الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما أشار إليه العلامة صاحب المفتاح حيث قال: ثم إن الحقيقة لكونها من حيث هي هي لا متعدد لتحققها مع التعدد ولا متعددة لتحققها مع الوحدة وإن كانت لا تنفك في الوجود عن أحدهما صالحة للتوحد والتكثير.
وأعني بالحقيقة المخلوطة ما يكون التعين معها مع شيء آخر يخرجها عن الكلية والأولى تسمى معهودا ذهنيا ، والثانية خارجيا ، وتحقيق ذلك أن الحقائق هي المحكوم عليها لا محالة ولا بد للحكم من معرفة المحكوم عليه لئلا يكون الحكم عبثا وقد وضع الحكيم لها عدة طرق ، المضمر والعلم والإشارة والموصول والتعريف باللام والإضافة المعنوية إلى أحدهما ، ومآل الكل العهد لأنك إذا قلت هو أو أنا أو غيرهما ولم يعلم السامع المرجع لعدم حضوره في ذهنه في الأول وكذلك وفقد بصره في الثاني وفي الإشارة وكذا إذا لم يعلم المسمى بالعلم والمشار إليه في الموصول واللام لم يحصل له فائدة أصلا وهو واضح جدا فلا بد من العهد فكل ما وضع للتعريف ليس إلا تذكيرا للسامع ما حضر في ذهنه من الحقيقة المجردة إن كان الحكم على الطبيعة أو المخلوطة إن كان على محتملاتها والأولى لا تحتاج إلى ضميمة ، والثانية: لا تستغني عنها وهي كونها مذكورة فيما سبق حقيقة أو حكما وقد يكون الدال على المجردة علما دالا عليها وهو الذي سمي علم الجنس كما أن الدال على المخلوطة قد يكون كذلك وهو الذي يسمى العلم الخاص وأما بقية الطرق فكاللازم في المخلوطة لا تستغني عن ضميمة والمضاف إلى أحدهما حكمه حكم المضاف إليه. فتأمل هذا واحفظه فإنه داخل في التحقيق بمداخل.
ص -
النسخ:
الإزالة: نسخت الشمس الظل. والنقل: نسخت الكتاب ونسخت النحل. ومنه المناسخات. فقيل: مشترك. وقيل: للأول. وقيل: الثاني.
وفي الاصطلاح: رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر.
فيخرج المباح بحكم الأصل. والرفع بالنوم والغفلة. وبنحو صل إلى آخر الشهر.
ونعني بالحكم: ما يحصل على المكلف بعد أن لم يكن ، فإن الوجوب المشروط بالعقل لم يكن عند انتفائه قطعا. فلا يرد: الحكم قديما فلا يرتفع لأنا لم نعينه.
والقطع بأنه إذا ثبت تحريم شيء بعد وجوبه انتفى الوجوب وهو المعني بالرفع ".
ش - لما فرغ من المباحث المشتركة بين الأدلة ذكر ما يتعلق بالكتاب والسنة وهو النسخ.
وقد استعمل في اللغة للإزالة يقال: نسخت الشمس الظل أي أزالته.
وللنقل يقال: نسخت الكتاب أي نقلته. ونسخت النحل أي نقلته. ومنه المناسخات لانتقال الميراث من وارث إلى وارث.
ولما تعدد الاستعمال اختلف الناس فيه. فقيل: إنه مشترك لأن الأصل في الاستعمال الحقيقة.
وقيل: مجاز في الأول. وقيل: في الثاني. وهما أولى من الاشتراك لما تقدم أن المجاز خير.
واختلفت عباراتهم في مفهومه الشرعي.
فقيل: هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر. فرفع الحكم كالجنس ، والشرعي أخرج المباح الأصلي لأنه ليس بحكم شرعي. وبدليل شرعي أخرج ما يرتفع بالنوم والغفلة فإن رفع وجوب الصلاة عن النائم والغافل بالنوم والغفلة لا بقوله عليه السلام:" رفع القلم عن ثلاث " الحديث يبين أن النوم رافع لا أن نفسه رافع. وقوله: متأخر - احتراز عن رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متصل كالتخصيص المتصل والاستثناء والغاية والشرط نحو: " اقتلوا المشركين " لا تقتلوا أهل الذمة.
وصوموا هذا الشهر لا العاشر. وصل إلى آخر اليوم. وصل إن كنت صحيحا.
ولما كان تعريف النسخ بالرفع يوهم الفساد لأن الحكم قديم والتعلق قديم.
قال: ويعني بالحكم ما يحصل على المكلف.
وبيانه ما حققه شيخي العلامة: أن الحكم يطلق تارة على الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير تعلقا علميا وحينئذ يكون قديما وأخرى على الخطاب المتعلق بذلك تعلقا خارجيا والحكم بهذا المعنى يحصل على الملكف بعد
أن لم يكن لأن الحكم بهذا المعنى مشروط بالتعليق لم يكن عند انتفاء العقل قطعا وحينئذ لا يرد قولهم الحكم قديم والقديم لا يرفع فلا ينعكس الحد لصدق المحدود بدون الحد لأنا لم نعن بالحكم الحكم القديم الذي لا يرتفع بل نعني به الحكم الحادث الذي يمكن رفعه لأنا نقطع أنه إذا ثبت تحريم شيء بعد وجوبه انتفى وجوبه لأنه ينتفي التعلق الخارجي الذي هو من مفهوم الوجوب وهي المعني بالرفع.
