الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
في المأمور به
وفيه مسائل:
المسألة الأولى
[في التكليف بالمحال]
يجوز ورود التكليف بالمحال، عند الشيخ أبي الحسن الأشعري، وأكثر أصحابه، سواء كان ذلك محالاً لنفسه: إما مطلقًا أي لا يختلف استحالته بالنسبة إلى قادر دون قادر، كالجمع بين النفي والإثبات، والجمع بين الضدين، أو لا يكون كذلك وهو على قسمين: لأنه إما أن يكون واقعًا بالقدرة التي هو غير مستحيل بالنسبة إليها، وهو كخلق الأجسام وبعض الأعراض كالطعوم / (163/ب) والروائح فإنه مستحيل بالنسبة إلى القدرة الحادثة دون القدرة القديمة، وهو واقع بها.
وهذا على رأي [من يثبت القدرة الحادثة.
وأما على رأي] من ينفيها فلا يتصور اختلاف الاستحالة بالنسبة إلى
قدرة دون قدرة، أو غير واقع بها أيضًا كجبل من ذهب، وبحر من زئبق.
أو لغيره: وهو: إما لفقد شرطه سواء علم اشتراطه [له] حسا: كالمشي من مقطوع الرجل، والكتابة من مقطوع اليد، أو عقلاً، كالقيام في حالة عدم الداعي إليه أو لوجود مانع، إما حسي كالقيام من المقيد بقيد
مانع [منه]. أو عقلي كالأمر بتحصيل ما علم الله تعالى أنه لا يحصل منه، والأمر بالفعل حال التلبس بضده.
ثم اختلف الناقلون في نقل وقوعه عنه.
"فمنهم: من نقل عنه أنه واقع، كما هو جائز الوقوع".
ومنه من نقل عنه أنه لم يقع.
قال إمام الحرمين رحمه الله: هذا غلط، بل التكاليف بأسرها عنده لغير الممكن. لوجهين:
أحدهما: أن فعل العبد لا يقع عنده إلا بقدرة الله تعالى، ثم قال: ولا معني للتمويه بالكسب".
ولا يخفى أن التكليف بفعل الغير تكليف ما لا يطاق.
وثانيهما: أن الاستطاعة عنده مع الفعل والتكليف به متوجه قبله.
ولا يخفى أن التكليف بالفعل حال عدم القدرة تكليف ما لا يطاق.
ثم اعترض على هذا الوجه وقال: "الأمر بالشيء بهي عن ضده وهو متلبس به حال الخطاب".
أجاب عنه: بأنا لا نسلم أن الأمر بالشيء نهي عن ضده.
ولئن سلم: ذلك لكن القدرة لم تقارن الفعل وإن قارن الضد.
وهما ضعيفان:
أما الأول: فلأن الكلام إنما هو على رأي الشيخ لا على رأيه وهو يرى أن الأمر بالشيء نهي عن ضده.
وأما الثاني: فلأن فيه تسليم أن بعض التكاليف تكليف بالمحال لا كله، وهو مقصود السائل ونقيض مقصوده.
بل الجواب عنه بوجهين [آخرين]:
أحدهما: أن ما هو متلبس به عند ورود الخطاب ليس ضدًا له، وهذا لأن ضده الوجودي المنهي عنه هو الذي يستلزم التلبس به تركه في الزمان الذي أمر بإيقاع الفعل فيه، وهو في زمان ورود الخطاب لم يتلبس به، لأن زمان الفعل هو الزمان الثاني إن كان الأمر للفور.
وثانيهما: أنا وإن سلمنا: أن ذلك ضده المنهي عنه، لكنه حاصل عند ورودا لخطاب، والأمر بترك الحاصل محال لله اللهم إلا أن يقال: إنه مأمور بترك ما هو متلبس به في المستقبل، وذلك إنما يكون بإقدامه على المأمور به
وحينئذ يعود المحذور المذكور.
واعلم أن الوجه / (164/أ) الثاني: غير لازم على الشيخ، وهذا لن الاستطاعة وإن كانت مع الفعل عنده، لكن الأمر بالفعل ليس قبله عنده، على ما أشعر به نقل الإمام.
وستعرف ذلك في مسألة أن المأمور متى يصير مأمورًا حال الفعل أم قبله.
فإن صح هذا من مذهبه كان التكليف بما لا يطاق غير لازم عليه من هذا الوجه، فإن ذكر الإمام ذلك بناء على أنه الحق في نفس الأمر نظر إلى دلالة الدليل عليه، فمن الظاهر أن ذلك لا يصلح أن يخرج عليه مذهبه.
والمشهور من جمهور المعتزلة: أنهم ذهبوا إلى امتناع التكليف بالمحال مطلقًا، وإليه ذهب بعض أصحابنا، كالشيخ أبي حامد وإمام الحرمين، والغزالي -رحمه الله تعالى-.
غير أن بعضهم: نقل أن الفرق كلها أجمعوا على جواز التكليف بما علم الله تعالى أنه لا يكون من الممكنات عقلاً، وعلى وقوعه شرعًا كالتكليف بالإيمان لمن علم الله أنه لا يؤمن كأبي جهل، إلا بعض الثنوية فإنه ذهب إلى امتناعه أيضًا.
فإن صح هذا النقل يجب أن يفصل بين ما يكون محالاً بسبب تعلق العلم بعدم وقوعه وبين ما لا يكون كذلك فينسب إليهم امتناع التكليف بالقسم الثاني دون امتناعه مطلقًا، إذ لا يشك أن الممكن يستحيل وقوعه بسبب تعلق العلم الأول بعدم وقوعه، لأن وقوعه يستلزم انقلابه جهلاً وهو محال فالمستلزم له أيضًا كذلك، لأن مستلزم المحال محال.
ومنهم: من فصل بين ما يكون محالاً لذاته، وبين ما لا يكون كذلك، فأجاز التكليف بالقسم الثاني، دون القسم الأول، وإليه ذهب بعض معتزلة بغداد إذ قالوا: يجوز أن يكلف الله تعالى العبد بالفعل في وقت علم الله تعالى أنه يكون ممنوعًا عنه.
والبكرية إذ قالوا: الختم والطبع على الأفئدة مانعان من الإيمان، مع ورود التكليف به عامة.
وذهب الأستاذ أبو إسحاق رحمه الله: إلى أنه لا يجوز أن يرد التكليف بالمحال، فإن ورد لا نسميه تكليفًا بل يكون علامة نصبها الله تعالى على عذاب من كلفه بذلك.
ونسب هذا أيضًا إلى إمام الحرمين أيضًا.
ومنهم من قال: يجوز التكليف بما لا يطاق مطلقًا لكنه لم يقع للاستقراء.
واعلم أن المسألة مبنية على إثبات الأفعال الاختيارية للعبد، واستحالتها له، فمن أحالها كان القول بوقوع تكليف ما لا يطاق لازمًا عليه.
ومن أثبتها، فإن أثبتها بناء على أنه موجد لها وإن كان قائلاً بالتحسين والتقبيح العقلي كان القول باستحالة / (164/ب) تكليف ما لا يطاق لازمًا عليه.
وإن أثبتها بناء على أنها مكتسبة له لا أنها مخلوقة له، وإن كان عند البحث عن الكسب لا يحصل على مفهوم محصل منه على ما عرف ذلك في الكلام، لكنه يبينه لما يجد من نفسه تفرقة ضرورية بين الحركة الاختيارية والرعشة الضرورية، وإن تلك التفرقة لا يجوز أن ترجع إلى الخلق وعدمه لما ثبت أن القدرة الحادثة لا تأثير لها في الإيجاد والاختراع ألبتة، فما رواه هو المسمي بالكسب وليس إذا يعلم الشيء على التفصيل وجب نفيه أو وجب أنه لا يثبت.
أما الأول: فلأن الشيء إذا لم يعلم أصلاً لا يجب نفيه. فكيف إذا علم من وجه؟
[وأما الثاني: فلأن شرط وجوب إثبات الشيء، وإن كان هو العلم به ولو ببعض الاعتبارات لكن ليس من] شرطه العلم بذلك الشيء على
التفصيل وإلا لوجب أن لا يجب إثبات العلة عند العلم بالمعلول، وكذلك بالعكس وما يجري مجراهما، نحو العلم بالملزوم وأحد المضافين، فإن كان قائلاً بالتحسين والتقبيح مع ذلك لزمه القول أيضًا باستحالة تكليف ما لا يطاق، وإلا فجاز أن يقول: باستحالته كما ذهب إليه بعض فقهائنا، وجاز أن يقول: بإمكانه كما ذهب إليه جمهور أهل السنة، إما مع الوقوع أو عدمه، كما اختلف نقل ذلك عن الشيخ أبي الحسين - رحمه الله تعالى -.
هذا هو المأخذ والكلام الكلي في المسألة فلنشرع الآن في الحجاج جريًا على المألوف.
فنقول: احتج القائلون بإمكانه بوجوه: بعضها تدل على إمكانه مطلقًا، وبعضها تدل على إمكانه ووقوعه لكن فيما يكون محالاً لغيره:
فأولها: وهو الوجه السمعي قوله تعالى: {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا [به]} .
ووجه الاستدلال به: أنهم سألوا من الله تعالى دفع ما لا طاقة لهم به، والله تعالى قررهم على ذلك، وحكي عنهم في سياق المدح والثناء عليهم والحق على الدعاء به، فلو كان التكليف بما لا يطاق محالاً لما سألوه، ولما قررهم الله تعالى على ذلك ولا ندب غيرهم إليه لكون ذلك مندفعًا بنفسه فكان طلبه تحصيلاً للحاصل.
فإن قلت: دلالة الآية على المطلوب ممنوعة، وهذا لأن التحميل ليس حقيقة في التكليف حتى يكون معنى قوله تعالى:{ولا تحملنا} لا تكلفنا،
بل هو حقيقة في وضع الحمل على الشيء، فيكون معناه: لا تضع علينا من الحمل ما لا نطيق حمله، فيكون المراد منه سؤال دفع العذاب والأمراض والمحن التي لا يطيق الإنسان تحملها.
سلمنا: أنه حقيقة فيه لكن إنما يكون محمولاً عليه أن لو كان التكليف / (165/أ) بما لا يطاق ممكنًا في نفسه [فإن بتقدير أن يكون ممتنعًا في نفسه لا يمكن حمله عليه لما ذكرتم، فحينئذ يتوقف حمله عليه على كونه ممكنًا في نفسه] فلو أثبت كونه ممكنًا يكون محمولاً عليه لزم الدور وأنه ممتنع.
