الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الشهيد
قوله: (والشافعي رحمه الله يخالفنا في الصلاة ويقول: السيف محاء للذنوب فأغنى عن الشفاعة، ونحن نقول: الصلاة على الميت لإظهار كرامته، والشهيد أولى بها. والطاهر عن الذنوب لا يستغني عن الدعاء كالنبي عليه الصلاة والسلام والصبي).
لم ينصف المصنف الشافعي في الاستدلال في هذه المسألة، فإنه استدل له بهذا الدليل الضعيف ثم رده، والشافعي لم يعتمد على هذا ولكنه اعتمد على حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما:"أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم" رواه البخاري والنسائي وابن ماجه والترمذي وصححه.
وعضده بحديث أنس رضي الله عنه "أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم" رواه أحمد وأبو داود والترمذي، ولم يرد في إثبات الصلاة عليهم ما يقاوم حديث جابر، فإن ما رواه أبو داود في المراسيل عن أبي مالك الغفاري التابعي أنه عليه السلام:"صلى على قتلى أحد عشرة عشرة في كل عشرة حمزة حتى صلى عليه سبعين صلاة".
وما رواه أبو جعفر الطحاوي عن ابن عباس، وابن الزبير أنه عليه السلام: "صلى على شهداء أحد مع حمزة فكان يؤتى بتسعة تسعة وحمزة
عاشرهم، وكبر يومئذ سبع تكبيرات" وما رواه الطحاوي والنسائي عن شداد أنه عليه السلام:"أعطى أعرابيًا أسلم نصيبه، وقال: قسمته لك. فقال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك لأرمى ها هنا -وأشار إلى حلقه- بسهم فأموت فأدخل الجنة، ثم أتي بالرجل وقد أصابه سهم حيث أشار فكفن في جبة النبي صلى الله عليه وسلم فصلى عليه. فكان من صلاته: إن هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك فقتل شهيدًا، أنا شهيد عليه".
وما رواه الطحاوي عن أنس "أنه عليه السلام صلى على حمزة ولم يصل على أحد من الشهداء غيره" لم يخرج أهل (الصحيح) منها حديثًا. وقال
تثبت. انتهى.
وقد تكلم أهل (الحديث) على سند كل من هذه الأحاديث وبينوا ضعفه.
وأما حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه عليه السلام: "خرج يومًا فصلى على قتلى أحد صلاته على الميت" متفق عليه.
وما رواه البخاري في صحيحه أنه عليه السلام: "صلى على شهداء أحد بعد ثمان سنين كالمودع للحياء والموات" فليست هذه الصلاة الصلاة المختلف فيها، فإنه لم يقل أحد أن الشهيد يدفن بلا صلاة ثم بعد سنين يصلى
عليه.
وإنما المراد -والله أعلم- أنه دعا لهم بدعاء الصلاة على الميت، أو أنه واقعة عين وذلك أنه لما عرف انقضاء عمره فعل هذا كالمودع للأموات كما ودع الأحياء فكان هذا خاصًا به أو بهم. وقد ذكر السروجي في شرحه: ليرجح مذهب أبي حنيفة وجوهًا وفي كل منها نظر:
الأول: أن رواية جابر [نا] فية وأحاديثنا مثبتة، والمثبت أولى من النافي. وجوابه أن المعارضة إنما تكون بين المتماثلين، وقد تقدم أن الأحاديث المثبتة للصلاة لم تثبت، فلا تصلح لمعارضة حديث جابر الصحيح الثابت.
الثاني: أن جابرًا كان مشغولًا في ذلك الوقت لأنه استشهد أبوه وعمه، وخاله، فرجع إلى المدينة ليدبر كيف يحملهم إليها. فلم يكن حاضرًا حين صلى عليهم. فروى ما عنده وفي ظنه.
وجوابه بالمنع من غيبته ورجوعه إلى المدينة حتى يثبت ذلك ولا يثبت مثل هذا بمجرد الاحتمال ولا يجوز أن ينسب إلى جابر مثل هذا.
