الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأولى في ذلك أن يقال: إنا نجد أفهامنا متبادرة إلى معني الطلب والاستدعاء عند سماع هذه الصيغة مجردة عن القرينة، ولو كانت الصيغة مشتركة بين الطلب والإباحة، والتهديد، لما كان ذلك، وإحالته إلى العرف الطارئ خلاف الأصل.
وبهذا يعرف أيضًا إنها ليست بحقيقية في القدر المشترك بين الثلاثة، لأن الجواز أعم من الطلب، والمعني الخاص لا يتبادر إلى الفهم عند سماع اللفظ الدال على المعني العام، ولأنا أجمعنا على أنها حقيقة في غير الإباحة والتهديد، فوجب أن لا تكون حقيقة فيهما ولا في أحدهما دفعًا للاشتراك.
المسألة الثامنة
[في أن مدلول الصيغة الطلب والاستدعاء، أو ما فيه الطلب والاستدعاء]
إذا عرفت أنها ليست بحقيقة في الإباحة، والتهديد، لم يبق من تلك الأمور ما يصلح أن يكون مدلول الصيغة إلا الطلب والاستدعاء.
أو ما فيه الطلب والاستدعاء المستدعي لترجيح الفعل على الترك، والاحتمالات الممكنة الناشئة منه خمسة:
أحدها: أن تكون الصيغة حقيقة في الوجوب فقط، وهو مذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين.
وثانيها: أن يكون حقيقة في الندب فقط، وهو مذهب
أبي هاشم وكثير من أصحابه، وجماعة من الفقهاء، ونسب إلى الشافعي رضي الله عنه أيضًا.
وثالثها: أن يكون حقيقة فيهما بالاشتراك اللفظي، وهو مذهب المرتضي وأصحابه من الشيعة.
ورابعها: أن تكون حقيقة فيهما بالاشتراك المعنوي، وهو كون الفعل مطلوبًا راجحًا على الترك، وهو مذهب جماعة من العلماء منهم الإمام أبو منصور الماتريدي رحمه الله تعالى.
وخامسها: التوقف في هذه الأقسام الأربعة، وهو مذهب الشيخ أبي
الحسن الأشعري، والقاضي أبي بكر واختاره إمام الحرمين والغزالي وطائفة من فقهائنا.
احتج القائلون بالوجوب بوجوه:
أحدها: قوله تعالى لإبليس: {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} .
ووجه الاستدلال به: وهو أن الصيغة وإن كانت صيغة استفهام، لكن ليس المراد منه الاستفهام لاستحالته على من يستحيل عليه الجهل، بل المراد منه التوبيخ، وأنه لا / (131/أ) عذر له في الإخلال بالسجود بعد ورود الأمر به، ولو لم يكن الأمر للوجوب لما حسن الذم والتوبيخ.
فإن قيل: ليس في النص ما يدل على أنه تعالى أمر إبليس باللغة العربية
فلعله أمره بلغة أخرى، ولعل الأمر في تلك اللغة يفيد الوجوب.
فلم قلت: إنه في اللغة العربية يفيده؟.
سلمنا: أنه أمره باللغة العربية، لكن لعله احتف به من القرائن ما أفاده ونحن لا ننكر إفادة الأمر للوجوب بقرينة.
سلمنا: تجرده عن القرينة، لكنه إنما يدل على أن الأمر للوجوب لا صيغة "افعل" ونحن نقول: إن قول القائل: "أمرتك بكذا" يفيد الوجوب.
فلم قلت: إن صيغة "افعل" تفيده والنزاع إنما هو فيه؟.
سلمنا: ذلك لكنه يدل على أن أمر الله تعالى يفيد الوجوب.
فلم قلت: إن أمر غيره تعالى يفيده؟.
سلمنا: ذلك لكنه يدل دلالة ظنية أو قطعية.
والأول: مسلم لكنه غير مفيد، لأن المسألة علمية، فلا يصح الاستدلال بها عليها.
والثاني: ممنوع وسنده ظاهر غير خفي.
فلم قلت: إن دلالته قطعية؟
سلمنا: ذلك لكنه يدل على أن تارك المندوب يستحق الذم والتوبيخ.
وهو باطل وفاقًا: لأن الأمر ينقسم إلى أمر إيجاب، وإلى أمر استحباب إجماعًا، ومورد التقسيم يجب أن يكون مشتركًا بين القسمين.
أجاب القائلون بالوجوب عن الأول: بأن الظاهر ترتب الذم والتوبيخ على مجرد مخالفة الأمر لما سيظهر أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر
بالعلية، فإحالته إلى أمر آخر غيره خلاف الظاهر، وبه خرج الجواب عن قوله: لعلة إفادة القرينة.
وعن الثالث: أن صيغة "افعل" عندما تكون للطلب يسمى أمرًا بالإجماع فمخالفتها يكون مخالفًا للأمر.
وعن الرابع: أنه لا قائل بالفصل.
وعن الخامس: أن من قال منهم بأن المسألة ظنية كأبي الحسين البصري وغيره: فأجاب بمنع كون المسألة قطعية.
وأما من قال: بأنها علمية قطعية: فأجاب بأن كل واحد مما يذكر من الأدلة وإن كان لا يفيد القطع لكن المجموع يفيده فيصح الاستدلال به وإن كان وحده لا يفيد القطع.
وعن السادس: منع كون المندوب مأمورًا به على سبيل الحقيقة ولا يمكن دعوى الإجماع فيه، فإن كثيرًا من الأصوليين صرحوا بأن المندوب غير مأمور به. وسيأتي تمامه.
وثانيها: قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} .
ووجه الاستدلال به أن هذا الأمر للوجوب لوجهين:
أحدهما: بالإجماع.
وثانيهما: أنه هدد على مخالفته لقوله تعالى: {فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم} .
والتهديد على / (131/ب) المخالفة دليل الوجوب وفاقًا.
والطاعة: عبارة عن موافقة الأمر. فتكون موافقة الأمر واجبة ولا معني لكون الأمر للوجوب سوى أن موافقته واجبة، ويعرف منه اندفاع ما يعترض عليه: من أنه أمر، والخلاف في اقتضائه الوجوب، كالخلاف في اقتضائه مطلق الأمر له، فالاستدلال به على أن الأمر للوجوب استدلال بالشيء على نفسه.
فإن قيل: لا نزاع في أنه لو ثبت أن هذا الأمر للوجوب لا يدفع ذلك الاعتراض، لكنا لا نسلم ذلك.
أما الوجه الأول: وهو الإجماع فممنوع، وهذا لأن من يزعم أن الأمر حقيقة في المندوب أو في القدر المشترك بينه وبين الواجب فإنه وإن فسر الطاعة بموافقة الأمر، فإنه يقول: ليس في الآية دلالة إلا على ندبية الموافقة أو على أولويته من غير إشعار بجواز ترك الموافقة أو عدم جوازه، فإذا كان كذلك لم يكن الإجماع منعقدًا على أن هذا الأمر للوجوب.
وأما الوجه الثاني: فلا نسلم أن في قوله تعالى: {فإن توليتم فإنما عليه ما
حمل وعليكم ما حملتم} تهديدًا، بل ليس فيه إلا الإخبار بأن الرسول صلي الله عليه وسلم ليس عليه إلا ما حمل من التبليغ، وبأن الأمة ما عليها إلا ما حملوا من القبول، وحينئذ لا يكون التولي مهددًا عليه، فلم تكن الآية دالة على الأمر للوجوب.
الجواب عن الأول: إن الأمة مجمعة على الاستدلال بهذه الآية وأمثالها نحو قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} على أن امتثال أوامر الله ورسوله صلي الله عليه وسلم وأولى الأمر واجب، فلو لم يكن هذا الأمر للوجوب لكان إطباقهم على الاستدلال بها "على الوجوب" خطأ، وهو باطل.
وعن الثاني: أن حمل كلام الله تعالى على ما هو أكثر فائدة أولى وليس في الحمل على الخبر فائدة زائدة، فإن من المعلوم أن ليس على الرسول إلا ما حمل من التبليغ دون القبول، وليس على الأمة إلا ما حملوا من القبول دون التبليغ، أما لو حملناه على التهديد لكانت فيه فائدة زائدة مناسبة لصدر الآية فكان الحمل عليه أولى.
وثالثها: قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} .
ووجه الاستدلال به: أن تارك ما أمر الله أو رسوله به مخالف لذلك الأمر، وهذا لأن مخالفة الأمر ضد موافقته، وموافقته: عبارة عن امتثاله
فتكون مخالفته عبارة عن عدم امتثاله، ولأنه يصح أن يقال: أمرتك فخالفتني / (132/أ) عند ما لم يمتثل أمره والأصل في الإطلاق هو الحقيقة ومخالف الأمر مستحق للعذاب، لأنه مأمور بالحذر عن العذاب والأمر بالحذر عنه إنما يحسن بعد وجود المقتضي له، دون احتمال وقوعه حتى يقال: إن كون الأمر مقتضيًا للوجوب محتمل، فأمر بالحذر لئلا يلزم مخالفة الواجب بدليل أنه يقبح الأمر بالحذر عن الشيء بدون وجود المقتضي له، ألا ترى أنه يقبح أن يقال: لمن جلس تحت سقف جديد غير مائل، احذر عن أن يقع عليك السقف، ولا يقبح أن يقال ذلك لمن جلس تحت سقف مائل معرض للوقوع، لما أن المقتضى للوقوع قائم فيه فلو لم يكن ترك المأمور به مقتضيًا لوقوع العذاب لما حسن الأمر بالحذر عن العقاب، ولا معني لقولنا: إن مخالف الأمر مستحق للعقاب إلا أنه وجد المقتضي لعقابه ولا معنى لكون الأمر. للوجوب إلا أن تاركه مستحق للعقاب. على ما تقدم تقريره في حد الواجب.