سلمنا: إمكان الحمل عليه، لكن يجب صرفه عنه والحمل على دفع ما يشق ويثقل من التكاليف، وإن كان مما يطاق، وهذا وإن كان مجازًا على ما لا يخفى تقريره، لكنه مجاز مشهور كثير الاستعمال على ما شهد به الاستقراء، فيجب حمله عليه توفيقًا بينه وبين ما يذكر من الأدلة الدالة على استحالة تكليف ما لا يطاق.
سلمنا: أنه محمول على حقيقته، لكن ما ذكرتم من الدليل على أن طلب ترك الممتنع ممتنع منقوض بقوله تعالى:{رب احكم بالحق} فإن جواز الحكم بالباطل غير ثابت في حقه تعالى وفاقا.
أما عندكم: فلأنه غير متصور في حقه تعالى لكونه متصرفًا في ملكه، فكل ما حكم به فهو حق.
وأما عندنا: فإما لعدم القدرة، أو لعدم الداعي على اختلاف لنا فيه.
وكقوله تعالى حكاية عن دعاء إبراهيم عليه السلام: {ولا تخزني يوم يبعثون} "و" خزي الأنبياء غير جائز وفاقا
وكقوله تعالى: {ولا تكونن من المشركين} مع أن جواز الشرك غير ثابت في حق النبي عليه السلام.
سلمنا: سلامته عن النقض، لكنه دليل ظني فلا يجوز التمسك به في المسألة العلمية.
الجواب عن الأول: أن التحميل في عرف الشرع مخصوص بالتكليف، بدليل أنه المتبادر إلى الفهم عند إطلاقه فيه ويعضده استعمال القرآن، قال الله تعالى:{إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض} [إلى]{وحملها الإنسان} .
والمراد بالأمانة: التكليف، أو ما يتضمنه وفاقا.
وقال تعالى {أطيعوا الله} إلى قوله {فإن تولوا فإنما عليه [ما] حمل وعليكم ما حملتم} زى عليه ما كلف به وعليكم ما كلفتم به.
سلمنا: أنه غير مخصوص به، وأن معناه ما ذكرتم: لكن لا يلزم منه أن يكون المراد منه العذاب والأمراض والمحن فقط بل غاية ما يلزم منه أنه يكون حينئذ عامًا في كل تحميل لا يطاق فيتناولها، والتكاليف بأسرها إذ لا يشك أن وضعها على المكلف تحميل عليه، فيجب إجراؤه على العموم لأن التخصيص من غير دليل غير جائز.
وعن الثاني: أنا لا نثبت إمكانه بكون اللفظ محمولاً عليه، بل نثبت إمكانه وكونه محمولاً عليه بدلالته عليه، بأن نقول: اللفظ دل على طلب دفع تكليف ما لا يطاق، فلو لم يكن التكليف بما لا يطاق ممكنًا ولم يكن محمولاً عليه لزم الترك بدلالته من غير دلالة "دليل" على ترك دلالته وأنه غير جائز، ومعلوم / (165/ب) أن دلالته عليه لا تتوقف على إمكانه حتى يلزم الدور.
وعن الثالث: من وجهين:
أحدهما: أنه لو كان محمولاً على طلب دفع ما يشق ويثقل من التكاليف لزم التكرار، فإن قوله: {ولا تحمل علينا أصرًا كما حملته على الذين من قبلنا {.
دل عليه وأنه خلاف الأصل "على ما عرفت ذلك.
وثانيهما: أنا وإن سلمنا أنه لا يلزم منه التكرار أو وإن لزم لكنه ليس خلاف الأصل".
لكن لا يجوز العدول عن الحقيقة إلى المجاز وإن كان مشهورًا، فيجب حمله على حقيقته، وأما دلائلكم فيأتي جوابها معها إن - شاء الله تعالى.
وعن الرابع: من وجهين:
أحدهما: وهو الوجه الإجمالي، أن الأصل أن طلب ترك الممتنع وطلب تحصيل الواجب ممتنع لعدم الفائدة، ولكونه تحصيلاً للحاصل، فإن ترك هذا الأصل في بعض الصور لدليل نحو الإجماع وغيره لا يلزم منه أن يترك في سائر الصور من غير دليل.
وثانيهما: وهو الوجه التفصيلي، أنا لا نسلم أن المراد من الحق: فيما تلوتم من النص ضد الباطل، حتى يلزم منه طلب الحكم بالحق الذي هو واجب، وطلب ترك الحكم بالباطل الذي هو ممتنع.
بل المراد منه العذاب عند البعض، وإنما سماه حقًا، لأنه يحق وقوعه كما في قوله تعالى:{ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق} .
والنصرة عند البعض الآخر وإنما سماها حقًا، إما لما تقدم لأنها موعودة
من الله تعالى، وإما لأنها تظهر الحق للجميع، وفعل كل واحد منهما ليس بواجب عقلاً، وكذلك ترك كل واحد منهما ليس بممتنع عقلاً، فإن وجب الفعل وامتنع الترك في شيء منهما، فإنما يجب ويمتنع نظرًا إلى الوعيد، لكن وقته غير متعين فجاز أن يطلب في وقت معين لكون فعله فيه غير واجب، وكذلك تركه فيه ليس بممتنع بخلاف ما نحن فيه، فإنه ممتنع عند الخصم عقلاً في جميع الأزمان، فلا يلزم من جواز طلب القسم الأول جواز طلب القسم الثاني.
وعن الآيتين الباقيتين: أن امتناع خزي الأنبياء وامتناع الشرك عليهم، إنما هو بالشرع لا بالعقل فجاز أن يطلب تركه بناء على الجواز العقلي، بخلاف الممتنع عقلاً فإنه ممتنع بحسب الشرع والعقل جميعًا فلم يعتمد الطلب على جواز "ما".
ولئن سلم: أن امتناعهما عقلى، لكن بالنسبة إلى الشخص المعين دون غيره من أشخاص وأصناف أنواعه فجاز أن يطلب تركه نظرًا إلى كونه ممكنًا في صنفه / (166/أ) ونوعه بخلاف ما نحن فيه، فإنه لا يعتمد [الطلب على جواز "ما" فلا يلزم من جواز طلب ترك ما هو جائز باعتبار "ما" وممتنع باعتبار "ما"] طلب ترك ما هو ممتنع مطلقًا.
وعن الخامس: أنه لازم عليكم أيضًا فإنكم تتمسكون فيه بالدليل الظني على ما يأتي ذكره في دلائلكم، فما هو جوابكم فهو جوابنا.
سلمنا: أنه "غير" لازم عليكم، لكن جوابه بعض ما سبق في الأمر.
وثانيها: ما سبق في التحسين والتقبيح، وقد عرفت ما فيه فلا نعيده.
وثالثها: وهو المعول عليه للجمهور أن علم الله تعالى كان في الأزل متعلقًا بوقوع كفر الكافر الذي مات على الكفر، كأبي جهل وأبي لهب.
أما أولاً: فلمساعدة الخصم ومن عداهم من المخالفين القائلين بعدم العلم.
وأما ثانيًا: فلأنه لو لم يكن متعلقًا بوقوعه في الأزل، فإما أن يكون متعلقًا بوقوع ضده، وهو الإيمان أو لا بواحد منهما، وكل واحد منهما ممتنع في حق الله تعالى لكونه جهلاً، ثم إن هذا الكافر أيضًا كان مأمورًا بالإيمان في حال الحياة بإجماع المسلمين، ولأنه لو لم يكن مأمورًا به لم يكن تركه الإيمان معصية وهو ظاهر الفساد غني عن الإفساد، لكن صدور الإيمان منه في "حال" الحياة محال، لأنه يفضي إلى أن ينقلب علم الله جهلاً في الماضي، وهو محال باعتبارات ثلاثة، فكان أمر هذا الكافر بالإيمان كفرًا بالمحال، لأن المفضي إلى المحال محال.
فإن قلت: لا نسلم أن صدور الإيمان من هذا الكافر محال، ولا نسلم أن صدوره يفضي إلى أن ينقلب علمه تعالى جهلاً، وهذا لأن العلم بالوقوع وعدم الوقوع تبع للوقوع واللاوقوع، فإذا فرض وقوع الإيمان منه في حال الحياة، كان العلم الأزلي متعلقًا بالإيمان بدلاً عن الكفر، وإذا فرض وقوع الكفر منه في حال الحياة، كان العلم الأزلي متعلقًا به في الأزل بدلاً عن الإيمان، فلم يلزم عند وقوع الإيمان بدلاً عن الكفر، ووقوع الكفر بدلاً عن الإيمان إلا وقوع العلم بالإيمان بدلاً عن العلم بالكفر ووقع العلم بالكفر بدلاً عن العلم بالإيمان لا ما ذكرتم من انقلاب العلم إلى الجهل في الماضي.
واعلم أن هذا طريقة الكعبي، واختاره أبو الحسين في التقصي والانفصال عما ذكرنا من الدلالة.
وأما طريقة الباقين منهم نحو أبي على وأبي هاشم، والقاضي: فأضعف من هذا.
وهي أنهم قالوا: ثبت بالدلائل القاطعة إن العلم بوقوع الشيء، أو لا وقوعه لا يجوز أن يكون مانعًا من الوقوع واللاوقوع وستعرف بعض / (166/ب) تلك الدلائل، فعند هذا لو قيل: بأن علمه تعالى بالكفر ينقلب جهلاً، عند صدور الإيمان كان ذلك خطأ.
ولو قيل: بأنه لا ينقلب كان ذلك أيضًا خطأ، فيجب الإمساك عن القولين.
سلمنا: أن ما ذكرتم من الدلائل تقتضي امتناع صدور الإيمان من الكافر
الذي علم الله تعالى أنه يموت على الكفر، لكنه معارض بوجوه:
أحدها: لو كان "الشيء" يمتنع عدمه بسبب تعلق العلم بوجوده أو يمتنع وجوده بسبب تعلق العلم بعدمه، لزم أن لا يكون الله تعالى قادرًا على شيء، لأن علمه متعلق بكل شيء فما علم وجوده يصير واجب الوجود، وما علم عدمه يصير ممتنع الوجود، ولا قدرة على الواجب والممتنع.
وثانيها: أن العلم يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه في نفسه فالعلم يتعلق بالممكن لجواز الوجود والعدم، لأن الممكن على جوازهما في نفسه فلو صار الممكن واجب الوجود أو واجب العدم بسبب تعلق العلم به، لزم أن يكون ذلك العلم جهلاً، ولزم أيضًا أن يكون ذلك الممكن جائز العدم وممتنعة، وأن يكون جائز الوجود وممتنعة، وفي ذلك اجتماع النقيضين، ولزم أيضًا أن يكون العلم التابع للمعلوم مؤثرًا فيه وهو محال.
