الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة عشرة
في أن القضاء في العبادة المؤقتة بالتنصيص الفائتة عن وقتها هل هو بالأمر الأول أو بالأمر الجديد
؟
فذهب المحققون منا ومن الحنفية والمعتزلة إلى أنه بالأمر الجديد.
وذهب كثير من فقهاء الفريقين والحنابلة إلى أنه بالأمر الأول.
ونقل عن صاحب التقويم أنه يجب بالقياس على العبادات الفائتة عن وقتها الواجبة قضاؤها في الشرع، فإنه الأكثر بجامع استدراك المصلحة الفائتة.
احتج الأولون بوجوه:
أحدها: أن القضاء لو كان بالأمر الأول: بحيث لم يجب القضاء، كما في الجمعة لزم الترك بالدليل، وإن كان ذلك لدليل آخر لكنه خلاف الأصل، فوجب أن يقال: إن إيجاب العبادة في وقت لا إشعار له بوجوب القضاء ولا تقدمه كيلا يلزم الترك بالدليل.
لا يقال: لو لم يجب القضاء بالأمر [الأول]: فحيث وجب كما في الصلوات والصيام لزم أيضًا خلاف الدليل إذ الأصل / (153/ب) عدم دليل آخر، وهو دليل شرعي.
سلمنا: أنه لا يلزم خلافه، لكنه يلزم خلاف الظاهر، فإن ظاهر الخطاب الأول: حينئذ لا يوجب القضاء، فيكون إيجابه حينئذ خلاف الظاهر.
لأنا نقول: الجواب عن الأول: إن المحذور فيما ذكرتم أكثر، لأنه يلزم منه الترك بالدليل اللفظي المعتبر، وأما على ما ذكرنا يلزم منه الترك بالدليل العقلي المقرر، فكان التزام ما ذكرنا أولى.
سلمنا: أنه ليس بأكثر محذورًا منه، لكنه وجد كقوله عليه السلام: "من منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر}.
فسواء قلنا: القضاء بالأمر الأول أو بالأمر الجديد كان ما ذكرتم من المحذور لازمًا، وهو ترك مقتضى الأصل.
أما لو قلنا: القضاء بالأمر الأول: لزم مع هذا المحذور ما ألزمناكم من المحذور وكان ما كرنا أولى.
وعن الثاني: إنا لا نسلم أنه يلزم منه خلاف الظاهر، [وهذا فإنا نسلم أن ظاهر الخطاب الأول لا يوجب القضاء حينئذ، لكن لا نسلم أن إيجابه حينئذ يكون خلاف الظاهر]، لأن إيجاب ما لا يوجبه الظاهر خلاف الظاهر، ليس خلاف الظاهر وإلا لزم أن يكون إيجاب الفور غيره لدليل منفصل عند ورود الأمر بالصلاة خلاف الظاهر، لأن ظاهره لا يوجب الصوم بل خلاف الظاهر إنما يلزم أن لو أوجب ظاهر الخطاب الأول اللاقضاء فيكون إيجابه خلاف الظاهر، لكن فرق بين إيجاب اللاقضاء وبين لا إيجاب القضاء ومخالفة الظاهر إنما يلزم من الأول دون الثاني.
وثانيها: لو دل الأمر على وجوب القضاء بعد الفوات، فإما أن يدل عليه بطريق المطابقة. وهو باطل، لأن قول القائل:"صم يوم الجمعة" ليس موضوعًا بإزاء صوم "يوم" آخر بعدها كالسبب مثلاً بتقدير فواته عنها. أو بطريق التضمن.
وهو أيضًا باطل، لأن "من" المعلوم أن المفهوم الثاني ليس جزءًا من المفهوم الأول، أو بطريق الالتزام كما يقال إن قوله:"صم يوم الجمعة" دل على "وجوب" كونه صائمًا يوم الجمعة، ووجوب كونه صائمًا يوم
الجمعة، دل على وجوب كونه صائمًا مطلقًا ضرورة أنه جزء مفهومه، ثم فوات خصوصية يوم الجمعة لا يعارض تلك الدلالة لإمكان تعلقه معه، فوجب بقاء كونه مأمورًا بأن يكون صائمًا مطلقًا، ثم لما لم يمكن كونه صائمًا مطلقًا بعد فواته عن يوم الجمعة إلى أن يكون صائمًا في يوم آخر بعدها لا جرم دل ذلك الخطاب على وجوب الصوم في يوم آخر بعدها بطريق الالتزام. وهو أيضًا باطل.
