الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعن الرابع: أنا لا نقول: بامتناع التكليف بمثل فعله حتى يكون ما ذكرتم ورادًا علينا، بل نقول: إن المأمور إذا فعل المأمور به على نحو ما أمر به امتنع وجوب القضاء بعده والأمر مشعر به بواسطة الامتثال على الوجه الذي سبق تقريره.
وإنما أوردنا هذه المسألة في هذا الفصل مع أن ظاهرها يقتضي إيرادها في فصل المأمور به، لأنها من مقتضى الأمر حقيقة إذ يقال: الأمر يقتضي الإجزاء / (157/أ) بالمأمور به.
المسألة الخامسة عشرة
[الأمر بالشيء نهي عن ضده]
اعلم أنه لا نزاع في أن الأمر بالشيء نهي عن تركه بطريق التضمن، نهي تحريم إن كان الأمر للوجوب، أو نهي تنزيه وكراهة، إن كان للندب.
لكن اختلفوا في أنه هو نهي عن ضده [الوجودي أم لا؟.
فذهب بعض المتكلمين منا والقاضي أبو بكر فيما يروى عنه أولاً: إلى أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده]، لا بمعني أن صيغة تحرك مثلاً عين صيغة لا تسكن فإن ذلك معلوم الفساد بالضرورة، بل بمعني أن المعني المعبر عنه بتحرك عين المعني المعبر عنه "بلا تسكن".
وقالوا: إن كونه أمرًا ونهيًا بالنسبة إلى الفعل وضده الوجودي ككون "الحركة" قربًا وبعدًا بالنسبة إلى الجهتين، وفساده قريب من فساد الأول،
لأن الطلب النفساني المتعلق بإيجاد الفعل الذي هو بمعتبر صيغة الأمر غير الطلب النفساني المتعلق بتركه الذي هو بمعتبر صيغة النهي قطعًا.
وذهب كثير منا والقاضي فيما يروى عنه آخرًا، وبعض المعتزلة نحو الكعبي وأبي الحسين والقاضي عبد الجبار: إلى أن الأمر بالشيء نهي عن ضده بطريق الاستلزام.
فعلى هذا وعلى ما سبق إن كان ذلك؛ الضد واحدًا كالسكون للحركة، يكون منهيًا عنه بعينه [وإلا] فجميع تلك الأضداد يكون منهيًا عنها.
وذهب الباقون منا كإمام الحرمين والغزالي، ومن المعتزلة:
إلى أنه ليس عينه ولا يستلزمه.
ومنهم من فصل بين أمر الإيجاب، وبين أمر الندب، فقال: أمر الإيجاب يستلزم النهي عن ضده.
وأما أمر الندب لا يستلزم النهي عن ضده لا نهي تحريم ولا تنزيه، لأن أضداد المندوب من الأفعال المباحة ليس بمنهي عنها لا نهي تحريم ولا تنزيه. ثم هذا النزاع غير متصور في كلام الله تعالى، على رأي من يرى أنه واحد، وهو مع ذلك أمر ونهي وخبر واستخبار، بل في كلام المخلوقين وفي كلامه تعالى على رأي من يرى تعدده.
واحتج الأولون: بأن الأمر بالشيء لو لم يكن عين النهي عن ضده، لكان إما أن يكون ضدًا للنهي عن ضده، أو خلافًا للنهي عن ضده، أو مثلاً للنهي عن ضده، ضرورة انحصار التغاير في هذه الأقسام الثلاثة، لا جائز أن يكون ضدًا له وإلا لما اجتمع معه لكنه قد يجتمع معه بأن يصرح بنهيه معه،
ولا جائز أن يكون خلافًا له، وإلا لجاز وجود أحدهما بدون الآخر كالعلم مع القدرة، ولجاز وجود أحدهما مع ضد الآخر كالعلم مع العجز، والقدرة مع الجهل، وفي ذلك تجويز الأمر بالشيء / (157/ب) وضده وهو محال، ولا جائز أن يكون مثلاً له لتضاد المتماثلات على ما عرف ذلك في الكلام، وإذا بطلت هذه الأقسام بطل القول بالتغاير فهو إذن عينه.
وجوابه: أن من جوز الأمر بالمحال منع الأقسام الثلاثة، وأما من لم يجوز ذلك فإنما يمنع القسم الثاني فقط، وهذا لأن جواز انفكاك أحد المخالفين عن الآخر ليس بلازم، بل قد يمتنع ذلك، كما في المتضايفين وكل متلازمين من الجانبين ومنه يعرف امتناع اجتمع [أحدهما] ضد الآخر.