وثالثها: لو كان العلم بالوجود مانعًا من العدم، أو العلم بالعدم مانعًا من الوجود، لزم أن لا يكون للعبد اختيار في أفعاله وأقواله الاختيارية، لأن ما علم الله تعالى وجوده يجب أن يكون موجودًا، وما علم عدمه يمتنع وجوده، فكانت حركاته وسكناته جارية مجرى الحركات والسكنات الاضطرارية حركات وسكنات الجمادات، وفساد هذا معلوم بالضرورة.
ورابعها: أن تعلق العلم بالمعلوم إن كان موجبًا لوجوده، لزم أن يكون العلم قدرة وإرادة، إذ لا معنى لهما إلا كونهما موجبين لوجود الممكنات
عند تعلقهما به، وإن لم يكن موجبًا لوجوده لم يكن تعلق العلم الأزلي بالفكر مانعًا من الإيمان.
وخامسها: لو كان العلم بالكفر مانعًا من الإيمان، لكان أمر الله تعالى الكافر بالإيمان أمرًا له بإعدام علمه ضرورة أن ما يتوقف عليه الواجب فهو واجب، إذ لا يعتبر كونه مقدورًا له على تقدير جواز تكليف ما لا يطاق، ووجود الإيمان يتوقف على انتفاء موانعه، لكن ذلك غير جائز كما لا يجوز أن يأمر بإعدام ذاته تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.
وسادسها: وهو أقوى الوجوه، وهو أنه تعالى إذا علم أن الكافر يترك الإيمان ويختار الكفر / (167/أ) ويموت عليه، فإما أن يعلم أنه يتركه ويتلبس بالفكر، وهو مجبور عليه لا خيرة له في ذلك وأنه شاء أم أبي فإنه لابد وأن يتركه أو يعلم أنه يتركه، ويتلبس بالكفر، وهو مختار فيه متمكن من الفعل والترك.
فإن ادعيتم الأول فممنوع، وهذا لن العبد عندنا قادر مختار متمكن من الفعل والترك، فلو علم الله تعالى الترك على ما ذكرتم من الوجه لكان ذلك جهلاً لا علمًا، فإن دللتما على ذلك بدليل آخر صحيح الدلالة فمع تعذره وبطلان هذا المذهب باتفاق بيننا وبين أكثر خصومنا، كان التمسك بمسألة العلم ضائعًا، فإن ذلك الدليل مستقل في إثبات تكليف ما لا يطاق، فإنه متى ثبت "الجبر" كان وقوع تكليف ما لا يطاق لازمًا، وأيضًا فإنكم تتمسكون على لزوم "الجبر" بمسألة العلم، فلو كانت دلالة مسألة العلم على لزوم الجبر متوقفة عليه لزم الدور، وأنه باطل.
وإن ادعيتم الثاني فمسلم، لكنه غير مانع من الإتيان به، إذ لو كان
مانعًا منه لزم أن لا يكون ذلك العلم علمًا بل يكون جهلاً، لأن متعلقة حينئذ يكون غير مطابق له، لأن التمكن من القصد والترك حينئذ يكون غير ثابت، إذ التمكن من الفعل مع المانع منه غير ثابت، وإذا لم يكن التمكن من الفعل والترك حاصلاً كان علمه، بأنه متمكن منه ومختار فيه جهلاً لا علما تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.
الجواب عن الأول: أنا وإن كنا لا ندري أن علم الله تعالى في الأزل كان متعلقًا بالكفر بعينه، أو بالإيمان بعينه ما دام الرجل في قيد الحياة حتى كان يمكننا الجزم بانقلاب العلم جهلاً عند صدور غير ما هو متعلق العلم، بل أيهما صدر منه في حال الحياة ومات عليه، علمنا أن العلم الأزلي كان متعلقًا به، [لكن] لما مات على الكفر علمنا أن العلم الأزلي كان متعلقًا به وتبينا أن صدور الإيمان منه في حال الحياة كان محالاً، لاستلزامه انقلاب العلم جهلاً وقد كان مأمورًا به في حال الحياة بالإجماع، فكان مأمورًا بالمحال.
وعن الثاني: إن كان المراد من قولهم: إن القول بالانقلاب خطأ وبعدمه أيضًا خطأ الحكم بفساد القسمين كان ذلك حكمًا بفساد النفي والإثبات، وذلك إنكار للبديهيات وخروج عن غريزة العقل، وإن كان المراد منه أن الحكم بأحدهما حق، ولكن "لا تعرف" أن الحق ما هو منهما فخطأ الحكم بأحدهما بعينه، فيجب الإمساك عن الحكمين لكيلا يحكم بما هو غير
حق، أو إنا وإن علمنا: ما / (167/ب) هو الحق منهما بعينه، لكن لا يقول: به تأدبًا واحترازًا عن سوء القول في صفاته تعالى فهو أحق، لكنه غير دافع لما ذكرنا من الدليل.
وعن الأول من وجوه المعارضات، إنا لا نسلم: أنه لا قدرة على الواجب والممتنع مطلقًا، بل إنما نسلم: ذلك في الواجب والممتنع لذاته لا مطلقًا، وهذا لأنه يجوز أن يصير الشيء واجب الوقوع بسبب تعلق القدرة والإرادة الجازمة به، فلو كان الوجوب بالغير مانعًا من أن يكون الشيء مقدورًا، لزم أن يكون تعلق القدرة والإرادة بالشيء مانعًا من تعلقهما به، فيكون الشيء مانعًا لنفسه وهو محال، أو تقول: العلم بالوقوع تبع الوقوع الذي هو تبع القدرة والإرادة، فيستحيل أن يكون مانعًا من الوقوع بهما، لأن الفرع لا يمنع الأصل.
فإن قلت: هب أن علمه بالوقوع بالقدرة لا يمنع من الوقوع بهما، لكن يمنع من تركه بها لما ذكرتم وكذا بالعكس، وحينئذ لا تتحقق المكنة من الفعل والترك معًا فلا تتحقق القدرة، إذ القدرة بالمكنة من الفعل والترك معًا. قلت: المعني من كون القادر متمكنًا من فعل الشيء وتركه، هو أنه أيهما أراد منهما فإنه متمكن منه لا أنه متمكن منهما ولو عند تعلق الإرادة الجازمة بأحدهما، فإن ترك ذلك عنده محال فلا يلزم من عدم التمكن على خلاف المعلوم عدم القدرة بالنسبة إلى شيء من معلوماته، لأنه إما معلوم الوقوع أو معلوم اللاوقوع وعلى التقديرين لا قدرة.
وعن الثاني: إن العلم يتعلق بالممكن لجواز الوجود والعدم نظرًا إلى ذاته، والوجوب والامتناع الحاصل له إنما هو بسبب الغير، وهو تعلق العلم به بالوجود أو بالعدم فلا يلزم من كونه واجبًا، أو ممتنعًا بالغير أن يكون العلم بكونه جائز الوجود والعدم نظرًا إلى ذاته جهلاً، وبه خرج الجواب عن الملازمة الثانية: فإنه لا امتناع في أن يكون الشيء جائز الوجود وممتنعة باعتبارين مختلفين.
وعن الملازمة الثالثة: بمنع لزوم كون العلم مؤثرًا في المعلوم، وهذا لأن اللازم من دليلنا هو أن الشيء يصير واجب الوقوع عند تعلق العلم بوقوعه فإما أن ذلك الوجوب به أو بغيره فذلك غير لازم منه.
وعن الثالث من وجهين:
أحدهما: منع لزوم سلب الاختيار، وهذا لأنه تعالى علم وقوعه وإلا وقوعه من العبد على وجه الاختيار، لأن العلم يتعلق بالشيء / (168/أ) على ما هو عليه في نفسه، فإذا وقع الفعل من العبد على الاختيار وجب أن يعلمه الله كذلك وإلا لكان جهلاً، فالعلم المتعلق بالوقوع على وجه الاختيار لا يكون مانعًا من الاختيار فيه.
وثانيهما: منع انتفاء اللازم، ومنع كونه معلوم الفساد بالضرورة بناء على لزوم "الجبر، وبهذا إنما يجيب من يقول به من القائلين بجواز تكليف ما لا يطاق.
وعن الرابع: أنه ليس موجبًا بمعني أنه مؤثر في الإيجاب، ولا نسلم أنه يلزم من هذا أن يكون العلم الأزلي المتعلق بالكفر مانعًا من الإيمان لجواز أن يكون كاشفًا عن الإيجاب، لا أنه موجب.
وعن الخامس: أنه إثبات للشيء بنفسه، فإن جواز الأمر بإيجاد القديم، أو إعدامه من جملة صور النزاع.
وأما الجواب عن السادس: من حيث التقضي والانفصال عن الإشكال
على التقدير الثاني فمما يسخر الله فيه، وأما من حيث المعارضة فيمكن أن يقال: أنه تعالى إذا علم أنه يترك الإيمان ولا يتلبس به في جميع عمره مع تمكنه منه واختياره فيه، وجب أن يمتنع مع هذا العلم حصول الإيمان في جميع عمره، وإلا لزم أن يكون ذلك العلم جهلاً تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.
ورابعها: أنه تعالى أخبر عن أقوام معينين أنهم لا يؤمنون، وذلك في قوله تعالى:{إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} ، وفي قوله تعالى لنوح:{إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} ، وفي قوله تعالى:{لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون} .
ولا شك أن أولئك الأقوام كانوا مأمورين بالإيمان، لما عرفت من قبل لكن صدور الإيمان منهم محال لوجهين:
أحدهما: أنه لو كان ممكنًا لو يلزم من فرض وقوعه محال، لكن يلزم من فرض وقوعه محال، وهو كذب خبر الله تعالى، وأنه محال وفاقًا، وإما لأنه صفة نقص، وإما لأنه يؤدي إلى الجهل أو الحاجة على اختلاف في تعليله فلا يكون ممكنًا.
وثانيهما: أن إيمانهم بالله وبالرسول صلي الله عليه وسلم يقتضي تصديقهم الله تعالى في كل ما أخبر عنه وتصديقهم الرسول [كذلك]، ومما أخبر الله تعالى
عنه أنهم لا يؤمنون فيكون إيمانهم بالله تعالى يتضمن تصديقهم هذا الخبر، وإنما يكونون مصدقين لله تعالى فيه، بأن لا يؤمنوا فإن التصديق مع العلم بوجود خلاف المخبر عنه محال، فلو صدر منهم الإيمان بالله تعالى لزم أن يكونوا مصدقين له فيه / (168/ب) وأن لا يكونوا مصدقين له فيه وفي ذلك اجتماع النقيضين وهو محال، فصدور الإيمان منهم محال لكونه مستلزمًا للمحال.
