المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة الثانية عشرة[في الأمر المطلق هل يقتضي الفور أو لا - نهاية الوصول في دراية الأصول - جـ ٣

[الصفي الهندي]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الأولفي الأمر ومقتضاه

- ‌المسألة الثانيةفي حد الأمر بمعني القول

- ‌المسألة الثالثة[هل للأمر صيغة في اللغة أو لا]

- ‌المسألة الرابعة[هل تكفي الصيغة عن الإرادة أو لا]

- ‌المسألة الخامسة[أن الأمر به نفس الصيغة خلافًا لأبي علي وأبي هاشم]

- ‌المسألة السادسة[خلاف العلماء في اعتبار علو رتبة الآمر والاستعلاء]

- ‌المسألة السابعةفي تعديد موارد استعمال صيغة افعل

- ‌المسألة الثامنة[في أن مدلول الصيغة الطلب والاستدعاء، أو ما فيه الطلب والاستدعاء]

- ‌المسألة التاسعة[في حكم الأمر بعد الحظر]

- ‌المسألة العاشرة[في الأمر المطلق هل يقتضي التكرار أو لا

- ‌المسألة الحادية عشرة[هل الأمر المعلق يقتضي التكرار

- ‌المسألة الثانية عشرة[في الأمر المطلق هل يقتضي الفور أو لا

- ‌المسألة الثالثة عشرةفي أن القضاء في العبادة المؤقتة بالتنصيص الفائتة عن وقتها هل هو بالأمر الأول أو بالأمر الجديد

- ‌المسألة الرابعة عشرة[في الإتيان بالمأمور به هل يقتضي الإجزاء أو لا

- ‌المسألة الخامسة عشرة[الأمر بالشيء نهي عن ضده]

- ‌المسألة السادسة عشرةفي أن الأمر بالأمر بالشيء، هل هو / (159/أ) أمر بذلك الشيء أم لا

- ‌المسألة السابعة عشر[هل الأمر بالماهية يقتضي الأمر بالجزئيات

- ‌المسألة الثامنة عشرة[في أن الآمر هل يدخل تحت الأمر أم لا

- ‌المسألة التاسعة عشرة[في الأمر الوارد عقيب الأمر]

- ‌الفصل الثاني"في الآمر

- ‌المسألة الأولي[في الآمر]

- ‌المسألة الثانية[في الآمر الذي تجب طاعته]

- ‌المسألة الثالثةوجوب فعل المأمور به على المأمور

- ‌الفصل الثالثفي المأمور به

- ‌المسألة الأولى[في التكليف بالمحال]

- ‌المسألة الثانية[في حصول الشرط الشرعي]

- ‌المسألة الثالثة[هل يجب أن يكون المأمور به مقدورًا للمأمور]

- ‌الفصل الرابع"في المأمور

- ‌المسألة الأولى[في شرط المأمور]

- ‌المسألة الثانية[في تعلق الأمر بالمعدوم]

- ‌المسألة الثالثة[اشتراط القصد في إيقاع المأمور به]

- ‌المسألة الرابعة[في تكليف المكره]

- ‌المسألة الخامسة[فيما يصير به المأمور مأمورًا والفعل المأمور به مأمورًا به]

- ‌المسألة السادسة[علم المأمور بكونه مأمورًا قبل التمكن]

- ‌النوع الرابعالكلام في النهي وما يتعلق به من المسائل

- ‌المسألة الأولىاعلم أن صيغة النهي مستعملة في ثمانية محامل بالاستقراء

- ‌المسألة الثانية[في أن النهي للتكرار]

- ‌المسألة الثالثةفي أن مطلق النهي عند من يقول: إنه للتحريم، أو المقترن بقرينة للتحريم عند من لا يقول: به. هل يقتضي فساد المنهي عنه أم لا

- ‌المسألة الرابعة[فيما إذا أمر الشارع بشيء مطلقا ثم نهي عن بعض أحواله]

- ‌المسألة الخامسة[في النهي عن أشياء متعددة

- ‌النوع الخامسالكلام في العموم والخصوص

- ‌القسم الأول: في العموم

- ‌المسألة الأولىفي تحديد اللفظ العام

- ‌المسألة الثانية[هل العموم من خواص الألفاظ في الاصطلاح واللغة أو لا

- ‌المسألة الثالثة[في ألفاظ العموم]

الفصل: ‌المسألة الثانية عشرة[في الأمر المطلق هل يقتضي الفور أو لا

‌المسألة الثانية عشرة

[في الأمر المطلق هل يقتضي الفور أو لا

؟]

القائلون بأن مطلق الأمر ليس للتكرار.