احتج الفريق الثاني: بأنه ثبت أن الأمر بالشيء أمر بما هو من ضروراته إذا كان مقدورًا للمكلف، وترك ضد المأمور به من ضرورة فعله، ضرورة
أنه لا يتصور فعله بدون تركه، وهو من مقدوراته فيكون تركه مأمورًا به ولا نعني بكونه منهيًا عنه سوى هذا.
نعم لو جوزنا التكليف بالمحال لم يكن الأمر بالشيء نهيًا عن ضده، بل يجوز أن يكون مأمورًا به معه.
واعلم أن النافين عند هذا تفرقوا فريقين وتحزبوا حزبين.
فمنهم كبعض المعتزلة: لم يعترفوا بأن الأمر بالشيء أمر بما لا يتم الشيء إلا به، والكلام معهم في إثبات هذا الأصل نفيًا وإثباتًا قد تقدم.
ومنهم: من سلم هذا الأصل كإمام الحرمين والغزالي رحمهما الله.
لكن منهم: من منع عموم هذه القاعدة، وقال: إن الأمر بالشيء أمر بما لا يتم إلا به، لكن بالنسبة إلى ما يكون وسيلة وطريقًا إلى فعل الواجب لئلا يعتقد المأمور أنه غير مأمور بالفعل حال عدم ما يتوقف عليه الفعل لاعتقاده أن الفعل ممتنع الوقوع عنده فيقتضي إلى أن لا يفعل الواجب أصلاً، فأما ما ليس كذلك بل يتبع وجوده وجود المأمور به كصوم أول جزء من الليل، فلا نسلم ذلك فيه، وترك ضد المأمور به كذلك، لأنه لا يقصد به فعل المأمور به وهو يحصل بفعله من غير قصد ولا شعور.
والكلام مع هؤلاء في تعميم القاعدة وتخصيصها.
ومنهم من قال: إنا لا نقول: إن الأمر بالشيء أمر بما لا يتم الشيء إلا به، ولا إن إيجاب الشيء إيجاب لما لا يتم إلا به، بدليل أنه لا يجب على الصائم نية إمساك جزء من الليل، ولا على غاسل الوجه نية غسل جزء من الرأس، لو قيل له:"صم النهار" و "اغسل الوجه" ولكن نقول: "إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، مقتضى هذا أن يكون ترك الضد واجبًا، ونحن نقول به: لكن لا بذلك الأمر بل بدليل آخر إحدى مقدمتيه ذلك الأمر عينه عين نهيه ولا عينه مستلزمة.
وهو ضعيف، لأن من يقول: إنه نهي عن ضده بطريق الاستلزام لا يقول: إنه وحده يستلزم نهيه، بل لابد وأن يقول: إنه إنما يستلزم ذلك بواسطة مقدمة عقلية، وهي إما ما سق قبيل هذا، وإما استحالة تكليف ما لا يطاق، وإما لزوم تقييد المطلق أو تخصيص العام الذي هو خلاف الأصل ولا يعنون بكون الضد منهيًا عنه إلا أنه واجب الترك، فيكون الفرق حاصلاً بينهما.
واحتج النافون بوجوه:
أحدها: أن الآمر بالشيء قد يكون غافلاً عن ضده الوجودي، والغافل عن الشيء لا يكون ناهيًا عنه.
وجوابه: أنا نمنع جواز كون الآمر بالشيء ذاهلاً عن طلب ترك ما يمنع من فعل المأمور به من حيث الجملة، وإن كان يجوز أن يكون ذاهلاً عن
تفصيله، ونحن لا نجعل الأمر بالشيء نهيًا عن أضداده على سبيل التفصيل حتى يكون ما ذكرتموه واردًا علينا، بل نجعله نهيًا [عنها] من حيث الجملة.
سلمنا: ذلك [لكن] لما جاز أن يكون الأمر بالشيء أمرًا بما يتوقف عليه وجوده مع كونه مغفولاً عنه، فلم لا يجوز أن يكون الأمر بالشيء نهيًا عن ضده وإن كان مغفولاً عنه؟
سلمنا: سلامته عن هذا النقض، لكن لما لا يجوز أن يقال: إنه نهي عنه بشرط الشعور به.