وخامسها: التكليف بالفعل أن يوجه إلى المكلف حال استواء الداعي: إلى الفعل والترك، كان ذلك تكليفًا بالمحال، لأن الفعل يمتنع حصوله حالة استواء الداعي، لأن الفعل لا يحصل ما لم يحصل الرجحا، وحصول الرجحان حالة الاستواء محال، وإن توجه حال رجحان إحدى الداعيتين على الأخرى، كان ذلك أيضًا تكليف ما لا يطاق، لأنه إن توجه بالراجح كان ذلك تكليفًا بالواجب لما عرفت أن الراجح واجب، والتكليف بالواجب تكليف بالمحال، وإن توجه بالمرجوح كان ذلك تكليفًا بالممتنع، لما أن المرجوح ممتنع والتكليف بالممتنع تكليف ما لا يطاق، سواء كان بالفعل أو بالترك، لأنه تحصيل الحاصل.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يرد التكليف بالراجح؟.
قوله: الراجح واجب.
قلنا: نعم، لكن بالداعي إليه والإرادة الجازمة المتعلقة به لا لذاته، [و] وجوب الشيء بالشيء لا ينافي وقوعه به، وإلا لزم نفي وقوع الأشياء بقدرة الله تعالى وإرادته.
وهو باطل وفاقا. فيكون الفعل مقدورًا له فلم يكن تكليف ما لا يطاق.
سلمناه: لكنه منقوض بفعل "الرب" فإن أمكن أن يقال فيه: إن فعله تعالى حال استواء الداعي إلى الفعل والترك ممتنع لما ذكرتم، وفعل الراجح واجب وتركه ممتنع فلم يكن مقدورًا له، وفعل المرجوح ممتنع، وتركه واجب فلم يكن المرجوح مقدورًا له أيضًا، فما هو جوابكم عنه فهو جوابنا في فعل العبد.
الجواب عن الأول: أنا نسلم أن وجوب الشيء بالشيء لا ينافي وقوعه به ولا يدعى في هذا المقام أن الراجح غير واقع بقدرة العبد وداعيته، حتى يكون ما ذكرتم قادحًا فيه، بل ندعى أن فعل الراجح وتركه غير داخلين تحت اختيار المكلف وإن كانا واقعين بقدرته وداعيته، والدليل عليه أن الراجح واجب الحصول ممتنع اللاحصول، لما عرفت أن الرجحان يستلزم الوجوب، فإن كان هذا الوجوب بسبب الداعية التي هي غير داخلة تحت اختيار المكلف، لما عرفت أنها ليست من العبد ما لم يكن حصول هذا الوجوب داخلاً تحت اختياره، وكان حصول الراجح بغير اختياره، وإن كان بقدرته وإرادته فكان التكليف بالراجح تكليفًا بالمحال، سواء كان بالفعل أو بالترك.
وعن الثاني: ما سبق من الفرق في التحسين والتقبيح.
وسادسها: أن العبد لو قدر على الفعل، فإما أن / (169/أ) يقدر عليه حال وجوده، وهو محال لاستحالة إيجاد الموجود، أو قبل وجوده، وهو أيضًا محال، لأنه لم يكن لها أثر فهي قبل وجوده، وثبت أنه ليس لها أثر حال وجوده، لم يكن لها أثر ألبتة فلم تكن القدرة مؤثرة فيه.
وإن كان لها فيه قبل وجوده أثر، فهذا يقتضي أن يكون تأثير القدرة في المقدور مغايرًا له ضرورة حصوله دونه فتأثير القدرة في ذلك التأثير المغاير للمقدور.
وإن كان حال وجوده لزم ما تقدم من المحذور.
وإن كان وجوده، فالكلام فيه كالكلام في الأول: ولزم التسلسل، وهو محال فلم يقدر العبد على الفعل وهو المطلوب، فيكون تكليفه بالفعل [تكليف] ما لا يطاق.
وسابعها: الأمر بالفعل قبل الفعل، وهو ظاهر، فإن الكافر "مأمور" بالإيمان قبله، ولأن الأمر لو لم يكن قبل الفعل، بل عنده لم يتصور تحقق الذم على ترك المأمور به، لأن عند الفعل لا ترك، فلا ذم، وقبله لا أمر فلا ذم، فلا يكون ترك الفعل المأمور به سببًا للذم، والقدرة ليست قبله، لأن القدرة صفة متعلقة فلابد لها من متعلق، والمعدوم لا يجوز أن يكون متعلقه،
لكونه نفيًا محضًا، ولأن المستمر لا يجوز أن يكون مقدورًا، فالمعدوم المستمر أولى أن لا يكون مقدورًا.
وإذا لم يكن المعدوم متعلق القدرة، وجب أن يكون متعلقة الموجود، فالقدرة لا توجد إلا عند الفعل، وثبت أن الأمر قبله.
ولا شك أن الأمر بالفعل بدون القدرة، تكليف ما لا يطاق.
وهما ضعيفان، لأنهما منقوضان بقدرة الله تعالى.
إذ الأول: يقتضي نفي قدرته تعالى.
والثاني: حدوثها، وهم باطلان وفاقا.
ويمكن أن يستدل بالثاني على وجه التنقص بقدرة الله تعالى، وهو أن يقال الأمر قبل الفعل لما تقدم، والقدرة ليست قبله، لأنها عرض والعرض لا يبقي زمانين وإلا لزم قيام العرض بالعرض، إذ البقاء أيضًا عرض على ما ثبت أنه ليس نفس الباقي، وعند ذلك يلزم أن يكون التكليف موجودًا عند عدم القدرة التي بها يقدر على الفعل، وهو تكليف ما لا يطاق.
وثامنها: أن فعل العبد مخلوق لله تعالى دونه، ومتى كان كذلك كان القول بتكليف ما لا يطاق لازمًا.
وإنما قلنا: إن فعله مخلوق لله تعالى دونه فلوجوه:
منها: أنه لو كان خالقًا له.
فإما أن يكون خالقًا له بالذات والطبع، وهو باطل وفاقا.
أو يكون خالقًا له بالاختيار، وحينئذ يجب أن يكون عالمًا بتفاصيله، لأن الموجد للشيء بالاختيار لا يمكنه تخصيصه بالإيجاد دون غيره إلا بواسطة الشعور به والعلم بذلك ضروري / (169/ب)، ولأنه لو جاز صدور الفعل من الفاعل بالاختيار من علم به لتعذر الاستدلال على علم الله تعالى بأفعاله المحكمة المتقنة، وهو باطل وفاقا، لكنه غير عالم بها.
أما أولاً: فلأن النائم والساهي لا علم لهما بما يصدر منهما، ولا يلتفت على منع من منع ذلك بناء على الشعور بالعلم الشيء غير العلم بالشيء، فجاز أن يكون أصل العلم بالشيء الصادر منهما حاصلاً لهما، لكن الشعور بالعلم بالشيء غير حاصل لهما، لأن الشعور بالعلم بالشيء نفس ذلك العلم بالشيء، وإلا لزم حصول علوم لا نهاية لها دفعة واحدة للعبد، وهو محال.
وأما ثانيًا: فلأن الفاعل للحركة البطيئة فاعل للسكنات في بعض أحيانها بناء على أن البطء في الحركة يتخلل السكنات على ما هو رأي كثير منهم: مع أنه لم يعلم أنه سكن في بعض تلك الأحيان فضلاً عن أن يقال: إنه يعلم أخبار الحركة بأعيانها وأخبار السكون بأعيانها، بل ربما جزم أنه لم يسكن قط، وهذا ظاهر في الحركة السريعة التي للإنسان مع أنها بطيئة بالنسبة على حركة الشمس.
وأما ثالثًا: فلأن من حرك عضوًا من أعضائه، أو تحرك بنفسه إلى مسافة،
فإنه لا يعلم أنه أوجد من الحركة عشرة أجزاء، أو أكثر أو أقل ولو كان موجدًا لها لاستحال ذلك، وتمام هذه الطريقة سؤالاً وجوابًا في علم الكلام.
ومنها: أنه لو كانت قدرة العبد صالحة للإيجاد لزم حصول مقدرين قادرين وهو محال، فالقول بصلاحية قدرة العبد للإيجاد باطل.
وإنما قلنا: إنه لو كانت قدرته صالحة للإيجاد، لزم حصول مقدورين قادرين فلوجهين:
أحدهما: أن مقدور العبد عندهم، إما عين مقدور الله تعالى على ما هو رأي أبي الحسين البصري منهم، فعلى هذه الملازمة بينة جدًا.
وإما مثله على ما هو رأي أبي علي وأبي هاشم، وعلى هذا أيضًا الملازمة بينه، لأن حكم الشيء حكم مثله، وهذا الدليل على الخصم ألزم فإنه يعول عليه في إثبات كثير من المطالب الكلامية.
وإما أن يقال: إن في مقدور العبد ما لا يقدر الله عليه، كالظلم والكذب والجهل وما يجري مجراها من القبائح، على ما هو رأي النظام.
فعلى هذا لابد وأن يكون ما وراءها من مقدوراته مقدورًا لله تعالى عنده، وإلا لم يكن للتخصيص بالقبح معنى، فإذًا هو مقدوره تعالى إما لأنه عين مقدوره تعالى، أو مثل مقدوره وعلى التقديرين يلزم تحقق الملازمة لما تقدم.
وثانيهما: أن ما هو متعلق قدرة العبد، إن كان عين / (180/أ) ما هو متعلق قدرة الله تعالى فهو المطلوب، وإن كان غيره فهو باطل، لأن المقدور قبل دخوله في الوجود عدم صرف [و] نفي محض فيستحيل فيه التمييز بغير النسبة والإضافة وإلا لكان موجودًا، إذ لا معني للموجود إلا أنه ذات متحققة في نفسها متميزة عن غيرها، إما بذاتها أو بصفات حقيقية قائمة بها.
