الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِي يَمِينِهِ، فَلَهُ تَأْوِيلُهُ، يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي نِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ دَلِيلٌ لَهُ عَلَى تَأْوِيلِهِ. وَإِنْ لَمْ يَتَأَوَّلْ وَقَصْدَهَا بِالطَّلَاقِ، لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ. وَذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَجْهًا أَنَّهُ يَقَعُ؛ لِأَنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ عَلَى نِيَّتِهِ.
وَلَنَا، أَنَّهُ مُكْرَهٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَقَعْ؛ لِعُمُومِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَدِلَّةِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ لَا يَحْضُرُهُ التَّأْوِيلُ فِي تِلْكَ الْحَالِ، فَتَفُوتُ الرُّخْصَةُ.
[بَابُ تَصْرِيحِ الطَّلَاقِ وَغَيْره]
ِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إلَّا بِلَفْظٍ، فَلَوْ نَوَاهُ بِقَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ، لَمْ يَقَعْ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ مِنْهُمْ عَطَاءٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ الْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إذَا عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ طَلُقَتْ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ، فِي مِنْ طَلَّقَ فِي نَفْسِهِ: أَلَيْسَ قَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ؟ . وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ يُزِيلُ الْمِلْكَ، فَلَمْ يَحْصُلْ بِالنِّيَّةِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ. وَإِنْ نَوَاهُ بِقَلْبِهِ، وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ، لَمْ يَقَعْ أَيْضًا؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ اللَّفْظُ، فَاللَّفْظُ يَنْقَسِمُ فِيهِ إلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ، فَالصَّرِيحُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَالْكِنَايَةُ لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ حَتَّى يَنْوِيَهُ، أَوْ يَأْتِيَ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ نِيَّتِهِ.
[مَسْأَلَة قَالَ قَدْ طَلَّقْتُك أَوْ قَدْ فَارَقْتُك أَوْ قَدْ سَرَّحْتُك]
(5851)
مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَإِذَا قَالَ: قَدْ طَلَّقْتُك، أَوْ قَدْ فَارَقْتُك، أَوْ قَدْ سَرَّحْتُك. لَزِمَهَا الطَّلَاقُ) هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ؛ الطَّلَاقُ، وَالْفِرَاقُ، وَالسَّرَاحُ، وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُنَّ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، إلَى أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ لَفْظُ الطَّلَاقِ وَحْدَهُ، وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُ لَا غَيْرُ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، إلَّا أَنَّ مَالِكًا يُوقِعُ الطَّلَاقَ بِهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةَ لَا تَفْتَقِرُ عِنْدَهُ إلَى النِّيَّةِ. وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ لَفْظَ الْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ يُسْتَعْمَلَانِ فِي غَيْرِ الطَّلَاقِ كَثِيرًا، فَلَمْ يَكُونَا صَرِيحَيْنِ فِيهِ كَسَائِرِ كِنَايَاتِهِ.
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ وَرَدَ بِهَا الْكِتَابُ بِمَعْنَى الْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَكَانَا صَرِيحَيْنِ فِيهِ، كَلَفْظِ الطَّلَاقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وَقَالَ {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] وَقَالَ سُبْحَانَهُ {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] وَقَالَ
سُبْحَانَهُ {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: 28] وَقَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ أَصَحُّ؛ فَإِنَّ الصَّرِيحَ فِي الشَّيْءِ مَا كَانَ نَصَّا فِيهِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ، إلَّا احْتِمَالًا بَعِيدًا، وَلَفْظَةُ الْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ إنْ وَرَدَا فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَقَدْ وَرَدَا لِغَيْرِ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَفِي الْعُرْفِ كَثِيرًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وَقَالَ {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البينة: 4] فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِهِ بِفُرْقَةِ الطَّلَاقِ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] لَمْ يُرِدْ بِهِ الطَّلَاقَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَرْكُ ارْتِجَاعِهَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]
وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى لَفْظِ الطَّلَاقِ، فَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِذَلِكَ، سَابِقٌ إلَى الْأَفْهَامِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ وَلَا دَلَالَةٍ، بِخِلَافِ الْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ. فَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ، إذَا قَالَ: طَلَّقْتُك، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ مُطَلَّقَةٌ. وَقَعَ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ. وَإِنْ قَالَ: فَارَقْتُك. أَوْ: أَنْتِ مُفَارَقَةٌ، أَوْ سَرَّحْتُك، أَوْ أَنْتِ مُسَرَّحَةٌ. فَمَنْ يَرَاهُ صَرِيحًا أَوْقَعَ بِهِ الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَمَنْ لَمْ يَرَهُ صَرِيحًا لَمْ يُوقِعْهُ بِهِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ.
فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت بِقَوْلِي: فَارَقْتُك أَيْ بِجِسْمِي، أَوْ بِقَلْبِي أَوْ بِمَذْهَبِي، أَوْ سَرَّحْتُك مِنْ يَدِي، أَوْ شُغْلِي، أَوْ مِنْ حَبْسِي، أَوْ أَيْ سَرَّحْت شَعْرَك. قُبِلَ قَوْلُهُ. وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت بِقَوْلِي: أَنْتِ طَالِقٌ أَيْ: مِنْ وَثَاقِي. أَوْ قَالَ: أَرَدْت أَنْ أَقُولُ: طَلَبْتُك. فَسَبَقَ لِسَانِي، فَقُلْت: طَلَّقْتُك. وَنَحْوُ ذَلِكَ، دُيِّنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَتَى عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ، لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا خِلَافَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَقُولَ لِزَوْجَتِهِ: اسْقِينِي مَاءً. فَسَبَقَ لِسَانُهُ فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ أَنْتِ حُرَّةٌ. أَنَّهُ لَا طَلَاقَ فِيهِ. وَنَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ، فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ غَيْرُ مَا فِي قَلْبِهِ، فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِيهِ وَاسِعًا.
وَهَلْ تُقْبَلُ دَعْوَاهُ فِي الْحُكْمِ؟ يُنْظَرُ؛ فَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الْغَضَبِ، أَوْ سُؤَالِهَا الطَّلَاقَ، لَمْ يُقْبَلْ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ ظَاهِرٌ فِي الطَّلَاقِ، وَقَرِينَةُ حَالِهِ تَدُلُّ عَلَيْهِ، فَكَانَتْ دَعْوَاهُ مُخَالِفَةً لِلظَّاهِرِ مِنْ وَجْهَيْنِ، فَلَا تُقْبَلُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ، وَأَبِي الْحَارِثِ، أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ. وَهُوَ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَكَمِ، حَكَاهُ عَنْهُمْ أَبُو حَفْصٍ؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَ كَلَامَهُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ احْتِمَالًا غَيْرَ بَعِيدٍ، فَقِيلَ: كَمَا لَوْ قَالَ؛ أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ. وَقَالَ: أَرَدْت بِالثَّانِيَةِ إفْهَامَهَا. وَقَالَ الْقَاضِي: فِيهِ رِوَايَتَانِ، هَذِهِ الَّتِي ذَكَرْنَا، قَالَ: وَهِيَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ. وَالثَّانِيَةُ، لَا يُقْبَلُ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ فِي الْعُرْف، فَلَمْ يُقْبَلْ فِي الْحُكْمِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِعَشْرَةِ، ثُمَّ قَالَ: زُيُوفًا، أَوْ صِغَارًا، أَوْ إلَى شَهْرٍ.
فَأَمَّا إِنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي اللَّفْظِ، فَقَالَ: طَلَّقْتُك