فإن قيل: سلمنا أن المخالفة ضد الموافقة، لكن لا نسلم أن الموافقة عبارة عن مجرد امتثال الأمر. ولم لا يجوز أن يكون موافقة الأمر عبارة عن امتثاله على وجه يقتضيه الأمر من الندب أو الوجوب أو غيرهما؟.
فعلى هذا مخالفة الأمر ليست عبارة عن مجرد عدم امتثاله، بل لو امتثل على وجه الوجوب وهو يقتضي الندب أو بالعكس كان ذلك مخالفة أيضًا.
لا يقال: ما ذكرتم لا ينافي ما ذكرنا وغير قادح فيه، وهو أن ترك المأمور
به مخالفة للأمر أيضًا، بل يقتضيه، لأن المجموع المركب من أمرين ينتفي بطرق ثلاثة، لكن غايته أنه يقتضي أن الفعل لا على وجه يقتضيه الأمر مخالفة للأمر وثبت أن مخالف الأمر مستحق للعقاب ثبت أن الأمر للوجوب على ما تقدم تقريره، فيعد ذلك أن الفعل قد يكون مخالفة أيضًا شيء غير مناف لما ذكرنا وغير قادح في غرضنا.
لأنا نقول: لا نسلم أنه غير مناف بل هو مناف وقادح في الغرض.
أما الأول: فلأن المخالفة غير منحصرة في ترك الفعل على ما ذكرنا من التفسير، لأنه لو فعله لا على وجه يقتضيه الأمر كان ذلك مخالفة أيضًا، وأما على ما ذكرتم من التفسير فإن المخالفة منحصرة في الترك والمنافاة بين المعنيين ظاهرة.
وأما الثاني: فلأنه لا يلزم من كون المخالفة على ما ذكرنا من التفسير سببًا لاستحقاق العقاب أن يكون الأمر / (132/ب) للوجوب، لجواز، أن يكون للندب وتكون مخالفته سببًا لاستحقاق العقاب، فإن بنيت هذا على أن المندوب لا يكون مأمورًا به، فلا تكون مخالفته سببًا لاستحقاق العقاب، فهو أول المسألة، فلا حاجة إلى الاستدلال بكون المخالفة سببًا لاستحقاق العقاب على أن الأمر للوجوب، فإنه مهما ثبت أن المندوب لا يكون مأمورًا به ثبت أن الأمر للوجوب.
أو نقول: لم لا يجوز أن يكون موافقة الأمر عبارة عن الاعتراف بكونه حقًا واجب القبول؟.
فعلى هذا مخالفته عبارة عن إنكار كونه حقًا واجب القبول.
ونحن نقول: إن مخالفة الأمر على هذا التفسير سبب لاستحقاق العقاب ومعلوم أنه لا يقتضي أن يكون الأمر للوجوب، ثم ما ذكرتم منقوض بالمندوب فإن تاركه "لا يستحق" العقاب وفاقًا. ولو كانت مخالفة الأمر عبارة عما ذكرتم، لوجب أن يستحق تاركه العقاب ضرورة انقسام الأمر: إلى أمر الوجوب، وإلى أمر الندب.
سلمنا: أن المخالفة عبارة عما ذكرتم، لكن لا نسلم "أن مخالف الأمر يستحق العقاب أما قوله تعالى:{فليحذر الذين يخالفون عن أمره} (فلا نسلم) أنه يدل عليه، وهذا لأنه أمر بالحذر عن المخالف، لا أنه أمر المخالف بالحذر.
فإن قلت: هذا مدفوع، لأنه لا فائدة في الأمر بالحذر عن المخالف، لأن مخالفته ليست سببًا لمؤاخذة غيره حتى يؤمر بالحذر عن العذاب، بدليل قوله تعالى:{ولا تزر وازرة وزر أخرى} .
قلت: لا نسلم أنه لا فائدة فيه فإن معصية الشخص قد تكون سببًا لمؤاخذة الغير، إذا كان مخالطًا له، بدليل قوله تعالى:{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} .
وأما قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} فهي عامة بالنسبة
إلى ما تلونا مكان ما تلونا مقدمًا.
سلمنا: أنه أمر للمخالف، لكن للمخالف عن الأمر أو لمخالف الأمر.
الأول: مسلم.
والثاني: ممنوع، وهذا لأن المخالف عن الأمر ليس بمعني مخالف الأمر، حتى يلزم من كون المخالف عن الأمر مأمورًا بالحذر عن العقاب، كون مخالف الأمر مأمورًا بذلك، وإلا لزم أن يكون كلمة "عن" زائدة لا فائدة فيها وكلام الله تعالى يصان عن ذلك.
سلمنا: ذلك لكن الآية تدل على أن مخالف أمر واحد مأمور بالحذر عن العذاب أم مخالف كل أمر.
والأول: مسلم.
والثاني: ممنوع. وهذا لأن المفرد والمعرف لا يفيد العموم، ونحن نقول: بأن أمرًا واحدًا يفيد / (133/أ) الوجوب ولا يلزم منه أن يكون كل أمر مفيد له.
سلمنا: إفادته عموم الأمر، لكن عموم أمر الله أو عموم أمر الرسول، لأن ضمير المفرد لا يرجع إلى المثني.
فلم قلت: إن أمر الآخر وأمر كل آمر للوجوب؟.
الجواب: قوله: لا نسلم أن موافقة الأمر عبارة عن مجرد امتثاله.
قلنا: الدليل عليه: أن العبد إذا فعل ما أمره به سيده حسن أن يقال: إنه وافق أمر سيده وإن لم يعلم اعتقاده في أنه فعله على ذلك الوجه، وذلك يدل
على أنها عبارة عن مجرد الامتثال، إذ لو كان ما ذكروه من القيد معتبرًا فيها، لما حسن أن يقال: ذلك ما لم يعلم أنه هل فعله على ذلك الوجه أم لا.
وبه خرج الجواب عن قوله: لم لا يجوز أن يكون موافقة الأمر عبارة عن امتثاله على وجه يقتضيه من الندب أو الوجوب؟.
وأما قوله: لم لا يجوز أن يكون موافقة الأمر عبارة عن الاعتراف بكون الأمر حقًا واجب القبول؟.
فجوابه: إن ذلك ليس موافقة للأمر، بل هو موافقة للدليل الدال على أن ذلك الأمر حقًا واجب القول، لأن موافقة الشيء يقتضي تقرر مقتضاه، وكون الأمر حقًا واجب القبول ليس من مقتضي الأمر فلا يكون الاعتراف به موافقة للأمر.
وأما الجواب: عن البعض فقد تقدم. وهو أنا لا نسلم إن المندوب مأمور به على الحقيقة.
أما قوله: إن النص أمر بالحذر عن المخالف لا أمر للمخالف بالحذر.
فجوابه من وجوه:
أحدها: أن أحدًا من الأمة لم يفهم هذا المعني منه، بل كلهم فهموا منه
أن مخالف أمر الله ورسوله مأمور "منه" بالحذر عن أن تصيبه [فتنة أو يصيبه] عذاب، فلو كان ما ذكرتم من المعني مراد منه لكانت الأمة ذاهلين عن الحق مطبقين على غير المراد. وهو باطل، إذ في ذلك إجماعهم على الخطأ.
وثانيها: أنه يلزم الإجمال على ما ذكرتم، لأن المأمور بالحذر عن المخالف غير متعين على ذلك التقدير، لأنه ليس في الآية ولا ما قبلها سوى ذكر المتسللين، وهم لا يصلحون أن يكونوا مأمورين بالحذر "عن المخالف لأنهم هم المخالفون فلو كانوا مأمورين بالحذر عن المخالف لكانوا مأمورين بالحذر" عن أنفسهم.
وهو باطل لاستحالة أن يكون الإنسان مأمورًا بالحذر عن نفسه.
وأما على تقدير أن يكون أمرًا للمخالف بالحذر لا يلزم هذا الإجمال، فكان حمل الآية عليه أولى دفعًا للإجمال.
فإن قلت: لا نسلم أنه يلزم الإجمال، وهذا لأن المأمور وإن كان غير متعين بحسب دلالة / (133/ب)[اللفظ لا نسلم أنه يلزم الإجمال، وهذا لأن المأمور وإن كان غير متعين بحسب دلالة اللفظ، لكنه متعين بحسب دلالة] العقل وهو جميع المكلفين من المؤمنين، على رأي من لم ير أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام، أو جميع المكلفين على رأي من يرى
ذلك. كما هو في التكاليف المطلقة.
