الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية
في حد الأمر بمعني القول
اعلم أن أصحابنا ذكروا له حدودًا، والمعتزلة ذكروا له حدودًا، ونحن نذكر بعض ما ذكره الفريقان، ثم نبين ما هو المختار.
فالأول: ما ذكره القاضي أبو بكر رحمه الله: الأمر هو: القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به.
وزيف بوجهين:
أحدهما: أن المأمور والمأمور به مشتقان من الأمر، فيتوقف / (124/أ) معرفتهما على معرفة الأمر، لاستحالة معرفة المشتق من حيث إنه مشتق بدون المشتق منه، فلو عرفنا الأمر بهما لزم الدور وأنه ممتنع.
وثانيهما: أن الطاعة يتوقف معرفتها على معرفة الأمر، لكونها عبارة عن موافقة الأمر عند أصحابنا فتعريف الأمر بها دور.
اعلم أن الإشكال الأول: لازم لا محيص عنه، اللهم إلا أن يكون مراده تعريف الأمر الاصطلاحي، دون الأمر اللغوي، ويريد بالمأمور والمأمور به: ما هو معناهما في اللغة.
فعلى هذا التقدير لا يلزم الدور، لأنه حينئذ لا يتوقف معرفتها إلا على معرفة الأمر اللغوي لا على معرفة الأمر الاصطلاحي لكنه باطل، إذ ليس للأمر بحسب الاصطلاح معني وبحسب اللغة معني آخر.
أو يكون مراده منه أن يعرف أن الأمر وإن كان عنده عبارة عن المعني القائم بالنفس لكونه قسمًا من أقسام الكلام الذي هو عبارة عن المعني القائم بالنفس عنده، لكنه في أصول الفقه عبارة عن القول المخصوص عنده أيضًا، كما هو عبارة عنه عند الخصم.
فعلى هذا لا يكون الغرض من التحديد تعريف ماهية الأمر بل تمييز الأمر بمعني اللفظ عن الأمر بمعني الاستدعاء النفساني وتمييزه عما قاله الخصم بأنه عبارة عن الإرادة، فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في تقريره.
وأما الثاني: ففيه نظر: فإن الطاعة اللغوية التي هي بمعني الانقياد لا
يتوقف معرفتها على معرفة الأمر، فلا يكون تعريف الأمر بها دورًا نعم لو فسر بالطاعة الاصطلاحية لزم ما ذكر من الدور.
ثم الذي يدل على أن الطاعة بمعني موافقة الأمر، إنما هو بحسب الاصطلاح لا بحسب اللغة، وجهان:
أحدهما: أنه مختلف فيه بين المتكلمين حسب اختلافهم في مسألة خلق الأعمال وإرادة الكائنات دون أئمة اللغة فإنها عندنا: عبارة عما ذكرنا.
وعند المعتزلة: عبارة عن موافقة الإرادة، ولو كان ذلك معناها اللغوي لم يكن اختلافه مبنيًا على مسألة كلامية ولكان الاختلاف فيه أجدر بأئمة اللغة
وثانيهما: أن الطاعة استعملت حيث لا أمر، كما في قوله عليه السلام "إن أطعت الله أطاعك" ولا أمر للعبد بالنسبة إليه تعالى، ويقال أيضًا في العرف العام: فلان مطيع لفلان ومسخر له، وإن كان أعلى رتبة منه ولم يكن من جهة المطاع صيغة أمر فضلاً عن أن يكون أمره على جهة الاستعلاء، والأصل في الكلام الحقيقة ومعلوم أن ذلك ليس بحسب الاصطلاح فيتعين / (124/ب) أن يكون بحسب اللغة.
وقال بعضهم: الأمر طلب الفعل على وجه يعد فاعله مطيعًا.
وهو باطل أيضًا، لأن المطيع المذكور في التعريف، إن كان مأخوذًا من الطاعة الاصطلاحية لزم الدور، كما سبق ذكره، وإن كان مأخوذًا من الطاعة اللغوية، لزم أن لا يكون مانعًا.
وهذا لأن القائل: إذا قال لغيره: أطلب منك الفعل الفلاني، فإنه يعد فاعله مطيعًا بالمعنى اللغوي مع أنه ليس بأمر، ولو أورد ما أورد على الحد الأول: على هذا النمط كان أوجه منه.
