الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دلالته عليه وإن كانت أرجح بالنسبة إلى دلالته على المفهوم الحقيقي لكنه ليس بظاهر لأنها ليست بوضعية ولا عرفية.
والتأويل في اللغة: هو الترجيح من آل يؤول إذا رجع.
وفي اصطلاح الأصوليين: حمل الظاهر على المحتمل المرجوح.
وخرج بقوله الظاهر حمل النص على معناه وحمل المشترك عل ذلك تأويل.
وقوله المحتمل احتراز عن حمل الظاهر على معناه الراجح. وهذا التعريف يشمل التأويل الصحيح والفاسد ومن أراد
تعريف التأويل
الصحيح زاد على ما ذكر لفظ:
بدليل يصيره راجحا. فقوله: بدليل أعم من كونه قطعيا أو غيره احترازا عن التأويل بغير ذلك فإنه لا يسمى صحيحا. وقوله: يصيره راجحا - أي يصير الطرف المرجوح راجحا على مدلوله الظاهر احتراز عما لا يصيره راجحا فإنه لا يسمى صحيحا.
وعرفه الغزالي: بأنه احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من الظاهر.
وأورد عليه أن الاحتمال شرط التأويل لا نفسه. ويرد أيضا على عكسه التأويل المقطوع به لأنه لم يصر بالدليل أغلب على الظن من الظاهر بل كان قطعيا.
ولما كان الظاهر أكثر استعمالا من الظهور والتأويل من المؤول تعرض المصنف لتفسير الظاهر دون الظهور وفي التأويل بالعكس.
والتأويل على ثلاثة أقسام: قريب: وهو ما يترجح فيه الطرف المرجوح بالأدنى دلالة كقوله - تعالى -: (إذا قمتم) أي أردتم القيام إلى " الصلاة ".
وبعيد: وهو ما يحتاج إلى دليل قوي. ومتعذر لبعده فيرد.
وهذه قسمة يعسر التمييز بين أقسامها لأن القريب والبعيد إضافيان والأذهان متفاوتة والتعصب فيها جاز.
ص - فمن البعيدة تأويل " الحنفية " قوله صلى الله عليه وسلم: " لابن غيلان " وقد أسلم على عشر أمسك أربعا وفارق سائر هن أي ابتدئ النكاح أو أمسك الأوائل فإنه يبعد أن يخاطب بمثله متجدد في الإسلام من غير بيان. ومع أنه لم ينقل تجديد قط.
وأما تأويلهم قوله صلى الله عليه وسلم: لفيروز الديلمي وقد أسلم على أختين " أمسك أيتهما شئت " فأبعد ، لقوله:"أيتهما ".
ش - أورد المصنف للبعيد أمثلة بعضها قريب وبعضها أقرب والمصنف استبعدها عصبية على الحنفية ولوقوف ذهنه قال: فمن البعيدة تأويل الحنفية إلى آخره.
وصورة المسألة أن الكافر إذا أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة أسلمن معه أولا وهن كتابيات سواء كان العقد عليهن جملة أو مرتبا فإن له أن يختار من غير تجديد نكاحهن وتندفع الباقيات عند مالك والشافعي - رحمهما الله - لقوله عليه السلام: " لابن غيلان " وقد أسلم على عشرة نسوة: " أمسك " أربعا "
وفارق سائرهن " فإنه أمر بالإمساك وهو ظاهر في استدامة النكاح. وقوله أربعا غير متعين فلهذا للزواج أن يختار أي أربع شاء.
وقال أبو حنيفة إن وقع نكاحهن معا بطل الجميع وإن وقع مرتبا بطل ما بعد الأربع قياسا على المسلم ، وأول الحديث بالنسبة إلى الضرورة الأولى بأن المراد بالإمساك ابتداء نكاحهن فكان معنى قوله:" أمسك أربعا " ابتدئ نكاحهن. وقوله: " وفارق سائر هن " أي لا تنكحهن. وبالنسبة إلى الضرورة الثانية فإنه أمر الزوج باختيار الأوائل أي أربعا من أوائلهن.
وذكر المصنف لبعد هذا التأويل وجهين:
أحدهما: أنه تبعد عادة أن يخاطب متجدد في الإسلام بمثل هذا الخطاب من غير بيان شرائط النكاح مع مساس الحاجة إلى معرفتها لقرب عهده بالإسلام.
الثاني: أنه لم ينقل أنه جدد النكاح ولو كان معناه تجديد النكاح لكان الظاهر من حال المأمور امتثال ما أمره به صلى الله عليه وسلم.
ولقائل أن يقول الأخذ بالظاهر متروك بالإجماع لأنه لو كان بعضهن من المحارم لا يجوز أن يختارهن بالإجماع فلا بد من تأويل وحمله على حال المسلم أقرب التأويلات بالقياس والجامع بينهما التزام أحكام الإسلام ، وعدم نقل التجديد ممنوع لكنه لم يشتهر لأنه ليس تعم به البلوى وكذا تجدد عهده بالإسلام غير مفيد لجواز أن تكون الحادثة بعد اشتهار شرائط النكاح وأحوالها بينهم.
ومثل هذا ما قال الحنفية فيمن أسلم على أختين في إبطال نكاحهما إن كانا معاً
وبطلان الثاني إن ترتبا. وأولوا حديث فيروز الديلمي وهو قوله عليه السلام له حين أسلم على أختين " أمسك أيتهما شئت " بالتأويلين المذكورين.
قال المصنف فأبعد لقوله: " أيتهما " وإنما كان هذا أبعد لأن المنافي للتأويل المذكور في الأول هو الأمر الخارج عن اللفظ وهو شهادة الحال قد انضم إلى ذلك مانع آخر لفظا وهو قوله عليه السلام: " أيتهما شئت " فإنه بتقدير وقوع النكاح مرتبا تعين الأول للاختيار ولفظ أيتهما شئت يأباه.
ولقائل أن يقول: متروك الظاهر لأنه لو كانت إحداهما أختا نسبية أو رضاعية أو مجوسية بطل الخيار بالإجماع فيجعل حاله كحال المسلمين وأن العمل بواحدة لا بعينها غير ممكن فلا بد من التعيين وتعيين الأولى دافع وتعيين الثانية رافع والدفع أسهل فكان أولى.
ص - ومنها قولهم في (فإطعام ستين مسكينا) أي: فإطعام طعام ستين مسكينا لأن المقصود دفع الحاجة ، وحاجة ستين كحاجة واحد في ستين يوما فجعل المعدوم مذكورا والمذكور عدما مع إمكان قصده لفضل الجماعة وبركتهم وتضافر قلوبهم على الدعاء للمحسن.
ش - قال علماؤنا الحنفية رحمهم الله لا فرق في الكفارة بين إطعام ستين مسكينا وبين إطعام مسكين واحد ستين يوما لأن المقصود دفع حاجة المسكين ودفع حاجة مسكين واحد في ستين يوما كدفع حاجة ستين مكسنا يوما ، وأولوا قوله - تعالى -:(فإطعام ستين مسكينا) بإطعام طعام ستين مسكنيا واستبعد المصنف هذا أيضا بأنهم جعلوا المعدوم الذي هو طعام مذكورا ليكون مفعولا لإطعام وجعلوا المذكور الذي هو ستين مسكينا عدما حيث لم يجعلوه مفعولا مع إمكان قصد الشارع العدد لفضل الجماعة وتزكيتهم وتضافر قلوبهم على الدعاء للمحسن وهو لا يحصل بالواحد.
ولقائل أن يقول إنه من باب حذف مضاف وهو غير عزيز في الكلام فحمله على البعد بعد عن الإنصاف.
وقوله: مع إمكان قصده ليس بشيء لأن شرعته لستر الذنب والجماعة لا مدخل لها في ذلك. فإن اعتبرت كثرة الخلة صح المدعى.
وكذلك تزكيتهم وتضافر قلوبهم على الدعاء لا مدخل لهما في كفار الذنب والكفارة ما شرعت إلا لذلك فذكر ذلك في هذا المقام مجرد " وغلط " في غير محله على أن الحنفية لا يحتاجون إلى هذا التأويل فإن الحذاق المتفننين عملوا في ذلك بدلالة النص كما عرف في موضعه.
ص - ومنها قولهم: " في أربعين شاة شاة " أي: قيمة شاة بما تقدم وهو أبعد إذ يلزم أن لا تجب الشاة. وكل معنى إذا استنبط من حكمه أبطله باطل.
ش - وقالوا أيضا إن المقصود من وجوب الشاة دفع حاجة الفقير وهي كما
تندفع بالشاة تندفع بقيمتها فقوله عليه السلام: " في أربعين شاة شاة " معناه شاة.
وأشارة إلى بعده بما تقدم أنه جعل المعدوم موجودا وجعله أبعد بما تقدم لأن تقدير المضاف هناك لا يبطل ما دل عليه الظاهر إذ لا منافاة بين إيجاب إطعام طعام ستين مسكينا وبين إيجاب إطعام ستين مسكينا بخلاف تقدير قيمة شاة فإنه إذا كان الواجب قيمة شاة كانت الشاة غير واجبة وذكر قاعدة بأن كل معنى مستنبط من حكم يعني كل فرع إذا استنبط من أصل ذلك الحكم أي الأصل كان باطلا لأن بطلان الأصل يوجب بطلان الفرع.
ولقائل أن يقول لا حاجة للحنفية إلى هذا التأويل لأنهم يجوزون القيمة بنص آخر وهو قوله - تعالى -: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) ، وبدلالة هذا الحديث أيضا على أنه لا يمكن الإجراء على ظاهره لأن أربعين لا يمكن أن تكون ظرفا لشاة فلا بد من تأويل وقيمتها أقرب إليها لأن القيمة تقوم مقام العين.
وقوله: إذ يلزم أن لا تجب الشاة - فاسد لأنه تخصيص باللقب وهو لا يدل على النفي.
ص - ومنها حمل: " أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل " على الصغيرة والأمة والمكاتبة.
وباطل أي يؤول غالبا لاعتراض الولي ، لأنها مالكة لبعضها فكان كبيع سلعة.
واعتراض الأولياء لدفع نقيصة " إن كانت ": فأبطل ظهور قصد التعميم بتمهيد أصل مع ظهور " أي " مؤكدة بـ " ما " وتكرير لفظ البطلان. وحمله على نادر بعيد كاللغز مع إمكان قصده لمنع استقلالها فيما يليق بمحاسن العادات.
ش - عبارات الحرائر البالغة معتبرة في النكاح عندنا خلافا للجماعة قالوا قوله صلى الله عليه وسلم: " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل " بظاهره يدل على أنها غير معتبرة فيه أصلا.
قال وأوله الحنفية بتأويلين:
أحدهما: حمل المرأة على الأمة والمكاتبة والصغيرة مع إجراء قوله: باطل
على ظاهره.
والثاني: حمل قوله باطل على أنه يؤول إلى البطلان غالبا لاعتراض وليها إذا تزوجت بغير كفو أو نقصت مهر مثلها مع إجراء قوله: " أيما امرأة " على ظاهر عمومه وذلك لأن المرأة مالكة لبعضها حتى كان المعتبر رضاها فكان نكاحها بغير إذن وليها كبيع سلعة لها.
قوله: واعترض الأولياء: جواب عما يقال لو ملكت بضعها لم يكن للولي عليها بالاعتراض سبيل.