أما أولاً: فلأنا / (154/أ) لا نسلم أن فوات الخصوصية لا تعارض تلك الدلالة، وما ذكره من الدلالة عليه فإنما يدل على أنه ليس بمعارض قاطع له ولا يدل على أنه ليس بمعارض له أصلاً، فجاز أن يعارضه بطريق الظهور، أو بطريق التساوي، والأصل عدم الوجوب، فعليكم إفساده لأنكم المستدلون، ثم الذي يدل على أن فوات خصوصية الزمان يعارض تلك الدلالة أن تخصيص العبادة بزمان معين، إن كان لمعني فيه لا يوجد في غيره من الزمان وجب أن لا يكون القضاء مشروعًا بتقدير فواتها عنه، لأن القضاء شرع لاستدراك مصلحة الفائت، وهو غير حاصل حينئذ، وإن لم يكن كذلك سواء كان ذلك بأن يكون التخصيص لا لمعني فيه أو بمعني فيه، لكن يوجد مثله في غيره وعلى التقديرين وجب أن يتخير بينه وبين غيره وأن لا يكون للتخصيص فائدة.
سلمنا: أنه لا يعارض تلك الدلالة. لكن دليلكم منقوض بالعبادات المختصة بالمكان كأفعال الحج، وبالشروط كاستقبال جهة معينة، والشخص كتخصيص صرف الزكاة بالمساكين. وكتخصيص الضرب والقتل بشخص معين، وببعض العبادات المختصة بالزمان كالجمعة والوقوف بعرفة في يوم عرفة والأضحية، ورمي الجمار.
وثالثها: لو كان وجوب القضاء بالأمر الأول، لكانت فائدة الأوامر الواردة بقضاء بعض العبادات، كقوله تعالى:{فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر} ، ونحو قوله عليه السلام:" من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" فائدة تأكيدية، ولو لم يكن بالأمر الأول لكانت فائدتها فائدة تأسيسية، ولا شك أن الحمل على الفائدة التأسيسية أولى لكثرة فائدتها.
ورابعها: القياس على الأوامر المختصة بالمكان والأشخاص وببعضها المختص بالزمان الذي لا قضاء فيه، والجامع بينهما، إما دفع الضرر الناشئ من وجوب القضاء، وإما لأن القضاء في غيرها غير محصل لمصلحة الفائت إذ التخصيص بتلك المعينات يدل على عدم حصول فائدتها من غيرها.
وخامسها: أن تخصيص الفعل بوقت معين مانع من إيقاعه قبله، فكذا بعده بجامع وصف التخصيص، مقتضى هذا أن لا يشرع القضاء أصلا ترك العمل به فيما إذا ورد فيه الأمر الجديد بالقضاء فوجب أن يبقي معمولاً به في غيره.
وسادسها: القياس على النهي، فإنه إذا كان مؤقتًا بوقت ولم يحصل / (154/ب) مقتضاه فيه، فإنه لا يجب قضاءه بعد فوات ذلك الوقت، فكذا في الأمر والجامع ما تقدم.
وسابعها: أن أفعال الله تعالى وأحكامه إن كانت معللة بالمصالح لم يلزم من وجوب عبادة في وقت وجوبها في وقت آخر، لجواز أن يكون ذلك لمصلحة لا توجد في غيره، وإن لم تكن معللة بالمصالح بل هي مبنية
على محض الإرادة لم يلزم أيضًا من وجوبها في وقت وجوبها في وقت آخر، لجواز أن يكون مراده فيها دون غيره.
واحتجوا بوجوه:
أحدها: قوله عليه السلام: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" ومن فاته الفعل المأمور به في وقت معين فهو مستطيع له في غيره فوجب أن يجب عليه.
وجوابه: أن النص إنما يفيد وجوب الإتيان به في غيره إن لو ثبت كونه مأمورًا [به] فيه فإثبات كونه مأمورًا به فيه به دور.
وثانيها: أن العبادة حق الله تعالى على المكلفين، والوقت لها كالأجل للدين في حقوق العباد، وانقضاء الأجل لا يوجب سقوط الدين، فكذا فوات الوقت لا يوجب سقوطها ضرورة كونه مثلها له.