وأيضًا: فإنه يقتضي دخول الإشارة الدالة على طلب الفعل تحته، كما لو أشار إلى السقي مثلاً فإنه يعد فاعله مطيعًا.
وقال الآخر: الأمر طلب الفعل على وجه الاستعلاء.
وهو أيضًا غير مانع، لأنه يندرج تحته ما ذكرنا من الإشارة، إذا كانت الإشارة على جهة الاستعلاء وهو غير مستقيم أيضًا على القول بالكلام النفساني لأن الإشارة وما يجري مجراها نحو الإيماء ليست بكلام على المذهبين وهو يتناولها.
وأما المعتزلة فقد قال كثير منهم: هو قول القائل لمن دونه افعل، أو ما يقوم مقامه، أي في الدلالة على طلب الفعل لا في "كل" الأمور.
وقالوا: إنما قلنا: لمن دونه ليخرج عنه المساوي والأعلى رتبة منه، فإنه لا يسمي أمرًا بل التماسًا ودعاء.
وإنما قلنا: أو ما يقوم مقامه، ليتناول الأمر بكل لغة، فإن الأمر غير مختص بلغة العرب إذ الفارسي إذا أمر بلسانه فإن العربي يسميه أمرًا.
واعترض عليه بوجوه:
أحدها: أن هذه الصيغة قد ترد للتهديد والإباحة والتأديب [مع] غيرها من المحامل، مع أنه ليس بأمر في كلها بالاتفاق، وهو غير وارد على ما ذكرناه، فإن ما ذكرناه صريح في أن مرادهم من افعل، افعل الذي هو لطلب الفعل.
ولا يرد عليه: التهديد والإباحة، وما ليس فيه طلب.
نعم: يرد عليه الذي هو الندب، لكنهم قد يلتزمون أن ذلك أمر [وإنما هو] وارد على من أورده مطلقًا، ولم يقيد قوله: أو ما يقوم مقامه. بالدلالة على طلب الفعل، بل بالدلالة على إفادة معناه، سواء كان للطلب أو لغيره، فحينئذ يكون واردًا عليه.
أجاب البلخي منهم عنه: بأن قال: لا نسلم أن تلك الصيغة [بعينها واردة في التهديد والإباحة وغيرهما من المحامل التي ليست حقيقة فيها، بل الصيغة
الواردة فيها غير الواردة في الأمر، فإن الصيغة] الواردة في الأمر لا يتصور أن تكون لغير الأمر، لأنها لذاتها أمر.
ولا يخفى على ذي لب أن هذا مكابرة محضة.
وثانيها: أن هذه الصيغة أو ما يقوم مقامها، لو صدرت عن نائم أو ساهٍ أو على سبيل انطلاق اللسان، أو قصد به التعبير عن الخبر على وجه التجوز وعنده من هو دونه، لوجب أن يكون أمرًا لوجوب / (125/أ) طرد الحد، لكنها ليست أمرًا بالاتفاق، فهو إذًا غير مانع.
وأجيب عنه: بأنا نمنع أن قول القائل: لمن دونه، إذ المعني منه أن يكون مختصًا بالخطاب إذ اللام تشعر بالاختصاص وهو إنما يكون بالقصد.
نعم: لا يصلح هذا المنع جوابًا عن صورة التجوز، فإن القصد موجود فيها. فالجواب عنه إنما يخرج بما ذكرناه من القيد، وإن لم يعتبر ذلك فلا إشكال لازم.
وثالثها: أن الحاكي لأمر الغير لمن هو دونه، يجب أن يكون أمرًا لصدور الأمر منه، ولا معنى للآمر إلا من صدر منه الأمر، لكنه باطل، فإن الرسول المبلغ لأمر الغير ليس بآمر إجماعًا.
ورابعها: أنه غير جامع ولا مانع فيكون باطلاً.
أما الأول: فلأن الشخص إذا قال لغيره: وهو يساويه في الرتبة، أو هو
أعلى رتبة منه افعل على جهة الاستعلاء، فإنه يقال له: آمر ويسمى قوله: أمرًا، بدليل أنه يوصف بالجهل والحمق بأمره لمن هو أعلى رتبة منه، فلولا أنه آمر وإلا لما صح ذلك.
