الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة
في أن مطلق النهي عند من يقول: إنه للتحريم، أو المقترن بقرينة للتحريم عند من لا يقول: به. هل يقتضي فساد المنهي عنه أم لا
؟
اختلفوا فيه:
فذهب كثير من الفقهاء من الأئمة الأربعة، وجماعة من المتكلمين منا ومنهم، وأهل الظاهر بأسرهم، إلى أنه يقتضي فساد المنهي عنه سواء كان المنهي [عنه] عبادة أو معاملة، وهو مذهب الشافعي / (193/أ) رحمه الله تعالى.
لكن اختلفوا في جهة دلالته عليه.
فمنهم: من قال: يدل عليه من جهة اللفظ.
ومنهم: من قال: من جهة المعنى.
وذهب أبو حنيفة، وأكثر أصحابه كمحمد بن الحسن، وأبي الحسن الكرخي، وكثير من أصحابنا كالقفال الشاشي. وكثير من المتكلمين منا، ومنهم كالجبائيين، وأبي عبد الله البصري، والقاضي: إلى أنه لا يقتضي فساده، سواء كان عبادة أو معاملة.
وذهب أبو الحسين البصري منهم، وبعض أصحابنا كالغزالي، والإمام إلى التفصيل، فقالوا: يقتضي فساده إذا كان عبادة، دون ما إذا كان معاملة.
وقد عرفت فيما سبق معنى الفساد في العبادات والمعاملات، وأنه لا اختلاف في معناه في المعاملات، وإنما الاختلاف فيه في العبادات.
والأظهر أن كل من ذهب من الفقهاء والمتكلمين إلى أنه يقتضي الفساد في العبادات، أو لا يقتضيه، فإنما ذهب إليه بالمعني المصطلح عليه عنده لا بالمعني الآخر، وإن كان الأمر في الآخر على خلاف هذا على ما عرفت ذلك فاعرف ذلك.
واحترزنا: بمطلق النهي، عن النهي المقترن بقرينة تدل على الفساد، نحو أن يكون دالا على المنع من الشيء لخلل في أركانه، أو في شرائطه.
وعن الذي يكون مقترنًا بقرينة تدل على أنه ليس للفساد، نحو النهي عن الشيء لأمر خارج عنه مجاور له، فإن في هذين النهيين ينبغي أن لا يكون خلاف، أو وإن كان فيه خلاف على ما أشعر به إيراد بعضهم، لكنه غير معتد به إذ يمتنع أن لا يكون له دلالة على الفساد مع دلالته على اختلال ركن من أركانه، أو على اختلال شرط من شرائطه والفساد لازم من لوازمه، وإلا فيمكن أن يكون صحيحًا، وحينئذ يلزم جواز وجود الكل بدون الجزء، وجواز وجود المشروط بدون الشرط، وهو ممتنع.
وإنما قيدنا الخلاف في النهي الذي للتحريم، إذ لا خلاف في النهي الذي
للتنزيه على ما يشعر به كلامهم، وقد صرح بذلك بعض المصنفين
احتج القائلون بالفساد: بالنص، والإجماع، والمعقول.
أما النص فهو: قوله عليه السلام: "من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد عليه". ويروى "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد".
والمنهي عنه ليس من الدين فكان مردودا، والمردود ما ليس بصحيح ولا مقبول، لأنه استعمل فيهما يقال: رد دعاه وعبادته إذا لم يقبل، ويقال: رد كلام الخصم إذا أبطله، ومنه تسمى الكتب / (193/ب) المصنفة في إبطال الكلام أهل البدع والأهواء كتب الرد، ويقال: كتاب الرد على الفلاسفة، وكتاب الرد على الخوارج، وكتاب الرد على الروافض، فوجب
جعله حقيقة فيهما باعتبار القدر المشترك بينهما دفعا للاشتراك والمجاز، فإذا ورد مجردا عن القرينة وجب حمله عليهما أو على ما ليس بصحيح، لأنه لو لم يحمل عليهما أو عليه.