قلت: هب أنه كذلك، لكنه بطريق الاقتضاء والإضمار، وأنه خلاف الأصل لا يصار إليه إلا لضرورة.
وثالثها: أن الفعل على ما ذكرتم من المعني يكون مسندًا إلى المفعول في اللفظ، وإن كان مسندًا إلى الفاعل في المعني، وعلى ما ذكرنا يكون مسندًا إلى الفاعل في اللفظ والمعني، فكان أولى لاتفاقهم على أن ذكر الفاعل أولى من ذكر المفعول.
ورابعها: أن الفاعل والمفعول كليهما مذكوران على تقدير أن تكون الآية أمرًا للمخالف بالحذر، أما على تقدير أن تكون أمرًا بالحذر عن المخالف يكون المفعول مذكورًا دون الفاعل وكان الأول أولى.
قوله: الآية أمر للمخالف عن الأمر لا لمخالف الأمر، وهما ليسا بمعني واحد، وإلا لزم أن تكون كلمة "عن" زائدة لا فائدة فيها.
قلنا: لا نسلم أنهما ليسا بمعني واحد، بل هما بمعني واحد لكن البعد والمجاورة في قوله:{يخالفون عن أمره} مدلول عليه بطريق المطابقة وهو في قولنا: يخالفون أمره. بطريق الالتزام، لأن مخالفة الأمر يستلزم بعدًا
عن الأمر فلا يلزم من دلالتهما على معني واحد، أن تكون كلمة "عن" زائدة لا فائدة فيها، لأن كون المعني معبرًا عنه بطريق المطابقة فائدة زائدة لكن في اعتبار الدلالة لا في مدلوله.
قوله: الآية تدل على أن لمخالف أمر واحد يستحق العذاب لا مخالفة كل أمر. فلم قلت: إن مخالف كل أمر يستحقه؟.
قلت: لأنها تدل على أن مخالف كل أمر مأمور بالحذر عن العذاب، بدليل صحة استثناء كل واحد من أنواع المخالفات عنها. والاستثناء من الكلام: ما لولاه لدخل فيه، ولأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فيعم الحكم لعموم علته ونحن لا نسلم أن المفرد المعرف سواء كان باللام أو بالإضافة لا يفيد العموم.
سلمنا: أنها لا تفيد العموم، لكن لما سلمتم أنها تفيد أن مخالف أمر واحد يستحق العذاب فقد حصل الغرض، لأنه يلزم منه أن مخالف كل أمر يستحقه إذ لا قائل بالفصل، وبه خرج الجواب عن السؤال الأخير أيضًا.
ورابعها: التمسك بقوله تعالى: {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} .
ووجه التمسك به: هو أنه تعالى ذم أقوامًا على ترك ما قيل لهم: افعلوا، إذ الآية لسياقها تدل على الذم فلو لم يكن الأمر للوجوب لما حسن ذلك، كما في تركه المندوب / (134/أ) واستحقاق الويل بسبب التكذيب، لو سلم
أن المكذبين هم الذين تركوا الركوع لا ينافي استحقاق الذم بسبب ترك الركوع، إذ الكفار عندنا مخاطبون بفروع الإسلام، كما هم مخاطبون به وإحالة الوجوب إلى قرينة الركوع أو غيرها خلاف الأصل، لأنه يوجب التعارض أو التجوز وهما على خلاف الأصل.
وخامسها: قوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم} . وقوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا} .
ووجه الاستدلال به: هو [أن] تارك المأمور به يسمي عاصيًا بالنقل والاشتقاق والاستعمال.
أما النقل: فظاهر.
وأما الاشتقاق: فلأن بناء لفظة العصيان تدل على الامتناع قال عليه السلام: "لولا أنا نعصي الله لما عصانا" أي لم يمتنع من إجابتنا، والعصا إنما سمى عصا، لأنه يمتنع بها والجماعة إنما تسمى بالعصا، يقال: شققت
عصا المسلمين أي جماعتهم، لأنها تمتنع لكثرتها ويقال: هذا الخطب مستعصى على الكسر أي ممتنع، وكذا يقال: هذا الشعر والكلام مستعصى على الحفظ أي ممتنع وتارك المأمور "به" ممتنع عن فعله فيكون عاصيًا نظرًا إلى الاشتقاق.
وأما الاستعمال فيدل عليه القرآن والشعر والعرف.
أما القرآن، فكقوله تعالى:{أفعصيت أمري} {لا يعصون الله ما أمرهم} {لا أعصى لك أمرًا} .
وأما الشعر فقول ابن المنذر:
أمرتك أمرًا جازمًا فعصيتني ...... فأصبحت مسلوب الإمارة نادمًا
وأما العرف: فلأن أهل اللسان يقولون: شائعًا ذائعًا لمن لم يمتثل الأمر، أمرتك فعصيتني، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فثبت أن تارك المأمور به يسمى عاصيًا، وأن العاصي يستحق النار، وأنه ضال بما ذكرنا من النصين، فيلزم أن يكون الأمر للوجوب، لأنه لا يجوز أن يوصف تارك ما جاز تركه بالضلالة، ولا هو مستحق النار وفاقًا.
فإن قلت: لم لا يجوز أن يقال: إن وصف تارك المأمور به بكونه عاصيًا حيث وصف به قرينة دالة على أن ذلك الأمر للوجوب؟ وهذا لأن العاصي اسم ذم بالاتفاق فلا يجوز أن يوصف تارك مطلق الأمر به، لأن مطلق الأمر ينقسم إلى أمر إيجاب، وإلى أمر ندب.
أما للإجماع، وأما لأنه لو لم يكن كذلك لزم التجوز وأنه خلاف الأصل وتارك المندوب لا يوصف باسم الذم اتفاقًا.
سلمنا: ذلك لكن لا نسلم أن العاصي مطلقًا يستحق النار، وما ذكرتم من النصين فمختصان بالكفار (134/ب).
أما الأول: فلقرينة الخلود.
وأما الثاني: فلقرينة الضلالة، فإن الضلالة عبارة عن الكفر، قال الله تعالى {إنهم ألفوا آبائهم ضالين} أي كافرين، وقال عليه السلام:"لا تجتمع أمتي على الضلالة" أي على كفر.
....................................................................................
وإن سلمنا: أنها ليست عبارة عن الكفر لكنها ليست عبارة عن ترك واجب عملي، فإن تاركه لا يوصف بها، بل هي عبارة عن عدم الاهتداء إلى ما لابد من معرفته في الدين. قال الله تعالى:{ووجدك ضالاً فهدى} وقال تعالى في قصة موسي: {فعلتها إذًا وأنا من الضالين} .
وإذا كان كذلك فيحتمل العصيان في آية الضلالة على ترك معرفة ما لابد من معرفته في الدين أو على عدم اعتقاد حقيقة الأمر وعدم قبوله وحينئذ لا تكون الآية عامة في تارك المأمور به أيضًا.
قلت: الجواب عن الأول: فقد تقدم في الدليل الرابع: ونحن لا نسلم أن مطلق الأمر: ينقسم إلى أمر إيجاب وندب.
وأما الإجماع: فممنوع كما تقدم.
وأما لزوم التجوز فمشترك كما سنذكر.
لا يقال: كما يلزم التجوز على تقدير أن يكون الأمر للقدر المشترك بين الوجوب والمندوب واستعماله في الواجب لقرينه، فكذا يلزم التجوز على تقدير أن يكون الأمر للوجوب، لأنه استعمل في المندوب فلم كان هذا أولى من ذاك؟، لأنا نقول: هذا أولى من ذاك لوجوه:
أحدها: أن على هذا التقدير لا يلزم إلا التجوز، وأما على ذلك التقدير يلزم التجوز والتخصيص، فإن قوله تعالى:{ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم} لا يبقي على عمومه ومعلوم أن المجاز وحده خير من المجاز والتخصيص.
وثانيها: أنا لو جعلناه حقيقة في الواجب فقط، كان مجازًا في المندوب وفي القدر المشترك بينهما ويكون إطلاقه على القدر المشترك من باب إطلاق اسم الكل على الجزء.
وأما لو جعلناه حقيقة في القدر المشترك لم يكن إطلاقه لا على الواجب ولا على المندوب من هذا أحيل بل يكون من باب إطلاق اسم الجزء على الكل، وقد سبق أن الأول أولى.
وثالثها: الاحتياط يقتضي جعله حقيقة في الواجب، ومجازًا في غيره من غير عكس فكان أولى.
وعن الثاني: أن الخلود هو المكث الطويل لا الدائم، فلا يكون قرينة دالة على اختصاص الوعيد بالكفار، ولا نسلم أن تارك واجب عملي لا يوصف بالضلالة، وكيف يقال: ذلك؟.
وقد ورد: "من ترك الصلاة متعمدًا فقد كفر".