اختلفوا: في أنه يقتضي الفور أم لا؟ فذهب الحنفية، وأهل الظاهر نحو داود وغيره، والحنابلة / (149/أ) وبعض المعتزلة.

ص: 951

وبعض أصحابنا: نحو القاضي أبي حامد المروروذي، وأبي بكر الصيرفي إلى أن يقتضيه.

وذهب آخرون، إلى أنه لا يقتضيه:

وهؤلاء اختلفوا أيضًا: فذهب الأكثرون منهم نحو: الشافعي،

ص: 952

ومعظم أصحابه، كأبي علي بن أبي هريرة، وأبي علي بن خيران، وأبي علي الطبري، وأبي بكر القفال، والغزالي،

ص: 953

والإمام، وجماعة من الأشاعرة، نحو القاضي أبي بكر، وجماعة من المعتزلة نحو الجبائي وابنه، وأبي الحسين البصري: إلى جواز التأخير عن أول وقت إمكان العمل به.

فعلى هذا مهما فعل المكلف المأمور به مبادرًا أو مؤخرًا كان ممتثلاً، ولا دلالة للأمر المطلق عند هؤلاء على تعيين الزمان، ولا دليل آخر يدل على تعيين الزمان فيه عندهم.

وذهب الأقلون منهم: إلى أنه يقتضي التراخي، فعلى هذا لا يكون المبادر ممتثلاً.

وقد قيل: إنه خلاف الإجماع فنسبوا فيه إلى خرق الإجماع.

وأما الواقفية: فمنهم من توقف فيه توقف الاشتراك.

ومنهم من توقف فيه توقف اللا دراية.

ص: 954

وهؤلاء انقسموا إلى غلاة ومقتصدة.

أما الغلاة: فهم الذين توقفوا في المبادر والمؤخر في أنه هل هو ممتثل أم لا؟. ونسبوا أيضًا إلى خرق إجماع السلف فإنهم كانوا قاطعين بأن المبادر مسارع في الامتثال ومبالغ في الطاعة.

وأما المقتصدة: فهم الذين قطعوا بامتثال المبادر، وتوقفوا: في المؤخر في أنه هل هو ممتثل أم لا؟.

ثم منهم: من قال: بتأثيمه.

ومنهم: من لم يقل به.

ثم منهم: من لم يؤثمه.

ومنهم: من توقف فيه، مع القطع بأنه امتثل أصل المطلوب كإمام الحرمين رحمه الله

ولا يستبعد "القول بالتأثيم مع التوقف في الامتثال" فإن القول: بالتأثيم قد يكون مع القطع بالامتثال، كما في الواجب الموسع عند من يجوز تأخيره بشرط البدل إذا أخره المكلف بدونه.

ص: 955

والمختار إنما هو مذهب الشافعي رضي الله عنه.

ويدل عليه وجوه:

أحدها: أن الأمر حقيقة في طلب الفعل لا غير، لأن له دلالة على طلب الفعل إجماعًا، والأصل عدم دلالته على غيره، وهذا الأصل وإن كان متروكًا بالنسبة إلى أصل الزمان بحسب الدلالة الالتزامية لكونه من ضرورة وقوع الفعل فيجب أن يبقي معمولاً به بالنسبة إلى تعينه، فمهما فعل المكلف المأمور به سواء كان في الزمان الأول أو الثاني أو الثالث كان آتيًا بتمام مدلول الأمر، فوجب خروجه عن عهدة التكليف.

وثانيها: أنه استعمل في الفور وفي التراخي، فوجب جعله / (150/أ) حقيقة في القدر المشترك دفعًا للاشتراك والمجاز، وما ذاك إلا لطلب الفعل، إما لما تقدم، وإما بالإجماع إلا لقائل [بالفصل].