وتقريره الاعتراض إنما هو لدفع نقيصة تتعلق بالأولياء إن وقعت من حيث التزوج بغير كفو أو بنقصان مهر مثلها فإنهم يتعيرون بذلك.
وقوله: فأبطل - بيان وجه بعد التأويل فإنه أبطل ما هو الظاهر من اللفظ وهو قصد التعميم المستفاد من تمهيد أصل وهو وضع الألفاظ العامة مع ظهور كلمة أي مؤكدة بما للمبالغة في العموم فإن كلمة " ما " زيدت لتأكيد الاستغراق.
وأيضا تكرير الباطل دليل على أن المراد هو الباطل لا ما يؤول إلى البطلان.
وقوله: وحمله - معطوف على قوله: فأبطل - أي أبطل. وحمل هذا المؤول الحديث على نادر بعيد كاللغز لخفائه مع إمكان قصد النبي صلى الله عليه وسلم منع استقلال المرأة بالغة حرة أو غيرها فيما يليق بمحاسن العادات.
ولقائل أن يقول: الحنفية لا يحتاجون إلى تأويل هذا الحديث لأن الراوي إذا عمل بخلاف روايته بعدها كان ذلك أمارة زيفه.
وهذا الحديث روته عائشة رضي الله عنها ثم إنها زوجت بنت أخيها
عبد الرحمن وهو غائب بالشام فدل ذلك على ظهور مانع عن العمل به إذ لا يظن بها المخالفة للحديث بدونه لا يقال غيرها أيضا رواه فيعمل بروايته لأن ظهور المانع في حقها مانع مطلقا لعدم اختصاص الموانع براو دون غيره.
غاية ما في الباب أن غيرها لم يطلع عليه فإن عمل به كان مقصرا في الطلب.
ولم أر في كتب الحنفية شيئا من هذه التأويلات فإن اتفق ذلك مع بعضهم يحمل على أنه أراد بها فسخ مجلس المناظرة.
ثم لا نسلم أن منع استقلال الحرة البالغة بأمر نكاحها أمر مقصود لأن النكاح ما يثبت بالشبهات فكيف يجوز عدم استقلالها فيه مع جواز استقلالها في المعاوضات المالية المشتملة على أبواب الربا مع تدارك ما يتوهم في النكاح من تضييع حق الأولياء لجواز الاعتراض.
ص - ومنها حملهم: " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من اليلي " على القضاء والنذر لما ثبت عندهم من صحة الصيام بنية النهار فجعلوه كاللغز.
فإن صح المانع من الظهور فليطلب أقرب تأويل.
ش - ذهب أبو حنيفة إلى أن صوم رمضان يجوز بنية نهارية إلى أن ينتصف
النهار وخالفه غيره مستدلا بقوله: " لا صيام " لمن يبت " فإن عمومه يتناول جميع أنواعه.
ونقل عن الحنفية أنهم حملوه على القضاء لأنه ثبت عندهم صحة الصوم بنية من النهار إذا لم يكن قضاء ونذرا. وحكم ببعد هذا التأويل لأن قوله عليه السلام: " لا صيام " نكرة في سياق النفي فيكون ظاهرا " في " العموم ، وصوم النذر والقضاء نادر بالنسبة إلى الصوم الأصلي المكلف فيه في أصل الشرع فيكون حمل اللفظ على القضاء والنذر كاللغز لبعده عن الفهم.
قوله: وإن صح - جواب عما يقال المانع من حمل اللفظ على الظاهر متحقق فكان التأويل المذكور صحيحا ، وتقريره إن صح ذلك فليطلب أقرب تأويل لا ما هو كاللغز.
ولقائل أن يقول دل الاستقراء على أن هذا أقرب تأويل لأن الصوم إما واجب أو غيره والأول إما بإيجاب الشرع كصوم الفرض وقضائه وقضاء المنذور المعين أو بإيجاب العبد كالمنذور.
وقوله - تعالى -: (ثم أتموا الصيام إلى اليل) دل على تأخير النية في الفرض.
وقوله صلى الله عليه وسلم بعدما سأل الغداء ولم يوجد " إني إذا لصائم " دل على تأخيرها في النفل فلم يبق إلا القضاء والنذر والدلالة المذكورة تصير المرجوح راجحا في تركه إبطالها بالكلية فكان ترجيحا قريبا.
وقوله: كاللغز لبعده عن الفهم إما يريد به الفهم في الجهلة أو فهم الفقهاء والأول مسلم ولكن ليس بملتزم في التأويلات فهم العوام والجهال ، والثاني ممنوع فإنه قد وقع في استنباطات المجتهدين ما هو أدق من ذلك.
ص - ومنها: حملهم (ولذي القربى) على الفقراء منهم لأن المقصود سد الخلة ولا خلة مع الغنى فعطلوا لفظ العموم مع ظهور أن القرابة سبب الاستحقاق مع الغنى.
وعد بعضهم حمل مالك: (إنما الصدقات) إلى آخرها على بيان المصرف من ذلك وليس منه لأن سياق الآية قبلها من الرد على لمزهم في المعطين ورضاهم في إعطائهم وسخطهم في منعهم يدل عليه.
ش - أي ومن التأويلات البعيدة للحنفية حمل قوله - تعالى -: (ولذي القربى) في قوله: (واعلموا أنا غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذى القربى
…
) على الفقراء منهم لأن المقصود من دفع الخمس إليهم سد خلتهم
ولا خلة مع الغنى فحكموا بحرمان الأغنياء منهم. وأما بعده فلأنهم عطلوا لفظ العموم مع ظهور أن القرابة سبب لاستحقاقهم وإن كان مع الغنى لأن الإضافة باللام تشعر بغلبة القرابة للاستحقاق.
ولقائل أن يقول الطعن بتعطيل العموم هاهنا طعن باطل لما ثبت أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أدخلوا يتامى ذوي القربى في يتامى المسلمين وأدخلوا مساكينهم في مساكينهم وأبناء السبيل منهم في أبناء السبيل للمسلمين ولم يعطوا أغنياءهم شيئا فالطعن به طعن على الصحابة نعوذ بالله من ذلك.
وقوله: مع ظهور أن القرابة سبب - ليس بشيء لأن بيان النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد به قرابة النصرة بقوله: " إنهم لن يزالوا معي في الجاهلية والإسلام " دليل تصييره راجحا على الظاهر فالطعن به باطل.
وقد حمل مالك قوله - تعالى -: (إنما الصدقت للفقراء والمسكين
…
) إلى آخرها على بيان المصرف لا المستحقين وجوز إعطاء الزكاة من الأصناف. فعد بعضهم ذلك من التأويلات البعيدة لأن إضافة الصدقات إلى الأصناف المذكورة وعطف بعضها على بعض بواو التشريك يوجب الاستيعاب فالحمل على بيان المصرف عدول عن ظاهر اللفظ بلا قرينة صارفة فيكون بعيدا.
قال المصنف: وليس سياق الآية التي قبلها تدل على ما ذكره مالك لأن قبل هذه الآية قوله - تعالى -: (ومنهم من يلمزك في الصدقت فإن أعطوا منها رضوا وإن لم.
يعطوا منها إذا هم يسخطون ولو أنهم رضوا ما ءاتهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله رغبون).
وذلك يشتمل على الرد على لمزهم الرسول في الصدقات وعلى رضاهم في إعطائهم وسخطهم في منعهم ، ولما رد عليهم ذكر مصارف الصدقات ليبين أنه صلى الله عليه وسلم أوصل الحق إلى مستحقيه.
والحق ما قاله علماؤنا إنه حمل على بيان المصرف لأن الصدقات عبادة ولا يستحقها غير الله.
ص - المفهوم: الدلالة منطوق ، وهو: ما دل عليه اللفظ في محل النطق.
والمفهوم بخلافه ، أي لا في محل النطق.
والأول صريح ، وهو ما وضع اللفظ له.
وغير الصريح ، بخلافه ، وهو: مما يلزم عنه.
فإن قصد وتوقف الصدق أو الصحة العقلية أو الشرعية عليه فدلالة اقتضاء.
مثل: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان "(واسأل القرية) وأعتق عبدك عني على ألف ، لاستدعاه تقدم الملك لتوقف العتق عليه.
وإن لم يتوقف واقترن بحكم لو لم يكن لتعليله كان بعيدا فتنبيه وإيماء كما سيأتي. وإن لم يقصد فدلالة إشارة مثل: " النساء ناقصات عقل ودين. قيل وما نقصان دينهن؟ قال تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلي " فليس المقصود بيان أكثر الحيض وأقل الطهر ، ولكنه لزم من أن المبالغة تقتضي ذكر ذلك.
وكذلك: (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) مع: (وفصاله في عامين) وكذلك: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى ..) يلزم منه جواز الإصباح جنبا. ومثله: (فالآن
باشروهن) إلى (حتى يتبين لكم
…
).
ش - لما فرغ من بيان التأويل شرع في بيان أقسام الدلالة. فقال الدلالة منطوق أي المدلول منطوق بدليل تذكير الخبر.
وقوله: وهو ما دل عليه اللفظ لأن ما يدل عليه اللفظ مدلول لا دلالة ومن هذا يعلم أن المراد بقوله المفهوم لا مقابل المنطوق.
وقسمها إلى منطوق ومفهوم وعرف المنطوق بقوله: ما دل عليه اللفظ في محل النطق. والمفهوم بخلافه أي لا في محل النطق.
ومعنى محل النطق أن يدل عليه اللفظ فيما نطق به لا في غير ما نطق به.
وفي كلامه تعسف سنشير إليه.
مثال المنطوق: تحريم التأفيف من قوله: (فلا تقل لهما أف).
ومقال المفهوم: تحريم الضرب منه فإنه يدل عليه لكن لا في محل النطق بل في غير ما نطق به.
وقسم المنطوق إلى صريح وهو: ما وضع اللفظ له.
وأنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: اقتضاء ، وتنبيه ، وإشارة ، وذلك لأنه أي غير
الصريح لا يخلو إما أن يقصده المتكلم أو لا فإن قصده فإما أن يتوقف عليه صدق المتكلم أو الصحة العقلية أو الشرعية عليه أو لا. فإن توقف يسمى دلالة اللفظ عليه اقتضاء وإن لم يتوقف أحد هذه الثلاثة عليه أي على ما يلزم عما وضع اللفظ له واقترن الملفوظ به بحكم لو لم يكن ذلك الحكم لتعليل الملفوظ به كان الاتيان به بعيدا من الشارع فتنبه وإيماء على ما سيأتي وإن لم يقصده المتكلم لكن يحصل بالتبعية فدلالة اللفظ عليه إشارة.
وفي كلامه نظر لعدم استقامة الأقسام فإنه لم يذكر ما إذا لم يقترن الملفوظ به بحكم إلى آخره.
مثال ما توقف صدق المتكلم عليه قوله صلى الله عليه وسلم: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " فإن المعنى الذي وضع له لفظ الخطأ لازمه حكم الخطأ مقصود منه وتوقف صدقه عليه.
ومثال ما توقف عليه الصحة العقلية قوله - تعالى -: (وسئل القرية) فإن المعنى الذي وضع له لفظ القرية لازمه وهو الأهل مقصود وصحته العقلية موقوفة
عليه لأن السؤال عن القرية وهي الحيطان ونحوها غير صحيح عقلا.
ومثال ما توقف عليه الصحة الشرعية: أعتق عبدك عني بألف درهم.
فإن المعنى الذي وضع له لفظ أعتق عني لازمه وهو التمليك مقصود وتوقف عليه الصحة الشرعية.