سلمنا: ذلك لكن الآية دالة على ترتيب الضلالة على ترك المأمور به عملي، وإنما يكون / (135/أ) تركه ضلالة إن لو كان واجبًا، فإن تارك المندوب سواء كان عمليًا أو علميًا لا يوصف به وفاقًا، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الأمر للوجوب مطلقًا وإلا لزم الفصل بين المأمور به العلمي والعملي في الوجوب وعدمه، وهو خلاف الإجماع.
وسادسها: التمسك بقوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة} .
ووجه الاستدلال به من وجهين:
أحدها: أنها نزلت في قوم أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يزوجوا من أسامة بن زيد، فلم يفعلوا [و] ذلك يدل على انتفاء الخبرة عن أمره عليه السلام، ولو لم يكن الأمر للوجوب لما انتفت الخيرة عنهم عن أمر.
ونحن وإن قلنا: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لكن لا خلاف أن دلالته على السبب أقوى من دلالته على غيره.
وثانيها: أن يستدل [به] باعتبار اللفظ.
فنقول: إن القضاء هو الحكم بالنقل والاستعمال.
أما النقل: فظاهر، فإن الجوهري ذكر ذلك في صحاحه وغيره.
وأما الاستعمال فقوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} أي حكم.
ويقال: قضى القاضي بكذا أي حكم.
والأمر: هو القول المخصوص، لأنه حقيقة فيه على ما تقدم تقريره، فيجب حمله عليه، إذ لا ضرورة في صرفه عنه فمعني قوله تعالى:{إذا قضى الله ورسوله أمرًا} أي إذا حكم الله ورسوله أمرًا، وحكم الأمر هو تعيينه وتوجيهه وإصداره نحو المكلف شاء أو أبي، إذ لا يعقل لحكم الأمر معنى سوى هذا.
ثم ليس هذا المعنى مغنيًا عن الحكم بطريق التجوز ليقال: ليس حمل الحكم على هذا المعني بطريق التجوز أولى من حمل الأمر على الشيء بطريق التجوز، لأن الحكم إذا أضيف إلى القول الصادر من الحاكم كان معناه ما ذكرنا، وإذا أضيف إلى القول الصادر من المحكوم عليه، كان معناه أنه وجه نحوه وألزم به إصداره عنه، كما إذا أضيف إلى الفعل من الجانبين، وحينئذ يصير معنى الآية إذا وجه الله ورسوله أمرًا إلى المكلفين، فإنه لا خيرة لهم في ذلك الأمر، وإنما أضاف الأمر إليهم، لأنه تخصيص لهم، والمصدر كما يضاف إلى الفاعل، يضاف إلى المفعول أيضًا، ولا حاجة إلى صرف الأمر الثاني إلى المأمور به لما قيل: بأنه لو حمل على حقيقته، وهو القول المخصوص لصار معنى الآية أنه لا خيرة للمأمورين في صفة الله تعالى، وذلك كلام غير مفيد.
ولما قيل: بأن الخيرة إنما تتعلق بالفعل لا بالخطاب المكلف، لأنا لا نسلم أن انتفاء / (135/ب) الخيرة عن الأمر معناه ما ذكر، ولا نسلم بأن الخيرة إنما تتعلق "بالفعل لا بالخطاب"، وهذا لأن انتفاء الخيرة عن الأمر، معناه أنه لابد من امتثاله، وليس هو مخير بين امتثاله وعدم امتثاله، وهذا المعني معقول في نفس الأمر فلا حاجة إلى صرفه إلى المأمور به، وأيضًا فإنه يرد على ذلك التقدير أن يقال: إن الذهن يتبادر إلى اتحاد معني الأمرين، فإذا كان المراد من الأمر الثاني: هو المأمور به، وجب أن يكون هو المراد بعينه من الأمر الأول، وإن كان مجازًا فيه، وإذا انتفت الخيرة عن الأمر بالمعني المتقدم ذكره تعين أن يكون للوجوب وهو المطلوب، وبما ذكرنا من تفسير القضاء والحكم، يعرف سقوط الاعتراض الذي نذكر في هذا المقام. وهو أنا نسلم أن الله تعالى ورسوله إذا قضى أمرًا يكون الأمر ملزمًا.
فلم قلت: إن مجرد الأمر يكون ملزمًا؟. والنزاع إنما هو فيه بل ظاهر
مفهومه أن لا يكون بمجرده ملزمًا.
وسابعها: التمسك بقوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت} أي: أمرت هكذا نقل عن أئمة التفسير، ويشهده القضية التي نزلت الآية فيها، فإنه لم يوجد في تلك الصور سوى الأمر، ولو كان الأمر بغير الوجوب لما كان كذلك.
ولقائل أن يقول: ولو كان الأمر للوجوب لما كان أيضًا كذلك، لأن بترك الواجب لا يتحقق عدم الإيمان، وليس من شرط المأمور به الواجب أن لا يجد المكلف فيه من نفسه حرجًا، وإذا لم يستقم معناه على تقدير أن يكون الأمر للوجوب أيضًا، فيجب صرفه إلى عدم اعتقاد حقيقة الأمر واعتقاد عدم توجهه إلى المكلف، هذا لو سلم أن القضاء بمعني الأمر، وإلا فالاستدلال به ساقط بالكلية. وهو الحق في أن الأمر كان في معرض الحكم بدليل التنازع والترافع إليه عليه السلام.
وثامنها: التمسك بقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم} .
ووجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم منه الوجوب، وكذا الصحابة رضوان الله عليهم إذ روى أنه عليه السلام دعا أبا سعيد فلم يجبه، لأنه كان في الصلاة فقال له عليه السلام:"ما منعك أن تستجيب وقد سمعت قول الله: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم} ".
فقوله: ما منعك. ليس استفهامًا عن العذر إذ الصلاة عذر في ترك كلام غير واجب دون الكلام الواجب.
ألا ترى أن / (136/أ) المصلي لو رأي أعمي مشرفًا على الهلاك بسبب وقوعه في حفرة، فإنه يجب على المصلى أن ينبهه "عليه"[بكل] كلام، إذا لم يمكنه صرفه عنها بفعل لبعده عنه ولا يفسد به صلاته على الأظهر. فيتعين أن يكون ذمًا وتوبيخًا، ثم لم يعتذر أبو سعيد رضي الله
عنه بأني أعلم أن الله تعالى أمرني بالاستجابة، لكن لم أعلم بأنه أوجب على حتى أعلم أن الصلاة ليست عذرًا بالنسبة إلى استجابة الله تعالى والرسول، وكذا غيره من الصحابة سلموا ذم النبي عليه السلام وتوبيخه إياه، إذ لم ينقل عن أحد منهم أنه استفهم عنه عليه السلام عن سببه مع جريان عادتهم وعادات غيرهم الاستفهام عن الأسباب الخفية الأحكام، فثبت بما ذكرنا أنه عليه السلام فهم منه الوجوب وليس له في الآية سبب ظاهر سوى الأمر فوجب أن يكون هو السبب فيكون الأمر للوجوب.
فإن قلت: لا نسلم أنه ليس للوجوب سبب ظاهر سوى الأمر، فإن كون الإجابة تعظيمًا لله وللرسول، والإعراض عنها تحقيرًا وإهانة لله وللرسول قرينة ظاهرة تقتضي حمل الأمر على الوجوب، وكذا قوله:{إذا دعاكم لما يحييكم} قرينة مقتضية له.
قلت: الجواب عن الأول: أن ما ذكرتم من القرينة حاصلة في كل أمر لله والرسول فيجب أن يكون كل أمرًا لله والرسول للوجوب، وإذا ثبت أن "كل" أمرهما كذلك، وجب أن يكون أمر غيرهما أيضًا للوجوب، إذ لا يقال بالفصل.
وعن الثاني: أن أبا سعيد لم يستفهم أن دعاه عليه السلام لماذا كان ألما يحيي أم لا؟ فإن جميع أوامر النبي [عليه السلام] لما يحيي وبتقدير أن يكون كذلك، كان الجواب لازمًا له، فيكون المقصود حاصلاً لما تقدم وكذا النبي عليه السلام لم يبين له ذلك، ولو كان الواجب مستفادًا من قرينة لما يحيي لما استحق الذم إلا بعد العلم لما لأجله الدعاء.
وتاسعها: ما روى عنه عليه السلام أنه قال لبريرة: لما اختارت فراق زوجها حين عتقت في نكاحه: "لو راجعتيه فإنه أبو أولادك"، فقالت: أتأمرني بذلك يا رسول الله، فقال:"لا إنما أنا شافع". فقالت: لا حاجة لي.
ووجه الاستدلال به: أنه عليه السلام نفي الأمر مطلقًا وأثبت الشفاعة الدالة على الندبية، فلو لم يكن الأمر للوجوب فقط لما صح هذا.
فإن قلت: لا نسلم أنه لو لم يكن الأمر للوجوب لما صح نفي الأمر وإثبات الشفاعة، وهذا لأنه يجوز أن يكون سؤالها عن الأمر طلبًا للثواب لطاعته وهو يحصل بفعل / (136/ب) المندوب، كما يحصل بفعل الواجب، لكن لما لم يكن في هذا الفعل ثواب لا جرم نفي الأمر عليه السلام، ويجوز أنه عليه السلام إنما شفع فيه لمصلحة دنياوية، ويؤيده قوله عليه السلام:"فإنه أبو أولادك" وحينئذ لم يكن ذلك دالاً على أن الأمر للوجوب.