وجوابه: منع كون الأجل مثلاً للوقت المفروض للعبادة، وهذا لأنه قد ثبت بالدليل أن الدين بمطلق وصفه مطلوب الحصول وليس للأجل الذي هو عبارة عن وقت مهلة تأخير المطالبة بالدين الواجب مدخل في مطلق نيته،
وإنما شرع ذلك ليسر الأداء لا ظرفًا له، ولهذا لا يجب أداؤه قبل انقضاء الأجل بخلاف وقت الصلاة مثلاً فإنه ظرف لها، ولهذا يجب أداؤها قبل انقضائه، فجاز أن يكون للوقت مدخل في مطلوبية العبادة، ويتأيد هذا الجواز بما أن بعض العبادات لا تقضي بعد فوات وقته، وليس شيء من الدين يسقط بانقضاء أجله، فلا يكون مثلاً له، فلا يلزم من عدم سقوط الدين بانقضاء الأجل عدم سقوط القضاء بفوات الوقت.
وثالثها: لو لم يجب القضاء بالأمر الأول، بل بالأمر الجديد لكان ذلك أداء لا قضاء كالأمر الأول.
وجوابه: أنا نقول بموجبه لو لم يكن ورود الأمر الثاني بمثل العبادة الفائتة "لاستدراك المصلحة الفائتة أما إذا كان وروده لذلك فلا، إذ لا معنى للقضاء إلا ما شرع من العبادة لاستدراك مصلحة [العبادة] الفائتة".
ورابعها: أن الغالب في / (155/أ) العبادات الفائتة القضاء ولابد لذلك
من دليل. [و] الأصل عدم ما سوى الأمر الأول فيضاف إليه.
وجوابه: منع كون القضاء غالبا في العبادات الفائتة، ولا يخفى عليك سنده مما سبق.
سلمنا: ذلك لكن ما ذكرتم من الأصل متروك قطعًا لوجود الأوامر الدالة على القضاء في الصلاة والصوم وغيرهما من العبادات التي شرع فيها القضاء.
سلمنا: أنه غير متروك لكنه معارض بما أن الأصل عدم دلالة الأمر الأول عليه.
سلمنا: سلامته عن المعارض، لكن إنما يضاف إليه لو كان له دلالة عليه، لكن بينا أنه لا دلالة له عليه.
سلمنا: ذلك لكن لأن التزام ترك الأصل أولى من التزام ترك الدليل الشرعي، ولا يخفى عليك لزومه على تقدير إضافة القضاء إلى الأمر الأول.
وخامسها: الوقت من ضرورات الفعل المأمور به، إذ لا يمكن فعله إلا في وقت وليس هو مقتضي الأمر بل مقتضاه طلب الفعل فاختلاله لا يؤثر في سقوط مقتضي الأمر.
وجوابه: أنا نسلم أن مطلق الوقت من ضرورات الفعل، وليس هو من مقتضي الأمر، لكن اختلاله غير متصور حتى يمكن أن يقال إن اختلاله لا
يؤثر في سقوط القضاء، وأما الوقت المعين فلا نسلم أنه من ضروراته، بل هو من مقتضي الأمر الذي عينه.
وسادسها: أن تعيين الوقت فيما لا يمكن فعله إلا فيه كتعين الآلة فيما لا يمكن فعله إلا بها، وكما أن فوات الآلة المعينة لا توجب سقوط المأمور به، فكذا [فوات الوقت المعين، والجامع بعض ما تقدم].
مثاله: لو قال الشارع تصدق باليمني فشلت أو قطعت، فإنه لا يسقط عنه التصدق، بل يلزمه ذلك باليسرى.
وجوابه: منع حكم الأصل فيما لم يعقل فيه التخصيص معنى أو عقل، لكن بمعني لا يوجد في غيرها، وإنما نسلم ذلك فيما إذا عقلنا أن المقصود من ذلك إيصال النفع إلى الغير لا غير، ولو فرض مثله في الوقت بأن يعقل أن المقصود بالإيجاب الفعل بمطلقه لا غير وتعيين الوقت لزيادة "ثواب الوقت المعين والجامع بعض ما تقدم كان الحكم فيه أيضًا" ثواب أو غيرها [كان الحكم فيه أيضًا] كذلك.