وإذا ثبت أن هذا الأمر - ومعلوم أن حده غير متناول له - ثبت أنه غير جامع.
وأما الثاني: فلأن قول: الأعلى للأدنى: افعل على وجه الشفاعة أو السؤال ليس بأمر، بدليل أنه يصح أن يقال: إنه ما أمر، ولكنه سأل وشفع ولهذا، قال عليه السلام لبريرة لما قالت له: أتأمرني بذلك؟ قال: "لا وإنما أنا شافع" لما أن ذلك القول: لم يكن على جهة الاستعلاء، فثبت
بهذا أنه ليس بأمر، ولا شك أن الحد متناول له، فيكون غير مانع.
وقال بعضهم: فرارا عن بعض هذه الاعتراضات. الأمر: هو صيغة "افعل" على تجردها من القرائن الصارفة لها عن جهة الأمر إلى التهديد وغيره من المحامل.
وهذا وإن كان يسقط عنه بعض ما تقدم من الاعتراضات المتوجهة على الأول: لكن يخصه أنه تعريف للشيء بنفسه، وهذا لأنه لا يعرف تجردها عن القرائن الصارفة لها عن جهة الأمر إلا بعد معرفة الأمر فتعريف الأمر به تعريف للشيء نفسه وهو محال.
وأيضًا ليس جعلها للأمر عند عدم القرائن الصارفة لها عن جهته أولى من جعلها للتهديد أو لغيره من المحامل، عند عدم القرائن الصارفة لها عنه.
ولو اقتصر على قوله: هو صيغة "افعل" المجرد عن القرائن لا غير، زعمًا منه أنها فيما ليس بأمر ليست مجردة عن القرائن، لزم أن لا تكون
الصيغة أمرًا عندما يقترن بها قرائن الوجوب ضرورة عدم تجردها من القرائن لكنه باطل، لأنه ليس من شرط الحقيقة اشتراط عدم القرينة معها، بل من شرطها عدم اشتراط كون القرينة معها.
وقال الآخرون منهم: الأمر صيغة "افعل" بشرط / (125/ب) إرادات ثلاثة:
أحدها: إرادة أحداث الصيغة، احترازًا عن النائم وعن الذي انطلق لسانه به.
وثانيها: إرادة الدلالة بها على الأمر، احترازًا عن التهديد والتسخير وغيرهما من المحامل.
وثالثها: إرادة الامتثال، احترازًا عن الرسول الحاكي لأمر الغير، فإنه وإن أراد إحداث الصيغة والدلالة بها على الأمر.
لكن قد لا يريد بها الامتثال، وهو أيضًا باطل:
أما أولاً: فلأن قوله: وإرادة الدلالة بها على الأمر تتوقف معرفته على معرفة الأمر فتعريف الأمر به تعريف للشيء بنفسه.
وأما ثانيًا: فلأن قوله: وإرادة الدلالة بها على الأمر يقتضي أن يكون الأمر مدلول الصيغة، وحينئذ يمنع أن يكون الأمر هو الصيغة، وقد قال: الأمر هو الصيغة فهو متناقض.
وإذ قد عرفت ضعف ما ذكره من الحدود فلنذكر ما هو الصحيح منها.
فنقول: الأمر هو اللفظ الدال على طلب الفعل بالوضع على وجه الاستعلاء.
فاللفظ: كالجنس.
واحترزنا بقولنا: الدال على طلب الفعل، عن المهمل والخبر وما يشبهه مما ليس فيه طلب، وعن النهي والاستفهام وما يشبههما مما فيه طلب الفعل.
"واحترزنا بقولنا بالوضع: عن قول القائل: أطلب منك الفعل، إذا قاله على وجه الاستعلاء، فإنه وإن دل على طلب الفعل على وجه الاستعلاء لكنه ليس بأمر لأن دلالته على الطلب ليست بالوضع بل بالالتزام فإنه بواسطة أنه خبر عن طلب الفعل يدل على طلب الفعل".
وقولنا بالوضع: لإخراج القول المذكور، خير من قولنا بطريق الإنشاء، فإنه وإن أخرج القول المذكور عن حد الأمر ضرورة أنه يدل على طلب الفعل بواسطة كونه خبرًا لكن لو استعمل بطريق الإنشاء كم في صيغ العقود يلزم أن يكون أمرًا لدخوله تحت الحد. وفيه نظر.