وقيل: وهذا التعريف غير منعكس لأنه دخل فيه البيان بالتخصيص المتأخر عن وقت الخطاب لأن التخصيص رفع عند المصنف.
ص - الإمام: اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأول فيرد أن اللفظ دليل النسخ. ولا يطرد فإن لفظ العدل نسخ حكم كذا ليس بنسخ. ولا ينعكس ، لأنه قد يكون بفعله صلى الله عليه وسلم.
ثم حاصله: اللفظ الدال على النسخ لأنه فسر الشرط بانتفاء النسخ وانتفاء انتفائه حصوله.
وقال الغزالي: الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه.
وأورد الثلاثة الأول.
وأن قوله على وجه إلى آخر زيادة.
وقالت الفقهاء: النص الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعي مع التأخير عن مورده.
وأورده الثلاثة.
فإن فروا من الرفع لكون الحكم قديما والتعلق قديما فانتهاء أمر الوجوب ينافي بقاءه عليه وهو معنى الرفع ، وإن فروا لأنه لا يرتفع تعلق بمستقبل لزمهم منع النسخ قبل الفعل كالمعتزلة.
وإن كان لأنه أمد التعلق بالمستقبل المظنون استمراره فلا بد من زواله.
المعتزلة: اللفظ الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجه
لولاه لكان ثابتاً. فيرد ما على الغزالي. والمقيد بالمرة بفعل.
ش- عرف إمام الحرمين النسخ بأنه اللفظ الدال على ظهور انتقاء شرط دوام حكم الأول. ويرد عليه أن اللفظ دليل النسخ لا نفسه، وأنه غير مطرد لأن العدل إذا قال نسخ حكم كذا يصدق عليه هذا الحد لأنه لفظ دال على ظهور انتفاء الحكم الأول لعدالته، وظهوره دال على انتفاء شرائط دوام الحكم الأول مع أن لفظ العدل ليس بنسخ بالاتفاق، وأنه غير منعكس لأن النسخ قد يكون بالفعل فيوجد المحدود بدون الحد وإن حاصل كلامه النسخ هو اللفظ الدال على النسخ، وهو تعريف الشيء بنفسه وذلك لأن الإمام فسر شرط دوام الحكم الأول بانتفاء النسخ فانتفاء شرط الدوام انتفاء انتفاء النسخ، وانتفاء انتفاء النسخ حصول النسخ.
وعرفه الغزالي: بأنه الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه. فالخطاب الدال كالجنس، وإنما لم يقل النص ليشمل اللفظ والفحوى والمفهوم لجواز النسخ بجميع ذلك. وبقوله: على ارتفاع الحكم الثابت خرج الخطاب المقرر. وبقوله: الثابت بالخطاب المتقدم خرج الثبت بالأصل كالإباحة الأصلية. وقوله ك على وجه لولاه لكان ثابتا - احتراز عن الخطاب الدال على ارتفاع الحكم المتقدم الذي له وقت محدد مثل:
لا تصوموا بعد غروب الشمس، بعد ما إذا قال: أتموا الصيام إلى الليل. فإنه ليس بنسخ وإن كان دالا على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم لكن لا على وجه لولاه لكان ثابتا.
وقوله: مع تراخيه - احتراز عن الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم إذا كان متصلا به كالاستثناء والصفة والغاية والشرط فإنها بيان لا نسخ.
قال: ويرد عليه الثلاثة الأول.
فإن الخطاب دليل النسخ لا نفسه، وأن لفظ العدل ليس بنسخ وأن النسخ قد يكون بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويرد أيضا أن قوله على وجه لولاه إلى آخره - مستدرك لا حاجة إليه.
وعرفه الفقهاء: بأنه النص الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعي مع التأخير عن مورده. أي زمان وروده، والمراد بالنص ما يقابل الإجماع والقياس.
قال وأورده عليه الثلاثة الواردة على الحدين الأولين يعني كون النص دليل النسخ لا نفسه، وعدم الاطراد بنص العدل، وعدم الانعكاس بالفعل.
قيل: والحق الاطراد لأن النص لا يطلق على لفظ العدل، وكذا الانعكاس لأن النص يتناول فعل الرسول صلى الله عليه وسلم.
وزيف المصنف فرارهم عن إطلاق الرفع في تعريفه بالسبر والتقسيم فقال: إن فروا من الرفع لأن الحكم قديم والتعلق المعنوي كذالك والقديم لا يرفع فانتهاء أمد الوجوب ينافي بقاءه عليه وهو معنى الرفع يعني أن ذلك لم يجدهم لأنه راجع إلى معنى الرفع لأنا لا نعني من الرفع إلا عدم بقاء الحكم على المكلف وانتهاء أمد الوجوب ينافي بقاء الوجوب عليه فلا يبقى معه.
وإن فروا لأن النسخ ليس إلا لقطع تعلق الحكم بالمستقبل وذلك التعلق لا يرفع لأنه لم يوجد في المستقبل لزمهم منع نسخ الحكم قبل الفعل كما هو مذهب المعتزلة.
وإن فروا لأن تعلق الحكم بالمستقبل بظن دوامه واستمراره، والنسخ بيان أمد ذلك فهو أيضا راجع إلى الرفع لأنه لابد من زوال ذلك التعلق فإن بعد بيان الأمد لا يبقى ظن الاستمرار فهو بمعنى الرفع.