وإنما قلنا: إن حصول مقدورين قادرين محال فلوجهين:
أحدهما: أنه إذا حاول كل واحد منهما إيجاده، فإما أن يقع، أو لا يقع أصلاً، فإن وقع، فإما أن يقع بهما وهو محال، لأن الأثر مع المؤثر التام واجب به، والواجب بالشيء مستغني عن كل ما عداه، فلو اجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان لزم أن يستغني عن هذا نظرًا إلى كونه واجبًا بالآخر وأن يستغني عن ذلك الآخر نظرًا إلى كونه واجبًا بهذا، فيلزم أن يستغني عن كل واحد منهما بكل واحد منهما، وهو محال.
أو يقع بأحدهما دون الآخر، وهو أيضًا باطل، لأن قدرة كل واحد منهما لما كانت صالحة للإيجاد على وجه الاستقلال، لم يكن وقوعه بأحدهما أولى من وقوعه بالآخر، فلو وقع بأحدهما دون الآخر لزم ترجح أحد الجائزين على الآخر من غير مرجح، وهو محال.
وإن كان الثاني: وهو أن لا يقع أصلاً، وهو أيضًا باطل، لأن المانع من وقوعه بأحدهما هو وقوعه بالآخر، والمانع من وقوعه بهما، هو أنه واجب الوقوع لكل واحد منهما بدون الآخر، فلو لم يقع بواحد منهما ولا بهما لزم أن يكون واقعًا لكل واحد منهما، وهو محال.
فإن قلت: لا نسلم أن محاولة كل واحد منهما إيجاده أمر ممكن، ولم لا يجوز أن يقال: إن محاولة أحدهما إيجاده يصير ممتنعة عند محاولة الآخر إيجاده؟.
وحينئذ المحال المذكور إنما يلزم من هذا الأمر كون العبد قادرًا وحصول مقدور بين قادرين.
سلمنا: ذلك لكن لم لا يجوز أن يقع بأحدهما؟ وما ذكروه من الدلالة عليه فغير لازم لجواز أن يكون أحدهما أشد وأعم قدرة من الآخر، نعم: ذلك إنما يفيد بالنسبة إلى قادرين متساويين في القدرة عمومًا وخصوصًا وشدة وضعفًا، لكن المدعي ليس ذلك فقط، بل أعم.
سلمنا: ذلك لكن لم لا يجوز أن يقال: أنه لا يحصل ذلك الفعل منهما ولا من أحدهما؟ لأنه يصير إذ ذاك ممتنع الوقوع، وأما ما ذكروه من الدلالة عليه فحصرها ممنوع، وهذا لأنه يجوز أن يكون قصد كل واحد منهما إلى إيجاده موجب لامتناع وقوعه / (170/ب) عنهما، أو عن أحدهما
وحينئذ لا يكون عدم وقوعه منهما ولا من أحدهما مستلزمًا للمحال المذكور.
قلت: الجواب عن الأول من وجهين:
أحدهما: وهو الوجه العام وهو أنه ليس امتناع إحدى المحاولتين عند المحاولة للأخرى أولى من العكس، فحينئذ إما أن يندفعا وهو باطل، لأن الدافع لوجود كل واحد منهما هو وجود الآخر، فلو اندفعا معًا لوجدا معًا، وهو محال أو يوجدا معًا وهو المطلوب.
وثانيهما: وهو الوجه الخاص فيما نحن فيه دون جميع القادرين، وهو أنه لو امتنع إحدى المحاولتين لسبب الأخرى، فإما أن تمتنع محاولة الله تعالى بسبب محاولة العبد وهو باطل.
أما أولاً: فلأن محاولة الله تعالى قديمة على ما ثبت من قدم إرادته تعالى، ومحاولة العبد حادثة وانعدام القديم محال، فضلاً عن امتناعه، فضلاً أن يكون ذلك بسبب الحادث.
وأما ثانيًا: فلأنه يوجب النقص وهو على الله تعالى محال وفاقًا، وأما أن تمتنع محاولة العبد بسبب محاولة الله تعالى، فحينئذ يلزم أن يمتنع من العبد أن يريد إلا بإرادة الله تعالى. وهذا لأن محاولته تعالى لو نافت محاولة العبد فإنما تنافيها لكونها تتضمن إرادة عدم إرادته بوقوع ذلك الفعل منه، ضرورة أنه لا منافاة بينهما إلا من هذا الوجه، وإن إرادة الشيء تقتضي إرادة ما هو من ضروراته، ومن ضرورات إرادة الوقوع منه تعالى، إرادة عدم وقوعه من الغير ضرورة كونه منافيًا لإرادة الوقوع منه تعالى، ومن ضرورات إرادة عدم الوقوع من الغير إرادة عدم إرادته بالوقوع وإلا لكان مريدًا لإرادته بالوقوع، وإرادة السبب إرادة للمسبب فيكون مريدًا للوقوع منه، وقد ذكرنا أنه مناف لإرادة الوقوع منه تعالى، فيكون مريدًا للشيء وبما ينافيه هذا خلف وإذا لزم أن يمتنع
من العبد أن يريد إلا بإرادة الله تعالى كان الخبر لازمًا، فيكون تكليف ما لا يطاق واقعًا لا محالة.
فإن قلت: لا نسلم أن من ضرورات إرادة عدم الوقوع من الغير، إرادة عدم إرادته بالوقوع.
وأما قوله: وإلا لكان مريدًا لإرادته بالوقوع. فممنوع، وهذا لأن الخلو عن إرادة الشيء وإرادة عدمه بعدم الإرادة ممكن، نعم: الخلو عن إرادة الشيء وعدم إرادته غير ممكن، لكن عدم إرادة [الشيء غير إرادة عدمه]، فإن الثاني أخص من الأول، ولا يلزم من عدم جواز خلو الشيء عن الشيء ونقيضه عدم / (171/أ) جواز خلوه عنه وعن أخص من نقيضه.
سلمنا: ذلك لكنه منقوض بما إنا نعلم أنه تعالى قد يريد منا إرادة وقوع ما لا يريد وقوعه منا بدليل عدم وقوعه منا، فإنه لو تعلق إرادته تعالى بالوقوع منا لوقع منا لا محالة.
قلت: الجواب عن الأول: إن الخلو عن إرادة الشيء وإرادة عدمه بعدم الإرادة، وإن كان ممكنًا لكن في حق من يجوز عليه الجهل، فإما في حق من لا يجوز عليه ذلك، وفي حق من يجب أن يكون عالمًا بجميع الأشياء وبوقوع ما وقع وسيقع منها، وبعدم وقوع ما لم يقع ولا يقع منها فلا.
وهذا ظاهر جدًا على رأي من يقول: لا معني للإرادة والكراهة شاهدًا أو غائبًا إلا العلم بكون الفعل مشتملاً على المصلحة، وبكونه خاليًا عنها سواء كان مشتملاً على المفسدة، أو كان خاليًا عنهما، فإن ذلك أيضًا جهة صرف للحكم لكونه فعله عيبًا.
وأما على رأي من يثبتها أمرًا زائدًا على العلم، فمن علل من هؤلاء أفعال الله وتروكه بالمصالح والمفاسد كجمهور المعتزلة فالأمر أيضًا ظاهر على رأيهم لأنه تعالى إن علم أن في الفعل مصلحة أراد وجوده قطعًا، وإن علم أنه لا مصلحة فيه أراد عدمه، إما لمفسدته، أو لكونه عيبًا، والشيء لا يخلو عن هذين القسمين، فلا يخلو عن أن يكون مراد الوجود، أو مراد العدم.
وأما على رأي من لم يعللها بها كجمهور أصحابنا فالأمر أيضًا ظاهر لأن الشيء لا يخلو عن الوجود والعدم، وكل موجود مراد الوجود، وكل معدوم مراد العدم لله تعالى عندهم، فالشيء إذا لا يخلو عن أن يكون مراد الوجود، أو مراد العدم.
فإن قلت: لا نسلم أن كل معدوم فإنه مراد العدم لله تبارك وتعالى عندهم، بل اللازم من مذهبهم أنه لا يحدث شيء من الحوادث إلا بإرادة الله تعالى، والمعدوم الأصلي ليس بحادث حتى يلزم أن يكون مراد العدم على رأيهم، والمعدوم الممكن أعم من المعدوم بعدم طارئ أو بعدم أصلى، فلا يمكن إدعاء أن كل معدوم فإنه مراد العدم عندهم.
نعم: لما كان له صلاحية أن يوجد وصلاحية أن لا يوجد، كان بقاؤه على العدم الأصلي لابد وأن يكون بسبب، وذلك يكفي فيه أن لا يتعلق به إرادة الوجود، لأن عند ذلك ينتفي بسبب وجوده، وهو الإرادة والقدرة النافذة.
فعلى هذا مفهوم كون الشيء غير مراد الوجود، أعم من كونه مراد العدم وهذا لأن الشيء إذا كان مراد / (171/ب) العدم، كان غير مراد الوجود لا
محالة، وليس أنه إذا كان غير [مراد] الوجود يلزم أن يكون مراد العدم، كما تقدم في المعدوم المستمر، فإنه عندنا غير مراد الوجود إلا أنه مراد العدم.
قلت: الدليل على أن كل معدوم ممكن فإنه مراد العدم لله تعالى على رأيهم، أن المعدوم الممكن إما مراد العدم وإما غير مراد الوجود على ما ذكرتم، لكن ليسو المفهوم الثاني أعم من الأول، بل هما متلازمان.
أما كون المفهوم الأول: مستلزم للثاني، فلما سلمتم.
وأما كون المفهوم الثاني: مستلزمًا للأول، فلأنه متى كان غير مراد الوجود كان معدومًا لا محالة، وإلا كان مراد الوجود ضرورة أن كل كائن بإرادة الله تعالى عندهم، وهو خلاف التقدير، وإذا كان كونه معدومًا لازمًا لكونه غير مراد الوجود، كان كونه مراد العدم لازمًا لكونه غير مراد الوجود، ضرورة أن إرادة الشيء تستلزم إرادة ما هو من لوازمه بتقيد الشعور به.
وعن الثاني: أن النقض إنما يلزم أن لو قلنا: إن أفعال العباد تقع بقدرته وإرادته، ونحن لا نقول: بذلك، بل نقول: إنما تقع بقدرة الله وإرادته فلا ينتقض الدليل حينئذ.
نعم: النقض لازم على من قال من أصحابنا: إن قدرة العبد مؤثرة في الفعل عندما يخلق الله فيه داعية جازمة إليه، لو سلم الحكم، لكنه يمنعه.
ونقول: لا نسلم أنه يريد منا إرادة جازمة بالفعل عند ارتفاع الموانع مع عدم إرادته منا.
وأجاب الإمام رحمه الله: عن أصل السؤال في "نهاية العقول"، بوجه آخر، وهو أنه لو امتنع من العبد أن يريد إلا بإرادة الله تعالى كان القول "بالجبر" لازمًا وإلا فالمقصود حاصل.