واحترزنا بقولنا على وجه الاستعلاء: عن السؤال والالتماس.
فإن قلت: قد فسرت جميع أجزاء الحد غير الطلب، فما المراد به؟ فإن أردت به إرادة الفعل المأمور به من المأمور، أو إرادة عقابه على تقدير الترك، فهذا معلوم لكنه غير مستقيم على رأيكم، وإن أردتم به غيره فسره
حتى لا يقع التعريف بالمجهول.
قلت: تصور ماهية الطلب، حاصل لكل العقلاء بل للصبيان والمجانين لأنه من الأمور الوجدانية كالجوع والشبع، فإن كل واحد منهم يجد من نفسه حالة مخصوصة عند استدعاء الفعل وتلك الحالة هي المسمي بالطلب.
فإن قلت: لا نزاع في وجدان تلك الحالة، لكن نقول: لم لا يجوز أن تكون تلك الحالة هي إرادة الفعل / (126/أ) المأمور به؟.
فعلى هذا يكون الأمر عين الإرادة، كما هو مذهب المعتزلة.
قلت: هذا باطل ويدل عليه وجوه:
أحدها: أن الأمر بطلب الفعل قد يجتمع مع كراهته، وإرادته تستحيل أن تجتمع معه كراهته. فالأمر غير الإرادة وغير مشروط بها أيضًا.
بيان الأولى: أن السيد المعاتب من جهة السلطان على ضرب عبده، إذا اعتذر إليه عنه بتمرد العبد عن امتثال أوامره، وكذبه السلطان في ذلك فأراد إظهار صدقه بالتجربة، فإنه إذا أمره بشيء عند السلطان، فإنه لا يريد ذلك الفعل قطعًا، لاستحالة أن لا يريد تمهيد عذره حالة كونه مريدًا له، فإنه ما أمره إلا لتمهيد عذره، وفي إرادة فعله عدم إرادة فعله عدم إرادة تمهيد عذره فيستحيل إرادته، ولأن العاقل يستحيل أن يريد ما فيه مضرته من غير ضرورة تلجئه إليه.
وأما بيان المقدمة الثانية: فظاهر لكون الكراهة والإرادة ضدين فستحيل اجتماعهما في شيء واحد. وأما لزوم النتيجة عنهما فظاهر غني عن البيان.
اعترض على وجهين:
أحدهما: إنا لا نسلم أنه وجد الأمر فيما ذكرتم من الصور، وإن كانت صورته صورة الأمر، وهي لا توجب أن يكون أمرًا حقيقيًا، كما في التهديد والإنذار.
وأجيب عنه: بأن تمهيد العذر إنما يحصل بالأمر لا بغيره فدل على أنه أمر.
وثانيهما: أنه لازم على المستدل أيضًا. فإنه وإن أنكر كون الأمر عبارة عن
إرادة الفعل المأمور به "وإرادة" أعقاب المأمور عند تركه، لكنه اعترف بأنه عبارة عن الطلب على ما ذكر ذلك في تعريفه فيقال له: إنه وجد الأمر فيما ذكرت من الصورة مع استحالة الطلب لاستحالة أن يطلب العاقل ما فيه مضرته من غير ضرورة تلجئه إليه.
وهو ضعيف، لأنا لا نسلم أنه يستحيل من العاقل أن يطلب ما فيه مضرته، إذا لم يكن مريدًا له، وهذا لأن طلب المضرة لا تنافي غرضه بل قد توافقه، كما ذكرنا من الصورة، وإنما المنافي لغرضه هو وقوع المضرة وهو لا يوجبه.
فالحاصل أن طلب المضرة من حيث إنه طلب لا ينافي غرض العاقل لا بالذات ولا بالعرض، بخلاف الإرادة فإنها وإن لم تنافيه بالذات، لكن تنافيه بالغرض لكونها توجب وقوع المضرة، ضرورة أن الإرادة صفة تقتضي وقوع المراد، نعم: الطلب والإرادة في الأكثر يتلازمان فنظن أنه يستحيل أن يجتمع مع الكراهة، كما يستحيل أن تجتمع الإرادة معها.
وثانيها: أن الرجل قد يقول لغيره / (126/ب): إني أريد منك الفعل الفلاني ولا آمرك به لمصلحة ولا أريده منك، ولو كان الأمر عبارة عن الإرادة، أو كان مشروطًا بها لما صح ذلك.
