الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة
[هل يجب أن يكون المأمور به مقدورًا للمأمور]
اعلم أن المأمور به يجب أن يكون مقدورًا للمأمور، إما بطريق الخلق، والاختراع، أو بطريق الكسب على اختلاف فيه، بين أصحابنا وبين القدرية.
فعلى هذا لا يجوز أمر الغير بفعل الغير، لأنه وإن كان ممكن الوجود في نفسه / (180/ب)، لكنه غير مقدور لغير فاعله، لا بطريق الخلق ولا بطريق الكسب ولا بمتولدات الأفعال كالانجراح المتولد من الجرح، والإنكسار المتولد من الكسر، لكونه محض فعل الله تعالى، لا مدخل لكسب العبد فيه، وأفعال العباد وإن كانت مخلوقة لله تعالى عندنا، لكنها مكتسبة لهم فمتعلق الأمر في قتل الكافر مثلاً إنما هو الفعل الذي يتولد منه القتل لا نفس الفعل.
وذهب بعض المعتزلة: إلى أن متولدات الأفعال يجوز أن تكون متعلقة الأمر بناء على أنها من فعله، كما أن الفعل الذي يتولد منه القتل من فعله أيضًا، لكن الفرق بينهما، أن الأول: بطريق الكسب، والثاني: بطريق المباشرة، والتكليف يجوز أن يكون متعلقًا بهما عندهم.
وعلى هذا أيضًا ذهب الأكثرون منهم: إلى أن متعلق النهي هو فعل الضد لا نفس أن لا تفعل لأن النهي عن الشيء أمر بتركه، والأمر يتعلق بالمقدور لا غير تفريعًا على القول بامتناع تكليف ما لا يطاق، ونفس أن لا تفعل، عدم محض، ونفي صرف ليس بشيء ولا أثر، وما يكون كذلك لا يكون مقدورًا ولا مكتسبًا، لأن القدرة بعد تعلقها بالمقدور تستدعى أثرًا وشيئًا، والعدم الصرف ليس كذلك، فيمتنع استناده إلى القادر، ولو سلم إمكان إسناد العدم الصرف والنفي المحض إليه في الجملة، لكان العدم الأصلي يستحيل إسناده إليه قطعًا، لأنه حاصل قبل قدرة المكلف وتحصيل الحاصل محال.
وهذا ظاهر إن قيل: بأن المعدوم ليس بشيء.
وأما إن لم يقل بذلك فيقول: كل من قال: بأن المعدوم شيء وذات متقررة قبل اتصافه بالوجود قال أيضًا: بامتناع إسناده إلى القادر، ولذلك قال: ليس للقادر تأثير إلا في أن يجعل الذات موصوفة بالوجود، وحينئذ يلزم امتناع إسناد المعدوم إليه أيضًا، فعلى التقديرين يمتنع
إسناد المعدوم إلى المؤثر.
فإذا ثبت أن متعلق التكليف يجب أن يكون مقدورًا بأحد الوجهين المذكورين، وثبت أن العدم الأصلي يستحيل أن يكون مقدورًا استحال أن يكون العدم الأصلي متعلق التكليف فاستحال أن يكون متعلق النهي هو نفس أن لا يفعل. ويمكن تقرير هذا بوجه آخر من غير تفريع على امتناع تكليف ما لا يطاق.
وهو أن يقال للخصم: إنا وإن اختلفنا في جواز تكليف ما لا يطاق، لكن اتفقنا على أن النهي عن المنهيات الممكنة "ليس" من / (181/أ) قبيل تكليف ما لا يطاق، فلو كان متعلق النهي هو نفس "أن لا يفعل" لزم القول بأن النهي عن النهيات الممكنة من قبيل تكليف ما لا يطاق، لما تقدم من أن العدم الأصلي غير مقدور للمكلف، وهذا إنما يتم على رأي غير الشيخ، أو على رأيه لكن بطريق الإلزام، إذ ليس من الخصوم في هذه المسألة من يقول: إن التكاليف بأسرها تكليف ما لا يطاق.