وهو ضعيف، لأنه لا يلزم من القسم الثاني حصول المقصود، لجواز أن تمتنع محاولة العبد عند محاولة الله تعالى لأمر يخصه مع أنه لا يمنع أن يريد العبد بدون إرادة الله تعالى.
وعن الثاني: أن المحال المذكور، وهو ترجيح أحد الجائزين على الآخر إنما يلزم من وقوع ذلك المقدور من أحدهما دون الآخر، مع أن نسبة قدرة كل واحد منهما إليه على السوية، ومعلوم أن التفاوت بين القدرتين بسبب العموم والشدة لا يوجب الرجحان فيه فيستحيل الترجح.
وعن الثالث: أن الفعل لو صار ممتنعًا عند ذلك، فإنما يصير كذلك بسبب ذلك القصد لا لذاته ولا لسبب آخر، لأن انقلاب / (172/أ) الممكن ممتنعًا من غير موجب محال، والكلام مفروض فيما إذا كانت الأسباب الخارجية الموجبة لامتناعه غير حاصلة، وذلك القصد لو كان موجبًا لذلك فإنما يكون موجبًا لكونه مستلزمًا لوقوعه، فإن بتقدير أن لا يكون مستلزمًا له فإنا نعلم بالضرورة أنه لا يكون موجبًا له، وإذا كان كذلك كان الموجب لذلك بالحقيقة، هو الوقوع وحينئذ يعود ما ذكرنا من المحذور.
وثانيها: أن أحد القادرين إذا أراد تسكين جسم والآخر تحريكه مثلاً، فإما أن يقعا معًا.
وهو باطل، لما فيه من اجتماع النقيضين.
أو لا يقع واحد منهما بواحد منهما.
وهو أيضًا باطل، لأن المانع من وقوع السكون من أحدهما ليس إلا وقوع الحركة من الآخر، والمانع من وقوع الحركة من أحدهما ليس إلا وقوع السكون من الآخر، لما تبين من امتناع كون المحاولة والأسباب الخارجية مانعًا من الوقوع، فلو لم يقعا معًا لوقع معًا، إذ العلة مع المعلول.
فإن قلت: لم لا يجوز أن يقال: المانع من ذلك هو كونه مقدورًا لهما؟
قلت: فحينئذ يمتنع أن يقال: كل مقدور بين قادرين لكنا بينا أن تقدير كون العبد قادرًا يلزم وقوع مقدور بين قادرين، فيلزم حينئذ ألا يقع شيء من مقدورات العبد لا بالله تعالى ولا بالعبد.
وهو باطل أيضًا قطعًا، وبتقدير تسليمه فالمقصود حاصل، لأن تكليفه بفعل لا يمكن أن يقع لمانع ملازم تكليف بالمحال أو يقع واحد منهما بواحد منهما، وهو أيضًا باطل لما تقدم.
ومنها: أنه لو كان قادرًا على بعض الممكنات، لكان قادرًا على كلها، لكن اللازم باطل قطعًا ووفاقًا فالملزوم مثله.
وإنما قلنا: ذلك لوجهين:
أحدهما: أن المعدوم عند الخصم شيء ثابت لا تأثير لقدرة القادر فيه،
بل تأثيره عندهم إما في وجوده، أو في اتصافه بالوجود، وكل واحد منهما معني عام مشترك بين كل من الممكنات بالوجوه الدالة على أن الوجود منقول على الواجب والممكن باشتراك معنوي، فيلزم صحة تأثير قدرة العبد في كلها.
وثانيهما: أن المصحح للمقدورية هو الإمكان، بدليل الدوران وهو معني عام في جميع الممكنات فيجب عموم صحة المقدورية، وفيه نظر لا يخفى عليك.
فثبت بهذه الوجوه، أن فعل العبد غير مخلوق له، بل هو مخلوق لله ومتى كان كذلك، كان القول بتكليف ما لا يطاق لازمًا، لأن تكليف العبد بالفعل حينئذ يكون / (172/أ) تكليفًا بفعل الغير، وهو تكليف ما لا يطاق قطعًا ووفاقًا.
وتاسعها: الأمر بالنظر والفكر، واقع في قوله تعالى:{قل انظروا} وفي قوله عليه السلام: "تفكروا في آلاء الله تعالى ولا تفكروا في ذات الله تعالى".
.........................................................................
ولا شك في أن حصول النظر متوقف على حصول القضايا.
والقضايا، إما نظرية، وإما ضرورية.
والنظرية: متوقف على الضرورية، دفعًا للتسلسل.
والضرورية: متوقفة على تصور مفرداتها.
والعلم بذلك ضروري، لكن شيء من التصورات غير مكتسب، لأنه إن كان محظورًا بالبال امتنع اكتسابه لاستحالة تحصيل الحاصل.
وإن لم يكن كذلك امتنع أيضًا اكتسابه، لأن اكتساب ما يكون الذهن عنه غافلاً محال، والعلم بذلك ضروري، وإذا امتنع اكتساب التصورات امتنع اكتساب القضايا الضرورية، ضرورة حصولها عند حصول تصور مفرداتها، وامتناع حصولها عند عدم حصولها.
وإذا امتنع تحصليها، امتنع تحصيل القضايا النظرية، لأنها واجبة الحصول عند حصولها وإلا لم يكن اللزوم قطعيًا "لأن جواز انفكاك اللزوم يقدح في القطع وحينئذ يلزم أن لا يكون لشيء من النظريات قطعيًا، وهو خلاف الإجماع.
ومن الظاهر أنها ممتنعة الحصول أيضًا عند عدم حصولها.
وإذا كان كذلك كان حصول القضايا النظرية، وعدم حصولها غير متعلق باختيار المكلف، فيكون حصول النظر، وعدم حصوله غير متعلق باختياره أيضًا، فيكون التكليف به تكليفًا بما لا يطاق.
وهو ضعيف، لأنه مبني على أن شيئًا من التصورات غير مكتسب.
وهو باطل قطعًا، كما نجد من أنفسنا "وجدانًا ضروريًا" طلب بعض التصورات المعلوم، باعتبار المجهول، باعتبار الماهية، أو باعتبارات أخرى.
وما ذكر من الدلالة عليه فضعيف، لأن تحصيل الحاصل، إنما يلزم من طلب ما يكون محظورًا بالبال بجميع الاعتبارات، فأما ما يكون محظورًا بالبال، باعتبار دون اعتبار، فلا نسلم أنه يلزم من طلبه تحصيل الحاصل.
ولا يقال: المطلوب فيه إن كان هو الوجه المحظور بالبال كان لزومه بينا، وإن كان هو الوجه المجهول، لزم توجه الطلب إلى ما يكون الذهن غافلاً عنه.
وهو باطل لما تقدم، لأن الممتنع إنما هو طلب ما يكون الذهن غافلاً عنه بالكلية ولا شعور / (173/أ) له بوجه من الوجوه، فأما ما يكون مغفولاً عنه باعتبار معلوم باعتبار، فلا نسلم أنه يمتنع طلبه.
سلمنا: امتناع اكتساب التصورات، ووجوب حصول التصديقات البديهية عند حصولها، لكن لا نسلم: وجوب حصول التصديقات النظرية عند حصولها كيف كان، وهذا لأن مجرد العلم بالمقدمتين لا يوجب العلم بالنتيجة، بل لابد من حصول ترتيب خاص بين تينك المقدمتين، وذلك غير لازم الحصول للقضايا البديهية، بل هو مكتسب الناظر ومقدوره، وإذا كان
كذلك كانت العلوم النظرية مكتسبة ومقدورة [له] أيضًا، ضرورة أن الوقوف على الكسبي كسبي.
وعاشرها: أجمعت الأمة على أن المكلف مأمور من جهة الله تعالى بتحصيل العلم بوجوده تعالى.
فالمأمور به: إن كان هو العارف به تعالى، لزم تحصيل الحاصل وتكليف ما لا يطاق.
وإن كان غير العارف به تعالى، لزم أيضًا تكليف ما لا يطاق، لأن غير العارف بالله تعالى يستحيل أن يعلم أمره تعالى، لأن العلم بأمره [تعالى يتضمن العلم به تعالى والعلم به تعالى] حالة عدم العلم به تعالى محال، وإذا استحال [أن] يعلم أن الله تعالى أمره بتحصيل العلم بوجوده تعالى كان توجيه الأمر نحوه في هذه الحالة توجيهًا للأمر نحو من يستحيل أن يعلم ذلك الأمر، وهو تكليف ما لا يطاق.
وحادي عشرها: أنه لا معنى للأمر إلا الطلب على الوجه الذي سبق ذكره في حده، وليس تعلق الطلب بالمطلوب، كتعليق القدرة والإرادة حتى يستدعى كون المطلوب ممكنًا، لأنهما مؤثرتان في الإيجاد والتخصيص،
والطلب غير مؤثر في المطلوب، بل هو من جنس العلم بدليل صحة تعلقه بالمعين وغير المعين كالعلم، فجاز تعلقه بالمحال كالعلم.
وثاني عشرها: أنه لو امتنع التكليف بما لا يطاق.
فإما أن يمتنع لنفس كونه تكليفًا بما لا يطاق، وهو باطل قطعًا، وإلا لكان كل من عقله عقل امتناعه وهو باطل، فإن الخصم وإن قال: بامتناعه، فإنما قال ذلك بناء على الدليل لا لنفس مفهومه، ولذلك يذكر عليه الأدلة بعد تعقل مفهومه.
وإما أن يمتنع لقبحه وهو أيضًا باطل لما تبين من بطلان القول بالتحسين والتقبيح.
وإما أن يمتنع للإضرار وهو [أيضًا] باطل، لأنه جائز بناء على سابقة جرائمه أو تعقب لذة.
وإما أن يمتنع لعدم الفائدة، وهو أيضًا باطل، إذ لا سبيل إلى الجزم / (173/ب) بانتفائها، إذ لا نسلم أن الفائدة منحصرة في الامتثال.
وإما أن يمتنع لامتناع ورود صيغة الأمر فيه، وهو أيضًا باطل، فإنا نعلم بالضرورة، أنه لا امتناع في ورود صيغة الأمر فيه، إذ لا استحالة في قول القائل: للمقعد قم أو طر. وقوله تعالى {فأتوا بسورة من مثله} و {كن فيكون {منه.