وثالثها: أن الأمة أجمعت بأسرها من غير مخالفة من الخصوم على أن الله تعالى أمر الكافر الذي علم أنه يموت على الكفر بالإيمان كأبي جهل، وأبي لهب، وصدور الإيمان من هذا الكافر غير مراد لله تعالى.
أما أولاً: فلأنه محال والمحال غير مراد بالاتفاق، أما أنه محال فلأنه لو لم يكن محالاً لكان إما ممكنًا أو واجبًا، ومعلوم أنه ليس بواجب فيكون ممكنًا والممكن لا يلزم من فرض وقوعه محال فلنفرض واقعًا فعند ذلك يلزم أن ينقلب علم الله تعالى جهلاً، وهو محال لوجهين:
أحدهما: أن انقلاب ماهية إلى ماهية أخرى محال.
وثانيهما: أن الجهل على الله تعالى محال، ومستلزم المحال محال، فيكون الممكن محالاً، هذا خلف فلا يكون ممكنًا فيكون محالاً.
وأما ثانيًا: فلأنه لو كان مرادًا لكان معناه أنه مخصص حدوثه بوقت دون وقت، وبوجه دون وجه، إذ لا معنى للمراد إلا أنه تعلق به الإرادة ولا معنى لتعلق الإرادة بالشيء إلا ذلك، لكن فيما لا يوجد غير متصور فلا يكون الإيمان منه مرادًا وقد ثبت وجود الأمر به فلا يكون "الأمر عبارة عن الإرادة ولا مشروطًا بها.
فإن قلت: ما المراد من قولك: أجمعت الأمة على أنه تعالى أمر الكافر بالإيمان، إن أردت أنه أنزل آية دالة على أنه تعالى مريد العقاب في الآخرة لو لم يؤمن فهذا مسلم وهو غير ما ذهبنا إليه فإن ذكرنا أن" الأمر عبارة عن إرادة فعل المأمور به أو عن إرادة عقاب المأمور بتقدير الترك، وإن أردت به غيره فبينه لننظر هل انعقد الإجماع عليه أم لا؟
فإن التصديق نوع التصور.
سلمنا: أنه أمر الكافر بالإيمان بغير هذا المعني، لكن لا نسلم أنه ما أراد الإيمان منه.
قوله في الوجه الأول: صدور الإيمان منه محال.
قلنا: لا نسلم أنه محال. لقوله: [لو] لم يكن محالاً لكان ممكنًا والممكن لا يلزم من فرض وقوعه محال.
قلنا: نعم لكن نظرًا إلى الذات لا مطلقًا وها هنا كذلك، فإنا لو قطعنا النظر عن تعلق العلم به لم يلزم من فرض وقوعه محال، إن ادعيتم ذلك مطلقًا فهو ممنوع، وهذا وإن فرض وقوع الممكن لا عن مؤثر أو بدون
شرطه محال لكن لما كانت محالته وامتناعه من خارج لم يقدح ذلك في إمكانه في نفسه وأيضًا لما / (127/أ) كان ممتنعًا بالغير يجب أن يكون ممكنًا في نفسه، لأن الممتنع بالغير ممكن في نفسه كالواجب بالغير وإلا لكان ممتنعًا لذاته هذا خلف، وإذا كان ممكنًا في نفسه لم يلزم من فرض وقوعه محال نظرًا إلى نفسه فلا يكون محالاً في نفسه.
سلمنا: أن الممكن لا يلزم من فرض وقوعه محال مطلقًا، لكن لا نسلم أنه يلزم من فرض وقوعه محال.
قوله: لأنه يلزم أن ينقلب علم الله تعالى جهلاً.
قلنا: لا نسلم ذلك، وهذا لأن العلم والمعلوم متلازمان، فإذا فرض الإيمان حاصلاً بدلاً عن الكفر علمنا أن الحاصل في الأول هو العلم بالإيمان دون الكفر، فإذا فرض حصول الكفر علمنا أن الحاصل في الأول هو العلم بالكفر دون الإيمان، وإذا كان كذلك لم يلزم ما ذكرتم من الاقلاب.