فإما أن لا يحمل على واحد منهما وهو باطل.
أما أولا: فلأن فيه تعطيل النص وهو ممتنع.
وأما ثانيا: فبالاتفاق.
وأما أن يحمل على ما ليس بمقبول: وهو إما بطريق التعيين، أو بطريق التخيير.
والأول: باطل، لأن الحمل على التعيين على أحد مدلولي اللفظ المتساويين من غير مرجح غير جائز فضلا عن أن يكون الحمل على المرجوح واجبا.
والثاني أيضًا باطل، لأن الحمل على التخيير إنما يجري فيما يتساوي فيه الحمل والحمل على ما ليس بصحيح راجح على ما ليس بمقبول، لأنه مستلزم له من غير عكس فكان فيه زيادة فائدة فكان الحمل عليه واجبا.
وأما الإجماع: فهو أن الصحابة استدلوا بالنهي على الفساد، ولم ينقل عن واحد منهم الإنكار على ذلك، فكان إجماعا.
أما بيان الأول: فنذكر احتجاجهم، فمن ذلك احتجاج ابن عمر [رضي
الله عنه] على فساد نكاح المشركات بقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} .
ومنه أيضًا قوله: "كنا نخابر أربعين سنة حتى روى لنا رافع بن خديج نهيه عليه السلام، عن المخابرة".
ومنه استدلالهم بفساد عقد الربا بقوله عليه السلام: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل".
ومنه محاجة أبي الدرداء مع معاوية وهو مشهور.
ومن استدلالهم على فساد نكاح المتعة بنهيه عليه السلام عنها.
وكذا في العبادات: فإنه لا مأخذ لهم في عدم صحة الصوم في يوم النحر وأيام التشريق، إلا قوله عليه السلام:"ألا لا تصوموا في هذه الأيام"
الحديث، وما يجري مجراه.
وكذا يستدل بقوله عليه السلام: "دعي الصلاة أيام أقرائك". على فساد صلاة الحائض، وأمثال هذه كثير بالجملة.
كما يعلم إجماعهم على أن الأمر للوجوب [باستقراء استدلالهم بالأمر على الوجوب، فكذا يعلم إجماعهم على أن النهي للفساد] باستقراء
استدلالهم بالنهي على الفساد، فمن عول عليه في إثبات أن الأمر للوجوب، [وجب] عليه أن يعول عليه أيضا ها هنا، إذ لا يتخلص بينهما فرق.
وأما المعقول فمن وجوه:
أحدها: أن المنهي عنه قبيح ومحرم وإذ الكلام فيه والمحرم لا يكون مشروعا وما لا يكون مشروعا لا يكون صحيحا، لأن كل صحيح مشروع فالمنهي / (194/أ) عنه لا يكون صحيحا فإذا النهي للفساد.
وثانيها: لو لم يكن النهي للفساد، فحيث حمل بعض النواهي عليه، كما في النهي عن بيع المضامين والملاقيح يجب أن يكون لقرينة منفصلة، لكن الأصل عدمها فهو إذاً للنهي.
وثالثها: أن المنهي عنه، مشتمل على مفسدة خالصة، أو راجحة، لأنه لو لم يكن كذلك لكان إما أن يكون مشتملا على مصلحة خالصة أو راجحة، أو متساوية، أو يكون خاليا عنهما.
وعلى التقديرين الأولين: يكون النهي عنه غير جائز، ضرورة أن النهي عن المصلحة الخالصة غير جائز شرعا وعرفا.
أما الأول: فظاهر.
وأما الثاني: فعلى أصول المعتزلة أيضا ظاهر.
وأما على أصولنا: فهو أنا وإن جوزنا خلو أفعال الله تعالى عن المصالح والحكم، بأنه تعالى لا يجب عليه رعاية المصالح الدينية والدنيوية، لكنا نعتقد أن أحكام الشرع كلها أو أكثرها معللة بالمصالح والحكم.