وإذ لم يكن ممتنعًا لأحد هذه الأمور، وجب أن لا يكون ممتنعًا، لأنه لا مأخذ لامتناعه إلا هذه الأمور أو أحدها بدليل الدوران، فإنا متى تعقلناها، أو أحدها في شيء تعقلنا قبح التكليف به، ومتى تعلقنا انتفاء كل واحد منها "عنه" تعقلنا حسن التكليف به.
وثالث عشرها: الأمر قبل الفعل لما تقدم الدليل السابع، والقدرة الحادثة مع الفعل، إذ لا يجوز أن يكون متقدمًا عليه، لأنها عرض وهو ظاهر والعرض لا يبقي زمانين على ما ثبت ذلك في موضعه، فلو كانت متقدمة عليه لكانت متقدمة عنده، فيكون الفعل بالقدرة المتقدمة.
هذا خلف فهي إذن معه، ومتى كان كذلك كان القول بتكليف ما لا يطاق لازمًا، لأن الأمر بالفعل عند عدم القدرة أمر بالمحال.
احتج المخالف: بالمنقول، والمعقول.
أما المنقول: فقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} ، وقوله تعالى:{لا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها} ، وقوله تعالى {ما جعل عليكم في الدين من حرج} وأي حرج أعظم من تكليف ما لا يطاق.
وقوله عليه السلام: "بعثت بالسمحة السهلة الحنفية" .... الحديث.
وجوابه: أن ما ذكرتم من النصوص لو دل، فإنما يدل على عدم وقوع تكليف ما لا يطاق لا على عدم جوازه، ولا يلزم من عدم الوقوع، عدم الجواز الذي هو المدعى، فإذا تلك النصوص لا تفيد مطلوبكم ولا نقيض
مدعى الخصم الذي هو نفي الجواز، ولا يمكن أن يقال: إنه إذا لم يثبت عدم وقوعه وجب أن يثبت عدم جوازه، إذ لا قائل: بالفصل لأن كثيرًا منهم: قال به على ما عرفت ذلك من قبل.
نعم: هي معارضة للأدلة الدالة على الوقوع، لكن الترجيح معها لكونها أدلة عقلية مفيدة للقطع، وما ذكرتم لا يفيد إلا الظن والتخمين، فكانت راجحة.
ولو سلمنا: أنها ليست براجحة، بل هي مساوية لها لكان تأويلها، واجب لما عرف أن عند تعارض العقلي والنقلي، يجب تأويل النقلي لئلا يلزم الترك بمقتضي الدليلين، وذلك، لأنه لو لم يؤول فإما أن يقدم أو يترك على التعارض وعلى التقديرين يلزم ما ذكرنا من المحذور.
وأما المعقول: فمن وجوه:
أحدها: أن الأمر / (174/أ) بالمحال سفه وعبث، فلو جاز ورود الشرع به، لجاز وروده بكل أنواع السفه والعبث، وحينئذ لم يمتنع منه إظهار المعجزة على يد الكذابين، ولا إنزال الكتب عليهم، ولا يمتنع منه الكذب، وحينئذ لا يبقي وثوق بصحة النبوة، ولا بصحة الخبر والوعيد، ولما كان هذا باطلاً كان الأمر بالمحال باطلاً.
وجوابه: أنه مبني على التحسين والتقبيح وقد سبق إبطالهما، ولو سلم عدم بطلانهما، فجوابه ما سبق في التحسين والتقبيح.
وثانيها: لو جاز الأمر بالمحال، لجاز أمر الجمادات، وبعثة الأنبياء إليها، وإنزال الكتب عليها.
وهو باطل وفاقا، فكذا ما نحن فيه.
وجوابه: أن حاصل الأمر بالمحال عندنا، يرجع إلى إعلام المكلف بنزول العذاب عليه، وهو غير حاصل في حق الجماد.
وثالثها: أن التكليف بالمحال، نحو تكليف الأعمى بنقط المصاحف، والمقعد بالمشي وتكليف الإنسان بالجمع بين السواد والبياض، قبيح عرفًا فكذا شرعًا لقوله عليه السلام:"ما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح".
وجوابه: أنه ليس معناه: أن ما رآه المسلمون قبيحًا بالنسبة إليهم، فهو قبيح عند الله تعالى بالنسبة إليه تعالى، حتى يحصل مقصودكم، بل معناه: أن ما رآه المسلمون قبيحًا بالنسبة [إليهم، فهو عند الله قبيح بالنسبة إليهم، أو إن ما رأوه قبيحًا بالنسبة] إلى الله تعالى، فهو أيضًا قبيح عند الله تعالى بالنسبة إليه، وحينئذ يمتنع أن يكون المسلمون رأوا قبحه بالنسبة إليه تعالى، حتى يلزم قبحه عنده بالنسبة إليه تعالى.
ذلك؟ ومعظم المسلمين على أنه لا يقبح شيء من الله تعالى، بل كل شيء بالنسبة إليه تعالى حسن.
ورابعها: وهو ما عول عليه الشيخ الغزالي - رحمه الله تعالى - وهو
أن التكليف طلب ما فيه كلفة، والطلب يستدعي مطلوبًا متصورًا في نفس الطالب، ضرورة أن طلب ما لا تصور له في النفس محال، وذلك المطلوب يجب أن يكون مفهومًا للمكلف بالاتفاق، فلا يجوز أن يؤمر باللفظ المهمل، ولا باللفظ الذي لا يعرف المأمور معناه، ولا متمكنًا من معرفته بالمراجعة، لأن الأمر خطاب مع المأمور وهو يعتمد الفهم والتمكن منه فيما ليس له مفهوم، أو إن كان لكن لا يتمكن المأمور من معرفته ليس خطابًا معه، وإنما اشترط ذلك ليكون منه الطاعة، فإن التكليف اقتضاء الطاعة، فإذا لم يكن في الفعل طاعة، إذا الطاعة بالامتثال، وهو غير متصور في المحال لم يكن اقتضاء الطاعة متصورًا فيه، وإذا / (174/ب) لم يكن اقتضاء الطاعة متصورًا فيه استحال التكليف به لفقد معناه، كما ذكرتم في امتناع تكليف الجماد لسبب فقد معنى الأمر، وهو الإعلام.
وتحرر هذا بعبارة أخرى وهي: أن المحال غير متصور، لأن كل متصور متميز، وكل متميز ثابت، والمحال غير ثابت في النفس، ولو كان له ثبوت في النفس، لما امتنع وجوده في الخارج لذاته، فلا يكون متصورًا، وإذا لم يكن متصورًا، لم يكن مأمورًا به، لأن المأمور به لابد وأن يكون متصورًا، لاستحالة طلب ما لا يكون متصورًا، والعلم بذلك ضروري.
وجوابهما: أنه مبني على أن المحال غير متصور.
وهو باطل: لأنا نحكم بأن الجميع بين السواد والبياض مثلاً ممتنع، فلولا أنه متصور وإلا لامتنع الحكم عليه بالامتناع ضرورة أن التصديق مسبوق بالتصور، ولأنه لو لم يكن متصورًا لم يمكن التمييز بين مفهومه وبين مفهوم أحداث القديم مثلاً، وحيث حصل التمييز دل على أنه متصور، فعلى هذا نمنع في العبارة الأولي قوله: الامتثال غير متصور في المحال.
وهذا لأنه لو كان كذلك، لامتنع الحكم عليه بالامتناع في قولنا:"الامتثال في المحال ممتنع"، ولما أمكننا أن نميز بين مفهومه وبين مفهوم غيره من الحالات.
وفي الثانية: يمتنع قوله: "أن المحال غير ثابت في النفس" ولا نسلم أنه لو كان له ثبوت في النفس، لما كان وجوده في الخارج ممتنعًا لذاته، وما الدليل عليه.
ومنهم: من أجاب عن الأول: بأن الجمع المعلوم المتصور المحكوم بنفيه عن الضدين، إنما هو الجمع المعلوم بين المتخلفات، التي ليست متضادة، ولا يلزم من تصوره منفيًا عن الضدين تصوره نافيًا لهما.
ثم قال: وهو دقيق فليتأمل.
وفيه نظر:
أما أولاً: فلأنه يقتضي أن يكون إطلاق الجمع على الجمع بين المختلفات، وعلى الجمع بين المتضادات بالاشتراك اللفظي، وهو باطل.
أما أولاً: فلكونه منقسمًا إلى الجمع بين المتماثلات، والمختلفات والمتضادات، ومورد التقسيم يجب أن يكون مشتركًا بين الأقسام التي إليها تنقسم.
لا يقال: ما ذكرتم منقوض بصحة تقسيم اللفظ المشترك إلى مفهوماته المختلفة، إذ يصح أن يقال: العين، إما العين الباصرة، وإما العين الجارية، وكذا ينقسم إلى غيرهما من مفهوماته، مع عدم الاشتراك بينهما.
لأنا نقول: لا نسلم أن ذلك مع عدم الاشتراك بينها، بل هو باعتبار أمر مشترك بينها وهو كونه مدلول اللفظ، فكأنه يقال / (175/أ) مدلول اللفظ إما ذا، وإما ذا، إذ لا شك أنه قدر مشترك بين تلك الأقسام.
وأما ثانيًا: فإنه خلاف المتبادر إلى الفهم، إذ المتبادر إليه هو كونه متواطئًا لا مشتركًا، إذ لا يعقل في مفهومه اختلاف [و] معه يستحيل تعقل الاشتراك.
وأما ثانيًا: فلأنه خلاف الأصل.
وأما ثالثًا: فلأن المثبت يجب أن يكون بالمعني المنفي حتى يتوارد النفي والإثبات على شيء واحد، وإلا لم يكونا متنافيين، فإذا كان المتصور في جانب النفي، وهو ذلك الجمع، وجب أن يكون المتصور، في جانب الإثبات هو بعينه، ولا شك في أنه محال فيه.
وأما وجوهكم الدالة على لزوم الجبر التي يلزمها القول بتكليف ما لا يطاق، فهي معارضة بوجوه:
أحدها: لو كان فعل العبد مخلوقًا لله تعالى، وليس العبد متمكنًا من
فعله عندما لا يخلقه الله تعالى فيه، ولا من تركه عندما يخلقه الله تعالى فيه، لزم أن لا يبقي فرق بين الأفعال الاختيارية والرعشة الضرورية، واللازم باطل فقطعًا فالملزوم مثله.
وجوابه: بمنع الملازمة، وهذا لأن اللازم من ذلك إنما هو عدم تأثير القدرة الحادثة فيه، وعدم التمكن من الفعل والترك حالتي الفعل والترك، ولا يلزم من اشتراكهما فيه عدم الفرق بينهما من كل الوجوه، إذ الاشتراك في بعض الأمور لا يوجب الاشتراك في كلها.
