الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو ضعيف، إذ الإجماع غير منعقد على وجوب القصد على المأمور في إيقاع كل مأمور به، بل لو ثبت ذلك فإنما يثبت فيما هو قربة بنفسه دون ما ليس كذلك، كالوضوء والغسل، ولهذا اختلف في اشتراط القصد فيه ويستثني عنه شيئان:
أحدهما: أول ما يجب على العاقل وهو إما العلم بالله، أو النظر المعرف بحدوث العالم ووجود الصانع، أو القصد إليه على اختلاف فيه، لأن قصد إيقاعه طاعة قبل معرفة الموجب وإيجابه عليه محال.
وثانيهما: هذا القصد نفسه إذ هو مأمور به أيضًا في إيقاع كل مأمور به طاعة، فإنه لو افتقر إلى قصد آخر لزم التسلسل وهو محال.
المسألة الرابعة
[في تكليف المكره]
في أن الملجأ إلى الفعل، أو على الترك بسبب الإكراه، هل يجوز أن يؤمر به أو بضده أم لا؟.
والحق فيه أن يقال إنه انتهي بالإكراه إلى حد المضطرين، بحيث يصير
نسبته إلى الفعل المكره عليه، كنسبة المرتعش إلى حركته، كان جواز التكليف به أو بضده، مخرجًا على الخلاف في جواز تكليف ما لا يطاق فإن جوزنا ذلك جاز التكليف به، وإلا فلا، لأن الفعل يصير واجب الوقوع ويصير عدمه ممتنعًا، والتكليف بالواجب والممتنع تكليف ما لا يطاق.
وهذا النوع من تكليف ما لا يطاق غير واقع.
فإن قيل: بوقوع غيره من أنواعه لقوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، فإن المراد منه: رفع المؤاخذة، وهو يستلزم رفع التكليف.
وإن لم ينته إليه، فالأمر به أو بضده جائز لوجوه:
أحدها: أنه مختار فيه، فجاز أن يكلفه به كسائر المكلفين.
وثانيها: أن الإكراه حمل على الفعل بإيصال مكروه يقتضي العقل اجتنابه إلى المكره على الترك، وهو أشد مكروهًا في الظاهر من فعل المكره عليه / (185/أ) فامتياز المكره أمر المكره فيه حمل على مقتضي العقل، والنظر الصحيح، فإنه يفضي باحتمال أدنى الضررين، عندما لا مندوحة عن أحدهما، وذلك يدل على أنه مختار فيه.
وثالثها: أن أفعال المكره توصف بالوجوب، والحرمة، والإباحة بإجماع الفقهاء، فإنه إذا أكره بالقتل على شرب الخمر فإنه يجب عليه شربه.
وإذا أكره على قتل مسلم معصوم الدم ولو بالقتل فإنه يحرم عليه.
وإذا أكره على إجراء كلمة الكفر به فإنه يباح له ذلك.
وذلك يدل على أنه مكلف، وإلا لما وصف أفعاله بالأحكام الشرعية.
والخصم إن قال بذلك فالاستدلال عليه بطريق الإلزام ظاهر، وإلا فهو محجوج بإجماع الفقهاء.
ورابعها: أن العقل، والبلوغ، والاستطاعة، التي هي شرط التكليف كانت موجودة في المكرة قبل الإكراه وهو لا ينافيها، بدليل مجامعتها معه.
وأما مجامعة الأولين معه فظاهر.
وأما الاستطاعة فكذلك:
أما أولاً: فلأن الكلام مفروض فيما إذا أمكنه فعله وتركه، إذ الإكراه لم ينته إلى حد الإلجاء.
وأما ثانيًا: فلأنه لو التزم المحذور الذي هدده به أمكنه تركه لا محالة، بخلاف الملجئ إلى الفعل بسببه، فإنه ليس له التمكن من الترك بوجه من الوجوه إذ الكلام مفروض فيما إذا صار فعله كحركة المرتعش.
وأيضًا لا خلاف بأنه مكلف بغير ذلك الفعل المكره عليه، ولو لم تكن شرائط صحة التكليف، حاصلة لما كان مكلفًا بغيره، إذ شرائط صحة التكليف لم تختلف بالنسبة إلى فعل دون فعل لاسيما بالنسبة إلى فرد دون فرد من نوع واحد، وإذا كانت الشرائط حاصلة ولا مانع يمنع المكلف من جهته عن التكليف وفاقا وجب القول بصحة التكليف لا محالة.
ولقائل أن يقول: الإكراه وإن لم يناف شرائط التكليف، لكن ينافي المعني المقصود من التكليف، وإذا كان كذلك امتنع التكليف معه ضرورة امتناع تحقق الشيء مع ما ينافي مقصوده.
وإنما قلنا: إن الإكراه ينافي المعني المقصود من التكليف، لأن المقصود من
التكليف أن يوقع المكلف المكلف به على وجه يكون طاعة، بدليل أنه لو أوقعة لا على وجه الطاعة، كما إذا فعله لا عن قصد أو عن قصد لكن لا "على" قصد امتثال أمر الشارع، بل لغرض آخر نحو السمعة والرياء، فإنه لا يخرج عن العهدة ولا يثاب عليه، فإذا إنما يكون الفعل طاعة أن لو كان فعله لأجل أمر الشارع، وهو مع الإكراه متعذر.
لأن الباعث على الفعل في صورة الإكراه، إن كان هو قصد امتثال أمر الشارع لم يكن الإكراه على الفعل متحققًا في الحقيقة / (185/ب) وإن وجد صورة الإكراه، لأن الإكراه عبارة عن أن يحمل الشخص إما على فعل لا يريد أن يفعله، أو على فعل يريد أن لا يفعله وكل ذلك غير متصور فيما نريده، وإن كان الباعث هو قصد امتثال أمر المكره، ودفع أذاه لم يكن الفعل طاعة، لفقد شرطه.
فإذًا حيث يتحقق الإكراه حقيقة لا يمكن إيقاع الفعل طاعة، وحيث يمكن إيقاعه طاعة لا يتحقق الإكراه، فالإكراه ينافي كون الفعل طاعة، فينافي التكليف به لمنافاته للمعني المقصود منه.
...................................................................................