الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
-:
كان أبو هريرة من أهل الصفة، منقطعا لتحصيل العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لازم رسول الله صلى الله عليه وسلم على شبع بطنه، وكانت يده مع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدور معه حيث دار (1)، فوعى علما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تمثل في قوله رضي الله عنه:"حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: فأما أحدهما فبثثته في الناس، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم"(2).
الوعاء الأول:
وصلنا منه (5374) خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثا، تضمنتها دواوين السنة: الصحاح، والمسانيد، والمعاجم، والمستدركات، والأجزاء، والتراجم، والسيَر، وغيرها.
الوعاء الثاني:
علم مخزون لدى أبي هريرة رضي الله عنه لم يبثه في زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ وهو ما يتعلق بالفتن والملاحم، وما سيقع بين الناس من الحروب، وكان وقت أبي بكر وعمر رضي الله عنهما غير مناسب لبث ذلك؛ لسلامة وقتهما في غالب الأمر، سوى ما كان من حروب الردة التي قضي عليها في مهدها، وكان عهد عمر سالما من ذلك، فلو أخبر بها في ذلك الحين لبادر كثير من الناس إلى تكذيبه، وردوا ما أخبر به من الحق، ولربما كان لديه نهي عن بثها قبل أوانها، يؤيد هذا قوله:"لو أخبرتكم أنكم تقلتون إمامكم، وتقتتلون فيما بينكم بالسيوف لما صدقتموني" وصدق رضي الله عنه لو أخبر بقتل عمر، وقتلهم عثمان رضي الله عنهم، لما صدقه الناس، ولكان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه موقف لا يحمده أبو هريرة رضي الله عنه، علما بأن الأشارة وردت إلى ذلك في بشارة عثمان رضي الله عنه بالجنة على بلوى تصيبه، ولعلمه بأن الحق مع عثمان رضي الله عنه إنحاز إليه وناصره، فبان بعد الوقوع بعض ما خزنه أبو هريرة رضي الله عنه، ولذلك قال رضي الله عنه:"إني لأحدث أحاديث لو تكلمت بها في زمان عمر، أو: عند عمر لشج رأسي"(3)؛ لأن عمر كان شديدا على من يروي حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خوفا من الغلط، أو: القول بدون
(1) الوافي بالوفيات 6/ 71.
(2)
البخاري حديث (120).
(3)
البداية والنهاية 8/ 115.
توثق، ومراعاة لحقوق ولي الأمر توقف أبو هريرة رضي الله عنه عن البوح بها في خلافة عمر رضي الله عنه، طاعة وبعدا الفتنة، وما أجمل قول علي رضي الله عنه:"حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله"(1)، فأبو هريرة رضي الله عنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يسمعه العديد من الصحابة رضي الله عنهم، ولاسيما الأنصار رضي الله عنهم، فلو حدّث بما يشير إلى تغير ما هم عليه من الألفة والإخاء، واجتماع الكلمة على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكان تهمة عظيمة لأبي هريرة رضي الله عنه، ولربما قتل بسبب ذلك، فلما وقعت أحداث الردة، ومن بعدها قتل عمر رضي الله عنه، واتسع الخرق على الراقع في عهد عثمان رضي الله عنه، حدّث أبو هريرة رضي الله عنه ببعض علمه المخزون، ومن ذلك أن أبا هريرة سمع صبيانا يقولون:"الآخر شر، الآخر شر" يعنون الآخر منهم، فقال أبو هريرة رضي الله عنه:"أي والذي نفسي بيده إلى يوم القيامة"(2).