فإن قلت: على الوجه الأول: إنا نسلم أن ما كان من العدم السابق على قدرة المكلف غير مقدور له لما ذكرت.
لكن لما قلت: إن المقارن منه للقدرة غير مقدور له أيضًا، ولا يلزم من عدم القدرة على السابق عدم القدرة على المقارن.
قلت: المقارن منه للقدرة ليس أمرًا غير الأول، وإنما هو الأول بعينه، لكن غايته أنه حصلت له صفة الاستمرار التي ما كانت حاصلة له من قبل بسبب مرور الزمان عليه، وبسببه حصلت له صفة المقارنة.
فهذه الصفة: إما اعتبارية، وإما حقيقية عارضة، وعلى التقديرين يجب
أن لا يتغير ذلك العدم السابق عما هو عليه من استحالة كونه مقدورًا، إلى جواز كونه مقدورًا، لأن الصفة الاعتبارية والحقيقية العارضية لا يغير الشيء عما هو عليه من الاستحالة والإمكان بحسب الذات، أو بحسب لازم من لوازمه.
وذهب أبو هاشم إلى أن متعلق النهي هو نفس "أن لا يفعل".
وذهب الشيخ الغزالي رحمه الله تعالى: فيه إلى التفصيل فأوجب أن يكون متعلق النهي فعلاً حيث يثاب المنتهي، وهو فيما قصد امتثال النهي بفعل ضد المنهي عنه وكف النفس عن مباشرة المنهي عنه بعد التمكن منه وحصول الداعية إليه، لأن الثواب إنما يكون على ما هو من كسب العبد وسعيه لقوله تعالى:{وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} .
ومفهوم أن لا يفعل عدم محض ونفي صرف والعدم لاسيما الأصلي ليس من سعى الإنسان فلا يكون مثابًا عليه، بخلاف كف النفس والترك، الذي هو عبارة عن فعل ضد المنهي عنه، فإنه من كسبه وسعيه، فجاز أن يثاب عليه. ثم الفرق بين الكف والترك، أن الكف يستدعى التمكن من فعل المنهي عنه، والداعية إليه.
وأما الترك فلا يستدعى ذلك، إذ قد يترك الشيء أي يفعل ضده مع الغفلة
والذهول عنه، بخلاف الكف فإنه لا يكون إلا مع التصور والتوقان.
وأما حيث الإثبات المنتهي على الانتهاء وهو حيث لم يقصد الامتثال "وكف" للنفس عنه فإنه يجوز أن يكون متعلق النهي هو نفس أن لا يفعل إذ لا يبعد أن يكون مقصود الشارع أن لا يصدر منه الفواحش المنهي عنها وأن لا يقصد منه فعل ضده ليثيبه عليه، فإن الفوات على ما عرف لابد وأن يكون على فعل ولا يجوز أن يثاب على لا فعل.
احتج أبو هاشم: على صحة ما ادعاه بأن العقلاء يمدحون المنتهي على أنه لم يفعل المنهي عنه، وإن لم يخطر ببالهم فعل ضده، فلولا أن متعلق النهي هو نفس أن لا يفعل لما كان كذلك.
وجوابه: أنا لا نسلم أنهم يمدحونه على نفس أن لا يفعل من غير أن يخطر ببالهم فعل ضده من حيث الإجمال، وهذا لأنه لما لم يمكن تصور أن لا يفعل بدون تصور فعل العبد كان تصوره مستلزمًا لتصوره لا محالة.
نعم: قد لا يخطر بباله فعل ضده على التفصيل، لكن ذلك لا يقدح في الغرض.
المسألة الرابعة
[النيابة في المأمور به]
اتفقوا على جواز دخول النيابة في المأمور به، إذا كان ماليًا وعلى وقوعه أيضًا، إذ اجمعوا على أنه يجوز للغني أن يصرف، زكاة ماله بنفسه، وأن يوكل فيه، وكيف لا. وصرف زكاة الأموال الظاهرة إلى الإمام، إما واجب، أو مندوب ومعلوم أنه لم يصرفها إلى الفقراء إلا بطريقة النيابة.