ولهذا قلنا: بشرعية العمل بالقياس، ولكن غايته أن ذلك ليس على وجه الوجوب، كما يزعم المعتزلة، بل على وجه التفضيل والإحسان، وإذا كان كذلك كان المنهي عن المنهي عنه لابد وأن [يكون] لمصلحة وحكمة، وإن لم يكن ذلك واجبا، وما يكون مشتملا على المصلحة الخالصة لم يكن النهي عنه مصلحة وحكمة بل هو مفسدة، فلا يجوز نظرا إلى ما أجرى الله تعالى عادته من رعاية المصالح في الأحكام الشرعية.
وعلى التقديرين الأخيرين: يكون النهي عنه عبثا، لأنه لا فائدة في إيجاب تركه، كما لا فائدة في إيجاب فعله فيكون عبثا، والعبث على الله تعالى بهذا الاعتبار أيضا محال وفاقا.
أما عندهم فظاهر.
وأما عندنا فنظرا إلى ما أجرى الله تعالى عادته به من رعاية المصالح في الأحكام الشرعية.
فثبت بهذا أن المنهي عنه مشتمل على المفسدة الخالصة، [فوجب أن لا يكون صحيحا لوجهين:
أحدهما: أن القول بالصحة أفضى إلى لا حصولها، واحتمال حصول تلك المفسدة الخالصة] مرجوح بالنسبة إلى احتمال لا حصول لها في نظر الشرع لما سبق، والأفضى إلى المرجوح مرجوح، والأفضى إلى الراجح راجح.
فالقول: بالصحة مرجوح بالنسبة إلى القول: بالفساد، ولا نعني يكون النهي للفساد سوى هذا.
وثانيهما: القياس على جميع المناهي الفاسدة، والجامع أن القول: بالفساد ينبغي في إعدام تلك المفسدة الخالصة بالكلية.
ورابعها: أن النهي مقابل للأمر، والأمر يقتضي الإجزاء وفاقا، على ما تقدم بيانه، فالنهي يقتضي الفساد ضرورة / (194/ب) أن أحد المتقابلين يقتضي حكما مقابلا لحكم المقابل الآخر.
وخامسها: أن فعل المنهي عنه معصية، إذ الكلام في النهي الذي للتحريم، وحصول الثواب والتقرب إلى الله تعالى والملك وصحة التصرف كلها نعمة، والمعصية تناسب المنع من النعمة وقد اقترن بها الحكم في جميع المناهي الفاسدة، والمناسبة مع الاقتران دليل باتفاق القائسين، والقول يكون النهي للفساد إعمال لها، والقول بالصحة ترك "لها" فيكون باطلا، لأن القول بترك الدليل باطل.
وسادسها: وهو خاص في العبادات، أن العبادة إنما تكون صحيحة إذا كانت موافقة للأمر، أو مسقطة للقضاء، على ما سبق من الاختلاف، وذلك إنما يكون بامتثال الأمر المستدعى لاستحقاق الثواب، والمنهي عنه معصية
وفعله غير موجب له بل سبب لاستحقاق العقاب، فلو كان فعل المنهي عنه سببا لسقوط التعبد أو القضاء عنه لزم أن يكون الفعل الواحد طاعة ومعصية معا وهو محال.
اعترض النفاة: على أدلة المثبتين.
أما النص: فاعترضوا عليه من وجوه:
أحدها: أنا لا نسلم أن المنهي عنه من حيث أنه سبب لإفادة أحكامه ليس من الدين حتى يكون مردودا، نعم: هو ليس من الدين بمعني أنه يسوغ فعله وتجوز مباشرته، ولا يلزم من كونه ليس من الدين بهذا الاعتبار كونه ليس منه بالاعتبار المتقدم، فإن الشارع لو صرح بهذا فقال: حرمت عليك مباشرة العقد الفلاني، وأنك لو باشرته فإنك معاقب من جهتي، ولكن يحصل لك ما يترتب عليه من الآثار، لم يعد مناقضا في كلامه، ولو كان الاعتبار الأول، من لوازم الاعتبار الثاني، لعد مناقضا، فإن إثبات الملزوم ونفي اللازم تناقض وتهافت في الكلام.