قلت: صدق أبو هريرة رضي الله عنه؛ لأن تاريخ الأمة المحمدية يشهد على ذلك، فما مرّ على الأمة زمن إلا وأصابها ومن البلاء ما كان ثلما يبقى أثره إلى يوم القيامة، ولاسيما في عقيدتها، وكل بلاء فيما سوى الدين وإن جَلَّ فهو قليل، قال الزبير بن عدي رحمه الله:"أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج" فقال: «اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم» (3)، وكتب الفتن والملاحم مليئة بما بث أبو هريرة رضي الله عنه من مخزونه العلمي، وقامت الأحداث بعد ذلك شاهدة على ما أخبر به رضي الله عنه، وصدق ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكان أبو هريرة رضي الله عنه أحد الحفاظ المعدودين في الصحابة رضي الله عنهم، بل كان أحفظ الصحابة؛ لأنه كان يحضر ما لا يحضر سائر المهاجرين والأنصار؛ لا شتغال المهاجرين بالتجارة، والأنصار بحوائجهم (4).
(1) علقه البخاري حديث (127) ..
(2)
الفتن لنعيم بن حماد 1/ 21.
(3)
البخاري حديث (7968).
(4)
الوافي بالوفيات 6/ 71.
شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه حريص على العلم والحديث، وازداد علمه وفضله ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له، قال أبو هريرة رضي الله عنه: قلت: يارسول الله، أسمع منك أشياء فلا أحفظها، قال:«فابسط رداءك» ، فبسطته فحدث حديثا كثيرا، فما نسيت شيئا حدثني به (1)، وعند البخاري قلت: يارسول الله، إني أسمع منك حديثا كثيرا أنساه، قال:«ابسط رداءك» فبسطته، قال: فغرف بيديه ثم قال: «ضمه» فضممته، فما نسيت شيئا بعده (2)، فكان أحفظ الصحابة رضي الله عنهم، شهد له عبدالله بن عمر رضي الله عنهما فقال له: أنت يا أباهر كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلمنا بحديثه، ومشى ابن عمر أمام جنازة أبي هريرة وهو يكثر الترحم عليه، ويقول:"كان مم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين"(3).
ومما يدل على حرص أبي هريرة على حفظ العلم قول زيد بن ثابت رضي الله عنهما: "بينما أنا وأبو هريرة، وفلان في المسجد ذات يوم ندعو الله، ونذكر ربنا خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس إلينا فسكتنا" فقال: «عودوا للذي كنتم فيه» قال زيد: "فدعوت أنا وصاحبي قبل أبي هريرة، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمن على دعائنا، ثم دعا أبو هريرة، فقال: اللهم إني أسألك مثل ما سألك صاحباي هذان، وأسألك علما لا ينسى" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آمين» فقلنا: يارسول الله: "ونحن نسأل الله علما لا ينسى" فقال: «سبقكم بها الغلام الدوسي» (4).
وقد توجس عمر بن الخطاب رضي الله عنه من كثرة الحديث خوفا من الغلط فيه، ولذلك هدد أبي هريرة وقال: لتتركن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو: لألحقنك بأرض دوس (5)، فأراد أن يختبر حفظ أبي هريرة فقال أبو هريرة رضي الله عنه: بلغ عمر حديثي فأرسل إليّ فقال: "كنت معنا يوم كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت فلان؟ " قلت: نعم، وقد علمت لِمَ
(1) الوافي بالوفيات 6/ 71.
(2)
البخاري حديث (119).
(3)
البداية والنهاية 8/ 107.
(4)
السنن الكبير للنسائي حديث (5839).
(5)
البداية والنهاية 8/ 115.
تسألني عن ذلك؟ ، قال: ولِمَ سألتك؟ ، قلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده ن النار» قال: أما إذًا فاذهب فحدث (1).
فكان أبو هريرة رضي الله عنه إذا أراد أن يحدث ابتدأ بقوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق: «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده ن النار» (2).
ولم يكن الموقف من عمر رضي الله عنه خاصا بأبي هريرة رضي الله عنه، بل كانت سنة عمرية في وجوب التثبت والاحتياط في النسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو سيعد الخدري رضي الله عنه: كنا في مجلس عند أبي بن كعب، فأتى أبو موسى الأشعري مغضبا حتى وقف، فقال: أنشدكم الله هل سمع أحد منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك، وإلا فارجع» قال أُبي: وما ذاك؟ قال: استأذنت على عمر بن الخطاب أمس ثلاث مرات، فلم يؤذن لي فرجعت، ثم جئته اليوم فدخلت عليه، فأخبرته: أني جئت أمس فسلمت ثلاثا، ثم انصرفت.
