الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَهَذَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هِجَاءٌ قَبِيحٌ وَذَمٌّ، حَتَّى حُكِيَ عَنْ حَسَّانَ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَرَاهُ إلَّا قَدْ سَلَّحَ عَلَيْهِمْ.
وَلَوْلَا الْقَرِينَةُ وَدَلَالَةُ الْحَالِ، كَانَ مِنْ أَحْسَنِ الْمَدْحِ وَأَبْلَغِهِ. وَفِي الْأَفْعَالِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَصْدَ رَجُلًا بِسَيْفٍ، وَالْحَالُ يَدُلُّ عَلَى الْمَزْحِ وَاللَّعِبِ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ، وَلَوْ دَلَّتْ الْحَالُ عَلَى الْجِدِّ، جَازَ دَفْعُهُ بِالْقَتْلِ. وَالْغَضَبُ هَاهُنَا يَدُلُّ عَلَى قَصْدِ الطَّلَاقِ، فَيَقُومُ مَقَامَهُ.
[فَصْلٌ أَتَى بِالْكِنَايَةِ فِي حَالِ سُؤَالِ الطَّلَاقِ]
(5858)
فَصْلٌ: وَإِنْ أَتَى بِالْكِنَايَةِ فِي حَالِ سُؤَالِ الطَّلَاقِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِيمَا إذَا أَتَى بِهَا فِي حَالِ الْغَضَبِ، عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ وَالتَّفْصِيلِ. وَالْوَجْهُ لِذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّوْجِيهِ، إلَّا أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَدَ هَاهُنَا، أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي عَدَمِ النِّيَّةِ، قَالَ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ: إذَا قَالَ: لَمْ أَنْوِهِ. صُدِّقَ فِي ذَلِكَ، إذَا لَمْ تَكُنْ سَأَلْته الطَّلَاقَ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا غَضَبٌ قَبْلَ ذَلِكَ فَيُفَرَّقُ بَيْنَ كَوْنِهِ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ، وَكَوْنِهِ فِي حَالِ الْغَضَبِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَوَابَ يَنْصَرِفُ إلَى السُّؤَالِ، فَلَوْ قَالَ: لِي عِنْدَك دِينَارٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَوْ: صَدَقْت. كَانَ إقْرَارًا بِهِ، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ تَفْسِيرُهُ بِغَيْرِ الْإِقْرَارِ. وَلَوْ قَالَ: زَوَّجْتُك ابْنَتِي أَوْ بِعْتُك ثَوْبِي هَذَا. فَقَالَ: قَبِلْت. صَحَّ وَكَفَى، وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى زِيَادَةٍ عَلَيْهِ.
وَلَوْ أَرَادَ بِالْكِنَايَةِ حَالَ الْغَضَبِ، أَوْ سُؤَالِ الطَّلَاقِ غَيْرَ الطَّلَاقِ، لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَهُ بِالصَّرِيحِ لَمْ يَقَعْ، فَبِالْكِنَايَةِ أَوْلَى. وَإِذَا ادَّعَى ذَلِكَ دُيِّنَ. وَهَلْ يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ؟ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ، أَنَّهُ يُصَدَّقُ إنْ كَانَ فِي الْغَضَبِ، وَلَا يُصَدَّقُ إنْ كَانَ جَوَابًا لِسُؤَالِ الطَّلَاقِ. وَنُقِلَ عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ، أَوْ بَرِيئَةٌ، أَوْ بَائِنٌ. وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا ذِكْرُ طَلَاقٍ وَلَا غَضَبٌ، صُدِّقَ. فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ مَعَ وُجُودِهِمَا.
وَحُكِيَ هَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، إلَّا فِي الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُصَدَّقُ؛ لِمَا رَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ إلَى قَوْمٍ فَقَالُوا: لَا نُزَوِّجُك حَتَّى تُطَلِّقَ امْرَأَتَك. فَقَالَ: قَدْ طَلَّقْت ثَلَاثًا. فَزَوَّجُوهُ، ثُمَّ أَمْسَكَ امْرَأَته، فَقَالُوا: أَلَمْ تَقُلْ إنَّك طَلَّقْت ثَلَاثًا؟ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنِّي تَزَوَّجْت فُلَانَةَ وَطَلَّقْتهَا، ثُمَّ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ وَطَلَّقْتهَا، ثُمَّ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ وَطَلَّقْتهَا؟ فَسُئِلَ عُثْمَانُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَهُ نِيَّتُهُ. وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ يُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ فِيهِ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيمَا يَحْتَمِلُهُ، كَمَا لَوْ كَرَّرَ لَفْظًا، وَقَالَ: أَرَدْت التَّوْكِيدَ.