ولقائل أن يقول: " القسمة حاصرة "
…
لجواز أن يكون فرارهم لأن الرفع في الجواهر حقيقة وفي الأعراض مجاز والتعريف يحترز فيه عن المجاز أو لأنه يوهم البداء وهو جهل بخلاف البيان.
وعرفه المعتزلة: بأنه اللفظ الدال على أن مثل الحكم الثبت بالنص المتقدم زائل على وجه لولاه لكان ثبتا. وهو قريب من الغزالي.
فيرد عليه ما يرد على تعريفه، ويرد أيضا لخصومه الأمر المقيد بمرة إذا أورد بعده نص دال على زوال حكمه فإنه نسخ مع أنه لم يدل على زوال مثل الحكم الثابت بل على زوال ذلك.
ولهم أن يمنعوا أن ذلك نسخ.
ص - والإجماع على الجواز والوقوع. وخالفت اليهود في الجواز.
وأبو مسلم الأصفهاني في الوقوع.
لنا: القطع بالجواز وإن اعتبرت المصالح فالقطع أن المصلحة قد تختلف باختلاف الأوقات. وفي التوراة: أنه أمر آدم بتزويج بناته من بنيه. وقد حرم ذلك باتفاق.
واستدل بإباحة السبت ثم تحريمه. وبجواز الختان، ثم إيجابه يوم الولادة عندهم. وبجواز الأختين ثم التحريم.
وأجيب بأن رفع مباح الأصل ليس بنسخ.
ش - أجمع المسلمون على جواز النسخ ووقوعه، وخالفت
اليهود في الجواز وأبو مسلم الأصفهاني في الوقوع.
واعترض على إطلاق إجماع المسلمين مع مخالفة أبي مسلم.
وأجيب بأن المراد إجماع من قبله. أو بناء على أن مخالفة الواحد لا يخل بالإجماع. وأقول: وقوع النسخ في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم من ضروريات دينه فمنكره كافر فلم يتناوله لفظ المسلمين.
واحتج بالقطع بالجواز فإنا لو فرضنا وقوعه لم يلزم من ذلك محال فكان جائزا.
وإن اعتبرت المصالح كما هو مذهب المعتزلة فأوضح لأنا نعلم بيقين المصالح تختلف باختلاف الأوقات وحينئذ لا نزاع في القطع بالجواز.
واستدل بإباحة السبت فإنها كانت ثابتة ثم نسخت بحرمة العمل فيه. وبأن
الختان كان جائزا ثم صار واجبا يوم الولادة عندهم. وبأن الجمع بين الأختين كان جائزا ثم ثبت التحريم فكان النسخ واقعا.
وأجيب بأن هذه الصور يعني التي ذكرت فيه هذا الاستدلال كانت مباحة بدليل ورفع مباح الأصل ليس بنسخ.
ص - قالوا: لو نسخت شريعة موسى لبطل قول موسى المتواتر هذه شريعة مؤبدة. قلنا: مختلق. قيل من ابن الرواندي.
والقطع أنه لو كان عندهم صحيحا لقضت العادة بقوله له صلى الله عليه وسلم.
قالوا: إن نسخ لحكمة ظهرت له لم تكن ظاهرة له فهو البداء وإلا فعبث.
وأجيب بعد اعتبار المصالح أنها تختلف باختلاف الأزمان والأحوال كمنفعة شرب دواء في وقت أو حال وضرره في آخره. فلم يتجدد ظهور ما لم يكن.
قالوا: إن كان مقيدا فليس بنسخ وإن دل على التأبيد لم يقبل للتناقض بأنه " مريد ليس بوريد " ولأنه يؤدي إلى تعذر الإخبار بتأبيد. وإلى نفي " الموثوق " بتأبيد حكم ما. وإلى جواز نسخ شريعتكم.
وأجيب بأن تقييد الفعل الواجب بالتأبيد لا يمنع النسخ كما لو كان معينا مثل: صم رمضان ثم ينسخ قبله. فهذا أجدر. وقوله: صم رمضان أبدا بالنص يوجب أن الجميع متعلق الوجوب ولا يلزم الاستمرار فلا تناقض كالموت وإنما الممتنع أن يخبر بأن الوجوب باق أبدا ثم ينسخ.
قالوا: لو جاز لكان قبل " وجوبه " أو بعده أو معه وارتفاعه قبل وجوده أو بعده باطل، ومعه أجدر لاستحالة النفي والإثبات.
قلنا: المراد أن التكليف الذي كان زال كالموت لا أن الفعل يرتفع.
قالوا: إما أن يكون الباري - تعالى - علم استمراره أبدا فلا نسخ أو إلى وقت معين فليس بنسخ.
قلنا: إلى الوقت المعين الذي علم أنه ينسخه فيه وعلمه بارتفاعه بالنسخ لا يمنع النسخ.
وعلى الأصفهاني الإجماع على أن شريعتنا ناسخة لما يخالفها، ونسخ التوجه والوصية للأقربين بالمواريث وذلك كثير.
ش - تمسكت اليهود على عدم جواز النسخ بشبه خمس:
الأولى: لو نسخت شريعة موسى لبطل قوله المتواتر: هذه شريعة مؤبدة عليكم ما دامت السموات والأرض " والملازمة وبطلان التالي ظاهران.