ص: 956

وثالثها: لو دل الأمر على الفور أو على التراخي، فإما أن يدل عليه بعموم ما يتضمنه من المصدر، أو بخصوص صيغته، وكل واحد منهما، إما بحسب المطابقة، أو التضمن، أو الالتزام، والقسمان باطلان فبطل دلالته عليه.

أما الأول: فلأنه لو كان كذلك لوجب أن يدل عليه جميع أمثلة الأفعال من الماضي والمضارع نحو تلك الدلالة، ضرورة تضمنه المصدر مثل تضمن الأمر لكنه باطل وفاقًا، فكذا ملزومة.

وأما الثاني: فلأن صيغة الأمر إنما تتميز عن سائر أمثلة الأفعال بكونها دالة على طلب الفعل بطريق الإنشاء، إما مع الاستعلاء أو مع العلو على ما عرفت ذلك في تحديده، ويؤكده ما نقل عن أهل اللغة أنه لا فرق بين "افعل" وبين "يفعل" إلا في كون الأول أمرًا والثاني خبرًا، ومفهوم الأمر هو ما ذكرناه، ومعلوم أنه ليس فيه ما يدل على الفور أو على التراخي، ولا هو مستلزم لأحدهما فلم تدل الصفة على أحدهما بأحد وجوه الدلالة، فظهر بطلان القسمين فبطل دلالته عليه.

ورابعها: أن صحة تقسيم الأمر المطلق، إلى الأمر بشيء على سبيل الفور، وإلى الأمر به على سبيل التراخي، معلوم من أهل اللغة، ولهذا لو قيل للغوي: ورد الأمر على وجه الفور، أو على وجه التراخي، لم تشمئز نفسه عن قبوله، ومورد التقسيم يجب أن يكون مشتركًا، فلو كان الأمر للفور أو التراخي، لما صح هذا التقسيم كما لا يصح تقسيم أمر الفور أو التراخي إليهما.

وخامسها: أنه يحسن من الآمر أن يقول للمأمور: افعل الفعل الفلاني في الحال أو في الغد، ولو كان الأمر للفور لكان الأول تكرارًا أو الثاني نقصًا.

ص: 957

وتحرير هذا بعبارة أخرى، وهي أن يقال: لو كان الأمر للفور لما حسن هذا كما لا يحسن تأقيت الأمر المقترن بالفور بالغد.

وأما القائلون بالفور فقد احتجوا بوجوه:

أحدها: قوله تعالى لإبليس: {ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك} غاية على أنه لم يأت بالمأمور به في الحال، وهذا يدل على أنه واجب عليه الإتيان بالمأمور به في الحال.

لا يقال: لا نسلم: أنه غاية على الترك في الحال، بل إنما غاية على أنه تركه، ولم يأت به.

لأنا نقول: الترك لم يتحقق في الأمر المطلق ما دام المأمور باقيًا ولم يمض عليه "وقت يحصل له غلبة" الظن [بفواته] فيه، إما لمرض، أو لعلو السن وفاقًا، وهو / (150/ب) غير حاصل في حق إبليس، إما لأن الأصل عدمه، أو لأنه لو كان الذم والتوبيخ لذلك لوجب

ص: 958

ذكره دفعًا للتلبس، فإن ظاهره يدل على الذم بمجرد الترك لا على الترك بعد تضيق الوقت، وإذا كان كذلك لوجب أن لا يستحق الذم والتوبيخ إذ لم يتحقق الترك منه، ولأنه لو كان الذم والتوبيخ على الترك لكان لإبليس أن يقول: إنك أمرتني بالسجود وما أوجبته على في الحال، ولم يتحقق منى الترك فإني باق بعد ومتمكن من الإتيان به، فكيف استحق الذم عليه؟

وأجاب الإمام عنه: بأنه حكاية حال، فلعل ذلك الأمر كان مقرونًا بما يدل على أنه للفور.

وهو ضعيف، لأن ظاهره يدل على ترتب الذم بمجرد ترك المأمور به، فتخصيصه بأمر آخر غيره خلاف الظاهر.