وأما مثال التنبيه والإيماء فسيأتي في القياس.
وأما مثال الإشارة فكقوله صلى الله عليه وسلم: " ناقصات عقل ودين " قيل: وما نقصان دينهن؟ قال تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلي
…
" فليس المقصود من هذا القول بيان أكثر الحيض وأقل الطهر ولكنه لزم منه أن يكون أكثر الحيض خمسة عشر يوما ، وأقل الطهر كذلك لأن ذكر شطر الدهر مبالغة في بيان نقصان دينهن ولو كان
الحيض يزيد على خمسة عشرة " يوما ذكره ".
وكذلك قوله - تعالى -: (وحمله وفصله ثلثون شهرا) مع قوله: (وفصله في عامين) يدل على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، وإن لم يكن مقصودا من اللفظ ظاهرا.
وكذلك قوله - تعالى -: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) يلزم منه جواز الإصباح جنبا.
وكذلك قوله - تعالى -: (فالئن بشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) يدل على جواز الإصباح جنبا لأنه يدل على جواز امتداد المباشرة إلى طلوع الفجر وحينئذ يلزم ما ذكرناه.
واعلم أني أذكر لك هاهنا حكاية ينبني عليها حل هذا الموضوع ويظهر سوء تركيب المصنف الذي حاز قصبات السبق في مضمار فرسان علماء النحو وهي أن الشيخ الإمام شيخ شيوخ الإسلام بالديار المصرية الشيخ علاء الدين القونوي رحمه الله كان يستشكل أن يكون غير الصريح قسما من المنطوق ومنشأ وهمه سوء تركيب المصنف فإنه قال: والأول صريح: وهو ما وضع اللفظ له. وغير الصريح بخلافه. فإن مراده لو كان بيان أنه قسم لقال: والأول صريح وهو ما وضع اللفظ له وغير صريح وهو بخلافه. فلما قال: وغير الصريح بخلافه دل على أنه قسم آخر غير منطوق وعلى هذا تنقسم دلالة اللفظ إلى ثلاثة أقسام: منطوق: وهو الصريح. ومفهوم: وهو خلاف المنطوق. وغير صريح وهو أيضا خلاف كل واحد منهما ، ولا تفرقة بين أقسام غير الصريح وهو الاقتضاء والتنبيه والإشارة وبين المفهوم وهو الضرب من التأفيف في أن دلالة اللفظ على ذلك دلالة على خارج عما وضع له فجعل
الأقسام الثلاثة قسماً للمنطوق والمفهوم قسما تحكم صرف.
فلما قدم الديار شيخنا وإمامنا العلامة النحرير البحر الزاخر بأمواج التقرير والتحرير شمس الدين الأصبهاني الذي لن تضئ الشمس شمسا مثله استكتبه شيخ الشيوخ المشار إليه رسالة في كشف غامض هذا الموضع فكتب شيخنا رسالة أشار فيها إلى مواضع زلله.
منها أن قوله: والأول صريح منكر يشير إلى أن له قسما آخر إذ لو أراد حصر المنطوق في الصريح لكان التركيب الصحيح: والأول الصريح وذلك ظاهر لا يخفى على أحد وإنما جاء بغير الصريح معرفا وإن كان معطوفا على صريح لمعنيين:
أحدهما: الاختصار بترك المبتدأ فإنه كان يحتاج أن يقول: وغير صريح وهو بخلافه. فاقتصر على لفظ واحد.
والثاني: أن قوله: صريح في قوة الصريح معرفا بواسطة تعرفه وهو قوله: ما وضع اللفظ له. فإنه إذا عرف صار في المعنى معرفة فكأنه قال: والأول الصريح وغير الصريح ويكون قوله: - بخلافه - حالا.
وذلك كله سوء تركيب وإيجاز مخل.
ولما كان في الرسالة بعض تطويل وكان شيخ الشيوخ رجلا متضلعا بعلوم تمكن من المنع في بعض مقدماتها ، فكتب شيخنا وإمامنا رسالة أخرى لم يتمكن " أحدا " أن يتكلم فيها يثبت سبقه. وهي هذه:
قال صاحب المختصر: الدلالة منطوق إلى آخره.
كلام صاحب المختصر يدل على أنه جعل الاقتضاء والتنبيه والإشارة من قبيل المنطوق وذلك لأنه قال: الدلالة منطوق: وهو ما دل عليه اللفظ في محل النطق. والمفهوم بخلافه. وقد حصر الدلالة في المنطوق والمفهوم ولا واسطة بينهما
" لأن " المفهوم جعله خلاف المنطوق ولا واسطة بين الشيء وخلافه فلا واسطة بين المنطوق والمفهوم ز الأقسام الثلاثة ليست من قبيل المفهوم عند صاحب المختصر قطعا فتعين أن تكون من قبيل المنطوق.
وأيضا قال: المنطوق: ما دل عليه اللفظ في محل النطق. والمفهوم ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق. ولا واسطة بين ما دل عليه اللفظ في محل النطق وبين ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق وحينئذ يلزم قطعا أن تكون الأقسام الثلاثة من قبيل المنطوق. وذلك لأن الأقسام الثلاثة لا تخلوا إما أن تكون مما دل عليه اللفظ في محل النطق أو تكون مما يدل عليه اللفظ لا في محل النطق لضرورة الحصر. ولا يجوز أن تكون ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق وإلا لكان مفهوما لأن كل ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق فهو مفهوم. لكن الأقسام الثلاثة ليست بمفهوم قطعا عنده.
فلا تكون الأقسام الثلاثة مما دل عليه اللفظ لا في محل النطق فتعين أن تكون مما دل عليه اللفظ في محل النطق إذ لا واسطة بينهما وإذا كانت الأقسام الثلاثة مما دل عليه اللفظ في محل النطق تكون من قبيل المنطوق لأنا نركب قياسا هكذا: الأقسام الثلاثة مما دل عليه اللفظ في محل النطق ، وكل ما دل عليه اللفظ في محل النطق فهو منطوق فالأقسام الثلاثة منطوق. أما الصغرى فلما بينا وأما الكبرى فلأن ما دل عليه اللفظ في محل النطق جعله صاحب المختصر معرفا للمنطوق والمعرف مساو للمعرف في الصدق.
فيكون ما دل عليه اللفظ في محل النطق مساويا للمنطوق وأحد المتساويين صادق على كل ما صدق عليه الآخر فإذن ثبت أن الأقسام الثلاثة من قبيل المنطوق عنده وحينئذ يلزم أن يكون المنطوق أعم من الصريح لأن كل صريح منطوق ، فهو ظاهر ، وليس كل منطوق بصريح.
فإن الأقسام الثلاثة منطوق وليست بصريح ضرورة كونها من أقسام غير الصريح.
وإذا كان المنطوق أعم من الصريح يكون منقسما إلى صريح وغير الصريح وكل واحد منهما قسما له وقسيما للآخر ، ضرورة كونهما أخصين تحت أعم.
والمنطوق إما مدلول مطابقي أو مدلول تضمني أو مدلول التزامي عنده وذلك لأنه جعل المنطوق على قسمين صريح وغير صريح ز جعل الصريح ما وضع له اللفظ وكل ما وضع له اللفظ مدلول مطابقي وجعل غير الصريح ما لزم عا وضع اللفظ له ، وما لزم عما وضع اللفظ له مدلول تضمني أو مدلول التزامي لأنه إما داخل فيما وضع اللفظ له أو خارج عنه. والأول مدلول تضمني والثاني التزامي. فغير الصريحح إما مدلول تضمني وإما مدلول التزامي فالمنطوق إما مدلول مطابقي وإما مدلول تضمني وإما مدلول التزامي ولا يستبعد جعل الأقسام الثلاثة من قبيل المنطوق وجعل المفهوم بخلافه وذلك لأن الأقسام فهمها من اللفظ أقرب من المفهوم والذي يدل على ذلك دليل إني ودليل لمي أما الدليل الأني فلأنهم جعلوا الأقسام الثلاثة متقدمة على المفهوم عند التعارض. وأما الدليل اللمي فلأن الأقسام الثلاثة مما دل عليه اللفظ في محل النطق والمفهوم ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق ولا شك أن ما دل عليه اللفظ في محل النطق أقرب فهما من اللفظ مما دل عليه اللفظ لا في محل النطق وهذا هو المقتضي لتقديم الأقسام الثلاثة على المفهوم.
فإن قيل: ما معنى قولهم الأقسام الثلاثة مما دل عليه اللفظ في محل النطق والمفهوم ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق.
أجيب بأن معنى قولهم ما دل عليه اللفظ في محل النطق أن المدلول يدل عليه اللفظ فيما نطق به لا في غير ما نطق به. فالمفهوم دل عليه اللفظ لا فيما نطق به بل فيما سكت عنه.
مثلا قول القائل: أعتق عبدك عني على ألف. يدل على ملكية العبد الذي نطق به.
وقوله: " في سائمة الغنم زكاة " يدل على عدم وجوب الزكاة لكن لا فيما نطق به وهو سائمة الغنم بل في غير ما نطق به وهو العلوفة المسكوت عنها.
وقوله - تعالى -: (فلا تقل لهما أف) يدل على حرمة الضرب فالحرمة المفهومة بطريق الموافقة ليست في محل النطق الذي هو الأف بل في محل مسكوت عنه وهو الضرب وعلى هذا تقريره في سائر الأقسام انتهت.
وقد نقلتها بعينها تبركا بميامن ألفاظه المباركة برد الله مضجعه.
ص - ثم المفهوم مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة. فالأول أن يكون المسكوت موافقا في الحكم ويسمى فحوى الخطاب ولحن الخطاب. كتحريم الضرب من قوله: (فلا تقل لهما أف) وكالجزاء بما فوق المثقال من قوله: (فمن يعمل) وكتأدية ما دون القنطار من: (يؤده إليك) وعدم الآخر من: (لا يؤده إليك).
وهو تنبيه بالأدنى فلذلك كان في غيره أولى. ويعرف بمعرفة المعنى وأنه أشد مناسبة في المسكوت ومن ثم قال قوم هو قياس جلي.
لنا: القطع بذلك لغة قبل شرع القياس.
وأيضا فأصل هذا قد يندرج في الفرع مثل: لا تعطه ذرة.
قالوا: لولا المعنى لما حكم. وأجيب بأنه شرطه لغة. ومن ثم قال به النافي للقياس.
ويكون قطعياً كالأمثلة. وظنيا كقوله الشافعي في كفارة العمد واليمين الغموس.
ش - المفهوم ينقسم إلى مفهوم موافقة وإلى مفهوم مخالفة فالأول أي: مفهوم الموافقة: أن يكون المسكوت عنه موافقا للمنطوق به في الحكم ويسمى فحوى الخطاب ولحن الخطاب أي: معنى الخطاب وذلك كتحريم الضرب من قوله - تعالى -: (فلا تقل لهما أف) فإن حكم المفهوم من اللفظ في محل السكوت موافق لحكم المفهوم منه في محل النطق وكفهم الجزاء بما فوق المثقال من قوله - تعالى -: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) وكفهم تأدية ما دون القنطار من قوله - تعالى -: (ومن أهل الكتب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك) والقنطار ألف ومائتا أوقية ، عن معاذ بن جبل:" وقيل مائة وعشرون رطلا " وقيل: ملء مسك الثور ذهبا.