وثانيها: أنه أراد به الفاعل، وتقديره: من أدخل في ديننا ما ليس منه فالفاعل "رد" أي مردود، ومعنى كونه مردودا أي غير مثاب ونحن نقول به.
وثالثها: أنا وإن سلمنا: أن المراد منه الفعل، لكن معني قوله: فهو رد،
أي أنه مردود، بمعني أنه غير مقبول، يعني أنه لا يكون مثابا عليه.
ويمكن أن يجاب عنها:
أما عن الأول: فهو أن التقييد خلاف الأصل، وليس في الحديث ولا غيره ما يدل على أن المراد منه: أن من أدخل في الدين ما ليس منه باعتبار فهو رد عليه بذلك الاعتبار.
أما الأول: فظاهر.
وأما الثاني: فبالأصل، بل / (195/أ) الذي دل عليه الحديث بظاهره، أن من أدخل في الدين ما صدق عليه أنه ليس من الدين فهو رد عليه مطلقا، من غير اعتبار بجهة من الجهات، وإنما يكون كذلك أن لو رد عليه بكل الجهات، فإنه لو رد عليه من بعض الجهات لكان الرد متقيدا بتلك الجهة، وأنه خلاف ما دل عليه الحديث بظاهره، وأيضا التقييد ببعض الاعتبارات عبثا دون البعض ترجيح من غير مرجح وبغير عين غير مقيد، لأنه رد إلى جهالة، والقول بأن لا يكون ردا بوجه ما تعطيل للنص فيتعين التعميم، وأيضا لو حمل الحديث على ما ذكرتم من المعني لم يكن فيه فائدة، لأن من المعلوم أن البيع مثلا إذا لم يكن في الدين من حيث إنه سبب لإفادة الملك، فإنه يكون ردا على متعاطيه بهذا الاعتبار قطعا، ولا يتوهم بسبب مباشرة المكلف بما ليس مفيد الشيء في الدين أن يصير مفيدا له حتى يقال: إنه ورد لدفع هذا التوهم، وبتقدير أن يتوهم ذلك كان حمله على ما ذكرنا أولى، لأن حمل النص على مفهوم حقيقي أولى من حمله على ما يدفع التوهم.
وعن الثاني والثالث: ما سبق في الاستدلال.
وأيضا: البيان حينئذ غير محتاج إليه، لأنه إذا علم حرمة الفعل، علم أنه غير مثاب عليه ولا فاعله مثاب، فلا يحتاج إلى بيان مستأنف بخلاف على
ما ذكرنا، فإنه حينئذ يكون واردا على ما يحتاج إليه.
ونخص الثاني: بأن عود الضمير إلى الفعل، أولى من الفاعل. لكونه أقرب المذكورين.
وأما الإجماع: فقد اعترضوا عليه: بأنا لا نسلم أن الصحابة رجعوا في الحكم بالفساد [حيث حكموا به، إلى] مجرد النهي لزم الترك بمقتضي الدليل في تلك الصورة وأنه خلاف الأصل، وأما لو قيل: بأنه لا يقتضي الفساد، كما أنه لا يقتضي الصحة، فلا يلزم هذا المحذور، بل غاية ما يلزم منه إثبات حكم لا يتعرض له النهي لا بالإثبات ولا بالنفي، وذلك غير محذور إذا كان لدليل ......
سلمنا: أن الحكم كان بمجرد النهي، لكن من البعض أو من الكل، والأول: مسلم ولا حجة فيه، والثاني ممنوع.
وأما سكوت الباقين عن الإنكار، فذلك لا يدل على أن الإجماع حاصل على التمسك بالنواهي على الفساد، لما ستعرف ذلك في الإجماع ......
وجوابه من وجهين:
أحدهما: النقض يكون الأمر والنهي للوجوب والتحريم، بناء على هذه
الطريقة، فإن هذا القائل: يتمسك بهذه الطريقة، بل ربما عول عليها في أنهما / (195/ب) للوجوب والحرمة مع أن جميع ما ذكره هاهنا آت فيها والجواب مشترك.