وهذا وإن كان لازمًا على كل من يجيب بذلك الجواب عن الاستدلال المذكور، لكنه عليه ألزم، لأنه به أجاب عن هذا الجواب، لما اعترض به على استدلاله بهذا النص على أن الأمر للوجوب.

وأجاب بعضهم: بأنا لا نسلم أنه عاتبه على تركه في الحال بل إنما عاتبه لتجبره على آدم عليه السلام يدل عليه قوله تعالى حكاية عنه: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} . ولإبائه واستكباره يدل عليه قوله تعالى: {إلا إبليس أبي واستكبر} . وهو أيضًا ضعيف.

ص: 959

أما أولاً: فلأنه احتمال قادح في كون الأمر للوجوب، والكلام في أن مطلق الأمر هل يقتضي إيجاب المأمور به أم لا؟.

فرع كونه مقتضيًا إيجاب المأمور به فلا يسمع فيه ما يقدح في أصله.

وأما ثانيًا: فلأن الذم مستفاد من قوله تعالى: {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} وهو لا يدل إلا على أن منشأ الذم ترك السجود لا الإباء والتجبر، فإنه غير مذكور فيه.

والأولى أن يقال في جوابه: إن ذلك الأمر كان مقرونًا بما يدل على أنه للفور، بدليل قوله تعالى:{فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} . فإنه جعل الأمر بالسجود جزاء لشرط التسوية، والنفخ والجزاء يحصل عقيب الشرط، فلا يلزم من إفادة الأمر الفور لقرينة إفادته إياه من غير قرينة.

وثانيها: أنه لو قال السيد لعبده: اسقني الماء، فإنه يفهم منه تعجيل السقي حتى لو أخر العبد السقي، استحق الذم وقد عرفت فيما

ص: 960

سبق أن الإسناد إلى القرينة خلاف الأصل.

وجوابه: أن التعجيل مستفاد من قرينة عرفية، بدليل أنه لو أمره بما لا يعلم ولا يظن حاجته إليه على الفور لا بما يعلم أو يظن عدم حاجته إليه على الفور حتى بحال عدم حسن الذم فيه إلى / (151/أ) القرينة، فإنه لا يحسن ذمه على التأخير، ولو ادعى حسن ذمه على التأخير في مطلق الأمر، بدليل أن السيد يعلل ذمه بأني أمرته بكذا فأخر، فإنا لا نسلم حسن ذلك.

ولو سلمناه: فمعارض بحسن اعتذار العبد، فإنه يحسن منه أن يقول: إنك أمرتني بالفعل، وما أمرتني به على الفور، ولا علمت ولا ظننت حاجتك إليه على الفور، حتى كان يجب على فعله على الفور، ثم تلك القرينة هي ما تعلم أن الظاهر من حال الإنسان أن لا يطلب الماء إلا عند احتياجه إليه.

وثالثها: أنه يجب على المأمور اعتقاد وجوب الفعل المأمور به على الفور بالإجماع، وهو إما موجبه أو من لوازم موجبه وعلى التقديرين يجب فعل المأمور به على الفور، أما على الأول فبالقياس عليه والجامع بينهما تحصيل المصلحة الناشئة من المسارعة، وأما على الثاني فبالطريق الأولي لكونه مقتضاه وهو من لوازم مقتضاه.

وجوابه: منع كونه من موجباته أو من لوازم موجباته، وهذا لأن وجوب

ص: 961

الاعتقاد على الفور "غير" مستفاد من اللفظ بل من العقل، فإن من ركب الله فيه العقل فنظر علم أن امتثال أوامر الله تعالى واجب وإن لم يحصل شيء من أوامره.

سلمناه: لكنه قياس في اللغة وهو ممنوع.

سلمناه: لكنه منقوض بما لو صرح بجواز التأخير، كما لو قال: افعل في أي وقت شئت وبجميع الواجبات الموسعة نحو النذور والكفارات، وبالخبر الصادر من الشارع فإنه يجب اعتقاد صدقه على الفور [ولا] يجب حصول الفعل المخبر عنه على الفور.