قال: قد سمعناك ونحن حينئذ على شغل، فلو ما استأذنت حتى يؤذن لك؟ ، قال: استأذنت كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فوالله، لأوجعن ظهرك وبطنك، أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا.
فقال أبي بن كعب: فوالله، لا يقوم معك إلا أحدثنا سنا، قم، يا أبا سعيد، فقمت حتى أتيت عمر، فقلت: قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا" (3).
وقد سأل عمر أبو الطفيل عن قول أبي موسى رضي الله عنهم، فقال:"يا أبا الطفيل، ما يقول هذا؟ ، قال أبو الطفيل: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك يا ابن الخطاب، فلا تكونن عذابا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: سبحان الله إنما سمعت شيئا، فأحببت أن أتثبت."(4)، وقد تكرر الموقف مع عدد من الصحابة رضي الله عنهم ومنهم أبو الدرداء، وابن مسعود، ووأبو ذر رضي الله عنهم، قال عمر رضي الله عنه: "ما هذا الحديث الذي تذكرون على رسول الله
(1) البداية والنهاية 8/ 115.
(2)
البداية والنهاية 8/ 115.
(3)
مسلم حديث (2153، 2154).
(4)
مسلم حديث (2154).
- صلى الله عليه وسلم؟ " (1)، وما هذا من عمر رضي الله عنه إلا ليعلمهم هذه السنة العظيمة، في تعظيم القول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا عنده عدولا، وقد أذن بالرواية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها، ثم بلغها عني، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» (2)، وممن استكثر حديث أبي هريرة رضي الله عنه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: "أكثرت الحديث عن رسول الله، يا أبا هريرة؟ ! " قال رضي الله عنه:"إني والله ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب" ولكن أرى ذلك شغلك عما استكثرتُ من حديثي" قالت رضي الله عنها: "لعله" (3).
هذا جوابها رضي الله عنها، أي: فعلا لعل ذلك شغلني، ولم تعنف أباهريرة على مقالته، والحق معه فأمهات المؤمنين عموما لا يحضرن كل المجالس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا استكثر أبو هريرة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحصّل ما لم يحصله الكثيرون من الصحابة رضي الله عنهم، فضلا عن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن.
وقد تقدم إليه رجل من قريش فقال ساخرا، وهو في حلة يتبختر فيها:"يا أبا هريرة، إنك تكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل سمعته يقول في حلتي هذه شيئا؟ " قال: "والله إنكم لتؤذوننا، ولولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه ما حدثتكم بشيء: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: «إن رجلا ممن كان قبلكم بينما هو يتبختر في حلة إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة» فوالله ما أدري لعله كان من قومك"(4)، وفي رواية: بينا أبو هريرة يحدث أصحابه، إذ أقبل رجل إلى أبي هريرة، وهو في المجلس، فأقبل وعليه حلة له، فجعل يميس فيها حتى قام على أبي هريرة، فقال:"يا أبا هريرة هل عندك في حلتي هذه من فتيا؟ "، فرفع رأسه إليه، وقال: حدثني الصادق المصدوق خليلي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم قال: «بينا رجل ممن كان قبلكم، يتبختر بين بردين، فغضب الله عليه، فأمر الأرض فبلعته،
(1) المحدث الفاصل 1/ 553.
(2)
ابن ماجه حديث (236) وصححه الألباني رحمه الله، وأخرجه أحمد بسند حسن، حديث (13350) وفيه زيادة ثلاث لا يغل عليهن
…
الحديث.
(3)
البداية والنهاية 8/ 108.
(4)
البداية والنهاية 8/ 108.