وكفهم عدم تأدية ما فوق الدينار من قوله - تعالى -: (ومن أهل الكتب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك).
والمثال الثالث من قبيل التنبيه بالأعلى على الأدنى. وباقي الأمثلة من قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى فكذلك أي: فلأجل أن دلالة الملفوظ على المفهوم هو
التنبيه بالأدنى على الأعلى أو بالعكس كان الحكم في غير الملفوظ أولى منه فيه.
ويعرف الحكم في غير محل النطق بمعرفة المقصود من الحكم في محل النطق وأن ذلك المعنى أشد مناسبة للحكم في محل السكوت ومن ثم أي: ومن أجل توقف معرفة الحكم في محل السكوت على معرفة المعنى في محل النطق وكونه أشد مناسبة للحكم في محل السكوت قال قوم هو قياس جلي وليس كذلك.
والمصنف احتج على أنه ليس بقياس بوجهين:
أحدهما: أنا نقطع بفهم المعنى في محل السكوت لغة قبل شرع القياس فلا يكون قياسا.
الثاني: أنه لو كان قياسا لم يندرج أصل هذا تحت الفرع لأن في القياس عكسه ولكنه مندرج أحيانا كما إذا قلت: لا تعطه ذرة فإنه يفهم منه منع إعطاء ما فوقها وهي مندرجة فيه.
وقال القائلون بكونه قياسا: لولا المعنى المشترك بين المفهوم والمنطوق لما ثبت حكم المفهوم وهو المعنى بالقياس.
وأجاب المصنف بأن وجوده شرط لدلالة الملفوظ على حكم المفهوم لغة والقياس ليس كذلك لأنه دال على حكم الفرع عقلا ومن أجل أنه ليس بقياس قال به
النافي للقياس.
ثم إنه ينقسم إلى قطعي وظني. والقطعي: هو ما لا ينكر كالأمثلة المذكورة. والظني بخلافه ، كقول الشافعي في كفارة قتل العمد فإن الله - تعالى - أوجب الكفارة في قتل الخطأ بقوله:(ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة) وذلك يدل على وجوبها في " العمد " لأنه أولى بالمؤاخذة لكنه يجوز أن لا يكون المعنى المقصود في محل النطق المؤاخذة بل يكون تكفير ذنبه وحينئذ لا تجب لأن العمد فوق الخطأ ولا يلزم من كون الكفارة رافعة لإثم أدنى أن تكون رافعة للإثم الأعلى.
وكذلك قوله في كفارة يمين الغموس وهي الحلف على أمر ماض على خلاف ما يعلمه فإن الكفارة وجبت في اليمين المنعقدة وهو ألحق العمد بها نظرا إلى أنه أولى بالكفارة من غيره.
ولقائل أن يقول إن الكفارة دائرة بين معنى العبادة والعقوبة لتأديها بالصوم ووقوعها زاجرة وكل ما هو كذلك يجب أن يكون سببه أمرا دائرا بين الحظر والإباحة لئلا يلزم إضافة العبادة إلى المحظور أو العقوبة إلى المباح والقتل العمد واليمين الغموس ليس فيهما جهة إباحة فلا يصلحان سببا للكفارة فكان إيجابها فيهما وهما
لا ظناً.
ص - مفهوم المخالفة أن يكون المسكوت عنه مخالفا ويسمى دليل الخطاب وهو أقسام. مفهوم الصفة ، ومفهوم الشرط ، مثل:(وإن كن أولات) والغاية مثل: (حتى تنكح ..) والعدد الخاص مثل: (ثمانين جلدة). وشرطه أن لا تظهر أولوية ولا مساواة في المسكوت فيكون موافقة. ولا خرج مخرج الأغلب مثل: (اللاتي في حجوركم) (فإن خفتم
…
) " أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها. ولا لسؤال ، ولا حادثة ، ولا تقدير جهالة أو خوف أو غير ذلك مما يقتضي تخصيصه بالذكر.
ش - مفهوم المخالفة أن يكون المسكوت عنه مخالفا للمنطوق في الحكم ويسمى دليل الخطاب وهو عشرة أقسام ذكر المصنف أقواها وهي أربعة:
مفهوم الصفة ويكون باقتران اللفظ العام بصفة خاصة ، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: "
…
" و " سائمة الغنم زكاة ".
ومفهوم الشرط: وهو يكون عند تقييد الحكم بشرط كما في قوله - تعالى -: (وإن كن أولت حمل فأنفقوا عليهن).
ومفهوم الغاية وهو يكون عندما يكون الحكم مؤقتا بما يدل على الانتهاء كما في قوله - تعالى -: (فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره).
ومفهوم العدد الخاص وهو يكون عند تعلق الحكم بمقدار بلفظ الأعداد كما في قوله - تعالى -: (فاجلدوهم ثمنين جلدة).
ثم إن له شروطا:
أن لا تظهر أولوية ولا مساواة لغير محل النطق لأنه لو ظهر بالنسبة إلى محله كان مفهوم موافقة.
وأن لا يكون المنطوق خرج مخرج الأغلب كما في قوله - تعالى -: (وربئبكم التي في حجوركم) فإن الغالب من حال الربائب كونها في حجور أزواج الأمهات. فذكر المصنف لغلبته " لا لنفي التحريم غيرها ".
وكما في قوله - تعالى -: (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به) فإن تقييد جواز الخلع بالشقاق لكون الخلع عنده غالبا.
وكقوله عليه الصلاة والسلام: " أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها
…
" الحديث فإن الأغلب أن المرأة لا تنكح نفسها إلا عند عدم إذن وليها بالنكاح ومنعها عنه فلا يدل على نفي البطلان عند إذن الولي.
وأن لا يكون واردا لحادثة حديث كما إذا مر بشاة ميمونة فقال: " دباغها طهورها ".
وأن لا يكون لتقدير جهالة المخاطب بأن لا يعلم وجوب زكاة السائمة ويعلم وجوب زكاة العلوفة فيقول فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " في سائمة الغنم زكاة " فإن التخصيص حينئذ لا يكون لنفي الحكم عما عداها.
وأن لا يكون لدفع خوف مثل " ماذا " قيل لخائف عن ترك الصلاة المفروضة في أول الوقت جاز ترك الصلاة في أول الوقت.
أو غير ذلك مما يقتضي تخصيصه بالذكر فإنه إذا تحقق الباعث عليه لا يكون مفهوم المخالفة حجة.
ولقائل أن يقول: مآله الرد إلى الجهالة لعدم ضابطة وعلى تقدير ثبوتها يكون حجيته مغمورة عبر حجيتها ولا يزال النزاع في كل صورة أن فيها ما يقتضي التخصيص بالذكر فإن الطلبة المستعدين قلما يعجزون عن شيء من ذلك فكيف يجعل مثل حجة.
ص - فأما مفهوم الصفة فقال به الشافعي وأحمد والأشعري والإمام وكثير. ونفاه أبو حنيفة والقاضي والغزالي والمعتزلة. والبصري إن كان للبيان كالسائمة أو للتعليم كالتحالف أو كان ما عدا الصفة داخلا تحتها كالحكم بالشاهدين.
المثبتون: قال أبو عبيد في " لي الواجد يحل عقوبته وعرضه " يدل على أن لي من ليس بواجد لا يحل عقوبته وعرضه.
وفي " مطل الغني ظلم " مثله.
وقيل له في قوله: " خير له من أن يمتلئ شعرا " المراد الهجاء أو هجاء الرسول فقال لو كان كذلك لم يكن لذكر الامتلاء معنى لأن قليله كذلك. فالزم من تقدير الصفة المفهوم وقال به الشافعي وهما عالمان بلغة العرب فالظاهر فهمهما ذلك لغة.
قالوا: بنيا على اجتهادهما. أجيب بأن اللغة تثبت بقول الأئمة من أهل اللغة ولا يقدح فيها التجويز ، عورض بمذهب الأخفش. وأجيب بأنه لم يثبت كذلك. ولو
سلم فمن ذكرناه أرجح. ولو سلم فالمثبت أولى.
ش - فأما مفهوم الصفة فقد اختلف فيه الأئمة فذهب الشافعي وأحمد وأبو الحسن الأشعري وإمام الحرمين وكثير من المتكلمين إلى أن تعليق الحكم بإحدى صفتي الذات يدل على نفي ذلك الحكم عما عداها.
كقوله صلى الله عليه وسلم: " في سائمة الغنم زكاة " فإن تعليق وجوبها بصفة " الصوم " يدل على نفي وجوبها عما ليست فيه.
وذهب أبو حنيفة وحجة الإسلام الغزالي والقاضي أبو بكر إلى أنه لا يدل على ذلك.
وفصل أبو عبد الله البصري. قال إن ورد الخطاب للبيان كقوله صلى الله عليه وسلم: " في سائمة الغنم زكاة " أو للتعليم مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا اختلف المتبايعان تحالفا وترادا
…
" أو كان ما عدا الصفة داخلا تحت الصفة كالحكم بالشاهدين فإن الشاهد الواحد داخل تحت الشاهدين فإنه يدل على نفي ما عداه.
احتج المثبتون بأن بعض أهل اللغة كأبي عبيد فهم من قوله صلى الله عليه وسلم: " لي
الواجد يحل عقوبته وعرضه ". وقال إنه يدل على أن لي غير الواجد لا يحل ذلك.
واللي هو المطل ، والواجد الغني ، والعقوبة الحبس ، وإحلال العرض المطالبة. وكذلك فهم من قوله عليه السلام:" مطل الغني ظلم ". وقال فيه مثل ما قال في الحديث المتقدم.
وقيل له في قوله عليه السلام: " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير من أن يمتلئ شعرا " أن المراد بالشعر الهجاء أو هجاء الرسول عليه السلام. فقال أبو عبيد: لو كان المراد بالشعر الهجاء لم يكن لذكر الامتلاء معنى لأن قليل الهجاء كذلك فألزم أبو عبيد من تقدير الصفة نفي الحكم عما عداها.
وإنما قال المصنف من تقدير الصفة لأنه لم يوجد هاهنا اسم عام مقيد بصفة ظاهرا كما في الغنم. لكن لما قيل لأبي عبيد إن المراد بالشعر الهجاء قدر الامتلاء صفة للهجاء حتى كأنه قيل الهجاء الذي يمتلئ به الجوف.
والشافعي أيضا قال مفهوم. وهما عالمان بلغة العرب.
والظاهر أنهما فهما المفهوم لغة لا اجتهادا فيكون حجة.
وقال النافون بنى الشافعي وأبو عبيد المفهوم على اجتهادهما لأنهما كانا من أهله وإن كانا من أئمة اللغة فجاز أن يكون قولهما بذلك مستندا إلى الاجتهاد فلا يكون حجة.
وأجاب بأن اللغة تثبت بقول أئمة اللغة وكون الناقل من أهل الاجتهاد لا يقدح في ذلك لأن احتمال الاجتهاد مرجوح ونقل اللغة راجح والمرجوح لا يقدح في الراجح.
وفيه نظر لأن جهة النقل إنما تكون راجحة إذا كانت جهة كون الناقل لغويا أقوى من جهة كونه مجتهدا وهو ممنوع. سلمناه لكن إنما يكون حجة أن لو كان ذلك لغة العرب كلهم وهو ممنوع فإن لغة بعض العرب ليست بحجة على غيره.
وعورض بمذهب الأخفش فإنه نقل عنه أن تعليق الحكم على إحدى صفتي الذات لا يدل على نفي ما عداها.