ورابعها: طريقة الاحتياط. وتقريرها: أنا أجمعنا على أن المبادر خارج عن عهدة التكليف، واختلفنا في المؤخر في أنه هل هو خارج أم لا؟ فالاحتياط يقتضي إيقاع الفعل عقيب الأمر ليحصل الخروج عن عهدة التكليف بيقين.

أجاب الإمام "عنه" بأنه منقوض بما لو قال: افعل في أي وقت شئت

ص: 962

وهو غير سديد، لأن طريقة الاحتياط ليست آتية فيه، إذ لا خلاف في المؤخر فيه، ولا خوف على تأخيره عن أول الوقت لصريح الإذن فيه.

وأجاب بعضهم: بأن الاحتياط في إتباع المكلف ظنه، فإن ظن الفور يجب [عليه] إتباعه، وإن ظن التراخي، وجب عليه إتباعه، وإلا فبتقدير ظن التراخي لو أوقعه على الفور على خلاف ظنه، كان ذلك حرامًا لا احتياطًا، فلم يكن التعجيل احتياطًا مطلقًا.

وهو أيضًا ضعيف.

أما أولاً: فلاقتضائه أن لا يكون طريقة الاحتياط / (151/ب) جارية باستقلالها في شيء من الصور، وهو خلاف الإجماع.

وأما ثانيًا: فلأنه لا يتأتي فيما لم يحصل الظن فيه بأحدهما والخصم قد ينصبها دليلاً فيه.

ولو أجيب عنه: بأن الاحتياط والحرام ليس من أمارات الوضع. كان ذلك حقًا لكن من المعلوم أن الخصم ليس يجعله دليلاً على أنه يفيد الفور بحسب الوضع، بل يجعله دليلاً شرعيًا على إفادته الفور.

والأولى: أن يجاب عنها بالمعارضة بالضرر الناشئ من الإيجاب على

ص: 963

الفور، فإن الأدلة النافية للضرر والحرج نافية له.

وخامسها: القياس على النهي، فإنه يقتضي الانتهاء على الفور بالاتفاق فكذا الأمر، والجامع ما سبق.

وجوابه: بمنع القياس في اللغة.

ولئن سلم: فبالفرق، وهو ما تقدم ونزيد هنا بأنه يفيد ذلك، لأنه يفيد التكرار، بخلاف الأمر فإنه لا يفيد التكرار على ما عرفت ذلك.

وسادسها: أن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده، ثم النهي عنها يوجب الانتهاء عنها على الفور، وذلك لا يمكن إلا بالإقدام على المأمور به على الفور، وقد عرفت جوابه غير مرة فلا نعيده.

وسابعها: التمسك بقوله تعالى: {فاستبقوا الخيرات} ، وقوله تعالى:{وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} .

ووجه الاستدلال بهما أنه لا شك في أن المأمور به من الخيرات والاستباق والمسارعة إليه إنما هو بالتعجيل، فيكون تعجيل المأمور به واجبًا،

ص: 964

إذ الأمر للوجوب، وهو المطلوب.

وجوابه: بعض ما تقدم في الواجب الموسع.

وثامنها: لو جاز التأخير لجاز إما إلى بدل أو لا إلى بدل، والقسمان باطلان، فالقول بجواز التأخير باطل.

وتمام تقريره وجوابه، ما قد تقدم أيضًا في مسألة إثبات الواجب الموسع.

وتاسعها: لو جاز التأخير لجاز إما إلى غاية معينة، أو لا إلى غاية معينة، بل يجوز له التأخير أبدًا، والقسمان باطلان، فالقول بجواز التأخير باطل.

وإنما قلنا: إنه لا يجوز التأخير إلى غاية معينة، لأن تلك الغاية إما أن تكون معلومة للمكلف أو لا تكون معلومة له.

فإن كانت معلومة له، فإما أن يكون ذلك بتنصيص الشارع عليه بأن ينص على جواز التأخير إلى خمسة أيام مثلاً أو لضرب من النظر والقياس.

والأول باطل، لأنه خلاف المفروض، إذ المفروض في اقتضاء مطلق الأمر.