سلمنا: أن شفاعته تدل على ندبيته، لكن لم لا يجوز أن يقال: إن قرينة الاستفهام دالة على أنها أرادت بقولها: (أتأمرني بذلك) أمر الوجوب؟، لأن على تقدير أن يكون المندوب مأمورًا به والشفاعة مندوبة، يكون هذا الاستفهام قرينة دالة على أنها أرادت به أمر الوجوب. فإن بنوا هذا على أن المندوب غير مأمور به، فهو أول المسألة.
قلت: الجواب عن الأول: أن إجابة شفاعة النبي عليه السلام، وإن كانت لمصلحة دنياوية مندوبة، لما فيه من تعظيمه عليه السلام، وتفريح قلبه، فلا يجوز أن يكون سؤالها عن الأمر طلبًا للثواب، ولو قدر أنه التبس عليها هذا القدر لكن لا يجوز لبسه على الرسول عليه السلام، فنفيه الأمر مطلقًا، يدل على أنه عليه السلام علم أن الأمر للوجوب، وإلا كان من حقه أن يسأل أتسألني عن أمر الندب أو أمر الوجوب ثم ينفيه لو قالت: أمر الوجوب.
وعن الثاني: أن استفادة المعاني من القرائن خلاف الأصل.
وعاشرها: قوله عليه السلام: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة".
وكلمة لولا تقتضي انتفاء الشيء لوجود غيره، فالحديث يقتضي انتفاء الأمر بالسواك عند كل صلاة لوجود المشقة، لكنه مندوب بالإجماع عند كل صلاة مع وجود المشقة، فالمندوب غير مأمور به.
فإن قلت: ليس كل مندوب مأمورًا به، وهذا لأن المأمور به هو الذي ورد فيه صيغة الأمر، وندبية الشيء قد تثبت بغير صيغة الأمر.
مثل أن يقال: "الأولي لك أن تفعل"، وهذا الفعل مندوب إليه، وقد ندبتك إليه، وقد ثبت بقاعدة القياس، وحينئذ لا يلزم من ندبيته وعدم كونه مأمورًا به أن يكون كل مندوب غير مأمور به، بل غايته أنه يقتضي أن لا يكون بعض المندوب مأمورًا به، ونحن نقول به "فإن ما ثبت ندبيته بغير صيغة الأمر، فإنه غير مأمور به عندنا أيضًا.
سلمنا: أنه يقتضي أن كل مندوب غير مأمور به، لكن لقرينة المشقة فإنها دالة على أنه عليه السلام أراد بالأمر أمر الوجوب، لأن المشقة لا تكون إلا في الواجب ضرورة أن المندوب لا مشقة فيه، لأنه مفوض إلى خيرة المكلف ولا يبعد حمل الأمر على / (137/أ) الوجوب لقرينة.
قلت: الجواب عن الأول: أنه ليس المراد من قوله عليه السلام: "لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" أي: أصدرت فيه صيغة الأمر سواء كان للوجوب أو ليس له، لأن على تقدير إن لم يكن الأمر للوجوب فإنه لا تتحقق المشقة بمجرد ورود صيغة الأمر وكلمة "لولا" في الحديث تقتضي انتفاء الأمر لوجود المشقة، وهو إنما يكون لو كان الأمر سببًا للمشقة فالمراد منه: نفي الأمر الموجب للمشقة وهو أمر الوجوب.
وعن الثاني من وجهين:
أحدهما: ما سبق.
وثانيهما: أن كلمة "لولا" دخلت على مطلق الأمر، فيجب انتفاؤه مطلقًا، فلو كان المندوب مأمورًا به لزم التقييد وأنه خلاف الأصل.
وحادي عشرها: أن الصحابة أجمعوا على أن الأمر للوجوب، بل الأمة بأسرها في كل عصر توجب أن يكون للوجوب وإلا لزم أن يكون إجماعهم خطأ وهو ممتنع.
بيان الأول: أن بعضهم تمسك بالأمر على الوجوب، ولم ينكر عليه الباقون فكان إجماعًا لما سيأتي في الإجماع، إن الإجماع السكوتي حجة.
وإنما قلنا: إن بعضهم تمسك بالأمر على الوجوب.
روى أن أبا بكر رضي الله عنه تمسك في قتال مانعي الزكاة بقوله تعالى: {وآتوا الزكاة} .
وروى عن عمر رضي الله عنه أنه تمسك في وجوب أخذ الجزية عن
المجوس بقوله عليه السلام: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب".
وروي عن جماعة منهم أنهم أوجبوا غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا للحديث المشهور.
وكذا عرف من مذهب جميعهم أو أكثرهم: أنهم أوجبوا قضاء الصلاة عند ذكرها بقوله عليه السلام: "فليصلها إذا ذكرها".
وكذا أوجبوا البداية بالصفا بقوله: "ابدأوا بما بدأ الله تعالى".
وكذا رجعوا في وجوب الإمساك إلى قوله عليه السلام: "إلا من أكل فليمسك بقية نهاره ومن لم يأكل فليصم".
وكذا الأمة في كل عصر تفزع في وجوب الأشياء، إلى أوامر الله تعالى وأوامر رسوله.
إذ قل ما ثبت وجوب الأشياء من العبادات وغيره بصريح قوله: أوجبت، وحتمت، وفرضت، بل أكثرها بصيغ الأوامر، وإحالته إلى القرائن على خلاف الأصل على ما عرفت من قبل.
وأما بيان أنه لم ينكر عليه الباقون: فلأنه لو أنكر عليه لظهر واشتهر على ما ستعرف تقرير هذه القاعدة في الإجماع والأخبار.
وأما بيان الثاني: فظاهر.
وأما الثالث: فسيأتي إن شاء الله تعالى أن الإجماع حجة.
فإن قلت: كما اعتقدوا الوجوب عندما ذكرتم ما / (137/ب) ذكرتم من الأوامر، فكذا لم يعتقدوا في غيرها من الأوامر، نحو قوله تعالى:{واستشهدوا شهيدين من رجالكم} . ونحو قوله تعالى: {واشهدوا إذا تبايعتم} .
وقوله: {فانكحوا ما طاب لكم} وقوله: {وإذا حللتم فاصطادوا} . وقوله: {وكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا} [وقوله]: {وأحسنوا} . وقوله: {فانتشروا في الأرض} .
وأمثالها من الكتاب والسنة ما لا يعد ولا يحصى، وإذا كان كذلك، فليس القول: بأنهم لم يعتقدوا الوجوب في هذه الأوامر لقرائن تدل على
الندب، أولى من القول: بأنهم اعتقدوا الوجوب في تلك الأوامر لقرائن تدل على الوجوب، وعليكم الترجيح، لأنكم المستدلون، ثم إنه معنا لأنا لو أثبتنا الوجوب في تلك الأوامر لقرائن تدل عليه لكنا أثبتنا حكمًا زائدًا على مدلول اللفظ بدليل زائد لا يتعرض له اللفظ لا بنفي ولا إثبات، ولو أثبتناه بتلك الأوامر لزم التعارض فيما ذكرنا من الأوامر المحمولة على الندب بين تلك الأوامر وبين القرائن الدالة على الندب، وإنه خلاف الأصل.
قلت: القول: بأنهم اعتقدوا الندب فيما ذكرتم من الأوامر لقرائن تدل عليه، أولى من العكس. ويدل عليه وجوه:
أحدها: أن الوجوب لو لم يكن مستفادًا من تلك الأوامر، لكان دليل وجوب أخذ الجزية من المجوس مثلاً شيئًا غير خبر عبد الرحمن رضي الله عنه، ولو كان كذلك لوجب اشتهاره، إذ العادة تحيل إخفاء مثل هذا لاسيما في هذه الصورة، إذ روى أن عمر رضي الله عنه كان شديد الاهتمام في حقهم، وكان يشاور الصحابة في أمرهم فلم يجد من أحد منهم في حقهم شيئًا، وكان يقول: ما أدرى ما أفعل بهم حتى روى لهم عبد الرحمن الخبر، فحينئذ ضرب عليهم الجزية فهذا يفيد قطعًا بأنه لم يكن له مستند سوى ذلك الخبر، فإن القول: بأنه أثبت ذلك الحكم لا عن دليل باطل قطعًا.
وثانيها: أنا لو جعلنا الوجوب "مستفادًا" من الأمر لكان الأمر حقيقة فيه، وحينئذ يكون استعماله في القدر المشترك استعمال لفظ الكل في الجزء، ولو جعلنا الوجوب مستفادًا من القرائن، وجعلناه حقيقة في القدر المشترك لكان ذلك استعمالاً للفظ الجزء في الكل وقد تقدم أن الأول أولى.
وثالثها: طريقة الاحتياط.