وأجاب بأن هذا لا يصلح أن يكون معارضا لما ذكرنا لأن هذا المذهب لم يثبت عن الأخفش كما ثبت خلافه عن الشافعي وأبي عبيد ولو سلم ثبوت هذا المذهب عن الأخفش كثبوت مذهبهما لكن من ذكرناه وهو الشافعي وأبو عبيد أرجح لأنهما أفضل.
وفيه نظر لأن الأفضلية إن كانت من حيث النقل ممنوع وإن كان من حيث العلم والاجتهاد فلا يفيد. ولو سلم عدم رجحانهما فالدليل الذي ذكرناه راجح على الذي ذكرتم لأن دليلنا مثبت ودليلكم ناف والمثبت أولى.
وفيه نظر لأن الصحيح من مذهبنا أن المثبت والنافي يتعارضان.
ص - وأيضا لو لم يدل على المخالفة لم يكن لتخصيص محل النطق بالذكر فائدة وتخصيص آحاد البلغاء لغير فائدة ممتنع. فالشارع أجدر واعترض: لا يثبت الوضع بما فيه من الفائدة.
وأجيب بأنه يعلم بالاستقراء إذا لم تكن للفظ فائدة سوى واحدة تعينت.
وأيضا: ثبتت دلالة التنبيه بالاستبعاد اتفاقا فهذا أولى واعترض بمفهوم اللقب.
وأجيب بأنه لو سقط لاختل الكلام.
فلا مقتضى للمفهوم فيه.
واعترض بأن فائدته تقوية الدلالة حتى لا يتوهم تخصيص.
وأجيب بأن ذلك فرع العموم ولا قائل به.
وإن سلم في بعضها خرج فإن الفرض أن لا شيء يقتضي تخصيصه سوى المخالفة.
واعترض بأن فائدته ثواب الاجتهاد بالقياس فيه.
وأجيب بأنه بتقدير المساواة يخرج وإلا اندرج.
ش - واحتج المثبتون بحجة أخرى تقريرها لو لم يدل مفهوم الصفة على نفي ما عداها لم يكن لتخصيص نحل النطق بالذكر فائدة. وبين الملازمة بأن الفرض أن ما يوجب التخصيص من الأمور المتقدمة مدوم؟ والأصل عدم غيره.
وفيه نظر أما أولا: فلأنا لا نسلم ذلك لجواز أن يكون فائدته بيان محل الحكم لا النفي عما عداه فإنه باق على عدمه الأصلي.
وأما ثانيا: فلأنه لو كان الأصل عدم غيره لزم انتفاء نفي ما عداه على تقدير فرض وجوده وهو باطل لا محالة وذلك لأن ذلك الغير هو بيان محل الحكم ولو فرضناه معدوما لانتفى ما دل عليه اللفظ في محل النطق وهو يستلزم انتفاء نفي ما عداه لتفرعه عليه. وبين المصنف بطلان التالي بقوله: " وتخصيص آحاد البلغاء لغير فائدة ممتنع فالشارع أجدر.
واعترض بأربعة أوجه:
الأول: إن هذا الدليل يرجع إلى إثبات الوضع بالفائدة وليس بصحيح لأنه دور بل طريقه النقل.
وأجاب أولا: بأنا لا نسلم أن ذلك إثبات الوضع بالفائدة وإنما هو إثباته بالاستقراء فإنا نعلم به أن اللفظ إذا لم يكن له سوى فائدة واحدة تتعين مرادة من اللفظ.
وفيه نظر لأنه إن سلم بما فيه ففيما نحن فيه فائدة أخرى وهي بيان محل الحكم لا النفي عما عداه فإنه باق على عدمه الأصلي.
وثانيا: بأن دلالة المثبت ثبتت بالاستبعاد اتفاقا فإنا قد بينا في أقسام الصريح أنه إذا اقترن بالحكم معنى لو لم يكن لتعليله استبعد ذكره معه يكون ذلك المعنى علته فإثبات دلالة المفهوم حذرا عن لزوم الامتناع في كلام الشارع أولى.
وفيه نظر لأنه إثبات " اللفظ " الوضع بالدلالة وهو فاسد ، ولأن الامتناع في كلامه إنما يلزم لو خلا عن الفائدة وبيان محل الحكم فائدة. ولأنه معارض بأن مفهوم المخالفة لو كان حجة لزم تحصيل الحاصل لأن العدم في غير الموصوف بها ثابت قبله فلو جعلناه للنفي لزم ذلك وهو محال.
الثاني: أن الدليل المذكور منتقض بمفهوم اللقب فإنه بعينه فيه قائم وهو مردود بالاتفاق.
وأجاب بالفرق بين مفهوم اللقب ومفهوم الصفة فإن فائدة تخصيص اللقب بالذكر حصول الكلام ، لأنه لو سقط لاختل الكلام فلا يتحقق مقتضى المفهوم فيه لأن مقتضاه تعين الفائدة ولم تتعين لتحقق فائدة أخرى وهو حصول الكلام بخلاف مفهوم الصفة فإن حصول الكلام ليس فائدة تخصيصها بالذكر فإنها لو أسقطت لم يختل الكلام فلم يحق له فائدة غير النفي عما عداه.
وفيه نظر لأنه مبني على الفرق وقد تقدم الكلام عليه. ولأن عدم الاختلال عند
إسقاط الصفة إما أن يكون قبل التكلم وليس الكلام فيه أو بعده فممنوع أو حالة التكلم وهو مخل بمقصود المتكلم لأن مقصودنا ثبات الحكم في ذلك النوع وإسقاطه مخل بذلك.
الثالث: أن يقال لا نسلم أنه لو لم يدل على النفي خلا عن الفائدة لم لا يجوز أن يكون فائدة ذكرها تقوية دلالة ما جعل الوصف وصفا له على أفراده المتصفة بتلك الصفة حتى لا يتوهم تخصيصها عما وصف بها.
وأجاب بأن هذه الفائدة فرع العموم ، يعني أنها إنما تحصل إذا كان الاسم المقيد بالصفة عاما ولا قائل به أي بعمومه ثمة مثل هذا الاسم.
وفيه نظر لأنه مناقض لما ذكر في بيان مفهوم الصفة هو أن يكون اللفظ عاما اقترن به صفة خاصة.
قوله: ولئن سلم أي لو سلم العموم في بعض الصور خرج عن محل النزاع لأنه حينئذ يكون للتخصيص فائدة غير المخالفة والنزاع فيما لا شيء فيه يقتضي تخصيصه سوى المخالفة في الحكم
وفيه نظر مثل ذلك منتف لكون بيان المحل غير مفارق لما تقدم وهو فائدة التخصيص.
الرابع: أنا لا نسلم أنه لا فائدة للتخصيص سوى المخالفة في الحكم لم لا يجوز أن تكون الفائدة ثواب الاجتهاد بالقياس فيه فإن تخصيص الوصف يشعر بعليته فيجتهد المجتهد ويعدي الحكم إلى صورة أخرى فيحصل ثواب الاجتهاد مثل أن يرى أن الوصف في الغنم السائمة هو السوم فيجعله جامعا بينه وبين غيره من السوائم أو يعدي الحكم إليه بشروطه.
وأجاب بأنه إن ثبتت المساواة بين الفرع والأصل في الوصف يخرج عن محل النزاع إذ هو ما لا يكون غير المنطوق مساويا لمنطوق في علة الحكم. وإن لم تثبت المساواة بينهما فيه اندرج فيما لا فائدة له سوى المخالفة في الحكم لامتناع القياس.
ولقائل أن يقول هذا غلط فاحش لأن الاجتهاد ليس في حمل ما يخالفه في
المفهوم " عليه بالقياس " حتى يكون موافقة وإنما هو في حمل ما يوافقه في تلك الصفة عليه فيكون بالنسبة إليه إما مفهوم موافقة أو مقيسا ولا بعد في أن يكون الشيء الواحد موافقا لشيء ومخالفا لآخر واعتبر ذلك في قوله في الغنم السائمة زكاة مثلا فإنه يجوز أن تكون فائدة الوصف حمل ما كان من السوائل عليه كالخيل مثلا فيكون بالنسبة إليه مفهوم موافقة وبالنسبة إلى الغنم المعلوفة مفهوم مخالفة وهذا واضح جدا.
ص - واستدل لو لم يكن للحصر لزم الاشتراك إذ لا واسطة وليس للاشتراك باتفاق. وأجيب إن عنى السائمة فليس محل النزاع وإن عنى إيجاب الزكاة فيها فلا دلالة له على واحد منهما.
الإمام: لو لم يفد الحصر لم يفد الاختصاص به دون غيره لأنه بمعناه. والثانية معلومة.
وهو مثل ما تقدم فإنه إن عنى لفظ السائمة فليس محل النزاع وإن عنى الحكم المتعلق بها فلا دلالة له على الحصر. ويجريان معا في اللقب ، وهو باطل.
واستدل بأنه لو قيل: الفقهاء الحنفية أئمة فضلاء نفرت الشافعية ولولا ذلك ما نفرت.
وأجيب بأن النفرة من تركهم على الاحتمال من التقديم أو لتوهم المعتقدين ذلك.
ش - واستدل بأن ذلك الوصف إن لم يفد الحصر لزم إفراد المنطوق وهي السائمة وإفراد المفهوم وهي المعلوفة في الحكم لأنه لا واسطة بين الحصر والاشتراك فإذا انتفى الأول ثبت الثاني واللازم باطل بالاتفاق.
وأجاب بأنه إن عنى السائمة يعني إن أراد أن السائمة مختصة بهذا الوصف وهو
ما يكتفي بالرعي في أكثر الحول ولا يتناول العلوفة وهي التي تحتاج إلى أن تعلف عليها في نصف السنة أو أكثرها فليس ذلك محل النزاع وإن عنى إيجاب الزكاة أي حصر إيجابها في السائمة ونفيه عن المعلوفة فالملازمة ممنوعة.
قوله: إذ لا واسطة بين الحصر والاشتراك.
قلنا: ممنوع إذ النزاع في دلالة اللفظ على نفي ما عدا المذكور ولا يلزم من عدم الدلالة على النفي دلالته على الاشتراك لجواز أن لا يدل على شيء من ذلك.
ولقائل أن يقول هذا المنع إن كان من جهة المانعين فصحيح وإن كان من جهة المثبتين فغير صحيح لأنه إذا لم يدل على الحصر والاشتراك فإما أن لا يدل على شيء أصلا وهو باطل للزوم الإهمال ، أو يدل عليه فتثبت فائدة غير الحصر والاشتراك وهو مذهب المانع وحجة على المثبت.
واستدل إمام الحرمين على أن تخصيص الوصف بالذكر يفيد الحصر بأنه لو لم يفده لم يفد اختصاص الحكم بالصنف المذكور دون غيره لأن معنى الاختصاص به دون غيره هو الحصر.
وفيه نظر لأنه لو كان كذلك لزم أن يكون المقدم والتالي شيئا واحدا ومعناه لو لم يفد الاختصاص لم يفد الاختصاص وهو باطل. وأما بيان بطلان التالي فقد أشار إليه المصنف بقوله: والثانية معلومة يعني أن فائدة اختصاص الحكم بالصنف المذكور دون غيره معلومة.
وفيه نظر لأنه مصادر.
