الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"الفصل الرابع"
في المأمور
وفيه مسائل:
المسألة الأولى
[في شرط المأمور]
اتفق الكل حتى القائلون بجواز تكليف ما لا يطاق، على أنه يشترط في المأمور، أن يكون عاقلاً يفهم الخطاب، أو متمكنًا من فهمه.
لأن الأمر بالشيء يتضمن إعلام المأمور بأن الآمر طالب للمأمور به "منه" سواء كان حصوله منه ممكنًا أو لا يكون "كما" في تكليف ما لا يطاق.
وإعلام من لا عقل له ولا فهم متناقض، إذ يصير التقدير يا من لا فهم له افهم الخطاب، ويا من لا عقل له أعقل المأمور به.
فعلى هذا لا يجوز أمر الجماد والبهيمة، لعدم العقل والفهم، وعدم
استعدادهما، ولا أمر المجنون والصبي أيضًا، لعدم العقل والفهم التأمين / (182/ب) وإن كانا مستعدين لهما، إلا على رأي من يجوز تكليف ما لا يطاق.
والدليل عليه وجهان: النص، والمعقول.
أما النص: فقوله عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاثة" الحديث.
وأما المعقول فهو أنه ما يشترط أصل العقل والفهم لصحة التكليف
الذي هو موجود فيهما، لكن يشترط تمامها أيضًا، إذ به يتصور قصد امتثال أمر الله تعالى أو نهيه الذي هو شرط صحة الامتثال، المستدعى تعقل الامتثال والأمر والنهي [من] الله تعالى وأنه أمر ممتثل الطاعة وغير ذلك نحو معرفة صفات المأمور به، ومعلوم أن المجنون والصبي لاسيما غير المميز ليسا موصوفين بعقل، شأنه إدراك ما ذكرنا من الأمور، فلا يكونا مكلفين بشيء من التكاليف.
ووجوب الزكاة وبدل المتلفات والنفقات عليهما، بمعني أن الولي مخاطب
بإخراجها من مالهما في حالة الصبي والمجنون، وأنهما مخاطبان بذلك بعد البلوغ، والإفاقة لو لم يتفق إلا خرج في حالة الصبي والمجنون لا يدل على أنهما مكلفان في حالة الصبي والمجنون، إذ لا يتوجه إليهما طلب في تينيك الحالتين أصلاً، والصبي المميز وإن كان مخاطبًا بالصلاة، ومضروبًا على تركها تأديبًا، لكن من جهة الولي لا من جهة الشارع.
لأنا لا نسلم: أن الأمر بالأمر بالشيء، حتى يلزم من كونه مأمورًا بالصلاة من جهة الولي، كونه مأمورًا بها من جهة الشارع للحديث المشهور، ولا يلزم من جواز كونه مخاطبًا من جهة الولي، جواز كونه مخاطبًا من جهة الشارع، لأنه يعرف الولي وخطابه ويخاف ضربه، فصار أهلاً لكونه مخاطبًا من جهته، ولا يعرف الشارع، ولا يعرف خطابه، ولا يخاف عقابه، إذ لا يعرف الآخرة فلا يجوز أن يكون أهلاً لخطابه.
فإن قيل: كيف ألحقتم الصبي المميز بغير المميز في عدم كونه مكلفًا، لعدم العقل والفهم التام المدرك لتفاصيل الخطاب مطلقًا من غير فصل بين تبيين [ما] يصير بعده بالغًا بلحظة، وبين تبيين [ما] يصير بعده بالغًا بأمد بعيد يمكن أن يزيد العقل فيه.
ونحن نعلم بالضرورة أن مضى لحظة أو انفصال نطفة لا يزيد عقله.
قلنا: لا نسلم أن ما ذكرتم معلوم بالضرورة، وهذا لأن القاضي أبا بكر رحمه الله: خالف فيه، وزعم أن كونه غير مكلف قبل البلوغ ولو بلحظة، يدل على نقصان عقله.
وهو تصريح منه بأنه يجوز أن يزيد العقل ويكمل بلحظة / (183/أ)، ولو كان عدمه معلومًا بالضرورة، لما كان مختلفًا فيه.