وثاني عشرها: أن الوجوب معني من المعاني تمس الحاجة إلى التعبير عنه، فوجب أن يكون [له] لفظ لما سبق في اللغات، ثم ذلك اللفظ يجب أن يكون مفردًا، لأنه أخف على اللسان من المركب، والواضح حكيم والحكيم إذا كان لحصول مقصوده طريقان اختار أيسرهما، فيغلب على الظن أنه وضع له لفظًا مفردًا، كما في سائر المعاني التي تشتد الحاجة إلى التعبير عنها، وليس هو غير "افعل" إجماعًا، فهو هو إذًا.
ولو عورض هذا بمثله بالنسبة إلى الندب، وبالنسبة إلى القدر المشترك بينه وبين الواجب، وبالنسبة إلى كونه مشتركًا بين الواجب والندب، لأن تعبير أحدهما على سبيل الإبهام مما تمس الحاجة إليه أيضًا، فنحن نرجح جانب الوجوب.
أما بالنسبة إلى الندب فلأن الندب يجوز الإخلال به، والواجب لا يجوز الإخلال به، والإخلال ببيان ما يجوز الإخلال به أولى من الإخلال ببيان ما
لا يجوز الإخلال به، لكون الحاجة إليه أكثر.
وأما بالنسبة على القدر المشترك، فهذا لأن البراءة الأصلية مجوزة للترك، وإن لم يكن للفظ به إشعار لما سبق غير مرة.
وأما بالنسبة إلى كونه مشتركًا بين الواجب وبين الندب، فلأن الاشتراك على خلاف الأصل.
فإن قلت: ما ذكرتم من الدليل منقوض، بأصناف الروائح وأنواع الاعتمادات وبالساعات وبالحال والاستقبال، فإن هذه المعاني مما تمس الحاجة إلى التعبير عنها مع أنه لم يوضع لكل واحد منها لفظ مفرد.
ومعارض أيضًا: بما أنه لو كان لفظ "افعل" موضوعًا للوجوب لوجب أن يشتهر بحيث يعرفه كل أحد، كسائر الألفاظ الموضوعة للمعاني التي تشتد الحاجة إلى التعبير عنها، ولو كان كذلك لزال الخلاف عنه، ولما لم يكن كذلك علمنا أنه غير موضوع له.
قلت: الجواب عن النقوض: أن الحاجة إلى الوجوب أكثر من الحاجة إلى ما ذكرتم من المعاني، لأنه لا غني للإنسان عنه في حياته لاحتياجه إلى ما لا يجوز الإخلال به على سبيل التكرار، بخلاف ما ذكرتم من المعاني، فإن الحاجة غليه [غير] ضرورية ألبتة، فضلاً عن أن يكون على سبيل التكرار.
وعن المعارضة: "له" أن الاشتهار إنما يجب لو سلم عن المعارض
الشديد الالتباس به، أما إذا كان له معارض بحيث لا يظهر الفرق بينه وبين معارضة الأعلى وجه غامض فلا.
وثالث عشرها: أن السيد إذا عاقب عبده على ترك ما أمره به سيده، فإن العقلاء من أهل اللسان لا يلومونه على ذلك، بل يستحسنون ذلك منه ويذمون العبد ويوبخونه على الترك، فلو لم يكن الأمر للوجوب لما كان كذلك.
فإن قلت: لا نسلم أنهم يذمونه مطلقًا، ويستحسنون فعله كذلك بل حيث عرفوا قرينة دالة على / (138/ب) أن الأمر للوجوب، ولهذا يحسن من العبد أن يقول له: عقيب أمره له، أتريد هذا حتمًا أو تجوز لي تركه؟.
ولو كان الأمر للوجوب فقط لما حسن هذا الاستفهام.
سلمنا: ذلك لكن إنما كان كذلك، لأن الشريعة جاءت بوجوب طاعة العبد للسيد، ولهذا لو كان المأمور به معصية لا يذمونه على تركها، لأن الشريعة ما جاءت بوجوب امتثال أمره فيها.
سلمنا: صحة دليلكم لكنه معارض بما أنه لو كان مجرد ترك المأمور به سببًا للذم، لوجب الذم بترك المندوب المأمور به ضرورة أنه ترك للمأمور به.
قلت: الجواب عن الأول: أنهم يذمونه مطلقًا ويستحسنون فعله كذلك والدليل عليه أنهم لو سئلوا عن ذلك، فإنهم يعللونه بعدم
امتثال أمر سيده ولم يزيدوا عليه شيئًا، فلو كان الوجوب مستفادًا من القرائن لما استحق هذا التعليل، بل كان ينبغي أن يقولوا: إنه أمره بقرينة دالة على الوجوب فلم يمتثل أمره، ولما لم يفعلوا هذا بل يعللون بمطلق ترك المأمور به علمنا أنه هو المنشأ لحسن ذمة ولتحسين عقابه.
وأما قوله: يحسن من العبد أن يستفهم من السيد أنه أمر وجوب أوامر ندب، ولو كان للوجوب فقط لما صح هذا.
قلنا: لا نسلم أنه لا يصح هذا الاستفهام على تقدير أنه للوجوب فقط، وهذا لأنه قد يستفهم عن مدلول اللفظ دفعًا للمجاز عنه لاسيما إذا كان كثير الاستعمال في المجاز، وستعرف ذلك في باب العموم إن شاء الله تعالى.
وعن الثاني: أن الشريعة إنما جاءت بوجوب طاعته لسيده فيما أوجب عليه سيده لا فيما ندبه إليه، ألا ترى أنه لو قال له: ندبتك إلى هذا لأمر، أو أولى لك أن تفعله؟ ويجوز لك أن تتركه، فإنه لا يجب عليه امتثاله، وأما أنه لا يجب عليه الامتثال إذا كان المأمور به معصية فذلك لا يدل على أنه إنما يذم، لأن الشريعة جاءت بوجوب طاعته مطلقًا.
وعن الثالث: بمنع الملازمة، وهذا لأن المندوب غير مأمور به على طريق الحقيقة عندنا.
ورابع عشرها: لو لم يكن الأمر للوجوب فقط لكان، إما أن يكون حقيقة فيه وفي غيره، أو يكون حقيقة في غيره فقط، أو لا يكون حقيقة فيه ولا في غيره، واللوازم بأسرها باطلة فالملزوم أيضًا كذلك.
أما الأول: فلاقتضائه كون الأمر مشتركًا وقد عرفت أنه خلاف الأصل.
وأما الثاني: فيقول ذلك الغير: إما الندب أو القدر المشترك بينه وبين الواجب، إذ الكلام فيه بعد إبطال كونه حقيقة في الإباحة والتهديد وغيرهما لكنهما باطلان / (139/أ).
أما الأول: فلأنه لو كان حقيقة في الندب لما كان الواجب مأمورًا به لما أن جواز الترك معتبر في الندب، وهو غير معتبر في الواجب، بل هو مناف له فالجمع بينهما ممتنع لكنه مأمور به بالإجماع، فيمتنع أن يكون حقيقة في الندب ولا يعارض هذا بمثله، لأنه لا يمكن نفي اللازم بالإجماع، لأن كثيرًا ممن قالوا: الأمر للوجوب فقط صرحوا بأن المندوب غير مأمور به، ولم يقل أحد من الأمة: إن الواجب غير مأمور به.
فإن قلت: قولك: بأن كثيرًا ممن قالوا: الأمر للوجوب فقط صرحوا بأن المندوب غير مأمور به، مؤذن بأن بعضهم قالوا: إنه مأمور به أيضًا. فما وجه قولهم؟ فإن الدليل المذكور في الملازمة يقتضي ما قاله الكثيرون.
قلت: نعم بعض من قال: الأمر للوجوب فقط. قال: إن المندوب مأمور به أيضًا وكان الأمر عندهم للوجوب فقط، لكن شرط عريانه عن قرينة صارفة عنه، أما إذا كان معه قرينة صارفة عنه فليس هو له، بل هو لما تدل عليه القرينة، وهو قريب من الخلاف في أن المجاز له وجوب أم لا، وفي أن العام المخصوص هل هو حقيقة في الباقي أم لا؟.
وأما الثاني: وهو أن يكون حقيقة في الغير وذلك الغير هو القدر المشترك
بين الواجب والمندوب، فهو أيضًا باطل، لأنا لو جعلناه حقيقة فيه لم يكن استعماله في الوجوب بطريق التجوز لكونه غير لازم له، وبتقدير إمكانه فإن عكسه أولى، لأن على هذا التقدير يكون مجازًا من باب إطلاق اسم الكل على الجزء، وعلى ذلك التقدير يكون مجازًا من باب إطلاق اسم الجزء على الكل، وقد عرفت أن الأول ومع وجود الاحتمال الراجح لا يجوز العمل بالمرجوح، ولا نعني بكونه باطلاً سوى هذين.
وأما الاحتمال الثالث: من الاحتمالات الثلاثة الأول: فهو أيضًا باطل، وذلك بالإجماع فيتعين أن يكون الأمر للوجوب.
وخامس عشرها: الأمر بالفعل يفيد رجحان مصلحته على مصلحة الترك، فوجب أن يكون مانعًا منه.
وإنما قلنا: إنه يفيد رجحان مصلحة الفعل على مصلحة الترك، لأن مصلحة الفعل لو لم تكن راجحة على مصلحة الترك لكانت إما أن تكون مساوية أو مرجوحة، أو يكون الفعل خاليًا عن المصلحة بالكلية، والأقسام الثلاثة باطلة.