وأجاب بأن هذا مختلق أي مفترى. قيل: اختلقه ابن الرواندي ليعارض به دعوى رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم ولو كان موجودا لذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كانوا متقولين في الدفع فكيف سكتوا عن موجود مع شدة احتياجهم إليه.
الثانية: لو جاز لكان بداء أو عبثا وهما على الله محال قطعا وذلك لأنه إن كان
لحكمة لم تكن ظاهرة لله - تعالى - فظهرت لزم البداء لأنا نعني به ظهور ما لم يكن ظاهرا وإن لم يكن كذلك لزم العبث
وأجاب بأن هذه الشبهة مبناها أن أفعال الله - تعالى - تابعة للحكمة والمصلحة وهو قضية الحسن والقبح العقليين وقد تقدم بطلانه.
سلمنا صحة ذلك لكن لاشك في أن المصالح تختلف باختلاف الأزمان والأحوال كمنفعة شرب دواء في وقت وضرره في آخر فيجوز أن يعلم الله استلزام الأمر بالفعل في وقت لمصلحة واستلزام نسخة في وقت آخر لمصلحة أخرى. فلم يتجدد ظهور ما لم يكن.
ولقائل أن الزمان متجدد لا محالة والمصالح تختلف بتجدده والحكم يتغير من حرمة إلى حل أو بالعكس بحسبها فما وجه قوله لم يتجدد ظهور ما لم يكن؟
ويجاب بأن المراد تجدد الظهور بالنسبة إلى علم الله ولم يكن إذ ذاك.
الثالثة: أن المفروض جواز نسخه إما أن يكون مقيدا بوقت معين أو دالا على التأبيد فإن كان الأول فإنه ينتهي بانتهاء ذلك الوقت ومثله لا يسمى منسوخا فلا نسخ.
وإن كان الثاني فلا يقبل النسخ لأربعة أوجه:
الأول: التناقض فإن النسخ يدل لى أن الحكم غير مؤبد ونسخ التأبيد المفروض يدل على أنه مؤبد فكان مؤبدا غير مؤبد.
والثاني: تعذر الإخبار بالتأبيد لأن الخبر الذي يدل عليه تأبيد إن جاز نسخه لم يبق طريق إلى الإخبار عن التأبيد فإن كل فرضته مؤبدا جاز طريان النسخ عليه.
والثالث: إن المؤبد لو قبله أدى إلى نفي الوثوق بتأبيد حكم ما لجواز طريان النسخ عليه.
ولقائل أن يقول هذا الوجه مستدرك لأن ما قبله يدل على أنه لا يتحقق الإخبار بالتأبيد والوثوق عليه بعد تحققه.
والرابع: أنه لو قبله أدى إلى جواز نسخ شريعتكم لأنكم تزعمون أنها منصوص عليها بالتأبيد والفرض أن التأبيد لا يمنع جواز النسخ.
وأجيب بما تقريره نختار أن يكون دالا على التأبيد ونمنع عدم قبوله النسخ وأن تقييد الفعل الواجب بالتأبيد لا يمنع النسخ كما أن تقييده بوقت معين مثل أن تقول:
صم رمضان، لا يمنع النسخ قبله بل المقيد بالتأبيد أجدر لأنه إذا جاز إبطال المعين المنصوص عليه فلأن يجوز غير المعين أولى ولا يلزم التناقض لأن صم رمضان أبدا بالنص.
" أي بالتنصيص عليه " يوجب أن تكون الرمضانات كلها متعلق الوجوب على معنى أن وقت الصوم هو هذا الشهر أبدا لا شوال ولا شعبان ولكن لا يدل على استمرار الوجوب لأن الأبد تعلق بالوقت لا بالوجوب فإذا نسخ بعد ما قيل: صم رمضان أبدا، لا يلزم التناقض كما لو مات بعد الخطاب إذ كان الأبد لتعيين الوقت لا للوجوب وعلى هذا فلا يخفى عدم التناقض.
نعم إذا قيل صم رمضانا ، وصومه باق أبدا لا يقبل النسخ فلو نسخ بعده تناقض.
هذا ما سنح لي في حل هذا المقام. ولبعض الشارحين ترتيب لهذا المكان ولست بصدد بيانه.
وعلى هذا يكون كل تأبيد متعلق للوجوب مانعا للنسخ. وأما ما يمكن أن يكون متعلقا بوقت الواجب فلا يكون مانعا فتندفع الأوجه النافية بأنا إنما نجوز النسخ في المؤبد إذا كان التأبيد متعلقا بالوقت والتأبيد المعلق بالإخبار عن دوام شريعتنا متعلق بها لا بوقتها.
ولو أجاب عن هذه الشبه بأن القسمة غير حاصرة فإن ثمة قسما آخر وهو ما لا يكون مقيدا بوقت ظاهرا ولا يكون مؤبدا وهو محل النسخ كان أسلم وأسهل.
الرابعة: أنه لو جاز لجاز إما قبل وجود الفعل أو بعده أو معه والأولان معدومان والمعدوم لا يرفع فكان باطلا ، والثالث أجدر بالبطلان لاستحالة توارد النفي والإثبات على محل واحد في حالة واحدة.
وأجاب بأن المراد بنسخ الحكم هو أن التكليف الذي كان على المكلف زال وذلك غير ممتنع كزوال التكليف بالموت لا أن الفعل يرتفع.
ولقائل أن يقول زوال ذلك التكليف إما أن يكون قبل الفعل أو بعده أو معه والكل محال لما مر.