ولا يلتفت إلى قول من يقول: إنه إذا شرط في ثبوته أمرًا زائدًا على الأمر، لم يكن عينه ولا يتضمنه ولا يلازمه لظهور فساده.
وثانيها: أن الأمر بالشيء إن كان نهيًا عن ضده، فالنهي عن الشيء إن كان أيضًا أمرًا بضده لزم نفي المباح، على ما ذهب إليه الكعبي، وهو منكر من القول وزور، وإن لم يكن أمرًا به فهو تحكم محض لم يجد العارف إليه سبيلاً.
وجوابه: أنه لا يقتضي نفي المباح باعتبار ذاته، بل غايته أنه يقتضي أن
ما عداه من المباحات وغيرها واجب على البدل، باعتبار أنه لا يمكن أن يترك المحرم إلا به ولا امتناع في كون الشيء مباحًا وواجبًا باعتبار، بل الامتناع في كون الشيء واجبًا ومحرمًا باعتبارين مختلفين كالواجبات المتضادة، فإن كل واحد منها عندنا واجب باعتبار ذاته، ومحرم باعتبار كونه مانعًا من فعل واجب آخر، وهذا كما قلتم: في الصلاة في الدار المغصوبة، فإنها باعتبار كونها صلاة مأمور بها، وباعتبار كونها تتضمن شغل حيز الغير منهي عنها.
وثالثها: أن الشيء إذا كان له أضداد كثيرة فالأمر به لو كان نهيًا عن ضده، فإما أن يكون نهيًا عن ضد واحد بعينه وهو ظاهر الفساد أو لا بعينه. وهو أيضًا باطل.
أما أولاً: فلأن دليل كون الضد منهيًا عنه هو أن ما يتوقف عليه الواجب" فهو واجب"، وفعل المأمور به يتوقف على ترك كل واحد منهما لا على ترك واحد منها، بدليل أنه يمتنع حصوله إلا بترك الجميع.
وأما ثانيًا فلأن معنى قولنا: كون الشيء الواحد من بين الأشياء منهيًا عنه لا بعينه، هو أنه يحرم الجمع بينها فلو ترك واحدًا منها وفعل الباقي لا يكون فاعلاً للمحرم، وكذلك لو ترك كل واحد منها فإنه يكون ممتثلاً للنهي أيضًا، وإنما يكون مرتكبًا للمنهي عنه إذا فعل كل واحد منها.
فعلى هذا لو ترك ضدًا واحدًا وفعل الضد الآخر ولم يفعل المأمور به
وجب أن يقال: إنه منتهي عن المنهي عنه، وفي ذلك حصول التابع من حيث إنه تابع من غير متبوع.
وإما أن يكون نهيًا عن كل واحد من أضداده وهو أيضًا باطل، لأنه يلزم ما تقدم من المحذور إذا فعل ضدًا واحدًا وترك البواقي، وأيضًا يلزم أن يقال: إنه ممتثل بعد ذلك الأضداد وهو محال.
وجوابه: أنه نهي عن كل واحد من الأضداد، وما ذكرتم من المحذورين فغير لازم.
أما أولاً: فلأن المنهي عنه التابع للأمر بالشيء هو جميع الأضداد وتركه غير حاصل عند ترك البعض، فلا يلزم حصول التابع من غير حصول المتبوع، وإنما يكون ذلك لو حصل ترك الجميع من غير حصول المأمور به، لكنه غير ممكن لما ثبت في الكلام من استحالة خلو القادر عن فعل الشيء وضده.
وبه خرج الجواب عن الثاني، لأنه إنما يكون ممتثلاً للنهي لو ترك جميع أضداده إذ هي للمنهي عنها والتعدد فيه غير مقصود.
فأما إذا ترك البعض وفعل البعض لم يحصل الانتهاء من المنهي عنه، وليس كل واحد منها منهيًا عنه على سبيل الاستقلال حتى يكون تاركًا البعض ممتثلاً للنهي بعدد ما ترك من الأضداد، بل المنهي عنه هو جميع تلك الأضداد، وترك جميعها غير متصور بدون ترك البعض، فلذلك صار كل واحد من تلك الأضداد منهيًا عنه بطريق التتبع فلا يكون ممتثلاً للنهي ما لم يترك الجميع فضلاً عن أن يقال: إنه ممتثل بعدد ما ترك من الأضداد.