سلمنا: ذلك لكن لا نسلم أن المحال غير مراد، وهذا لأن الطلب عندنا من جنس الإرادة، فإذا جوزتم طلب المحال مع العلم به، فلم لا يجوز إرادة المحال مع العلم به؟
سلمنا: أن المحال غير مراد، لكن مطلقًا أم المحال لذاته.
الأول: ممنوع.
والثاني: مسلم.
فلم قلت: إن المحال لغيره لا يجوز أن يكون مرادًا؟
قلت: الجواب عن الأول: أنه لا يجوز أن يكون المراد من كون الله تعالى أمر الكافر بالإيمان أنه أخبر بأنه مريد لعقابه عندما لا يؤمن. لوجهين:
أحدهما: أنه لو كان كذلك لكان الأمر قسمًا من أقسام الخبر لا قسمًا له، وهو خلاف إجماعهم، فإنهم بأسرهم قسموا الكلام إلى الأمر والخبر وغيرهما من الأقسام، ولو كان الأمر قسمًا من الخبر لما صح هذا التقسيم، إذ قسم الشيء لا يجوز أن يكون قسيمًا له.
وثانيهما: أنه لو كان كذلك لتطرق إليه التصديق والتكذيب ضرورة أنه من لوازم الخبر لكنه باطل وفاقًا، فلا يكون خبرًا عن إرادة العقاب.
فإن قلت: لم لا يجوز أن يقال: تطرق التصديق والتكذيب إلى الخبر مشروطًا ببقاء صيغة الخبر والشيء قد ينتفي بانتفاء شرطه؟
قلت: هذا باطل بما أعلم بالضرورة أنه لو وضعوا صيغة الأمر أو النهي ابتداء للخبر لتطرق إليه التصديق والتكذيب، وكذلك لو نقلوها إلى صيغة أخرى أو إليها مع بقائها، ولأن تطرق التصديق والتكذيب إلى الخبر غير مختص باللغة العربية حتى يقال: إن بقاء صيغته شرط لذلك.
وقد أجيب عنه: بجواب آخر، وهو أنه لو كان إخبارًا عن إرادة عقاب تاركه لامتنع سقوطه لكنه غير ممتنع إجماعًا، أما عندنا فبالعفو والتوبة، وأما / (127/ب) عندهم فبالتوبة خاصة في الكبائر.
وهو ضعيف، لجواز أن يكون إخبارًا مقيدًا بانتفاء المسقط، كما هو في عمومات الوعيد، وإذا بطل أن يكون المراد من كون الله تعالى أمر الكافر
بالإيمان أنه أراد عقابه على تقدير الترك، تعين أن يكون المراد منه أنه طلب منه الإيمان لا بمعني أنه أراد أو بشرطها لما تقدم أنه غير مراد لئلا يلزم قول آخر خلاف الإجماع.
وعن الثاني: أن الممكن المطلق هو الذي لا يلزم من فرض وقوعه محال بوجه من الوجوه، فأما الذي لا يلزم من فرض وقوعه محال نظرًا إلى نفسه دون الأمر الخارجي فليس ذلك بممكن على الإطلاق، وهذا لأن الإمكان والامتناع أمران متنافيان فلابد في اعتبار تنافيهما اتحاد الجهة، فإذا كان الشيء محالاً باعتبار يستحيل أن يكون ممكنًا بذلك الاعتبار، والممكن المطلق هو الذي يكون كذلك بجميع الاعتبارات، ونحن لا ندعى أن الإيمان من الكافر الذي شأنه ما ذكرناه محال في نفسه حتى يكون ممكنًا في نفسه منافيًا لما ذكرنا، بل ما ادعينا إلا أنه محال وهو أعم من كونه كذلك في نفسه أو بغيره، وقد ثبت ذلك بما ذكرناه وما ذكرتموه يدل على أنه ممكن في نفسه فلا يكون منافيًا لما ذكرناه.
وعن الثالث: أنا نسلم أن العلم والمعلوم متلازمان، وأن الحال غير مكشوف لنا في أن العلم الأزلي بماذا تعلق من الأمرين في الأزل وأنه متى وجد الإيمان علمنا أن الحاصل في الأزل هو العلم بالإيمان دون الكفر، وكذلك بالعكس، لكن لما مات الكافر على كفره علمنا قطعًا أن العلم الأزلي كان متعلقًا بكفره إلى زمن موته، وإلا لزم ألا يكون الله تعالى عالمًا بما سيقع منه أو يكون عالمًا بحصول الإيمان منه، وهما على الله تعالى محال، فتعين أنه تعالى كان عالمًا بكفره فلو حصل الإيمان من هذا الكافر، لزم أن ينقلب علم الله تعالى جهلاً وهو محال.