الثالث: أن أحاديثنا أكثر فكانت أولى. وقد كفانا هو مؤنة الجواب
وقال: إن الترجيح عندنا لا يكون بالكثرة.
الرابع: أن الصلاة أصل في الدين ومن فروض الكفاية فلا تسقط من غير فعل أحد بالتعارض بخلاف غسله، إذ النص في سقوطه لا معارض له. وجوابه: أن سقوط الصلاة عليه كسقوط غسله لأن ما ذكر لا يصلح لمعارضته كما تقدم.
الخامس: أن الصلاة عليهم لو كانت غير مشروعة لنبه عليه صلى الله عليه وسلم كما نبه على علة سقوط الغسل.
وجوابه: أن التنبيه على علة الحكم ليس بشرط، والترك قد ثبت بالدفن والرجوع منه عن غير صلاة.
السادس: أنه يجوز أنه لم يصل عليهم وصلى على غيره. وجوابه: أن جابر قال: ولم يصل عليهم مبنيًا لما لم يسم فاعله، فنفي الصلاة عليهم نفيًا عامًا عنه وعن غيره. وأعجب منه أنه ذكر عن الطحاوي أنه روى عن أنس:"أنه عليه السلام صلى على حمزة ولم يصل على أحد من الشهداء غيره".
السابع: أنه لعله لم يصل عليهم في ذلك اليوم وصلى عليهم في يوم آخر لأنهم لا يعتريهم تغير بمر السنين. وجوابه: أنك تقول بهذا أن الشهيد
يدفن بلا صلاة ثم يصلى عليه بعد ذلك بزمان.
الثامن: أنه إن لم يثبت أنه صلى على قتلى أحد للتعارض فقد صلى على غيرهم من الشهداء كما تقدم. يشير إلى حديث شداد بن الهاد. وجوابه: أنه لم يثبت أيضًا، ولئن ثبت فيحتمل أنه قد ارتث.
التاسع: أنه ثبت أنه صلى عليهم بعد ذلك فإما أن تكون سنتهم أن لا يصلى عليهم ثم نسخ، أو أنه صلى عليهم هو بعد أن صلى عليهم غيره لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم. وجوابه: أنه بقي احتمال آخر وهو أن ذلك واقعة عين فلا عموم له، أو أن المراد أنه دعا لهم بدعاء صلاة الجنازة كما تقدم.
العاشر: أن مذهبنا أحوط. وجوابه: أن الاحتياط في اتباع الصحيح الثابت أولى. والقول بجواز الصلاة على الشهيد أو استحبابها كما هو رواية عن الإمام أحمد والحالة هذه أظهر.
قوله: (وله أن السيف كفى عن الغسل في حق شهداء أحد بوصف كونه طهرة، ولا ذنب للصبي فلم يكن في معناها).
قول الصاحبين هو الراجح وهو قول أكثر العلماء. ولا يصح التعليل بأن السيف كفى عن الغسل فإن من أسلم ثم قتل قبل أن يذنب بمنزلة الصبي ولا يغسل. والتعليل الصحيح أن الدم أثر الظلم فيبقى ليشهد له على قاتله يوم القيامة. ومحو الذنب ليس فيه خصم فلا يحتاج إلى شهادة.
قوله: (وشهداء أحد ماتوا عطاشًا والكأس تدار عليهم خوفًا عن نقصان الشهادة).
في ثبوت هذا عن شهداء أحد نظر. وإنما حكي في فتوح الشام أن رجلًا قال: أخذت ماء لعلي أسقي ابن عمي إن وجدته، فوجدت الحارث بن
هشام فأردت أن أسقيه فإذا رجل ينظر فأومأ إلي: أن اسقه، فذهبت إليه لأسقيه فإذا آخر ينظر، فأومأ إلي: أن اسقه، فلم أصل إليه حتى ماتوا جميعًا. والظاهر -والله أعلم- أن هذا من باب الإيثار لا من باب الخوف من نقصان الشهادة.
* * *