الخامسة: أن الله - تعالى - إن علم استمرار الفعل أبدا استحال النسخ لئلا يلزم الجهل - تعالى - الله عن ذلك علوا كبيرا. فإن علم استمراره إلى وقت معين فلا نسخ لانتهاء الحكم بانتهائه والمنتهي بنفسه ليس بمنسوخ.
وأجاب باختيار الشق الثاني وهو أنه علم استمراره إلى وقت معين هو الوقت الذي علم أنه ينسخ ذلك الحكم فيه ، وعلم الله - تعالى - بارتفاع الحكم بالنسخ لا يمنع النخ لأنه حينئذ يكون انتهاؤها بالنسخ لا بنفسه.
وقوله: وعلى الأصفهاني ، أي الحجة على الأصفهاني الاجماع على أن شريعتنا ناسخة لكل شريعة تخالفها ، وعلى أن وجوب التوجه إلى بيت المقدس نسخ بوجوب التوجه إلى الكعبة ، وعلى أن وصية الوالدين والأقربين منسوخة بآية الموارث.
وذلك كثير كنسخ تقديم الصدقة بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم على مناجاته.
وكنسخ صوم عاشوراء والقنوت في الفجر وغير ذلك.
ص - مسألة: المختار جواز النسخ قبل وقت الفعل مثل: حجوا هذه السنة ، ثم يقول قبله: لا تحجوا. ومنع المعتزلة والصيرفي.
لنا: ثبت التكليف قبل وقت الفعل فوجب جواز رفعه كالموت وأيضا فكل نسخ كذلك ، لأن الفعل بعد الوقت ومعه يمتنع نسخه.
واستدل بأن إبراهيم أمر بالذبح بدليل: (افعل ما تؤمر) وبالإقدام وبترويع
الولد " و " نسخ قبل التمكن.
واعترض بجواز أن يكون موسعا.
وأجيب بأن ذلك لا يمنع رفع تعلق الوجوب بالمستقبل لأن الأمر باق عليه وهو المانع عندهم ، وبأنه لو كان موسعا لقضت العادة بتأخيره رجاء نسخه أو موته لعظمه.
وأما دفعهم بمثل لم يؤمر وإنما توهم أو أمر بمقدمات الذبح فليس بشيء ، أو ذبح وكان يلتحم عقيبه ، أو جعل صفيحة نحاس أو حديد. فلا يسمع. ويكون نسخا قبل التمكن.
قالوا: إن كان مأمورا به ذلك الوقت توارد النفي والإثبات وإن لم يكن فلا نسخ.
وأجيب لم يكن بل قبله وانقطع التكليف عنده كالموت.
ش - إذا ورد حجوا في هذه السنة ثم قيل قبل الحج لا تحجوا. منعه الصيرفي والمعتزلة. وجوزه الجمهور بوجهين:
أحدهما: أنه ثبت في مبادئ الأحكام أن التكليف يتوجه قبل وقت مباشرة الفعل فوجب جواز رفعه بالناسخ كما جاز رفعه بالموت اعتبارا للانتهاء بالابتداء بجامع أن كلا منهما خطاب تكليف إلى مكلف.
الثاني: أن كل نسخ كذلك أي قبل وقت الفعل لأن النسخ رفع التكليف ورفع التكليف بعد وقت الفعل ومعه ممتنع أما بعده فلأنه إن أتى المكلف بالفعل فقد انقطع التكليف عنه بنفسه فلا نسخ وإن تركه عصى فلا نسخ وأما معه فلا متناع توارد الإثبات والنفي على شيء واحد في حالة واحدة.
واستدل على جواز النسخ قبل الوقت بقصة إبراهيم عليه السلام فإنه أمر بذبح ولده إسماعيل ونسخ عنه قبل التمكن من الذبح أما أنه أمر بذلك فبقوله: (قال يأبت افعل ما تؤمر). وكان الذبح.
وبإقدام إبراهيم عليه السلام على الذبح. وبترويعه أي بتخويفه ولده إسماعيل فإنه لو لم يؤمر به ما جاز شيء من ذلك.
وأما أنه نسخ فلقوله: (وفدينه بذبح عظيم).
وأما أنه كان قبل الوقت فلأنه لو تمكن ولم يذبح عصى بتأخيره.
واعترض عليه بجواز أن يكون الذبح موسعا ونسخ بعد مضي وقت يسع الذبح فيه فلا يكون النسخ قبل الوقت.
وأجاب بجوابين:
أحدهما: أن ذلك أي كون الواجب موسعا لا يمنع رفع تعلق الوجوب بالمستقبل لأن الأمر باق عليه أي على المكلف ما لم يأت بالفعل في أول الوقت الموسع وهو أي بقاء الأمر عليه هو المانع عندهم حذرا من توارد النفي والإثبات على محل واحد في حالة واحدة فيمتنع النسخ في باقي الوقت الموسع وبعد انقضائه لانقطاع التكليف بنفسه وفي أول الوقت لتحقق الوجوب فيه فتعين أن يكون قبل الوقت الموسع.
والثاني: أنه لو كان موسعا لأخره لأن العادة تقضي بتأخير مثل ذلك الفعل الهائل رجاء نسخه أو موت أحدهما لعظم الأمر.
