إحدى الصورتين عن الأخرى لكن يحتملهما، ولهذا لو فسره بأنه واحد منهما صح، لأن نسبة مدلوله إليهما على السوية، وإنما أوجبنا المرة الواحدة، وإن لم توجد قرينة معينة لها لما تقدم فإذا أتي بها حكمنا بسقوط التكليف عنه إذا لم يعلم، ولا يظن بعد ذلك شغل ذمته بشيء آخر إلا على وجه الاحتمال وهو غير موجب

ص: 939

للتوقف على ما عرف أن مناط التكليف هو العلم أو الظن لا الاحتمال.

وثانيها: أن أهل اللغة قالوا: لا فرق بين قول القائل: "تفعل" وبين قوله "افعل" إلا في الاقتضاء والطلب، فإن قولنا:"افعل" فيه الاقتضاء والطلب دون قولنا: "تفعل".

ثم أجمعنا على أن قولنا: "تفعل" لا يستدعي تكرير المخبر عنه، بل يكفي في صدقه تحققه ولو مرة واحدة، فكذا الأمر وإلا لحصلت التفرقة بينهما بشيء آخر غير ما ذكروه، وذلك يقدح في قولهم.

وثالثها: أنه يحسن تفسير مطلق الأمر لكل واحد من التكرار والمرة الواحدة من غير تناقض ومخالفة له / (147/أ) وتكرار، وذلك يدل على أن واحدًا منهما ليس مدلوله، بل هو محتمل لها، ثم المرة الواحدة متعينة لما سبق من الدلالة المعنوية.

ورابعها: الأمر إما أن يكون حقيقة في التكرار فقط، أو في المرة الواحدة فقط، أو فيهما بالاشتراك اللفظي، أو يكون حقيقة في القدر المشترك بينهما، أو لا يكون حقيقة في شيء من هذه الأقسام الأربعة، وهذا القسم الأخير باطل بالإجماع. وكذا الثلاثة الأول فيتعين الرابع.

أما الأول: فلأنه إذا أمرنا الله تعالى بعبادة [ثم أمرنا بعبادة أخرى] لا يمكن الجمع بينهما، وجب أن تكون الثانية ناسخة للأولى، وإن كانت شرطًا لها ضرورة أن الأول: قد استوعب جميع الأوقات التي يمكن فعلها فيها، وأن الثانية: لا تجب إلا فيها، لكنه باطل لأنا نعلم بالضرورة أن

ص: 940