ص: 965

وإن كان الثاني: فتلك الغاية هي الوقت الذي يعلم المكلف أو يظن أنه لو لم يشتغل بالمأمور به فيه لفاته، بدليل أن كل من قال: يجوز التأخير إلى غاية معلومة / (152/أ) بضرب من النظر والقياس، قال: إن تلك الغاية هي هذه، فالقول: بإثبات غاية أخرى معلومة للمكلف خلاف الإجماع، وأنه باطل فتتعين هي، لكن القول بأنها غاية يجوز التأخير إليها باطل أيضًا، لأن ذلك العلم أو الظن إن لم يكن لدليل أو لأمارة لم يكن معتبرًا.

وإن كان الدلالة نحو المرض المهلك إذا احتفت به من العلامات ما يقطع الإنسان أنه لا يعيش به إلى وقت يمكنه أداؤه فيه، أو لأمارة نحو المرض الذي لا يكون كذلك، بل يغلب على الظن الهلاك أو علو السن فهو أيضًا باطل، لأن كثيرًا من الناس يموت فجأة، فلم يكن ذلك غاية بالنسبة إلى كل المكلفين، فلا يكون معولاً عليه في جواز التأخير لإفضائه إلى ترك الواجب في جميع العمر.

وإن كانت الغاية مجهولة فهو أيضًا باطل، لأنه حينئذ يصير المكلف مكلفًا بأن لا يؤخر الفعل عن تلك الغاية المعينة مع أنه لا يعرفها، وهو تكليف ما لا يطاق.

وإنما قلنا: إنه لا يجوز التأخير لا إلى غاية معينة، بل يجوز ذلك أبدا لأن ذلك المأمور به على هذا التقدير يكون ندبًا لا واجبًا، لأن تجويز الترك أبدًا ينافي ماهية الواجب.

وجوابه: النقض بما لو صرح بجواز التأخير نحو: "قوله" افعل في أي وقت شئت، وبجميع الواجبات الموسعة نحو النذور والكفارات مع أن

ص: 966

جميع ما ذكروه من الأقسام آت فيه.

وعاشرها: أن الأمر استدعاء فعل بقول يقتضي التعجيل كالإيجاب في البيع فإنه يقتضي تعجيل ما استدعاه من القبول.

وجوابه: أنه قياس في اللغة وهو ممنوع.

سلمناه: لكن الجامع وصف طردي وهو غير معتبر.

سلمناه: لكن الفرق قائم فإن الأمر: استدعاء فعل بقول، والإيجاب في البيع: استدعاء قول بقول والفورية تشترط فيه لكي يعد جوابًا فإنه لو تأخر القبول لم يعد جوابًا، بخلاف الفعل فإنه لو تأخر عن وقت الاستدعاء لا يقدح ذلك في الامتثال.

ولئن سلم: أنه لا فرق لكنه منقوض بما لو قال: افعل في أي وقت شئت.

وأما القائلون بالتراخي:

ص: 967

فقد احتجوا: بأنه يجوز التراخي عن أول الوقت، إذ قد ظهر ضعف أدلة القائلين بالفور، فلا يكون واجبًا فيه، ولا يجوز التأخير عن آخره وذلك يدل على أنه واجب فيه.

وجوابه: أنه خلاف الإجماع على ما تقدم فلا يكون مسموعًا.

سلمنا: أنه ليس "خلاف" لكن جواز التأخير عن أول الوقت لا يدل على / (152/أ) أنه ليس "بواجب فيه مطلقًا، بل يدل على أنه ليس بواجب فيه على التضييق، وهو أخص من الأول: فنفيه لا يستلزم نفيه.

سلمنا: لكنه قد يفضي لترك الواجب في جميع العمر، فيكون باطلاً.

سلمنا: أنه ليس بمفض إليه، لكنه منقوض بقوله: افعل في أي وقت شئت.

وأما الواقفية القائلون بالاشتراك:

فقد احتجوا: بالاستعمال، وحسن الاستفهام، وتمام تقريرهما قد مضى في مسألة أن الأمر هل هو للتكرار أم لا؟. وقد عرفت جوابهما أيضًا ثمة.