واعلم أن المصنف صدر المسألة بجواز النسخ قبل وقت الفعل ثم إنه قال في قصة إبراهيم ونسخ قبل التمكن وهما متغايران لأن المراد بالتمكن هو أن يمضي بعد وصول الأمر إلى المكلف زمان يسع الفعل المأمور به وقد يكون ذلك بعد دخول الوقت لكنه فعل ذلك إشارة إلى أنهما سواء فإن النسخ قبل التمكن يتصور على وجهين:
أحدهما: أن يرد الناسخ بعد التمكن من الاعتقاد قبل دخول وقت الواجب كما إذا قيل: صوموا غدا. ثم قيل قبل الصبح لا تصوموا غدا.
والثاني: أن يرد الناسخ بعد دخول الوقت قبل انقضاء زمان يسع الواجب كما إذا قيل: صم غدا. ثم شرع في الصوم فقبل انقضاء اليوم الذي شرع في صومه قيل: لا تصم. وأشار إلى الوجهين باختلاف العبارة.
وقد دفع بعض الأصوليين هذا الاستدلال بأن إبراهيم لم يؤمر بالذبح وإنما توهم الأمر به أو أمر بمقدمات الذبح لا بنفسه.
وأجاب المصنف بأن هذا الدفع ليس بشيء لأنه لو لم يؤمر بالذبح لما احتاج إلى الفداء.
ودفعوا أيضا بأنه يجوز أنه ذبح والتحم عقيبه أي صار صحيحا بعد الذبح ، وبأنه يجوز أن الله - تعالى - جعل صفيحة حديد أو نحاس على حلقه فيمتنع النسخ.
وأجاب بأنه لا يسمع هذا الدفع لأنه لو ذبح والتحم لم يحتج إلى الفداء ولأنه يكون تكليفا بما لا يطاق وهو محال عند المعتزلة ومع ذلك يلزم أن يكون نسخا قبل التمكن لأنه لم يتمكن من الذبح عند وجود الصفيحة.
والحق أنه لا نسخ لأمور منها: أنه كان في المنام إذ قال: (إني أرى في المنام أني أذبحك) ومع ذلك فليس في كلامه ما يدل على أنه كان مأمورا بذلك في المنام.
فإن قيل رؤيا الأنبياء وحي. قلنا: سلمناه ولكنه يحتمل التأويل كرؤيا يوسف عليه السلام: (إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي سجدين) وكان تأويله ما كان وكرؤيا نبينا صلى الله عليه وسلم حيث أعطي سوارين وأولهما بمسيلمة والأسود العنسي وغير ذلك مما فيه كثرة.
ومنها تفويضه إلى رأي إسماعيل إذ قال: (فانظر ماذا ترى) ولو كان مأمورا لما فعل ذلك.
ومنها قول إسماعيل: (افعل ما تؤمر) ولم يقل ما أمرت.
ومنها لفظ الفداء فإنه إنما يكون مع تصور الأصل لا انتساخه. وقوله: لو لم يؤمر بالذبح لما احتاج إلى الفداء - ممنوع لجواز أن يكون هو تأويل رؤياه فلا بد منه لدليل قوله عند الملابسة بالذبح (قد صدقت الرؤيا) دون قد حققتها لأن تحقيقها كان ذبح الكبش دون الولد وإنما سماه فداء بناء على ظاهر ما حمل إبراهيم عليه السلام رؤياه والله أعلم.
واحتج المانعون بأن المكلف إن كان مأمورا بالفعل في ذلك الوقت توارد النفي والإثبات فكان مأمورا به غير مأمور به وإن لم يكن فلا نسخ.
وأجاب بأنه لم يكن مأمورا به في ذلك الوقت بل كان قبله وانقطع التكليف عنه عند دخوله بالناسخ كما ينقطع بالموت.
ولقائل أن يقول: حال ورود الناسخ هو مأمور به أو لا فإن كان الثاني فلا نسخ بالضرورة وإن كان الأول فإما أن يكون انقطاعه بنفسه فلا نسخ أو بالناسخ فورد " التواتر " ولا محيص إلا بالذي ذكره علماؤنا المحققون ومن طالع التقرير اطلع على ذلك.
والاستشهاد بالانقطاع الموتي فاسد لأنه ينقطع التكليف به فلا توارد للنفي والإثبات فيه.
ص - مسألة: الجمهور: جواز نسخ مثل: صوموا أبدا ، بخلاف الصوم واجب مستمر أبدا.
لنا: لا يزيد على صم غدا ، ثم ينسخ قبله.
قالوا متناقض. قلنا: لا منافاة بين إيجاب صوم غد وانقطاع التكليف قبله كالموت.
ش - المقيد بالتأبيد إن كان مأمورا به مثل: صوموا أبدا. جاز نسخه عند الجمهور خلافا لبعض الأصوليين. وإن كان خبرا مثل: الصوم واجب مستمر أبدا.
فالأكثر على أنه لا يجوز نسخه للزوم التناقض وقد تقدم وجهه.
واحتج المصنف على الأول للجمهور بأن قوله صوموا أبدا لا يزيد على صم غدا في الدلالة على تعيين الوقت والتنصيص عليه ثم جاز نسخ صم غدا قبل دخول غد كما ذكرنا فكذلك صوموا أبدا.
وقال المانعون: نسخ الأمر المقيد بالتأبيد يوجب التناقض لأن صيغة التأبيد تقتضي الإيجاب أبدا ونسخه يقتضي عدمه في بعض الأوقات.
وأجاب بأنه لا منافاة بين إيجاب صوم غد وبين انقطاع التكليف قبل غد بالناسخ كانقطاعه بالموت.