وعن الرابع: أن إرادة المحال ممتنعة بالإجماع، [لكن] من جعل الطلب من جنس الإرادة، قال: إن طلب المحال وإرادته كلاهما محالان، ومن جعل الطلب جنسًا مغايرًا للإرادة جوز طلب المحال دون إرادته باستحالة إرادة المحال متفق عليه.
وعن الخامس: أنه لم يفرق أحد من الأمة بينهما في ذلك وأيضًا فإنه لا معني لكون الشيء مراد الوجود إلا أنه مخصص / (128/أ) بالوجود دون العدم، وبالحدوث بوقت دون وقت وبوجه دون وجه، لأن الإرادة صفة شأنها ترجيح أحد طرفي الجائز على الآخر فإذا تعلقت بجانب الوجود كان معناه ما ذكرناه، وهو في المحال محال سواء كان لذاته أو لغيره.
واستدل على المسألة بوجه آخر، وهو أنه سيظهر جواز نسخ الشيء قبل حصول وقت العمل به في بابه إن شاء الله تعالى، وهو يدل على أن الأمر غير الإرادة، وذلك لأنه لو كان الأمر والنهي عبارتين عن الإرادة والكراهة لزم أن يكون الله تعالى مريدًا وكارهًا للفعل الواحد في الوقت الواحد من الوجه الواحد، وهو باطل بالاتفاق.
وهو ضعيف، لأنا نمنع تعلقهما بالفعل من الوجه الواحد، وهذا لأنه سيظهر في باب النسخ إن شاء الله تعالى إنا إنما نجوز ذلك لجواز كون الأمر بالفعل منشأ للمصلحة، والفعل نفسه منشأ للمفسدة وإذا كان كذلك فلم يكن تعلقهما بالفعل بوجه واحد، بل الأمر إنما تعلق به اعتبار المصلحة الناشئة من
تعلقه به، والنهي إنما تعلق به باعتبار كونه مفسدة فلم يكن جهة تعلقهما واحد.
واحتج المخالف بوجوه:
أحدها: أنه قد ثبت في باب اللغات، أن اللفظ المشهور المتداول لا يجوز أن يكون موضوعًا للمعني الخفي الذي لا يعرفه إلا الخواص، ولفظ الأمر لفظ مشهور متداول بين العوام والخواص، والطلب الذي يثبتونه معايرًا للإرادة لو ثبت القول به لا يعرفه إلا الخواص، ولهذا انفردتم بإثباته أنتم يا جماهير الأشاعرة فلا يجوز أن يكون الأمر موضوعًا له.
وثانيها: أنه لو كان الطلب الذي هو مدلول الأمر مغايرًا للإرادة لجاز الأمر بالمحال ضرورة أنه حينئذ يكون قدرًا مشتركًا بين المطلوب الذي هو مراد وبين المطلوب الذي هو غير مراد، لكنه غير جائز لما سيأتي.
وثالثها: أن إرادة المأمور به لو لم تكن معتبرة في الأمر، لصح الأمر
بالماضي قياسًا على الخبر، والجامع عدم اعتبار الإرادة فيهما.
الجواب عن الأول: إنا لا نسلم أن الطلب الذي هو مغاير للإرادة لا يعرفه إلا الخواص، فإن الذي لم يمارس العلوم والبراهين قد يأمر بما لا يريد كما تقدم من أمر السيد عبده عند السلطان لتمهيد عذره.
وعن الثاني: أنه جائز لما سيأتي.
وعن الثالث: منع كون الجامع علة لعدم مناسبته وبتقدير تحققها نمنع انتفاء اللازم بناء على جواز تكليف ما لا يطاق.
تنبيه: اعلم أنه لا اختصاص للأمر باللفظ العربي، بدليل أنه لو حلف / (128/ب) أن لا يأمر بأمر غير العربي، فإنه يحنث في يمينه ولذلك لم يقيد اللفظ في التحديد بكونه عربيًا، بل أطلقنا ليتناول العربي وغيره.