ولئن سلمنا: ذلك فنقول: السبب في ذلك هو أن زيادة العقل وكماله إلى حد يناط به التكليف أمر خفي لا يمكن الاطلاع عليه بغتة، لكونه يزيد على التدريج، وقد علم من عادة الشرع أنه يعلق الحكم على مظان الحكم لا على الحكم نفسه، والبلوغ مظنة كمال العقل، فلا جرم "علق" الشرع الحكم به، وإن كان قد يكمل بحيث يصلح أن يكون مناطًا للتكليف قبله.
وعلى هذا لا يجوز تكليف النائم في حالة النوم، لذهوله عن المأمور به، وعن شرائطه، ولعدم قصد الامتثال منه، بل هو بعدم جواز التكليف أولى من الصبي والمجنون، لفقده أصل الفهم دونهما.
ووجوب قضاء ما فاته من الصلاة والصيام في حالة النوم لا يدل على أنه مخاطب بهما في حالة النوم، لما عرفت أن القضاء يعتمد على وجود سبب الوجوب لا على الوجوب نفسه.
وإنما يجب عليه القضاء دونهما مع فقده أصل الفقد، لأن أمد زواله قريب، بخلاف الصبي والمجنون، لأنه يطول أمد زوالهما.
وعلى هذا لا يجوز تكليف الناسي أيضًا، لأنه ذاهل عما كلف به في حالة النسيان فيمتنع منه قصد الامتثال في المأمور به، على الوجه الذي أمر به.
وأما ثبوت الأحكام الشرعية بمالهما كالزكاة، وبأفعالهما نحو وجوب بدل المتلفات، فذلك لا يدل على أنهما مخاطبان في حالة النوم، والنسيان، لأن المعني منه أنه يجب عليهما أداء تلك الحقوق بعد زوالهما.
وأما الجواب: عن وجوب قضاء الصلاة والصوم عليه فيما سبق في النائم.
وعلى هذا لا يجوز تكليف السكران الذي لا يعقل، لأنه أسوأ حالاً من النائم والصبي والمجنون.
وما يجب عليه من قضاء العبادات والغرامات.
فجوابه: ما سبق.
وأما نفوذ طلاقه بعد تسليمه فذلك لا يدل على أنه مخاطب، لأنه من باب ربط الأحكام بالأسباب، وذلك قد يوجد بفعل غير المكلف، كوجوب الصلوات بزوال الشمس، ووجوب الصوم بطلوع الهلال.
فإن قلت: فقوله تعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} بصراحته يدل على أنه مخاطب.
قلت: الآية مؤولة دفعًا للتعارض، فإن الأدلة الدالة على أنه لا يجوز خطابه غير قابلة للتأويل وأكد في تأويلها وجهان:
أحدهما: أنه خطاب مع من ظهرت منه مبادئ النشاط والطرب، وما زال عقله بالكلية / (183/ب) وإنما سماه سكرانًا مع أنه ليس كذلك في تلك الحالة، لأنه تؤول حاله على السكر في الأكثر، وتسمية الشيء باسم ما
يؤول إليه مجاز مشهور.
فإن قلت: ما ذكرتم من التأويل، ينفيه قوله تعالى:{حتى تعلموا ما تقولون} لأن المنتشي يعلم ما يقول.
قلت: الدليل الذي أوجب حمل السكران على المنتشي أوجب صرفه عن ظاهره أيضًا فقوله تعالى: {حتى تعلموا ما تقولون} معناه - إن شاء الله تعالى: حتى يتكامل فهمكم، لأن المنتشي وإن كان أصل عقله باقيًا، لكن قد يتعذر عليه تصحيح مخارج الحروف وتمام الخشوع، وكمال العلم بما يقول: وهذا كما يقال للغضبان: اصبر حتى تعلم ما تقول، أي حتى يسكن غضبك فيكمل فهمك.
وأيضًا فإنه لا يشتغل بالصلاة إلا مثل هذا السكران، فإن الذي يكون كالمغشي عليه يمتنع منه الاشتغال بالصلاة، فيجب تنزيل النهي عليه، وحينئذ يتعين ما ذكرنا من التأويل.
وثانيهما: أن هذا خطاب وارد في ابتداء الإسلام قبل تحريم الخمر، وليس المراد منه المنع من الصلاة في حالة السكر، كما دل عليه ظاهر اللفظ، بل المراد منه: المنع من إفراط الشرب في وقت الصلاة، كما يقال: لا تقرب التهجد وأنت شبعان، معناه: لا تشبع في وقت التهجد فيثقل عليك التهجد.