وأجاب بأن هذا مثل ما تقدم يعني إن عنى حصر لفظ السائمة بهذا الصنف وعدم تناوله للمعلوفة فليس محل النزاع وإن عنى حصر الحكم المعلق بالسائمة أي اختصاصه بها ونفيه عما عداها فالملازمة ممنوعة.
وما قيل في بيانها إن معنى الاختصاص به دون غيره هو الحصر فاسد لما مر من اتحاد المقدم والتالي إذ ذاك.
ونقض هذان الاستدلالان بمفهوم اللقب فإنهما يجريان معا فيه وهو باطل.
واستدل للمثبتين بأنه لو قيل: الفقهاء الحنفية أئمة فضلاء نفرت الشافعية ولو لم يكن ذكر الوصف دالا على نفي الحكم عما عداه لما نفرت.
وأجاب بأن نفرتهم ليست من ذلك بل من تركهم على الاحتمال فإن تخصيص الحنفية بالذكر يوجب القطع بفضلهم وترك الشافعية يوجب الاحتمال وذلك يوجب النفرة ، كما أن تقديم الشافعية يوجب النفرة إذ نفرة الشافعية لتوهم أن المعتقدين مفهوم الصفة يعتقدون أنهم ليسوا أئمة فضلاء.
وفيه نظر لأن نفي الفضيلة عنهم لا يجوز أن يكون لتخصيص الحنفية بالذكر وإلا لزم تحصيل الحاصل كما مر وإنما هو بناء على العدم الأصلي.
ص - واستدل أيضا بقوله - تعالى -: (إن تستغفر لهم سبعين مرة).
ش - وبيانه أنه لما نزل في أقارب الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " والله لأزيدن على سبعين ".
ففهم صلى الله عليه وسلم أن ما زاد على السبعين بخلافه ولو لم يكن في ذكر الوصف دالاً على
ذلك لما فهم الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك.
وفيه نظر لأن هذا مفهوم العدد وليس الكلام فيه.
وأجاب بمنع أنه عليه السلام فهم ذلك لأن هذه الآية للمبالغة في عدم الغفران وإن كثر الاستغفار فتساوي السبعون وما فوقه ، وإنما قال ذلك استمالة لقلوب الأحياء منهم لا غير أو لعل وقوع المغفرة بالزيادة على سبعين باق على أصله في الجواز فإن جواز وقوعها بالزيادة على سبعين قبل نزول الآية ثابت فلم يفهم الرسول عليه السلام جواز وقوع المغفرة بما زاد على السبعين من التخصيص بالذكر.
ولقائل أن يقول فعلى هذا يجوز للمانعين أن يقولوا بالعدم في المعلوفة قبل ورود قوله عليه السلام: " في السائمة زكاة " كان ثابتا فلعله باق.
وهذا يهدم بناء كل ما تقدم من جانب المثبتين.
ص - واستدل بقول يعلى بن أمية لعمر: ما لنا نقصر وقد أمنا وقد قال - تعالى -: (فليس عليكم جناح) فقال عمر: تعجبت " ما " تعجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إنما هي صدقة تصدق بها عليكم فاقبلوا صدقته ".
" منها " نفي القصر حال عدم الخوف وأقر صلى الله عليه وسلم.
وأجيب: لجواز أنهما استصحبا وجوب الاتمام ، فلا يتعين.
واستدل بأن فائدته أكثر فكان أولى تكثيرا للفائدة.
وإنما يلزم من جعل تكثير الفائدة يدل على الوضع.
وما قيل إنه دور لأن لازمه يتوقف على تكثير الفائدة وبالعكس فلزمهم في كل موضع.
وجوابه أن لازمه يتوقف على تعقل تكثير الفائدة عندها لا على حصول الفائدة.
واستدل لو لم يكن مخالفا لم تكن السبع في قوله: " طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعا " فطهره لأن تحصيل الحاصل محال.
وكذلك: " خمس رضعات يحرمن ".
ش - واستدل أيضا على ذلك بقول يعلى بن أمية لعمر رضي الله عنهما: " ما لنا نقصر وقد أمنا ".
وقد قال - تعالى -: (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلوة إن خفتم) فقال عمر رضي الله عنه: تعجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إنما هي صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " ففهم عمر ويعلى التخصيص بحال الخوف والنفي عما عداه وهما من أهل اللسان وتقرير النبي عليه السلام على ذلك دليل على المطلوب.
وأجاب بأن " فهمهم ذلك وتعجبهم " يجوز أن يكون لأجل استصحابهما وجوب الإتمام حالة الأمن فلا يتعين أن يكون فهم وجوب الإتمام حال الأمن من التخصيص بالذكر.
وفيه نظر لأن هذا من باب مفهوم الشرط وليس الكلام فيه. ولأن فيه تقوية للمانعين.
واستدل أيضا على ذلك بأن فائدته أكثر الدلالة الكلام حينئذ على الإثبات في محل النطق والنفي في غيره وما كان فائدته أكثر فهو أولى تكثيرا للفائدة.
وفيه نظر لأن فيه مصادرة.
قال المصنف: وهذا الدليل يلزم إن جعل تكثير الفائدة دالا على الوضع وهو ضعيف لأنه استدلال في اللغة وطريقها السماع.
وقيل: في هذا الدليل دور لأن دلالة اللفظ على المفهوم تتوقف على تكثير الفائدة لكونه علتها حينئذ وتكثير الدلالة تتوقف على دلالة اللفظ على المفهوم.
وأجاب بأنه لو صح لزمهم في كل موضع بأن يقال دلالة اللفظ على مدلوله تتوقف على الوضع والوضع يتوقف على الفائدة لأنه إنما وضع لها.
وفيه نظر لأن الفائدة تتوقف على تحقق الوضع والوضع يتوقف على تصورها غاية فاختلفت الجهة.
وبأن دلالته على تعقل تكثير الفائدة. وتقريره باختلاف بأن يقال دلالة اللفظ على المفهوم تتوقف على تعقل تكثير الفائدة عند الدلالة على حصوله وحصوله يتوقف على وجود الدلالة.
ويجوز أن يدفع الدور بأن التوقف توقف معية فلا دور.
واستدل أيضا بأن الحكم في غير محل النطق لو لم يكن مخالفا الحكم في محله لم تكن السبع في قوله صلى الله عليه وسلم: " طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعا مطهرة. ولم تكن الخمس في قوله عليه السلام: " خمس رضعات
يحرمن" محرمة. والتالي باطل. وبيان الملازمة أن التخصيص إذا لم يدل على نفي الحكم عما عداه لحصل الطهارة بما دون السبع لعدم المخالفة ، ولحصل التحريم بما دون الخمس كذلك وإذا حصل ذلك بما دون العددين لا يحصل بهما وإلا لزم تحصيل الحاصل ولم يجب المصنف عنه.
وأجاب بعض الشارحين بأنه لا يلزم من عدم المخالفة أن يكون ما دون العددين مطهرا ومحرما لجواز عدم دليل بدليل آخر.
وفيه نظر لأن الأصل عدم الدليل فلا بد من بيانه ولأنه من باب مفهوم العدد وليس الكلام فيه ، ولأنه استدلال بالجزئيات المرتبة على القاعدة الكلية وإثبات القاعدة بالجزئيات الثانية منها دور.
وللمانعين قول كلي يظهر به بطلان قول المثبتين وهو أن التخصيص بالوصف يدل على إثبات الحكم في محل النطق بالاتفاق وإنما النزاع في النفي عما عداه وهما مفهومان متقابلان بالضرورة فدلالة الوصف عليهما إما أن يكون بطريق الحقيقة وهو باطل للاشتراك أو بطريق الحقيقة والمجاز وهو أيضا كذلك لما تقدم من بطلان الجمع بينهما بما لا مرد له.
ص - النافي: لو ثبت لثبت بدليل وهو عقلي ونقلي إلى آخره.
وأجيب بمنع اشتراط التواتر ، والقطع بقبول الآحاد الأصمعي أو الخليل أو أبي عبيدة أو سيبويه.
قالوا: لو ثبت لثبت في الخبر.
وهو باطل لأن من قال في الشام الغنم السائمة لم يدل على خلافه قطعاً.
وأجيب بالتزامه. وبأنه قياس. ولا يستقيمان.
والحق: الفرق بأن الخبر وإن دل على أن المسكوت عنه غير مخبر به فلا يلزم أن لا يكون حاصلا بخلاف الحكم إذ لا خارجي له. فيجري فيه ذلك.
قالوا: لو صح لما صح أد زكاة المعلوفة والسائمة كما لا يصح لا تقل له أف واضربه للتناقض ولعدم الفائدة.
وأجيب بأن الفائدة عدم تخصيصه ولا تناقض في الظواهر.
قالوا: لو كان لما ثبت خلافه للتعارض والأصل عدمه وقد ثبت في نحو: " لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ".
وأجيب بأن القاطع عارض الظاهر فلم يقو. وتجب مخالفة الأصل بالدليل.
ش - النافون تمسكوا بأربعة أوجه:
الأول: أنه لو ثبت ذلك فإما أن يثبت بدليل أو لا ، والتالي باطل. والأول إما أن يكون بعقلي وهو معزول عن الإفادة " وفي " الدلالات الوضعية أو بنقلي وشرطه التواتر لأن اآحاد يفيد الظن وهو غير معتبر في إثبات اللغات ، والتواتر غير متحقق وإلا لما وقع الخلاف.
وأجاب المصنف بمنع اشتراط التواتر فإن الآحاد مقبولة في اللغة كنقل الخليل والأصمعي.
وأبي عبيدة وسيبويه.
وفيه نظر لأنه إنما يكون نقل الآحاد معتبرا إذا نقلوا أنه لغة كل العرب ولم يتفق ذلك وحينئذ يجوز أن يكون ذلك لغة بعضهم فلا يكون حجة إلا على من التزمه.
الثاني: أنه لو ثبت ذلك في الحكم لثبت في الخبر وهو باطل أما الملازمة فلتقيد كل من الكلامين بالوصف ، والفرق تحكم وأما انتفاء التالي فلأن من قال في الشام الغنم السائمة لم يدل على خلافه لجواز أن تكون ثمة غنم معلوفة أيضا.
وأجيب بالتزام ذلك فلا يكون التالي ممنوعا وبمنع الملازمة فإنها تثبت بالقياس وهو غير معتبر في إثبات اللغة.
وزيف المصنف الجوابين:
أما الأول: فبأنه لم ينقل عن أحد من المثبتين الإلزام المذكور.
وأما الثاني: فبأنه ليس بقياس في اللغة لأن القياس كما تقدم عبارة عن إلحاق
مسمى باسم لم يسمع الأول من أهل اللغة وسمي به الثاني لمعنى يستلزم الاسم وجودا وعدما ووجد في الأول ومعلوم أنه هنا ليس كذلك.
ثم قال والحق الفرق بين الحكم والخبر فإن الخبر وإن دل على أن المسكوت عنه لجواز حصوله بدون الخبر لأنه له خارج فيجوز أن يحصل ذلك الخارجي للمسكوت عنه بخلاف الحكم فإنه إذا دل على أن المسكوت عنه غير محكوم به لزم أن لا يكون حاصلا للمسكوت عنه إذ لا خارج للحكم فيجري فيه ما جرى في الخبر.
ولقائل أن يقول الجواب بالفرق غير مستقيم.