وفيه نظر قد مر في آخر المسألة المتقدمة.
ص - مسألة: الجمهور: جواز النسخ من غير بدل. لنا: أن مصلحة المكلف قد تكون في ذلك. وأيضا فإنه وقع كنسخ وجوب الإمساك بعد الفطر ، وتحريم ادخار لحوم الأضاحي.
قالوا: (نأت بخير منها أو مثلها). وأجيب بأن الخلاف في الحكم لا في اللفظ. سلمنا لكن خصص.
سلمنا: ويكون نسخه بغير بدل خيرا لمصلحة علمت.
ولو سلم أنه لم يقع فمن أين: لم يجز؟.
ش - مذهب جمهور العلماء الأصوليين جواز النسخ من غير بدل خلافا لبعضهم ودليل الجواز وجهان:
أحدهما: بناء على متابعة المصلحة فإن مصلحة المكلف قد تكون في رفع التكليف عنه من غير بدل.
والثاني: أنه واقع كنسخ وجوب الإمساك بعد الفطر بلا بدل.
ونسخ تحريم ادخار لحوم الأضاحي كذلك.
واستدل المانعون بقوله - تعالى -: (ما ننسخ من ءاته أو ننسها نأت بخير منها) فإنه يدل على أنه لا بد من بدل.
وفيه نظر لأنه شرطية وهي تدل على وجود النسخ فضلا عن الدلالة على البدل. وأجاب بأنه ليس محل الخلاف فإنه في جواز نسخ الحكم بلا بدل لا في اللفظ ، والآية على تقدير الدلالة فإنما تدل على الإتيان به في نسخ اللفظ لأن الضمير يرجع إلى الآية وهي لفظ.
سلمنا أن هذا الآية تتناول نسخ الحكم أيضا لكن الحكم بما ذكرنا من الصور. سلمنا بقاءها على العموم لكنها تدل على عدم النسخ بدون الإتيان بما هو خير والنسخ بلا بدل خير من إبقاء الحكم لمصلحة يعلمها ولو سلم أنها تدل على أنه لا يقع بدونه لا يلزم عدم الجواز لأن عدم الوقوع لا يستلزمه.
ص - مسألة: الجمهور: جواز النسخ بأثقل. لنا ما تقدم. وبأنه نسخ التخيير في الصوم والفدية وصوم عاشوراء برمضان والحبس في البيوت بالحد.
قالوا: أبعد في المصلحة. قلنا: يلزمكم في ابتداء التكليف وأيضا فقد يكون علم الأصلح في الأثقل كما يسقمهم بعد الصحة ويضعفهم بعد القوة.
قالوا: (يريد الله أن يخفف عنكم)(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر).
قلنا: إن سلم عموم فسياقها للمآل في تخفيف الحساب وتكثير الثواب أو تسمية الشيء بعاقبته مثل: لدوا للموت وابنوا للخراب.
وإن سلم الفوز فمخصص بما ذكرناه. كما خصت ثقال التكاليف والابتلاء باتفاق.
قالوا: (نأت بخير منها أو مثلها) والأشق ليس بخير للمكلف.
وأجيب بأنه خير باعتبار الثواب.
ش - النسخ ببدل أخف كنسخ تحريم الأكل بعد النوم في ليلة رمضان بحله وببدل مساو كنسخ وجوب التوجه إلى بيت المقدس بوجوب التوجه إلى الكعبة لا يمنعه مجوز النسخ.
وأما ببدل أثقل فالجمهور على جوازه خلافا لبعض الشافعية.
وللجواز وجهان:
الأول: ما تقدم أن الحكم إن تبع المصلحة جاز أن تكون المصلحة في ذلك وإلا فالأظهر الجواز لأن الفاعل المختار يفعل ما يشاء بإرادته.
والثاني: الوقوع كنسخ التخيير بين الصوم والفدية بوجوب الصوم على التعيين. وكنسخ وجوب صوم عاشوراء بوجوب صوم رمضان. وكنسخ الحبس في
البيوت للزناة إلى وجوب الجلد أو الرجم.
وللمانعين ثلاثة أوجه:
الأول: أن النسخ ببدل أثقل أبعد عن مصلحة المكلفين لأنهم إن التزموا زيادة مشقة وإن تركوا يعاقبون.
وأجاب بأن لو صح لزمكم في ابتداء التكليف لأن النا كانوا في سعة الإباحة والنقل إلى التكليف كان بعيدا عن المصلحة لما ذكرتم ولزمكم أيضا في تضعيفهم بعد القوة.
والثاني: أنه لو جاز النسخ ببدل أثقل لزم كذب قوله - تعالى - (يريد الله أن
يخفف عنكم) وقوله - تعالى -: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) والتالي باطل لا محالة وذلك لأن الآيتين تدلان على إرادة التخفيف واليسر دون العسر والنسخ ببدل أثقل يدل على خلاف ذلك فلزم الكذب.
وأجاب بأنا لا نسلم عمومها في إرادة التخفيف واليسر في كل شيء. سلمناه ولكن سياقها يدل على أن التخفيف واليسر للمآل في تخفيف الحساب وتكثير الثواب أو يكون من باب تسمية الشيء باسم عاقبته فيكون سمى التثقيل والعسر بالتخفيف واليسر بسبب نيل الثواب ودفع العقاب مثل: لدوا للموت وابنوا للخراب.
