الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَدْ رَوَيْنَا فِي أَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمِينَ، أَنَّ قَوْمًا ذَكَرُوا لَنَبِيٍّ لَهُمْ فَضْلَ عَابِدٍ لَهُمْ، فَقَالَ: أَمَّا إنَّهُ لَتَارِكٌ لِشَيْءٍ مِنْ السُّنَّةِ، فَبَلَغَ الْعَابِدَ، فَأَتَى النَّبِيَّ، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إنَّك تَرَكْت التَّزْوِيجَ. فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَمَا هُوَ إلَّا هَذَا، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ احْتِقَارَهُ لِذَلِكَ، قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ تَرَكَ النَّاسُ كُلُّهُمْ التَّزْوِيجَ مَنْ كَانَ يَقُومُ بِالْجِهَادِ، وَيَنْفِي الْعَدُوَّ، وَيَقُومُ بِفَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُدُودِهِ؟ وَأَمَّا مَا ذُكِرَ عَنْ يَحْيَى، فَهُوَ شَرْعُهُ، وَشَرْعُنَا وَارِدٌ بِخِلَافِهِ، فَهُوَ أَوْلَى
وَالْبَيْعُ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَصَالِحِ النِّكَاحِ، وَلَا يُقَارِبُهَا. الْقِسْمُ الثَّالِثُ، مَنْ لَا شَهْوَةَ لَهُ، إمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ لَهُ شَهْوَةٌ كَالْعِنِّينِ، أَوْ كَانَتْ لَهُ شَهْوَةٌ فَذَهَبَتْ بِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا، يُسْتَحَبُّ لَهُ النِّكَاحُ؛ لِعُمُومِ مَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِي، التَّخَلِّي لَهُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحَصِّلُ مَصَالِحَ النِّكَاحِ، وَيَمْنَعُ زَوْجَتَهُ مِنْ التَّحْصِينِ بِغَيْرِهِ، وَيُضِرُّ بِهَا، وَيَحْبِسُهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَيُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِوَاجِبَاتٍ وَحُقُوقٍ لَعَلَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقِيَامِ بِهَا، وَيَشْتَغِلُ عَنْ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ
وَالْأَخْبَارُ تُحْمَلُ عَلَى مَنْ لَهُ شَهْوَةٌ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَادِرِ عَلَى الْإِنْفَاقِ وَالْعَاجِزِ عَنْهُ، قَالَ: يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مَا يُنْفِقُ، أَنْفَقَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ، صَبَرَ، وَلَوْ تَزَوَّجَ بِشْرٌ كَانَ قَدْ تَمَّ أَمْرُهُ. وَاحْتَجَّ «بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصْبِحُ وَمَا عِنْدَهُمْ شَيْءٌ، وَيُمْسِي وَمَا عِنْدَهُمْ شَيْءٌ» . «وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم زَوَّجَ رَجُلًا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى خَاتَمِ حَدِيدٍ، وَلَا وَجَدَ إلَّا إزَارَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رِدَاءٌ.» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ
قَالَ أَحْمَدُ، فِي رَجُلٍ قَلِيلِ الْكَسْبِ، يَضْعُفُ قَلْبُهُ عَنْ الْعِيَالِ: اللَّهُ يَرْزُقُهُمْ، التَّزْوِيجُ أَحْصَنُ لَهُ، رُبَّمَا أَتَى عَلَيْهِ وَقْتٌ لَا يَمْلِكُ قَلْبَهُ. وَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ يُمْكِنُهُ التَّزْوِيجُ، فَأَمَّا مَنْ لَا يُمْكِنُهُ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33]
[مَسْأَلَةٌ لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيِّ وَشَاهِدَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ]
[فَصَلِّ النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِوَلِيٍّ]
(5136)
مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: وَلَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ فُصُولٍ:
(5137)
أَحَدُهَا: أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِوَلِيٍّ، وَلَا تَمْلِكُ الْمَرْأَةُ تَزْوِيجَ نَفْسِهَا وَلَا غَيْرِهَا، وَلَا تَوْكِيلَ غَيْرِ وَلِيِّهَا فِي تَزْوِيجِهَا. فَإِنْ فَعَلَتْ، لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ. رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ الْعَنْبَرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، وَأَبِي يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَلِيِّ، فَإِنْ فَعَلَتْ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهَا أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا وَغَيْرَهَا، وَتُوَكِّلَ فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:{فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] . أَضَافَ النِّكَاحَ إلَيْهِنَّ، وَنَهَى عَنْ مَنْعِهِنَّ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهَا، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْمُبَاشَرَةِ، فَصَحَّ مِنْهَا، كَبَيْعِ أَمَتِهَا، وَلِأَنَّهَا إذَا مَلَكَتْ بَيْعَ أَمَتِهَا، وَهُوَ تَصَرُّفٌ فِي رَقَبَتِهَا وَسَائِرِ مَنَافِعِهَا، فَفِي النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ عَقْدٌ عَلَى بَعْضِ مَنَافِعِهَا أَوْلَى
وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» . رَوَتْهُ عَائِشَةُ، وَأَبُو مُوسَى، وَابْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَأَلْت أَحْمَدَ وَيَحْيَى عَنْ حَدِيثِ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» . فَقَالَا: صَحِيحٌ.
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ:«أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ، فَإِنْ أَصَابَهَا، فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، فَإِنْ اشْتَجَرُوا، فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ الزُّهْرِيَّ رَوَاهُ وَقَدْ أَنْكَرَهُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَأَلْت الزُّهْرِيَّ عَنْهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ. قُلْنَا لَهُ: لَمْ يَقُلْ هَذَا عَنْ ابْنِ جُرَيْجٌ غَيْرُ ابْنِ عُلَيَّةَ، كَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَيَحْيَى، وَلَوْ ثَبَتَ هَذَا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَقَلَهُ ثِقَاتٌ عَنْهُ، فَلَوْ نَسِيَهُ الزُّهْرِيُّ لَمْ يَضُرَّهُ؛
لِأَنَّ النِّسْيَانَ لَمْ يُعْصَمْ مِنْهُ إنْسَانٌ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «نَسِيَ آدَم، فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ» . وَلِأَنَّهَا مَوْلَى عَلَيْهَا فِي النِّكَاحِ، فَلَا تَلِيهِ، كَالصَّغِيرَةِ، وَأَمَّا الْآيَةُ، فَإِنَّ عَضْلَهَا الِامْتِنَاعُ مِنْ تَزْوِيجِهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِكَاحَهَا إلَى الْوَلِيِّ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، حِينَ امْتَنَعَ مِنْ تَزْوِيجِ أُخْتِهِ، فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَزَوَّجَهَا. وَأَضَافَهُ إلَيْهَا لِأَنَّهَا مَحَلٌّ لَهُ.