ومنها أن بعض المانعين مذهبهم بطلان الفرق فلا يلزمه. ومنها أن المسكوت عنه إذا جاز أن يحصل له ما تضمنه الخبر من الخارج كان أولى بالنفي لأن السبب يستلزم تصور الإيجاب أما إذا لم يجز أن يحصل للمسكوت عنه بعدم الخارج فهو معدوم فيه ، والمعدوم لا ينفى. ومنها أن المسكوت عنه إذا جاز أن يحصل له ما تضمنه الخبر من الخارج فالمنطوق به كذلك فتخصيصه بالوصف تحصيل للحاصل.
الثالث: لو صح ذلك لما صح أد زكاة السائمة والمعلوفة. كما لا يصح لا تقل له أف ، واضربه ، لوجهين:
أحدهما: عدم الفائدة لذكر الوصفين فإن ذكر الغنم مغن عن ذكرهما.
والثاني: لأن التخصيص إن دل على النفي توارد على المعلوفة نفي وجوب الزكاة المفهوم وإيجابه المصرح به فكان في قوة تجب الزكاة في المعلوفة ولا تجب فيها وهو تناقض.
وفيه نظر فإن الصريح أقوى يترك به المفهوم.
وأجاب بأن الفائدة عدم تخصيص المعلوفة بالاجتهاد عن العموم ولا تناقض في الظاهر فإن دلالة التخصيص بالذكر على النفي ظاهر لا قطعي فيجوز أن يترك بقطعي.
وفيه نظر لجواز أن يكون المصرح به لفظا عاما وهو أيضا ظاهر عنده لا نص فلا يندفع على أن التناقض في الظاهر متحقق والمذكور دفع بحسب الحقيقة ، ولو أبرز
الكلام بلفظ الصريح كما ذكرنا اندفع الأول.
الرابع: لو كان كذلك لما ثبت خلافه أي لما ثبت الحكم فيما عداه لئلا يلزم التعارض الذي هو على خلاف الأصل ولكنه ثبت في قوله - تعالى -: (لا تأكلوا الربوا أضعفا مضعفة) لأن أكل الربا حرام وإن لم يكن أضعافا مضاعفة.
وفيه نظر لأنه هو الوجه الثالث خلا أنه سماه تناقضا وها هنا تعارضا.
ويجوز أن يقال وحدة الزمان شرط في التناقض فإذا قال: أد زكاة السائمة والمعلوفة اتحد. فسماه تناقضا. بخلاف التعارض فإنه يقع باعتبار جهالة التاريخ وقد وجد ذلك بين الآيتين فسماه تعارضا.
وأجاب بأن قوله - تعالى -: (لا تأكلوا الربوا أضعفا مضعفة) يقتضي إباحة الربا إذا لم يكن كذلك بحسب الظاهر لكن القاطع الذي هو قوله - تعالى -: (وحرم الربوا) عارضه فاندفع الظاهر فلم يقو المفهوم ، والتعارض وإن كان خلاف الأصل يجب القول به إذا دل عليه دليل لوجوب مخالفته بالدليل.
وفيه نظر فإن التعارض هو تقابل الحجتين على السواء وإذا كان أحدهما قطعيا يتحقق التعارض بينهما فكان التزام وجوده فيما نحن فيه. وما بنى عليه من التزام جواز مخالفة الأصل لدليل قائم في علم المناظرة. ولأن دلالة القطعي ليس بمنحصر فيما وراء المخصوص بل هو عام فيه وفي غيره فيقع (أضعافا مضاعفة) غير مقيد وهو غير جائز.
ص - وأما مفهوم الشرط - فقال به بعض من لا يقول بالصفة.
القاضي وعبد الجبار والبصري على المنع.
القائل به ما تقدم.
وأيضا يلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط.
وأجيب قد يكون سبباً. قلنا: أجدر إن قيل بالاتحاد. والأصل عدمه ، إن قيل بالتعدد.
وورد: (إن أردن تحصنا).
وأجيب بالأغلب وبمعارضة الإجماع.
مفهوم الغاية: قال به بعض من لا يقول بالشرط كالقاضي وعبد الجبار.
القائل به ما تقدم.
وبأن معنى صوموا إلى أن تغيب الشمس آخره غيبوية الشمس فلو قدر وجوب بعده لم يكن آخرا.
ش - اختلفوا في أن الحكم إذا علق على شرط هل ينتفي بانتفائه أو لا؟
القائلون بمفهوم الصفة وبعض منكريه قالوا: لانتفاء الحكم لانتفاء الشرط. ومنعه القاضي عبد الجبار وأبو عبد الله " المصري ".
واحتج القائلون به بوجهين:
أحدهما: ما تقدم وهو أن أئمة اللغة فهموا ذلك ونقلوه واللغة تثبت بذلك.
وفيه نظر لأنه لم يتواتر والآحاد لا يفيد كونه لغة الجميع ولغة بعض غير ملزم كما تقدم.
وأجيب عن هذا الدليل بأن ما وقع شرطا قد يكون سببا ولا يلزم من انتفاء السبب انتفاء المسبب.
وأجاب المصنف عن هذا الجواب بأنه إن قيل باتحاد السبب فهو أجدر بأن ينتفي المسبب بانتفائه لأنه يكون موجبا لوجود المسبب إذ ذاك فيلزم من انتفائه انتفاءء المسبب قطعا. وإن قيل: " بتعد " السبب يمتنع التعدد لأن الأصل عدمه. فيلزم من انتفائه انتفاء المسبب ظاهرا.
ولقائل أن يقول تعدد السبب واقع كالبيع والهبة والصدقة والإرث للمالك فلا يصح منعه.
وأورد على مفهوم الشرط قوله - تعالى -: (ولا تكرهوا فتيتكم على البغاء إن أردن تحصنا) فإن الإكراه على البغاء منتف وإن لم يردن تحصنا.
وأجاب عنه بوجهين:
أحدهما: أن وقوع الإكراه بحسب الأغلب عند إرادة التحصن فحينئذ يكون الموجب للتخصيص وقوعه بحسب الأغلب والكلام فيما إذا لم يوجد مخصص سوى المخالفة كما تقدم في مفهوم الصفة.
وفيه نظر لما تقدم أنه يفضي إلى الجهالة والجدال ، ولأنه قول بوجود اللغو وهو لغو.
والثاني: أن الآية دلت بحسب الظاهر على انتفاء حرمة الإكراه عند عدم إرادة التحصن والإجماع القاطع عارض الظاهر فاندفع لأن الظاهر يندفع بالقاطع فلم يتحقق بمفهوم الشرط.
ولقائل أن يقول الإجماع لم يكن حجة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فيكون الإكراه على البغاء إذا لم يردن تحصنا حلالا بمقتضى الظاهر السالم عن المعارض القطعي
وهو باطل قطعاً.
وكذلك اختلفوا في حكم قيد بغاية كقوله - تعالى -: (ثم أتموا الصيام إلى اليل) فذهب كل من قال بمفهوم الصفة إلى أنه يدل على نفي الحكم فيما بعد الغاية وبعض من لا يقول به أيضا كالقاضي وعبد الجبار.
واحتجوا بما تقدم أن أئمة اللغة فهموا ذلك ونقلوه إلى آخره.
وفيه نظر تقدم غير مرة.
وبأن قول القائل: صوموا إلى أن تغيب الشمس. معناه صوموا صوما آخره غيبوبة الشمس. فلو قدر وجوب بعد غيبوبة الشمس لم تكن الغيبوبة آخرا بل وسطا.
وفيه نظر لأن النافي " يقدر بعد " غيبوبة الشمس وجوبا بل يقول هو ساكت والساكت لا ينسب إليه قول فالنفي والإثبات يكون بخارج. ولأنه يرد عليه قوله - تعالى -: (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) فإنها داخلة. فإن أحيل على دليل خارجي عورض في الصوم بالعكس.
ص - وأما مفهوم اللقب ، فقال به الدقاق وبعض الحنابلة. وقد تقدم.
وأيضا فإنه كان يلزم من محمد رسول ، وزيد موجود ، وأشباهه ظهور الكفر.
واستدل بأنه يلزم منه إبطال القياس لظهور الأصل في المخالفة.
وأجيب بأن القياس يستلزم التساوي في المتفق عليه فلا مفهوم فكيف به هنا.
قالوا: لو قال لمن يخاصمه: ليست أمي بزانية ولا أختي - تبادر نسبة الزنا إلى أم خصمه وأخته ووجب الحد عند مالك وأحمد.
قلنا: من القرائن لا مما نحن فيه.
ش - وقد اختلفوا في مفهوم اللقب. فذهب الجمهور إلى أنه إذا علق حكم على اسم لا يدل على نفيه عما عداه وذلك كقوله عليه السلام: " الماء من الماء " أي الغسل من المني.
وذهب الدقاق وبعض الحنابلة إلى النفي عما عداه.
قال المصنف: وقد تقدم قبل يعني به الفرق المذكور بين مفهوم الصفة ومفهوم اللقب بأن فائدة تخصيص الاسم حصول الكلام فإنه لو أسقط الاسم لاختلال الكلام فلا يتحقق المقتضى للمفهوم فيه فإن المقتضي له هو انتفاء فائدة التخصيص بخلاف مفهوم الصفة فإنه لو أسقط الصفة لم يختل الكلام فيتحقق المقتضى للمفهوم وهو انتفاء فائدة التخصيص.
وفيه نظر لأن هذا لا يصح أن يكون دليلا للجمهور وهو ظاهر ولا جواباً
لخصمهم لأنه لم يذكر لهم قياسا جامعا بين البابين ليدفعه بإبداء الفارق.
واحتج أيضا بأنه لو دل على النفي عما عداه لزم من قول القائل محمد رسول الله ، وزيد موجود ، ظهور الكفر والتالي باطل بالإجماع وذلك لأنه على ذلك التقدير لا يكون موسى وعيسى وغيرهما أنبياء وأن لا يكون الإله موجودا وهو يوجب الكفر بطريق الظهور لا القطع لأن دلالة المفهوم ليست بقطعية.
ولقائل أن يقول انتفاء الكفر بالدلائل القطعية على وجود الإله ونبوة الأنبياء والظاهر يترك بالقطعي.
واستدل بأنه لو دل على النفي عما عداه بطل القياس لأنه حينئذ يكون الأصل ظاهرا في مخالفة الفرع له في الحكم إذ النص أو الإجماع الدال على الحكم في الأصل دال على نفي الحكم عن الفرع بحسب الظاهر فلو عمل بالقياس لزم مخالفة ظاهر النص أو الإجماع وهو غير جائز لكن بطلان القياس باطل بالدلائل القاطعة فكذلك ما أفضى إلى بطلانه.
وفيه نظر لأنه إنما ينهض أن لو كان الأصل المقيس عليه في كل قياس اسما علما حتى يجري فيه مفهوم اللقب وليس كذلك.
ولأنه يجوز أن يقول الخصم دلالة اللقب ظاهر يجوز أن يترك بالأدلة القاطعة الدالة على ثبوت " القياس ".
وأجاب بأن القياس يستلزم التساوي في المقيس عليه فلا مفهوم فكيف به هاهنا؟
وقيل في تقريره بأن القياس في المتفق الذي هو مفهوم الصفة يستلزم التساوي بين الأصل والفرع في المعنى الموجب للحكم.