وثانيها: أنه لو كان فعل العبد مخلوقًا لله تعالى، لما وقع فرق بين القوى والضعيف، إذا الكل بخلقه ولكانت قدرة العبد متعلقة بالجواهر، كما هي متعلقة بالأكوان، إذ الكل بقدرة الله تعالى وهي متعلقة بهما واللازم باطل فالملزوم مثله.
وجوابه: أيضًا منع الملازمة، وهذا لأن الكل وإن كان بخلقه تعالى "لكن الفرق حاصل بسبب كثرة ما يخلق الله تعالى" من القدرة والمقدور في القوى دون الضعيف، وهكذا نمنع الملازمة الثانية، إذ لا يلزم من كون الكل مقدور الله تعالى كون قدرة العبد متعلقة لكل ما يكون مقدورًا له تعالى، نحو أن يكون الله تعالى خصص تعلق قدرته بنوع من مقدوراته.
وثالثها: لو كان فعل العبد من فعل الله تعالى، لما انقسم إلى طاعة، ومعصية، ضرورة أن فعله تعالى لا ينقسم إليهما، لكنه ينقسم فلا يكون من فعله تعالى.
وجوابه: أن فعل الله عندنا: ينقسم "إلى ما يكون للعبد فيه تعلق بالكسب وإلى ما لا يكون / (175/ب) كذلك.
فإن ادعيتم أن مطلق فعله تعالى لا ينقسم" إليهما سواء كان متعلق
قدرة العبد بالكسب أو لا يكون كذلك، فإن ما هو من مقدوراته تعالى قدرة العبد بالكسب ينقسم إليهما عندنا.
وإن ادعيتم أن النوع الثاني: من أفعاله تعالى لا ينقسم إليها، فمسلم: لكن لا يلزم من انقسام هذا النوع إليهما عدم انقسام النوع الأول إليهما.
ورابعها: لو كان فعل العبد يخلقه تعالى، لكان الكفر والإيمان بقضائه وإرادته "تعالى ضرورة أن الخلق لا يتم إلا بالقضاء والإرادة، ولأنه لا قائل بالفصل وحينئذ يجب الرضا بالكفر ضرورة أن الرضا بالقضاء واجب لكن الرضا بالكفر كفر بالكفر ليس بقضائه وإرادته" وحينئذ يلزم أن لا يكون بخلقه تعالى ضرورة انتفاء لازمه ويعرف منه أن يقال: لو كان فعله بخلقه تعالى لزم أن يكون مريدًا له وراضيًا به لكنه غير راضي به لقوله تعالى: {ولا يرضي لعباده الكفر} .
وجوابهما: أن الرضا في قوله تعالى: {ولا يرضي لعباده الكفر} .
وفي قولنا: الرضا بالقضاء واجب، ليس هو بمعني الإرادة، بل هو بمعني ترك الاعتراض.
والرضا قد يأتي بهذا المعني يدل عليه قول ابن دريد:
رضيت قسرًا وعلى القسر رضا
…
من كان ذا سخط على صرف القضا
أثبت الرضا مع القسر، والإرادة لا تثبت مع القسر، فدل على أنه ليس بمعني الإرادة.
وعلى هذا يصير معنى الآية: لا يترك الاعتراض على الكفر لعباده.
وعلى هذا التقدير نمنع الملازمة، فإن من الظاهر أن خلق الشيء لا يقتضي الرضا به بالمعنى المذكور.
ويصير معني قولنا: الرضا بالقضاء واجب ترك الاعتراض على الله تعالى سبب القضاء واجب.
وأما الرضا في قولنا: "بالكفر كفر" فلا نسلم: أنه بهذا المعنى، بل هو بمعني الإرادة والمحمدة، يقال: هذا الشيء [مرضي] أي محمود، وإذا اختلف المعنيان لم يلزم منه المطلوب.
سلمنا: أنه بالمعنى المذكور، لكن لا نسلم: أنه يلزم من الرضا بالقضاء الرضا بالكفر، وهذا لأن الكفر ليس نفس القضاء، بل هو بالقضاء.
وهذا كما تقول: القتل بقضاء الله، وليس نفس القضاء نفس القتل.
وكما تقول: الكفر لا يكون إلا بعلم الله تعالى، ثم علمه بالكفر ليس نفس الكفر فكذا هنا، فلا يلزم من الرضا بالقضاء، الرضا بما هو بالقضاء.
أو نقول: الكفر ليس نفس القضاء، بل هو المقضي ولا يلزم من الرضا / (176/أ) بالقضاء، الرضا بالمقتضي، ألا ترى أن الواحد منا قد لا يرضي ولا يريد ما قضي الله له من الأمراض والآلام، وإن كان راضيًا بقضائه وقدره تعالى.
وخامسها: لو كان فعل العبد مخلوقًا لله تعالى [لكان الكفر والمعصية والطاعة كلها مخلوقًا لله تعالى] ضرورة أنها من جملة أفعاله، وحينئذ يلزم أن لا يحسن ذم العبد وعقابه، على الكفر والمعصية، ولا يحسن إثابته وشكره على الطاعة، ولكان ضرر الله على عبده أكثر من ضرر إبليس عليه اللعنة، لأن إبليس داع إلى المعصية فقط، قال الله تعالى حكاية عنه:{ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} .
وأما سبحانه وتعالى فخالق للكفر فيه "بحيث" لا مندوحة له عنه، ثم معاقبة عليه، لكن اللازم باطل، إذ العقلاء مطبقون على حسن ذم المسيء وعقابه، وحسن إثابة المحسن وثنائه، وعلى كونه تعالى رحميًا رؤوفًا لعباده.
وجوابه: أنا لا نسلم أنه لا يحسن الذم والعقاب والإثابة على ذلك التقدير، وإنما نسلم ذلك لو لم يكن كسبًا له أيضًا، فإما بتقدير أن يكون كسبًا له فلا.
وأما الثاني: فلازم عليهم أيضًا، فإن التمكين بخلق القدرة على المعصية، والداعية الملجئة إلى فعلها، وإعطاء اليسار المفضي إلى فعلها أكثر ضررًا من الدعاء إلى المعصية. فما جوابكم فهو جوابنا.
وسادسها: أن فعل العبد منسوب إليه في استعمال القرآن، والحديث، وعرف أرباب اللسان.
قال الله تعالى: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} . وقوله تعالى: {جزاء بما كانوا يعملون} . وقوله تعالى {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله} . وقوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} وقوله تعالى: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات} . وأمثالها كثيرة وغير عديدة في القرآن العظيم.
وقوله عليه السلام: "إن أحدكم ليعمل عملاً في جوف صخرة صماء لألبسه الله تعالى لباس عمله إن كان خيرًا فخير وإن كان شرًا فشر".
وقوله عليه السلام: "إن هذه الأمة لتعمل برهة من الدهر بالكتاب وبرهة بالسنة، وبرهة بالقياس، فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا".
وقوله "نية المؤمن خير من عمله". وأمثالها كثير.
وأما استعمال عرف أرباب اللسان فأيضًا ظاهر كثير في نظمهم، ونثرهم، من الأمثال وغيرها، والأصل في الاستعمال الحقيقة.
لا يقال: كما هو منسوب إليه، منسوب إلى الله / (176/ب) تعالى أيضًا، قال الله تعالى:{وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} . وقال تعالى: {والله خلقكم وما تعلمون} . وقوله: {خالق كل شيء} . وقوله تعالى: {وهو الذي يتوفاكم بالليل} . والأصل في الاستعمال الحقيقة.
وعند هذا نقول: يجب حمل أحد الاستعمالين على المجاز [كيلا يلزم الاشتراك فليس حمل استعمالكم على الحقيقة، وحمل استعمالنا على المجاز] أولى من العكس.
لأنا نقول: حمل استعمالنا: على الحقيقة، أولى من حمل استعمالكم عليها، لأنه أكثر فلو حملناه على التجوز، لزم تكثير المجاز وأنه تكثير مخالفة الأصل.
وجوابه: أنا نقول: بمقتضي دليلكم ودليلنا، وهو أن إسناد الفعل إلى الله تعالى وإلى العبد بطريق الحقيقة.
وهذا على رأي من قال: من أهل السنة والجماعة أن الفعل حقيقة في الكسب، وفي الإيجاد بحسب معنى مشترك بينهما، وهو كونه مقدورًا لفاعله سواء كان بطريق الكسب، أو بطريق الإيجاد، فإن هذا المفهوم يشتمل النوعين جميعًا.
وعلى هذا التقدير لا يلزم الاشتراك ولا المجاز، بل الاستعمالان بطريق الحقيقة.
وقد عرفت أن التواطؤ خير من الاشتراك والمجاز.
وأما من لم يقل بذلك كالشيخ أبي الحسن الأشعري - رحمه الله تعالى - ومن تابعه فإنه يقول: تلك الإسنادات مجازات عقلية، إذ المجاز في التركيب ليس إلا عقلي، ولا نسلم: أن ذلك خلاف الأصل، وإنما الذي نسلم: أن المجاز اللغوي خلاف الأصل على ما عرفت ذلك في اللغات.
سلمنا: أنه خلاف الأصل، لكن قد يصار إليه وذلك عند قيام الدلالة عليه، وما ذكرنا من الأدلة العقلية دال عليه، فوجب المصير إليه.
واعلم أن استقصاء الكلام في مسألة خلق الأعمال، وإرادات الكائنات، بعلم الكلام أليق فلنقتصر على هذا القدر من الكلام.
فرع:
اختلفوا في أنه: هل يجوز أن يكون التكليف بالممكن مشروطًا بشرط مستحيل أم لا؟.
أما القائلون بعدم جواز تكليف ما لا يطاق: فقد اتفقوا على عدم جوازه.
وأما القائلون بجوازه: فقد اختلفوا فيه.
فمنهم: من جوزه، كالتكليف بما لا يطاق، بل أولى إذا لا حرج ولا ضرر فيه، فإنه لا يستحق العقاب على تركه، إذا لم يترك المأمور به فإنه يصير مأمورًا به عند وجود شرطه وهو مستحيل الوجود.
ومنهم: من لم يجوزه، لأنه لا يحصل فيه فائدة الامتثال ولا هو علم على عذاب من كلف به، إذ لا عقاب على تركه على ما سبق تقريره، والتكليف بالمحال إنما جوز، لأنه علم العذاب / (177/أ)، وهذا المعني غير متحقق في الممكن المشروط بالشرط المستحيل فلا يجوز ورود التكليف به.