واختلفوا: في جواز دخولها فيه إذا كان بدنيًا.
فذهب أصحابنا إلى الجواز والوقوع معًا: محتجين بأنه لا يمتنع لنفسه.
إذ لا يمتنع قول السيد لعبده: أمرتك بخياطة هذا الثوب، فإن خطه بنفسك أو استنبت في خياطته أثبتك، وإن تركت الأمرين فعاقبتك، والعلم بذلك ضروري.
وإذ لم يمتنع ذلك في الشاهد لم يمتنع أيضًا في الغائب، لأنهما لا يختلفان في ذلك.
والعلم بذلك ضروري أيضًا، وبطريق القياس عليه أيضًا، والجامع بينهما تحصيل المصلحة الحاصلة من نفس الفعل.
ولا لمنافاته معنى التكليف، إذ الكلفة حاصلة في الاستنابة أيضًا، كما هي حاصلة فيما يتعين على المكلف مباشرته، لأنها لا تحصل إلا ببذل عوض للنائب أو تحمل منه، لكن غايته أن الكلفة "فيما" تجوز فيه النيابة أقل وفيما لا يجوز ذلك أكثر، لكن ليس مناط التكليف حصول غاية الكلفة والمشقة، بل حصول أصل المشقة، وهو حاصل في الاستنابة.
ولا لمفسدة تنشأ من الاستنابة لأنا نفرض الكلام فيما إذا لم تكن الاستنابة
"منشأ للمفسدة، ولأنها منشأ للمصلحة، لأنها توسعة طريق حصول الفعل الذي هو" / (182/أ) منشأ المصلحة ووسيلة حصول المصلحة مصلحة، ولأن الأصل عدم كونها منشأ للمفسدة.
ولا يعارض بمثله، وهو أن يقال: الأصل عدم كونها منشأ للمصلحة فلا تشرع لما تقدم، ولأن شرعية الشيء لا تستدعي كونه منشأ للمصلحة، بل يكفي فيه أن لا يكون منشأ للمفسدة، وإلا لزم نفي شرعية المباح.
وإذا لم يمتنع لأحد ما ذكرنا من الأمور الثلاثة: وجب الحكم بجواز دخولها فيه، إما لأن أسباب الامتناع منحصرة فيما ذكرنا من الأمور الثلاثة للاستقراء، أو وإن لم تكن منحصر فيه، لكن الأصل عدم شيء آخر يوجبه.
واحتجوا: على الوقوع بما روى أن النبي عليه السلام رأي شخصًا يحرم بالحج عن شبرمة فقال عليه السلام: "أحججت عن نفسك؟ "، فقال: لا، فقال له:"حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة"، وهو
صريح في الباب.
ولقائل أن يقول: هذا لا يدل على وقوع دخول النيابة في المأمور به، إذا كان بدنيًا صرفًا، بل إنما يدل على ما هو بدني ومالي معًا كالحج، ولعل الخصم يجوز ذلك، فلا يكون دليلاً عليه.
واحتج الخصم: بأن المقصود من إيجاب العبادات البدنية، ابتلاء العبد وامتحانه لما فيه من كسر النفس وقهرها، وتسويغ النيابة فيها يخل بهذا المقصود، فوجب أن لا تجوز النيابة فيها.
وجوابه: أنا لا نسلم أن تسويغ النيابة فيها يخل بمقصود الابتلاء والامتحان مطلقًا، وإنما يكون كذلك لو لم يكن في النيابة ابتلاء وامتحان، وهو ممنوع لما سبق.
نعم: تسويغها يخل بالابتلاء والامتحان الحاصل من المباشرة، لكن لا نسلم أن ذلك هو المناط للتكليف لا غير.