وثانيهما: وهو الوجه التفصيلي: فهو أن يقول: الدليل على أن حكمهم بالفساد إنما كان بمجرد النهي لا لغيره، لأنه لو كان لغيره لكان دليلهم على فساد المخابرة مثلا غير ما رواه رافع كون الدواعي متوفرة على نقل مثله، وحيث لم ينقل ذلك علمنا أنه لم يوجد دليل آخر فيتعين أن يكون هو النهي المذكور، ولأن ظاهر قول ابن عمر رضي الله عنه وعن أبيه - يدل على أن الحكم كان لذلك النهي، فإن ظهور دليل آخر يدل على فساده عند روايته دون ما قبله لاسيما بأربعين سنة في غاية البعد.
وعن الثاني: أن من يقول من المخالفين: إن الإجماع السكوتي إجماع أو حجة فاستدل عليه بطريق الإلزام.
وأما من لم يقل منهم بذلك فإنما يستدل عليه بهذا بعد إقامة الدلالة عليه.
وعلى الوجه الأول من المعقول: أنا لا نسلم أن كل صحيح مشروع "بهذا" بمعني أنه يجوز فعله حتى يلزم من نفي كون المنهي عنه مشروعا
بالمعنى المذكور، نفي كونه صحيحا وهو منقدح.
ولو أجيب عنه: ببعض ما ذكر في الثالث، لكان حاصله راجع إليه.
وعلى الثاني: أن الأصل وإن كان عدم تلك القرينة، لكن يجب المصير إلى تلك القرينة لما سيأتي من الأدلة الدالة على أنه لا يقتضي الفساد.
وجوابه: أن تلك الأدلة بعد تسليم صحة دلالتها، معارضة بالأدلة الأخرى الدالة على أنه للفساد فيبقي الأصل معمولا به على حاله.
وعلى الثالث: بأن الوجه الثاني منه في تقرير الملازمة، لو دل على أن النهي يدل على الفساد فإنما يدل بطريق القياس لا بحسب اللفظ ولا بحسب معناه، وهو خلاف مطلوبكم.
سلمنا: لكنه منقوض بصحة الصلاة في الدار المغصوبة، وبسائر المناهي التي لا تقتضي الفساد من المعاملات.
وجواب الأول: أن اللفظ إذا دل بطريق الالتزام على علة الحكم، كان دالا عليه بطريق المعنى.
وعن الثاني: أن مخالفة الدليل في صورة المعنى لا توجب مخالفته في كل الصور التي لا يوجد ذلك المعنى فيها، ويمكن أن يقدح بأنه يقتضي التعارض، وأنه خلاف الأصل.
وعلى الرابع: بمنع اقتضاء أحد المقابلين الأحكام المقابلة لأحكام المقابل الآخر، وهذا لأنه يجوز اشتراك المتقابلين في لازم واحد / (196/أ).
ولئن سلم: ذلك لكن اللازم من ذلك أن لا يدل النهي على الصحة لا أنه يدل على الفساد، فإن التقابل بالحقيقة بين اقتضاء الصحة ولا اقتضائها.
وأما بين الصحة والفساد، فبالعرض فلا حاجة إلى إثباته لأن إثباته حينئذ إثبات من غير دليل وهو باطل.
وجواب الأول: أن الغالب عدم الاشتراك في الأحكام والاشتراك نادر
والحمل على الغالب أولى.
وجواب الثاني: أن المتقابلين إذا كانا متضادين فإن الأغلب على الظن أن التقابل بين حكميهما تقابل التضاد أيضا اعتبار للمعلول بالعلة، فإن المناسبة بين العلة والمعلول معتبرة في التراجيح، وذلك إنما هو بين الصحة والفساد لا بين اقتضاء الصحة ولا اقتضائها، فإن ذلك تقابل السلب والإيجاب.
وعلى الخامس: بما على الثالث: وبما أنا لا نسلم أن المناسبة مع الاقتران بمجرده دليل، بل مع الاطراد وهو مقصود بدليل عدم الفساد في كثير من المنهيات المحرمة.
