الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كَانَ لِلسُّنَّةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، حَتَّى قَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ أَمْسَكَهَا بِيَدِهِ لَشَهْوَةٍ، ثُمَّ وَالَى بَيْنَ الثَّلَاثِ، كَانَ مُصِيبًا لِلسُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُرْتَجَعًا لَهَا.
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ إذَا ارْتَجَعَهَا، سَقَطَ حُكْمُ الطَّلْقَةِ الْأُولَى، فَصَارَتْ كَأَنَّهَا لَمْ تُوجَدْ، وَلَا غِنَى بِهِ عَنْ الطَّلْقَةِ الْأُخْرَى إذَا احْتَاجَ إلَى فِرَاقِ امْرَأَتِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَرْتَجِعْهَا؛ فَإِنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْهَا، لِإِفْضَائِهَا إلَى مَقْصُودِهِ مِنْ إبَانَتِهَا، فَافْتَرَقَا، وَلِأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ إرْدَافُ طَلَاقٍ مِنْ غَيْرِ ارْتِجَاعٍ، فَلَمْ يَكُنْ لِلسُّنَّةِ، كَجَمْعِ الثَّلَاثِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، وَتَحْرِيمُ الْمَرْأَةِ لَا يَزُولُ إلَّا بِزَوْجٍ وَإِصَابَةٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لِلسُّنَّةِ، كَجَمْعِ الثَّلَاثِ.
[فَصْلٌ طَلَاق الْبِدْعَةِ]
(5816)
فَصْلٌ: فَإِنْ طَلَّقَ لِلْبِدْعَةِ، وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا حَائِضًا، أَوْ فِي طُهْرٍ أَصَابَهَا فِيهِ، أَثِمَ، وَوَقَعَ طَلَاقُهُ. فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إلَّا أَهْلُ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ. وَحَكَاهُ أَبُو نَصْرٍ عَنْ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ، وَالشِّيعَةُ قَالُوا: لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهِ فِي قُبُلِ الْعِدَّةِ، فَإِذَا طَلَّقَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَقَعَ، كَالْوَكِيلِ إذَا أَوْقَعَهُ فِي زَمَنٍ أَمَرَهُ مُوَكِّلُهُ بِإِيقَاعِهِ فِي غَيْرِهِ.
وَلَنَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَاجِعَهَا. وَفِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيّ قَالَ:«فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَرَأَيْت لَوْ أَنِّي طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا، أَكَانَ يَحِلُّ لِي أَنْ أُرَاجِعَهَا؟ قَالَ: لَا، كَانَتْ تَبِينُ مِنْك، وَتَكُونُ مَعْصِيَةً.» وَقَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً، فَحُسِبَتْ مِنْ طَلَاقِهِ، وَرَاجَعَهَا كَمَا أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَمِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قُلْت لِابْنِ عُمَرَ: أَفَتُعْتَدُّ عَلَيْهِ، أَوْ تُحْتَسَبُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ أَرَأَيْت إنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ، وَكُلُّهَا أَحَادِيثُ صِحَاحٌ. لِأَنَّهُ طَلَاقٌ مِنْ مُكَلَّفٍ فِي مَحَلِّ الطَّلَاقِ، فَوَقَعَ، كَطَلَاقِ الْحَامِلِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبِهِ، فَيَعْتَبِرُ لِوُقُوعِهِ مُوَافَقَةَ السُّنَّةِ، بَلْ هُوَ إزَالَةُ عِصْمَةٍ، وَقَطْعُ مِلْكٍ، فَإِيقَاعُهُ فِي زَمَنِ الْبِدْعَةِ أَوْلَى، تَغْلِيظًا عَلَيْهِ، وَعُقُوبَةً لَهُ، أَمَّا غَيْرُ الزَّوْجِ، فَلَا يَمْلِكُ الطَّلَاقَ، وَالزَّوْجُ يَمْلِكُهُ بِمِلْكِهِ مَحَلَّهُ.
[فَصْلٌ مُرَاجَعَة الْمُطَلَّقَة]
(5817)
فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُرَاجِعَهَا، لَأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمُرَاجَعَتِهَا، وَأَقَلُّ أَحْوَالِ الْأَمْرِ الِاسْتِحْبَابُ، وَلِأَنَّهُ بِالرَّجْعَةِ يُزِيلُ الْمَعْنَى الَّذِي حَرَّمَ الطَّلَاقَ. وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةً أُخْرَى،
أَنَّ الرَّجْعَةَ تَجِبُ. وَاخْتَارَهَا. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَدَاوُد؛ لِظَاهِرِ الْأَمْرِ فِي الْوُجُوبِ، وَلِأَنَّ الرَّجْعَةَ تَجْرِي مَجْرَى اسْتِبْقَاءِ النِّكَاحِ، وَاسْتِبْقَاؤُهُ هَاهُنَا وَاجِبٌ؛ بِدَلِيلِ تَحْرِيمِ الطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ الرَّجْعَةَ إمْسَاكٌ لِلزَّوْجَةِ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] فَوَجَبَ ذَلِكَ كَإِمْسَاكِهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَدَاوُد: يُجْبَرُ عَلَى رَجْعَتِهَا. قَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: يُجْبَرُ عَلَى رَجْعَتِهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ. إلَّا أَشْهَبَ، قَالَ: مَا لَمْ تَطْهُرْ، ثُمَّ تَحِيضُ، ثُمَّ تَطْهُرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إمْسَاكُهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ رَجْعَتُهَا فِيهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ طَلَاقٌ لَا يَرْتَفِعُ بِالرَّجْعَةِ، فَلَمْ تَجِبُ عَلَيْهِ الرَّجْعَةُ فِيهِ، كَالطَّلَاقِ فِي طُهْرٍ مَسَّهَا فِيهِ، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَجِبُ. حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْنَى يَنْتَقِضُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ.
وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالرَّجْعَةِ فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. (5818) فَصْلٌ: فَإِنْ رَاجَعَهَا، وَجَبَ إمْسَاكُهَا حَتَّى تَطْهُرَ، وَاسْتُحِبَّ إمْسَاكُهَا حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى ثُمَّ تَطْهُرَ، عَلَى مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيث ابْنِ عُمَرَ الَّذِي رَوَيْنَاهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهَا، أَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَكَادُ تُعْلَمُ صِحَّتُهَا؛ إلَّا بِالْوَطْءِ؛ لِأَنَّهُ الْمَبْغِيُّ مِنْ النِّكَاحِ، وَلَا يَحْصُلُ الْوَطْءُ إلَّا فِي الطُّهْرِ، فَإِذَا وَطِئَهَا حَرُمَ طَلَاقُهَا فِيهِ حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، وَاعْتَبَرْنَا مَظِنَّةَ الْوَطْءِ وَمَحَلَّهُ لَا حَقِيقَتَهُ، وَمِنْهَا أَنَّ الطَّلَاقَ كُرِهَ فِي الْحَيْضِ لِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ، فَلَوْ طَلَّقَهَا عَقِيبَ الرَّجْعَةِ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ، كَانَتْ فِي مَعْنَى الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَكَانَتْ تَبْنِي عَلَى عِدَّتِهَا، فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَطْعَ حُكْمِ الطَّلَاقِ بِالْوَطْءِ، وَاعْتُبِرَ الطُّهْرُ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ الْوَطْءِ، فَإِذَا وَطِئَ حَرُمَ طَلَاقُهَا حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