وأما الغلاة من الفريق الثاني من الواقفية فقد احتجوا بوجهين:

أحدهما: أن العلم بكونه للفور، أو للتراخي، أو للقدر المشترك بينهما، إما بالعقل، أو بالنقل، إلى آخره، كما ذكر في مسألة أن الأمر للوجوب.

ص: 968

وجواب ذلك: الجواب: أيضًا. إلا أن المركب من العقل والنقل هنا غير ما ذكر ثمة، ولا يخفى عليك تقريره بعد أن تمسكت بالبراءة الأصلية، فإن المقدمة العقلية فيه هي، فلا نطول الكتاب بالإعادة.

وثانيهما: أنه يحتمل أن يراد به فعل المأمور به على الفور، ويحتمل أن يراد به فعله على التراخي، وليس فيه ما يدل على أحدهما فصار كالمجمل بالنسبة إلى محتملاته، فيجب التوقف إلى أن يدل دليل على أحدهما.

وجوابه: أنه إجمال في مدلوله وهو إيقاع المأمور به والاحتمالات المترددة في اللوازم غير مضرة كما في المكان وأحوال الفاعل.

وأما المقتصدة منهم: فقد تمسكوا بأن المبادر ممتثل بالإجماع، إذ الأمة قبل ظهور المخالف كانوا قاطعين بذلك ولا قاطع في المتأخر فيجب التوقف، إذ المسألة علمية.

وجوابه: جواب الشبهة الأولى للغلاة.

ص: 969

فرع:

القائلون بأن مطلق الأمر للفور:

اختلفوا في أن الفعل المأمور به إذا فات عن أول وقت إمكان العمل به، هل يجب فعله فيما بعده بالخطاب الأول، أم يحتاج فيه إلى دليل آخر؟.

فذهب بعضهم: كأبي بكر الرازي رحمه الله إلى أنه يجب بالخطاب الأول، وليس هو نقضًا، لأن قول القائل: افعل معناه عنده افعل في أول زمان الإمكان، فإن لم يفعل فيه ففي الزمان الثاني، فإن لم يفعل فيه ففي الزمان الثالث، هكذا أبدًا ولو فرض أن الأمر كان هكذا كان الفعل واجبًا في الزمان الأول من أزمنة الإمكان، وفي الزمان الثاني والثالث من غير أن يكون قضاء فكذا هنا.

ويشعر إيراد بعضهم / (153/أ): بأنه يكون قضاء عندهم، كما في المعين وقته بالتنصيص لكن الأظهر ما ذكرناه.

وذهب الباقون: إلى أنه لا يجب بالخطاب الأول. بل لا بد من دليل

ص: 970

آخر يوجب قضاءه، كما في المعين وقته بالصراحة، وهؤلاء زعموا أن افعل معناه: افعل المأمور به في أول زمان إمكان من غير "بيان حال الزمان الثاني والثالث ولو صرح بهذا لم يجب الفعل في الزمان الثاني والثالث من غير" دليل آخر على ما سيأتي تقريره فكذا هاهنا.

احتج الأولون: على صحة قولهم: بأن الأمر اقتضى وجوب المأمور به على الفور ووجوبه على الفور اقتضى وجوب كون المأمور فاعلاً له على الفور، فإذا فات وصف الفورية، وجب أن ينفي وجوب كونه فاعلاً لأصل الفعل لقوله عليه السلام:"إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".

واحتج النافون على صحة قولهم: بأن الدليل إنما دل على كون الأمر للفور فقط، ومعناه: وجوب الفعل في أول زمان إمكانه وكون الفعل يجب في الزمان الثاني والثالث بتقدير فواته عن أول زمان الإمكان فغير داخل في مفهوم الفورية، ولا هو مستلزم "له"، والأصل عدم دلالة دليل آخر عليه، فلا يلزم من كون الفعل مأمورًا به على الفور بكونه مأمورًا به في الزمان الثاني والثالث بتقدير الفوات عن الأول والثاني "المؤقته ..... بالأمر الجديد أم لا فذهب المحققون من الحنفية إلى أنه".

ص: 971