والكلام على الأول: ما سبق وعلى الثاني: يعرف في مسألة تخصيص العلة.
وعلى السادس: النقض بصحة الصلاة في الدار المغصوبة، وبالتوضئ بالماء المغصوب، والحج على الجمل المغصوب.
وجوابه: على سبيل الإجمال ما سبق.
وعلى التفصيل: إنا نقول: إن متعلق النهي في هذه الأشياء، أمر خارجي عنها مجاور لها، وذلك المتعلق لم يقع امتثالا، بل هو معصية والمكلف مؤاخذ به والذي وقع امتثالا لم يتعلق به النهي، بخلاف ما إذا لم يعرف إن للنهي متعلقا سوى عين المنهي عنه، فإن القول بصحة وقوعه امتثالا للأمر قول بأن المنهي عنه عين المأمور به، إذ ليس للأمر متعلق سوى العين أيضا.
وهذا الجواب التفصيلي آت فيما نقض به الدليل الثالث: من مناهي المعاملات التي ليست للفساد.
وأما الذين قالوا: النهي لا يقتضي الفساد:
فقد احتجوا عليه: بأنه لو دل على الفساد، فإما أن يدل عليه دلالة لفظية أو معنوية، وهما باطلتان، فالقول بكون النهي دالا على الفساد باطلا.
أما الأول: فلأن تلك الدلالة اللفظية، إما تكون بحسب وضع اللغة، أو بحسب وضع الشرع، والأول باطل.
أما أولا: فلأن المعني من فساد العقد أن لا يترتب عليه ثمراته، وهو حكم
شرعي، ما كان معلوما للعرب قبل الشرع فيستحيل فهم الوضع لذلك نصا وإثباتا.
وأما ثانيا]: فهو أنا وإن سلمنا صحة الوضع / (196/ب) منهم له، لكنهم لم يضعوا له بدليل أنهم قد ينهون عن الطاعات والعقود التي يترتب عليها الأجزاء والثمرات، ويعتقدون أنه نهي حقيقي لكونه دالا على المنع من الفعل منعا جازما.
وأما ثالثا: فلأن البدوى العارف باللغة غير العارف بالأحكام الشرعية، إذا سمع لفظ النهي لم يفهم منه سوى المنع من الفعل ولم يخطر بباله قط الفساد، ولو كان موضوعا] له لما كان كذلك.
والثاني: أيضا باطل: أما أولاً فلأن النقل خلاف الأصل.
وأما ثانيا: فلأنه لو كان موضوعا] للفساد من جهة الشرع، لزم ترك مقتضي اللفظ في الصور التي استعمله فيها، ولم يترتب عليه الفساد فيها، أما لو لم يقل بذلك فحيث استعمله في الصور التي يترتب عليه الفساد، لزم إثبات أمر زائد على ما دل [عليه] اللفظ، ولم يتعرض له اللفظ لا بنفي ولا بإثبات ومعلوم أن هذا أولى.
وأما ثالثا: فلأنه لو كان النهي موضوعا للفساد، من جهة الشرع لوجب أنه إذا صرح بالصحة مع صريح النهي، كما إذا قال مثلا: حرمت عليك إيقاع الطلاق في حالة الحيض لعينه، ولكن إن أوقعت الطلاق فيها نفذ وحصلت البينونة، وكذلك لو قال: حرمت عليك استيلاد جارية الابن لعينه ولكن إن فعلت ملكت، وكذلك لو قال: حرمت عليك بيع الدرهم بدرهمين
لعينه، ولكن لو فعلت حصل لك الملك، ومثله لو قال: حرمت عليك أن تذبح بسكين الغير لعين÷، وأنت مأثوم على ذلك، ولكن لو فعلت حلت لك الذبيحة أن يكون مناقضا، كما لو قال: حرمت عليك أن تذبح بسكين الغير، وإن فعلت لا يترتب عليه شيء من آثار الذبح، ثم تقول: وإن فعلت حل لك الذبح، وبهذا تعرف أيضا أنه لا يدل عليه دلالة معنوية، لأن شرط الدلالة المعنوية اللزوم، ومفهوم الفساد غير لازم لمفهوم التحريم الذي هو مدلول اللفظ، إذ لو كان لازما له لما صح إثباته مع نفيه، لأن إثبات الملزوم مع التصريح بنفي اللازم غير صحيح.