[مَسْأَلَة الطَّلَاقَ يَقَعُ بِالْكِنَايَاتِ]
(5859)
مَسْأَلَةٌ؛ (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَإِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ خَلِيَّةٌ، أَوْ أَنْتِ بَرِيَّةٌ، أَوْ أَنْتِ بَائِنٌ، أَوْ حَبْلُك عَلَى غَارِبِك، أَوْ الْحَقِي بِأَهْلِك. فَهُوَ عِنْدِي ثَلَاثٌ وَلَكِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُفْتِيَ بِهِ، سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ) أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، كَرَاهِيَةُ الْفُتْيَا فِي هَذِهِ الْكِنَايَاتِ، مَعَ مَيْلِهِ إلَى أَنَّهَا ثَلَاثٌ، وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى، فِي " الْإِرْشَادِ " عَنْهُ رِوَايَتَيْنِ؛
إحْدَاهُمَا، أَنَّهَا ثَلَاثٌ. وَالثَّانِيَةُ، يَرْجِعُ إلَى مَا نَوَاهُ. اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: يُرْجَعُ إلَى مَا نَوَى، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ.
وَنَحْوُهُ قَوْلُ النَّخَعِيِّ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: يَقَعُ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ يَقْتَضِي الْبَيْنُونَةَ، وَلَا يَقْتَضِي عَدَدًا. وَرَوَى حَنْبَلٌ، عَنْ أَحْمَدَ، مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا؛ فَإِنَّهُ قَالَ: يَزِيدُهَا فِي مَهْرِهَا إنْ أَرَادَ رَجْعَتَهَا. وَلَوْ وَقَعَ ثَلَاثًا لَمْ يُبَحْ لَهُ رَجْعَتُهَا، وَلَوْ لَمْ تَبِنْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى زِيَادَةٍ فِي مَهْرِهَا. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ، «أَنَّ رُكَانَةَ بْنَ عَبْدِ يَزِيدَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ أَلْبَتَّةَ، فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، وَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاَللَّهِ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً؟ فَقَالَ رُكَانَةُ: آللَّهِ مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً. فَرَدَّهَا إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَطَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ فِي زَمَنِ عُمَرَ، وَالثَّالِثَةَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ» . قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيُّ: مَا أَشْرَفَ هَذَا الْحَدِيثَ.
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِابْنَةِ الْجَوْنِ: " الْحَقِي بِأَهْلِك ". وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيُطَلِّقَ ثَلَاثًا وَقَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْكِنَايَاتِ مَعَ النِّيَّةِ كَالصَّرِيحِ، فَلَمْ يَقَعْ بِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ، وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ أَوْ وَاحِدَةً وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ، وَلَا يَقَعُ اثْنَتَانِ؛ لِأَنَّ الْكِنَايَةَ تَقْضِي الْبَيْنُونَةَ دُونَ الْعَدَدِ، وَالْبَيْنُونَةُ بَيْنُونَتَانِ صُغْرَى وَكُبْرَى، فَالصُّغْرَى بِالْوَاحِدَةِ، وَالْكُبْرَى بِالثَّلَاثِ، وَلَوْ أَوْقَعْنَا اثْنَتَيْنِ كَانَ مُوجِبُهُ الْعَدَدَ، وَهِيَ لَا تَقْتَضِيهِ.
وَقَالَ رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ: يَقَعُ بِهَا الثَّلَاثُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ إلَّا فِي خُلْعٍ أَوْ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي الْبَيْنُونَةَ، وَالْبَيْنُونَةُ تَحْصُلُ فِي الْخُلْعِ وَقَبْلَ الدُّخُولِ بِوَاحِدَةٍ، فَلَمْ يُزَدْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَقْتَضِي زِيَادَةً عَلَيْهَا، وَفِي غَيْرِهِمَا يَقَعُ الثَّلَاثُ ضَرُورَةَ أَنَّ الْبَيْنُونَةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِهَا، وَوَجْهُ أَنَّهَا ثَلَاثٌ أَنَّهُ قَوْلُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّهَا ثَلَاثٌ. قَالَ أَحْمَدُ فِي الْخَلِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ وَالْبَتَّةِ: قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ قَوْلٌ صَحِيحٌ ثَلَاثًا. وَقَالَ عَلِيٌّ، وَالْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، فِي الْبَائِنِ: إنَّهَا ثَلَاثٌ.
وَرَوَى النَّجَّادُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى عَاصِمٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: إنَّ ظِئْرِي هَذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَهَلْ تَجِدَانِ لَهُ رُخْصَةً؟ فَقَالَا: لَا، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ عِنْدَ عَائِشَةَ، فَسَلْهُمْ، ثُمَّ ارْجِعْ إلَيْنَا، فَأَخْبِرْنَا. فَسَأَلَهُمْ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هِيَ ثَلَاثٌ. وَذَكَرَ عَنْ عَائِشَةَ مُتَابَعَتَهُمَا.