أما الأول: فلما أن الأمر به حينئذ ليس أولى من النهي عنه فيكون الأمر به عيبًا وهو على الحكيم محال.
وأما الثاني: فلما أن الأمر به حينئذ يكون أمرًا فيه بالمفسدة الراجحة وأمرًا بما يتضمن الإخلال بالمصلحة الراجحة، وهو قبيح عرفًا.
وأما الثالث: فظاهر قبحه.
وإذا بطلت هذه الأقسام ثبت أن الأمر بالفعل يفيد / (139/ب) رجحان مصلحته على مصلحة الترك، وإذا كان كذلك وجب أن يكون مانعًا
منه وإلا لزم الإذن في تفويت المصلحة الراجحة وأنه قبيح عرفًا يوجب أن يكون قبيحًا شرعًا، لقوله عليه السلام:"ما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح". مقتضي هذه الدلالة أن لا يوجد شيء من المندوبات، لكن ترك العمل به في المندوبات المتفق عليها للإجماع فوجب أن يبقي معمولاً به فيما عداها بالأصل، إذ الأصل إعمال الدليل بقدر الإمكان لا إهماله.
واعلم أن هذا الدليل مبني على وجوب تعليل أفعال الله تعالى بالمصالح فلا يستقيم على رأي أصحابنا، فلا يكون حجة على من أنكر منهم كون الأمر للوجوب، وإنما هو حجة على المعتزلة المنكرين كون الأمر للوجوب.
وسادس عشرها: لا نزاع بيننا وبين الخصوم أن الأمر يدل على رجحان جانب الوجود على العدم، إذ الكلام فيه بعد إبطال كونه حقيقة في الإباحة والتهديد على ما تقدم بيانه.
فنقول: رجحان جانب الوجود على العدم لا ينفك عن قيدين وهو: إما المنع من الترك. [أو الإذن فيه، ولا شك أن في الترك أفضى إلى الترك من إفضائه إلى الوجود، والمنع من الترك] أفضى إلى الوجود من إفضائه إلى العدم.
وقد ثبت أن جانب الوجود راجح على جانب العدم، ولا شك أن ما يكون أفضى إلى الراجح فهو راجح في الظن على ما يكون أفضى إلى المرجوح، فإذا شرعية المنع من الترك راجح في الظن على شرعية الإذن فيه،
والراجح في الظن واجب العمل به، لقوله عليه السلام:"اقضي بالظاهر" وقوله عليه السلام: "نحن نحكم بالظاهر والله يتولي السرائر".
فإن هذا بيان ما يجب أن يحكم به، ولأن العمل بالراجح واجب في عدة من الصور كالفتوى، والشهادات، وقيم المتلفات وتعيين جهة القبلة، فوجب أن يجب ها هنا أيضًا. والجامع بينهما هو أنه ترجيح للراجح، ولأن تجويز العمل بالمرجوح مع وجود الراجح تجويز لوجود المرجوح من غير مرجح وأنه باطل بالضرورة.
واعلم أن هذا الدليل يقتضي أن العمل بالأمر واجب، ولا يقتضي كونه للوجوب علمًا واعتقادًا، وبعض الخصوم ربما يقول به، فإنه روى عن الإمام الزاهد أبي منصور الماتريدي - رحمه الله تعالى -، أن حكم الأمر عنده إنما هو وجوب العمل به ظاهرًا لا قطعًا، والاعتقاد على سبيل الإبهام أن ما أراد الله تعالى به من واجب أو ندب فهو حق. وقال: لأن الأمر للطلب المطلق الذي هو قدر مشترك بين الواجب والندب، وأنه بإطلاقه يحتمل الوجوب والندب، ومع الاحتمال كيف يمكن القطع بأنه للوجوب، ولكن نحكم بالوجوب ظاهرًا في حق العمل احتياطيًا دون الاعتقاد.
وسابع عشرها: طريقة الاحتياط. وتقريرها أن حمله على الوجوب / (140/أ) يوجب القطع لعدم مخالفة الأمر، لأنه إن أراد به الوجوب فظاهر، وإن أراد به الندب فحمله على الوجوب سعى في تحصيل ذلك المندوب بأبلغ الوجوه، ومعلوم أن ذلك يفيد القطع بعدم مخالفته فيما يتعلق بفعله، وأما حمله على الندب لا يوجب هذا القطع، لأنه إن أراد به
الواجب وأنت تحمله على الندب فحينئذ جوزت تركه فجاز أن يترك فحينئذ تتحقق المخالفة.
فثبت بهذا أن حمله على الوجوب يفيد القطع لعدم مخالفة الأمر، وحمله على الندب لا يوجب ذلك، وإذا كان كذلك وجب حمله على الوجوب لقوله عليه السلام:"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، ولأن [ترجيح] سلوك طريق الأمن على المخوف من مقتضيات العقول.
وأما المحذور الناشئ من الاعتقاد الغير المطابق عندما يحمل على الوجوب، بتقدير أن يكون المراد منه الندب فمشترك فلا يكون ذلك مانعًا من حمله على الوجوب.
لا يقال: لا نسلم أن حمله على الندب لا يفيد القطع لعدم مخالفة الأمر بل يفيده، وهذا لأنا لما علمنا أن الأمر للندب، وعلمنا أن المتكلم به لا يجوز أن يريد به الوجوب عندما يكون مجردًا عن القرينة، فحمله على الندب عند ذلك يوجب القطع لعدم مخالفة الأمر أيضًا.
لأنا نقول: لا نزاع فيما ذكرتم لكنا نقول: قبل العلم يكون الأمر للندب فقط، أو للوجوب فقط، أو لهما معًا، إما بالاشتراك اللفظي أو المعنوي، لو حمل على الوجوب أفاد القطع لعدم مخالفة الأمر، ولو حمل على الندب لم يفد ذلك، فكان الحمل على الوجوب واجبًا لما ذكرنا من النص. والمعقول.
وأما دعوى كونه للندب فهي معارضة: بمثلها من الدعوى، ولو أقام عليه الدلالة فهو إشارة إلى المعارضة، وهذا الدليل إنما يفيد كونه للوجوب عملاً لا علمًا واعتقادًا.
وثامن عشرها: أن الأمر دال على طلب الفعل، فوجب أن يكون مانعًا من نقيضه كالخبر، والجامع بينهما تكميل الغرض ويقويه حصوله، وهذا لأن بتقدير أن يكون مانعًا من النقيض حصل الغرض بكماله وتمامه ولا كذلك إذا لم يكن مانعًا.
فإن قلت: إنه قياس في اللغة وأنه ممنوع، سلمنا صحته لكنه منقوض بأمر الندب، فإنه للطلب مع أنه غير مانع من النقيض.
قلت: نعم لكن قد دللنا على صحته.
وعن الثاني: أنه لا يلزم من مخالفة الدليل لدليل مخالفته من غير دليل.
أجاب بعضهم: عن هذا. يجب أن يعتقد أن ما ذكروه ليس بدليل حتى لا يلزم منه مخالفته في المندوب. وهو ضعيف جدًا، لأنه يقتضي أن لا يكون شيء من الدليل دليلاً إذا خولف الدليل.
وتاسع عشرها: أن الأمر / (140/ب) ضد النهي، والنهي يقتضي ترك الفعل جزمًا فالأمر يجب أن يكون مقتضيًا للفعل جزمًا. وهو ضعيف.
أما أولاً: فلأنه قياس خال عن الجامع.
وأما ثانيًا: فلأن الخلاف في كون النهي يقتضي التحريم أم لا؟ كالخلاف في كون الأمر يقتضي الوجوب أم لا؟ فلا يقاس عليه، إذ الحكم فيه حينئذ غير مسلم.
الوجه العشرون: الأمر بالشيء نهي عن تركه قطعًا، فيكون الترك منهيًا عنه، فيكون محرمًا بناء على أن النهي يقتضي التحريم، وإذا كان الترك محرمًا يكون الفعل واجبًا قطعًا. وهو أيضًا ضعيف.
أما أولاً: فلما سبق، وأما ثانيًا: فلأنا وإن سلمنا أن مقتضي النهي التحريم، لكن الأمر بالشيء إنما يقتضي نهي تركه على حسب ما يقتضيه الأمر، فإن كان الأمر يقتضي الوجوب اقتضى نهي تركه بمعني نهي التحريم "وإن كان يقتضي الندب اقتضى نهي تركه بمعني نهي التنزيه، فعلى هذا كون الأمر بالشيء يقتضي نهي تركه بمعني "نهي" التحريم" يتوقف على كون الأمر للوجوب، فلو توقف كون الأمر للوجوب على كون تركه محرمًا لزم الدور وأنه باطل.
واحتج القائلون بالندب بوجوه:
أحدها: قوله عليه السلام: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا".
وجه الأمر في صورة الأمر من غير حتم، بل فوضه إلى الاستطاعة فدل على أنه للندب، إذا لو كان للوجوب لجزم الأمر كما جزم الانتهاء.