وجوابه: أنا نسلم أنه لا يدل عليه بحسب وضع اللغة، لكن نقول: لم لا يجوز أن يدل عليه دلالة لفظية بحسب وضع الشرع؟
قوله في الوجه الأول: النقل خلاف الأصل.
قلنا: نعم: لكن قد يصار إليه عند قيام الدلالة عليه، وما ذكرنا من الدليل يدل على أنه للفساد، فيجب المصير إليه لئلا يلزم الترك بالدليل، الذي هو أشد مخالفة من مخالفة الأصل.
قوله: جعله حقيقة في الفساد يستلزم ترك مقتضاه في الصور التي لا يفيد الفساد فيها، وأنه محذور.
قلنا: نعم لكن لقيام الدلالة عليه، وهذا كما قلتم: إنه / (197/أ)
للتحريم مع أن استعماله في الصور التي لا تفيده يستلزم ترك مقتضاه، ولو جعل حقيقة في القدر المشترك بينه وبين الكراهة لم يلزم هذا المحذور.
قوله: ثالثا: لوجب أن يكون مناقضا إذا صرح بالصحة معه.
قلنا: لا نسلم أنه لا يعد مناقضا، إذا قال: حرمت عليك الطلاق في حالة الحيض بعينه، ولكن إذا [قال] أوقعته نفذ وحصلت البينونة بالنسبة إلى الوضع الشرعي.
نعم: لا يعد مناقضا إذا قال: حرمت عليك الطلاق في حالة الحيض، ولكن إن أوقعت نفذ لاحتمال أن يكون تحريمه لأمر خارجي نحو تطويل العدة.
فأما إذا قال لعينه: فلا نسلم ذلك.
سلمناه: لكن لا نسلم أن ترك مقتضي اللفظ الظاهري الدلالة بقرينة أو صراحة المتكلم مناقضة غير جائزة على العقلاء، فضلا عن أن يكون الترك في بعض مقتضاه كذلك، وهذا لأن اللافظ العام واللافظ بأسماء العدد مع التخصيص والاستثناء لا يعد مناقضا ومتهافتا في كلامه فكذا هاهنا.
واحتج من قال: بالتفصيل بين العبادات، والمعاملات بهذا. لكن في المعاملات خاصة، ولو نقض بالعبادات.
أجاب بأن المعني من الفساد في العبادات عدم اجزائها، والمعني منه في المعاملات عدم إفادتها لثمراتها، وإذا اختلف المعني لم يتوجه النقد.
وفيه نظر: أما أولا: فلأنا لا نسلم اختلاف المعني، فإن عدم ترتب ثمرة المنهي عنه عليه معنى واحد يشتمل العبادة والمعاملة، إذ سقوط القضاء، أو التعبد من جملة [ثمرات] العبادة، غاية ما في الباب أن ثمرة البيع مثلا: حصول الملك وصحة التصرف، وثمرة العبادة: سقوط التعبد والقضاء.
سلمنا: اختلاف المعني لكن المعني من النقض هنا هو أنه يمكن نصبه بعينه في العبادات بالنسبة إلى عدم الإجزاء، إذ يمكن أن يقال النهي عن العبادة لو دل على عدم إجزائها، فإما أن يدل عليه بلفظة: وهو باطل لما تقدم، أو بمعناه: وهو أيضا باطل، إذ لا استبعاد في أن يقول الشارع: نهيتك عن الصلاة في الأوقات المكروهة لعينها، لكن لو صليت فيها أجزأ عنك، وكذلك لو قال: نهيتك عن صوم يوم النحر لعينه، ولكن لو صمت فيه أجزأ عنك، لأنه غير مقتض للفساد في المعاملات بالمعني الذي يقتضيه في العبادات حتى يستقيم ما ذكره من الجواب.
