الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَصُمْ، فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فِي آيٍ وَأَخْبَارٍ سِوَى ذَلِكَ كَثِيرَةٍ. وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ مَشْرُوعٌ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِهِ؛ فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، إلَّا أَنْ يَخَافَ أَحَدٌ عَلَى نَفْسِهِ الْوُقُوعَ فِي مَحْظُورٍ بِتَرْكِهِ، فَيَلْزَمُهُ إعْفَافُ نَفْسِهِ
وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: هُوَ وَاجِبٌ. وَحَكَاهُ عَنْ أَحْمَدَ. وَحَكَى عَنْ دَاوُد أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْعُمَرِ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِلْآيَةِ وَالْخَبَرِ.
وَلَنَا، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ أَمَرَ بِهِ. عَلَّقَهُ عَلَى الِاسْتِطَابَةِ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]
وَالْوَاجِبُ لَا يَقِفُ عَلَى الِاسْتِطَابَةِ، وَقَالَ:{مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] . وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ النَّدْبُ، وَكَذَلِكَ الْخَبَرُ يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ، أَوْ عَلَى مَنْ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ الْوُقُوعَ فِي الْمَحْظُورِ بِتَرْكِ النِّكَاحِ. قَالَ الْقَاضِي: وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ كَلَامُ أَحْمَدَ وَأَبِي بَكْرٍ، فِي إيجَابِ النِّكَاحِ.
[فَصْلٌ النَّاسُ فِي النِّكَاحِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرِب]
(5135)
فَصْلٌ: وَالنَّاسُ فِي النِّكَاحِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ؛ مِنْهُمْ مَنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْوُقُوعَ فِي مَحْظُورٍ إنْ تَرَكَ النِّكَاحَ، فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ النِّكَاحُ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ إعْفَافُ نَفْسِهِ، وَصَوْنُهَا عَنْ الْحَرَامِ، وَطَرِيقُهُ النِّكَاحُ. الثَّانِي، مَنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ، وَهُوَ مَنْ لَهُ شَهْوَةٌ يَأْمَنُ مَعَهَا الْوُقُوعَ فِي مَحْظُورٍ، فَهَذَا الِاشْتِغَالُ لَهُ بِهِ أَوْلَى مِنْ التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَةِ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَفِعْلِهِمْ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَجَلِي إلَّا عَشْرَةُ أَيَّامٍ، وَأَعْلَمُ أَنِّي أَمُوتُ فِي آخِرِهَا يَوْمًا، وَلِي طَوْلُ النِّكَاحِ فِيهِنَّ، لَتَزَوَّجْت مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: تَزَوَّجْ، فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ: قَالَ لِي طَاوُسٌ: لَتَنْكِحْنَ، أَوْ لَأَقُولَنَّ لَك مَا قَالَ عُمَرُ لِأَبِي الزَّوَائِدِ: مَا يَمْنَعُك عَنْ النِّكَاحِ إلَّا عَجْزٌ أَوْ فُجُورٌ. قَالَ أَحْمَدُ رحمه الله فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: لَيْسَتْ الْعُزْبَةُ مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ، فِي شَيْءٍ. وَقَالَ: مَنْ دَعَاكَ إلَى غَيْرِ التَّزْوِيجِ، فَقَدْ دَعَاكَ إلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ تَزَوَّجَ بِشْرٌ كَانَ قَدْ تَمَّ أَمْرُهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: التَّخَلِّي لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَ يَحْيَى عليه السلام بِقَوْلِهِ: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} [آل عمران: 39] وَالْحَصُورُ: الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ فَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ أَفْضَلَ لَمَا مَدَحَ بِتَرْكِهِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14] . وَهَذَا فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِالْعِبَادَةِ أَفْضَلَ مِنْهُ، كَالْبَيْعِ. وَلَنَا، مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ بِهِ وَحَثِّهِمَا عَلَيْهِ، «وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: وَلَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» . وَقَالَ سَعْدٌ: لَقَدْ «رَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ» ، وَلَوْ أَحَلَّهُ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِالْبَاءَةِ، وَيَنْهَى عَنْ التَّبَتُّلِ نَهْيًا شَدِيدًا، وَيَقُولُ: تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.» رَوَاهُ سَعِيدٌ.
وَهَذَا حَثٌّ عَلَى النِّكَاحِ شَدِيدٌ، وَوَعِيدٌ عَلَى تَرْكِهِ يُقَرِّبُهُ إلَى الْوُجُوبِ، وَالتَّخَلِّي مِنْهُ إلَى التَّحْرِيمِ، وَلَوْ كَانَ التَّخَلِّي أَفْضَلَ لَانْعَكَسَ الْأَمْرُ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ، وَبَالَغَ فِي الْعَدَدِ، وَفَعَلَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ، وَلَا يَشْتَغِلُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ إلَّا بِالْأَفْضَلِ، وَلَا تَجْتَمِعُ الصَّحَابَةُ عَلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ، وَالِاشْتِغَالِ بِالْأَدْنَى، وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ مَنْ يُفَضِّلُ التَّخَلِّيَ لَمْ يَفْعَلْهُ.
فَكَيْفَ أَجْمَعُوا عَلَى النِّكَاحِ فِي فِعْلِهِ، وَخَالَفُوهُ فِي فَضْلِهِ، أَفَمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَتْبَعُ الْأَفْضَلَ عِنْدَهُ وَيَعْمَلُ بِالْأَوْلَى؟ وَلِأَنَّ مَصَالِحَ النِّكَاحِ أَكْثَرُ، فَإِنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى تَحْصِينِ الدِّينِ، وَإِحْرَازِهِ، وَتَحْصِينِ الْمَرْأَةِ وَحِفْظِهَا، وَالْقِيَامِ بِهَا، وَإِيجَادِ النَّسْلِ، وَتَكْثِيرِ الْأُمَّةِ، وَتَحْقِيقِ مُبَاهَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ الرَّاجِحِ أَحَدُهَا عَلَى نَفْلِ الْعِبَادَةِ، فَمَجْمُوعُهَا أَوْلَى.