وجوابه: منع كون التفويض إلى الاستطاعة دليل عدم الوجوب، وهذا فإن كل واجب مقصود بالفعل كذلك.
ثم نقول: دلالة ما ذكرتم من الحديث على الوجوب أظهر من دلالته على الندبية.
وتقريره أن نقول: لا يجوز أن يكون المراد من قوله عليه السلام: "فأتوا منهم ما استطعتم" الإتيان على وجه الأولوية مع جواز الترك، لأن الأمر الأول دل عليه بما عرفت غير مرة، فلو كان هذا أيضًا دالاً عليه لزم التكرار، وأنه لا يصار إليه مهما أمكن حمل اللفظ على فائدة تأسيسه، فوجب أن يكون المراد منه الإتيان بحيث لا يجوز الترك دفعًا للتكرار، اللهم إلا أن يذكر الخصم فائدة أخرى يصلح حمل اللفظ عليها لكنه يكون إشارة إلى المعارضة.
ثم الذي يؤكد ما ذكرنا أن قوله عليه السلام: "فأتوا منه ما استطعتم" يفيد المبالغة التامة في طلب الفعل المأمور به وذلك لا يناسب جواز الترك.
وثانيها: أن أهل اللغة قالوا: لا فرق بين الأمر والسؤال إلا أنه يعتبر في الأمر / (141/أ) العلو أو الاستعلاء دون السؤال، وذلك يفيد اشتراكهما في جميع الصفات سوى ما ذكر، فكما أن السؤال لا يدل إلا على الندبية فكذا الأمر.
وأجاب الإمام عنه: بأنا لا نسلم أن السؤال لا يفيد إلا الندبية، وهذا لأن السؤال يفيد "الإيجاب" عندنا، وإن كان لا يلزم منه "الوجوب" فإن السائل قد يقول للمسئول عنه: لا تخل بمقصودي، ولا تتركه ألبتة، ولا تخيب رجائي، فهذه الألفاظ صريحة في "الإيجاب"، وإن كان لا يلزم
منه "الوجوب".
واعلم أنه إن ذكر قوله - فإن السائل قد يقول: إلى آخره - دليلاً على أنه لا يلزم من الإيجاب الوجوب فقط فهو حسن، لكنه لم يسند قوله، فإن السؤال عندنا يدل على الإيجاب إلى شيء.
وإن ذكر ذلك دليلاً على مجموع الأمرين، وهو أن السؤال يدل على الإيجاب، وأنه لا يلزم من الإيجاب الوجوب فمعلوم أنه لا يفيد، لأنه لا يلزم من الإيجاب تصريح السائل به الإيجاب بمطلق سؤاله.
وهذا كما أن أوجبت، وألزمت، وحتمت، يفيد الوجوب وفاقا، ولا يلزم منه أن يكون "افعل" على إطلاقه مفيدًا له.
ويمكن أن يجاب عنه بوجه آخر: وهو أن يقال: لم لا يجوز أن يكون الوجوب من لوازم الاستعلاء أو العلو المعتبرين، وحينئذ الافتراق فيه يستلزم الافتراق في الوجوب وعدمه.
وثالثها: أن المندوب داخل في الواجب بناء على أن المندوب، ما فعله خير من تركه، فحينئذ يكون كل واجب مندوبًا من غير عكس، فوجب جعل الأمر حقيقة في المندوب لكونه متيقنًا.
وجوابه: منع كون المندوب داخلاً في الواجب، وهذا لأن جواز الترك معتبر فيه وهو ينافي ماهية الواجب. فكيف يكون داخلاً فيه؟
سلمنا: ذلك لكنه يقتضي أن يكون جعله حقيقة في رفع الحرج عن الفعل الذي هو قدر مشترك بين المباح والمندوب، والواجب أولى لكونه متيقنا، فإن كل مندوب هو مما رفع الحرج عن فعله، من غير عكس فهو باطل وفاقا.
ورابعها: لا نزاع في أن صيغة الأمر قد وردت تارة في الوجوب، وتارة في الندب، فإما أن يجعل حقيقة فيهما بخصوصيتهما أو في أحدهما.
وهما باطلان، إذ الاشتراك والمجاز على خلاف الأصل، فلم يبق إلا أن يجعل حقيقة في القدر المشترك بينهما، وهو ترجيح جانب الفعل على جانب الترك، إذ القول: بأنه ليس حقيقة فيهما لا بالاشتراك اللفظي ولا المعنوي ولا في أحدهما باطل إجماعًا، فحينئذ لم تكن الصيغة دالة إلا على رجحان الفعل على الترك، وقد كان جواز الترك / (141/ب) ثابتًا بالبراءة الأصلية، فحينئذ يحصل من مجموعهما أن فعل المأمور به راجح على تركه وأن تركه جائز ولا معني للندب إلا ذلك.
واعلم أن هذا الدليل لا يدل على أن صيغة الأمر موضوعة للندب، بل لا يدل إلا على أنها للقدر المشترك بينهما، والندبية إنما لزمت بسبب انضمام دليل آخر إليها. ومع هذا فوجوبه: بطريق المعارضة بما سبق غير مرة وأيضًا المجاز وإن كان خلاف الأصل، لكنه قد يصار إليه إذا دل الدليل، وقد ذكرنا أن الدليل دل على الوجوب.
وخامسها: أن الصيغة لو جعلت حقيقة في الوجوب كان استعمالها في الندب، وفي القدر المشترك بينهما تركًا لمدلولها، أما لو جعلت حقيقة في القدر المشترك بينهما، لم يكن استعمالها في الندب والواجب تركًا لمدلولها، بل إثباتًا لأمر زائد على مدلولها، ولا شك أن هذا أولى فكان جعل اللفظ حقيقة فيه أولى.
ثم نقول: الصيغة إذا وردت مجردة عن القرينة لم يمكن حمله على الوجوب لعدم ما يدل على المنع من الترك، حينئذ يتعين حمله على الندب لقيام الدليل الدال على جواز الترك، وهو البراءة الأصلية ودفعًا للإجمال.
الجواب: المعارضة ببيان فوائد كون الصيغة حقيقة في الوجوب، وهي غير خافية عليك مما سبق.
وأما القائلون بأن الأمر حقيقة في القدر المشترك بين الواجب والمندوب. فقد تمسكوا بالوجوه الثلاثة الأخيرة المذكورة في حجج القائلين: بالندب، ولكن نحذف البراءة عن الحجتين الأخيرتين. والجواب واحد.
وأما القائلون بالاشتراك فقد احتجوا بوجهين:
أحدهما: أن الصيغة استعملت في الواجب والمندوب والأصل في الاستعمال الحقيقة.
وثانيهما: أن توقف الذهن عن الجزم وتردده بين الواجب والمندوب، عند سماعها مجردة عن القرينة، دليل على أنها مشتركة بينهما.
الجواب عن الأول: أن الأصل في الاستعمال هو الحقيقة، لكن إذا لم يستلزم الاشتراك، أما إذا استلزمه فلا نسلم ذلك، وهذا لأن الأصل عدم الاشتراك، أيضًا، وكيف لا والمجاوز خير منه؟
وعن الثاني: منع التوقف والتردد بل المتبادر إليه عند سماعها مجردة عن قرينة الوجوب، بدليل تمسك الصحابة بها على الوجوب.
وأما القائلون بالتوقف:
فقد احتجوا: بأن مدرك العلم تكون الصيغة حقيقة في الوجوب، أو في الندب، أو في القدر المشترك بينهما، أو فيهما.
إما يكون عقليًا محضًا، وهو باطل إذ لا مجال للعقل وحده / (142/أ) في اللغات، وأما أن يكون نقليًا محضًا، وهو إما تواتر، أو آحاد.
والأول: باطل وإلا لعرفه كل واحد بالضرورة بأنه للوجوب أو للندب أو لغيرهما.
وأما الثاني: فبتقدير التسليم وسلامته عن المعارض لا يفيد لأن المسألة علمية وهو لا يفيد إلا الظن.
وأما أن يكون مركبًا منهما، وهو إما قطعي، أو ظني، والقطعي غير متحقق فيما نحن فيه، وإلا لقطع بتخطئة المخالف فيه، والظني لا يفيد لما سبق.
وإذا لم يكن لإثبات أحد هذه المذاهب مدرك صالح وجب التوقف وهو غير لازم على القائلين بالتوقف، لأنهم غير مفتقرين فيه إلى مدلول حتى يتأتي فيه التقسيم المذكور.
وأجيب: بمنع كون المسألة قطيعة، إما لأنها وسيلة إلى العمل فيجوز إثباتها بما يثبت به وجوب العمل، وإما لأنها من مباحث اللغة وقل ما يرجي فيها القطع لتعذر إثبات أكثر مطالبها.
وهذا الجواب لا يتأتى ممن سلم من الأصوليين أن المسألة علمية.
واعلم أن المطلوب في هذه المسألة، إن كان هو القطع فالحق فيها هو التوقف، وإن كان أعم منه وهو الحكم، إما على سبيل القطع أو على سبيل الظن وهو الأشبه فالأغلب على الظن أن الحق فيها هو القول بالوجوب.