وشرط مفهوم المخالفة عدم مساواة المنطوق للمسكوت عنه في المعنى الموجب للحكم فلا مفهوم مع التساوي في المتفق عليه بل يحمل المسكوت عنه على
المنطوق بالقياس فكيف بالقياس هاهنا أي في مفهوم اللقب الذي هو المختلف فيه لا يحمل المسكوت عنه على المنطوق إذا " وجد المنطوق المعنى " الموجب للحكم. وهو في الحقيقة منع الملازمة أي لا نسلم أن مفهوم اللقب لو كان ثابتا بطل القياس لأنه يستدعي اجتماع اللقب معه وهو لا يجتمع مع القياس لأن شرط القياس المساواة بين الأصل والفرع ، وشرط مفهوم اللقب عدم المساواة بين المثبت والمنفي فهما متنافيان " لا يجتمعان " حتى يبطل القياس به ولكن إدخال مفهوم الصفة في البين وهو الذي سماه المتفق عليه على ما مر من تقريره ليس على ما ينبغي لجواز أن تقع المناظرة مع من لا يقول بمفهوم الصفة فيبقى ضائعا.
ولقائل أن يقول هذا الجواب في التحقيق مغالطة لا تجدي لأن غايته الدلالة على التنافي وعدم الاجتماع فجاز للخصم أن يقول لما كان كذلك فلو تحقق أحد المتنافيين وهو مفهوم اللقب لانتفى الآخر وهو القياس لأن تحقق أحد المتنافيين يستلزم انتفاء الآخر بالضرورة واللازم باطل لثبوت القياس بما مر فينتفي مفهوم اللقب.
وأما إلغاز المصنف في كلامه وإيجازه المخل فلا يخفى على أحد.
والمثبتون قالوا: لو قال رجل لمن يخاصمه ليست أمي بزانية ولا أختي تبادر الفهم إلى نسبة الزنا إلى أم خصمه وأخته ولهذا يجب الحد عليه عند مالك وأحمد فكان حقيقة في النفي وهاهنا نفي النفي.
وأجاب بأن التبادر إلى الفهم إنما هو من القرائن وليس الكلام فيه.
ص - وأما الحصر ب " إنما ". فقيل: لا يفيد. وقيل: منطوق. وقيل: مفهوم.
الأول: إنما زيد قائم بمثل إن زيدا والزائد كالعدم.
الثاني: (إنما إلهكم) بمعنى ما إلهكم إلا الله وهو المدعى.
وأما مثل: (إنما الأعمال بالنيات) و (إنما الولاء لمن أعتق) فضعيف لأن العموم فيه لغيره. فلا يستقيم لغير المعتق ولاء ظاهرا.
ش - اختلف الناس في إفادة إنما الحصر. فنفاه بعض. وأثبته آخرون منطوقا وآخرون مفهوما.
واحتج أهل المذهب الأول بأن قولنا: إنما زيد قائم. في قوة إن زيدا قائم ، وما زائدة ، والزائد كالعدم.
وكما أن قولنا: إن زيدا قائم لا يفيد الحصر لا منطوقا ولا مفهوما كذلك إنما زيد قائم.
ورد بأن الدليل عين الدعوى.
وفيه نظر لأن الدعوى عدم إفادة الحصر والدليل زيادة ما وعدم الاعتداد بالزائد.
واحتج الثاني بأن قوله - تعالى -: (إنما إلهكم الله) بمعنى ما إلهكم إلا الله ، وكما أن ذلك يفيد الحصر بالمنطوق فكذلك هذا.
قال: وهو المدعى أي كون (إنما إلهكم الله) بمعنى ما إلهكم إلا الله هو المدعى لأن الحصر عبارة عنه.
وفيه نظر لأنا لا نسلم معنى (إنما إلهكم الله) ما إلهكم إلا الله بل معناه إن إلهكم الله ، والحصر أفاده قوله:(الذي لا إله إلا هو).
قوله: وأما مثل: " إنما الأعمال بالنيات " إشارة إلى الجواب عما قيل لو كان لفظ إنما مفيدا للحصر لما صح عمل بلا نية ولا ثبت ولاء لغير المعتق لقوله عليه السلام: " إنما الأعمال بالنيات " و " إنما الولاء لمن أعتق " ولكن العمل قد يصح بدونها والولاء قد يكون لغير المعتق كوارثة العصبة وذلك بأن قال: فضعيف ، لأن عموم صحة العمل بالنسبة وغيرها وكذا عموم الولاء للمعتق وغيره ، إنما ثبت بغير هذا الحديث كالإجماع. والحديث بحسب الظاهر يدل على أنه لا يستقيم العمل بغيرها ، ولا الولاء لغيره ، لكن يجوز أن يعدل عن الظاهر بالقطعي.
وفيه نظر لأن دعوى الإجماع تحتاج إلى بينة ، ولو ثبت فهو سكوتي للقطع بعدم تكلم الجميع فليس بقاطع ليترك به الظاهر.
ولم يتعرض للمذهب الثالث اعتمادا على ما ذكر من الأدلة والأجوبة فيما تقدم من المفهومات. ويجوز أن ينزل قوله: وأما مثل " إنما الأعمال بالنيات " على ذلك.
ص - وأما مفهوم الحصر فمثل صديقي زيد ، والعالم زيد ، ولا قرينة عهد.
فقيل: لا يفيد. وقيل: منطوق. وقيل: مفهوم.
الأول: لو أفاده لأفاد العكس لأنه فيهما لا يصلح للجنس ولا لمعهود معين لعدم القرينة ، وهو دليلهم.
وأيضاً لو كان لكان التقديم يغير مدلول الكلمة.
القائل به لو لم يفده لأخبر عن الأعم بالأخص ، لتعذر الجنس والعهد فوجب جعله لمعهود ذهني بمعنى الكامل والمنتهي.
قلنا: صحيح ، واللام للمبالغة فأين الحصر.
ويلزمه زيد العالم بعين ما ذكر.
فإن زعم أنه يخبر بالأعم فغلط لأن شرطه التنكير.
فإن زعم أن اللام لزيد فغلط لوجوب استقلاله بالتعريف منقطعا عن زيد ، كالموصول.
ش - اللفظ الكلي إذا عرف بالإضافة أو اللام وصدر مخبرا عنه وأخبر عنه بما يجوز أن يكون أحد جزئياته كقولنا: صديقي زيد ، والعالم عمرو بغير قرينة تفيد العهد هل يفيد حصر ذلك الكلي في ذلك الجزئي أو لا؟ فيه خلاف.
قيل: لا يفيده. وقيل: يفيده منطوقا ، وقيل: مفهوما.
احتج الأول بوجهين:
أحدهما: أنه لو أفد ذلك لأفاد عكسه وهو زيد صديقي ، وعمرو العالم واللازم باطل بالاتفاق وبيان الملازمة بأن الدليل المفيد له فيه موجود في عكسه وهو أن
المخبر عنه في قولنا صديقي زيد ، والعالم عمرو لا يصلح أن يكون للجنس لعدم صدق كل صديقي زيد ، وكل عالم عمرو ، والفرض أنه لا عهد فتعين أن يكون المعهود ذهني مقيد بما يصيره مطابقا للمخبر به مساويا له. ويفيد الحصر وهو بعينه قائم في عكسه.
ولقائل أن يقول ليس معنى الحصر كون المخبر عنه الذهني مطابقا للمخبر به وإنما معناه إثبات الخبر للمخبر عنه ونفيه عما عداه في قصر الصفة على الموصوف وعكسه في قصر الموصوف على الصفة وذلك يفهم بالتقديم لأن تقديم الشيء بإزالته عن حيزه الطبيعي يقتضي الحصر والحاكم على ذلك الذوق السليم والطبع المستقيم وذلك أمر خطابي فطلب إثباته بوجه جدلي خلط في الكلام وخبط في المرام.
الثاني: أنه لو أفاد الحصر ولم يفده العكس لكان التقديم يغير مدلول الكلمة لأنه لم يكن بين الأصل والعكس فرق إلا بالتقديم ، والتالي باطل لأن التقديم لا يغير مدلول الكلمة.
وفيه نظر لأن التقديم لا يغير مدلول الكلمة وإنما يغير خاصية التركيب والتراكيب لها خواص لازمة أو جارية مجرى اللازمة يعرفها علماء علم المعاني
وإنكار ذلك جهل بعلم البلاغة نعم يجوز أن يقال إنها ليس من أبحاث هذا العلم لأنه جدل.
واحتج القائل بأن مثل العالم زيد يفيد الحصر بأنه لو لم يفده لزم الإخبار عن الأعم بالأخص وهو باطل وبيان الملازمة بتعذر كون اللام للجنس لعدم الصدق كل عالم زيد أو للعهد لعدم القرينة فتعين أن تكون للماهية وهي أعم من جزئياتها فيلزم الإخبار عن الأعم بالأخص وهو باطل فوجب جعله لمعهود ذهني بمعنى الكامل والمنتهي في العلم ليندفع المحذور.
وأجاب بأن قولكم وجب لمعهود ذهني بمعنى الكامل والمنتهي صحيح ولكن اللام حينئذ تكون للمبالغة فلم يلزم منه الحصر.
وفيه نظر لأن الحصر على نوعين حقيقي وادعائي وإذا كان اللام للمبالغة كان الحصر ادعائيا.
ثم قال المصنف ويلزم الخصم أن يكون زيد العالم مفيد للحصر بعين ما ذكر وكون اللام للمبالغة نص عليه سيبويه فإنه قال: اللام في زيد الرجل للمبالغة. وبيان أنه كامل في الرجولية.
ولقائل أن يقول لا فرق بين الصورتين في إفادة الحصر الادعائي عند علماء المعاني والفرق بينهما تحكم.
ثم قال: وإن زعم الخصم أنه لا يتعذر أن تكون اللام للماهية في قولنا: زيد العالم إذ قد يخبر بالأعم عن الأخص بخلاف قولنا: العالم زيد فإنه ممتنع أن يخبر عن الأعم بالأخص فهو غلط لأن شرط الإخبار عن الأخص بالأعم تنكير الأعم فحينئذ يتعذر أن تكون اللام في قولنا: زيد العالم للماهية.
وفيه نظر لأن ذلك إما أن يكون مطلقا أو إذا لم يكن المراد المبالغة والأول ممنوع والثاني هو المطلوب.
ثم قال: فإن زعم أنه لا يتعذر أن تكون اللام في قولنا زيد العالم للعهد فإنه يجوز أن تكون لزيد بقرينة التقدم بخلاف قولنا: العالم زيد فإنه لا يجوز أن لا تكون اللام لزيد إذ لا قرينة فهو غلط أيضا لوجوب استقلال الخبر بالتعريف منقطعا عن زيد كالموصول فإنه يستقل بالتعريف وهذا الاستقلال يمنع كون اللام لزيد لتوقف تعريفه حينئذ على تقدم قرينة زيد.
ولقائل أن يقول اللام موضوعة للعهد لا بد لها في الإفادة من معهود فإن تقدمت في أول الكلام فمعهودها ذهني وإن تأخرت فمعهودها ما تقدم وهذا المعنى ينافي الاستقلال وفي هذا الموضع تحقيق لا بأس بتعرضه وهو أن معنى قولهم اللام موضوعة للعهد أنها موضوعة لتذكير السامع ما حضر في ذهنه من الحقيقة المجردة أو المخلوطة تمهيدا لما يرومه المتكلم من الحكم عليه وأعني " بالحقيقة " المجردة الماهية المخلوط معها تعين لا التي يصحبها التعين ، والفرق بينهما بين.
فإن الأولى: هي التي عهد المخاطب تعينها في ذهنه.
والثانية: هي التي لا تنفك عن تعينات من غير أن يكون شيء منها ملحوظا معها