واحتج على أنه يفيد / (197/ب) الفساد في العبادات، لما تقدم من الوجه السادس الخاص بالعبادة.
فرع:
الذين قالوا: النهي لا يدل على الفساد، اختلفوا: في أنه هل يدل على الصحة أم لا؟
فنقل: أبو زيد عن أبي حنيفة، ومحمد بن الحسن رحمهم الله تعالى أنه يدل على الصحة، ولهذا استدلوا بالنهي الوارد عن صوم يوم النحر، وعن عقد الربا على انعقادهما.
وذهب الباقون: إلى أنه لا يدل عليه أيضا، وهو الحق لوجهين:
أحدهما: أنه لو كان مقتضيا للصحة لزم ترك مقتضاه في قوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم} .
وقوله عليه السلام: "دعي الصلاة أيام أقرائك" وما يجري مجراهما من المناهي، نحو النهي وفي نهيه عن بيع المضامين والملاقيح، إذ لا يدل فيها على الصحة وفاقا، وترك مقتضي الدليل خلاف الأصل سواء كان لدليل أو لا دليل.
وثانهيما: أن الصحة غير مناسب للتحريم بل يضاد مقصوده، فإن مقصود التحريم أن لا يوجد الفعل، والقول بالصحة يضاد هذا المقصود لكونه أفضى إلى الوجود، والواضع حكيم فلم يجمع بينهما، والاستقراء يحققه فلم يدل عليه لا بلفظه ولا بمعناه، لأن شرط الدلالة المعنوية اللزوم إما قطعا أو ظاهرا، والتحريم لا يستلزم الصحة لا قطعا ولا ظاهرا وهو ظاهرن فلم يدل بمعناه أيضا فانتفت الدلالة من جهة اللفظ ومن الظاهر انتقاد دلالة القياس، والأصل عدم ما سوى ذلك.
احتج القائلون بأنه يدل على الصحة: بأن النهي من غير المقدور قبيح وعبث، بدليل أنه يقبح أن يقال للأعمى: لا تبصر، والمزمن: لا تمش، وإنما كان قبيحا وعبثا، لكونه غير متصور منه، فيكون النهي عن غير المتصور قبيحا وعبثا، وهو غير جائز على الحكيم.
وهو ضعيف.
أما أولا: فلأنه مبني على استحالة التكليف بما لا يطاق.
وأما ثانيا: فلأنه منقوض بالمناهي المحمولة على الفساد.
ولو قال: إن ذلك مستفاد من دليل آخر فقد عرفت جوابه غير مرة.
وأما ثالثا: فلأنه إنما يدل على الصحة، لو كان اللفظ محمولا على الموضوع الشرعي وإلا فبتقدير أن يكون محمولا على الموضع اللغوي، فلا، لأنه ممكن الوجود بعد النهي، والخصم ربما يمنع الوضع الشرعي، وبتقدير تسليمه لكن لا نسلم أنه يجب الحمل عليه في جانب النهي، فإن الذي قدمناه أنه يجب حمل لفظ الشارع على المعني الشرعي، فإنما هو في جانب الأمر لا في جانب النهي.
سلمناه / (198/أ): لكن إنما يلزم ذلك لو لم يكن النهي محمولا على النسخ، أما إذا كان محمولا عليه كما في قول الموكل لوكيله:"لا تبع هذا" فإنه وإن كان نهيا في الصيغة، لكنه نسخ في الحقيقة فلا، فلم قلتم: إن النهي ليس محمولا عليه؟ حتى يلزم ما ذكرتم؟
فإن قلت: الحمل عليه خلاف الأصل.
قلت: لا نسلم أنه خلاف الأصل، وهذا لأن النهي عندنا لا يدل إلا على مطلق تحريم الفعل، وهو أعم من أن يكون تحريما بطريق النسخ أو بدونه، وحمل المتواطئ على بعض جزئياته ليس خلاف الأصل، لأن المتواطئ عند