فإنه لما عاقبة الولادة الموت. وعاقبة البناء الخراب جعلهما غاية الولادة والبناء تسمية للشيء بعاقبته. ولئن سلم إرادة التخفيف واليسر مطلقا على الفور لكنه مخصوص بما ذكرنا من الصور كما خصت التكاليف والابتلاء بالاتفاق.
والثالث: أن قوله - تعالى -: (ما ننسخ من ءاية) الآية تدل على أن البدل يكون خيرا أو مثلا والأثقل ليس بخير ولا مثل.
وأجاب بأنه خير باعتبار عظم الثواب.
ص - مسألة: الجمهور على جواز نسخ التلاوة دون الحكم وبالعك ونسخهما معا. وخالف بعض المعتزلة. لنا: القطع بالجواز. وأيضا: الوقوع. عن عمر رضي الله عنه كان فيما أنزل: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) ونسخ الاعتداد بالحول. وعن عائشة رضي الله عنها: " كان فيما أنزل عشرة رضعات محرمات " والأشبه جواز مس المحدث لمنسوخ لفظه
قالوا: التلاوة مع حكمها ، كالعلم مع العالمية ، والمنطوق مع المفهوم فلا ينفكان.
وأجيب بمنع العالمية والمفهوم. ولو سلم فالتلاوة أمارة الحكم ابتداء لا دواما. فإذا نسخ لم ينتف المدلول. وكذلك العكس. قالوا: بقاء التلاوة يوهم بقاء الحكم ، فيوقع في الجهل ، وتزول فائدة القرآن. قلنا: مبني على التحسين. ولو سلم فلا جهل مع الدليل لأن المجتهد يعلم والمقلد يرجع إليه.
وفائدته كونه معجزا وقرآنا يتلى.
ش - نسخ التلاوة أو الحكم أو كليهما جائز عند الجمهور خلافا لبعض المعتزلة وللجواز وجهان:
أحدهما: متابعة المصلحة وقد تقدم وجه ذلك.
والثاني: الوقوع ، أما التلاوة فقط لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال:" كان فيما أنزل الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة " وقد نسخ تلاوته ولم
ينسخ حكمه.
وأما الحكم فقط فلأن حكم آية الاعتداد بالحول وهو قوله - تعالى -: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزوجا وصية لأزوجهم متعا إلى الحول) قد نسخ دون تلاوته.
وأما وقوعهما فلما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " كان فيما أنزل عشر رضعات محرمات فنسخت بخمس " فقد نسخت التلاوة أيضا.
واختلفوا في جواز مس منسوخ اللفظ للمحدث. قال والأشبه الجواز.
واحتج المانعون عن جواز نسخ أحدهما بدون الآخر بأن التلاوة مع الحكم كالعالمية مع العلم ، والمنطوق مع المفهوم فكما لا ينفكان لا تنفك التلاوة عن الحكم.
وأجاب بمنع العالمية يعني أنها ليست بزائدة عليه أو مغايرة له بل هي هو. ولا نسلم ثبوت المفهوم ولو سلم منع عدم انفكاكه عن المنطوق.
ولو سلم مغايرة العالمية للعلم وأن المفهوم لا ينفك عن المنطوق لم نسلم أن التلاوة لا تنفك الحكم لأنها أمارته ابتداء لا دواما فإذا نسخت لم ينتف الحكم إذ لا يلزم من اتفاء الأمارة انتفاؤه وكذا العكس أي لا يلزم من انتفائه انتفاؤها.
وقالوا أيضا لا يجوز نسخ الحكم بدون التلاوة لأن بقاءها يوهم بقاءه لكونها أمارة له فيوقع المكلف في الجهل وتزول فائدة القرآن وهي بيان الأحكام التي تدل عليها ألفاظ القرآن فإذا انتفت الأحكام زالت الفائدة.
وأجاب بأن هذا الدليل مبني على التحسين العقلي وهو مردود ولو سلم فلا نسلم الوقوع في الجهل لقيام الدليل فأن المكلف إن كان مجتهدا يعلم الدليل الناسخ فلا جهل وإن كان مقلدا يرجع إلى المجتهد ويقبل منه. ولا نسلم أن تزول فائدة القرآن فإن فائدة التلاوة ليست تنحصر في الحكم بل من فائدتها بيان الإعجاز واستحقاق الثواب بتلاوته وجواز الصلاة.
ص - مسألة: المختار جواز نسخ التكليف بالإخبار بنقيضه خلافا للمعتزلة. وأما نسخ مدلول خبر لا يتغير فباطل. والمتغير كإيمان زيد وكفره " مثلا " خلافا لبعض المعتزلة.
واستدلالهم بمثل: أنتم مأمورن بصوم كذا. ثم ينسخ يرفع الخلاف.
ش - المختار جواز نسخ تكليفنا بالإخبار عن شيء بتكليفنا بالإخبار بنقيضه
مثل أن نكلف بالإخبار عن وجود زيد ثم نكلف الإخبار عن عدمه.
وأما مدلول الخبر فإن كان مما لا يتغير بأن يكون واجبا كقولنا الله موجود. والعالم حادث وشريك الباري ممتنع فنسخه باطل.
وإن كان " مما لا يتغير " كإيمان زيد وكفره مثل أن يقال: زيد مؤمن أو كافر فكذلك على المختار. خلافا للمعتزلة.
قالوا: مدلول الخبر إذا كان حكما مثل أنتم مأمورون بصوم كذا يجوز أن ينسخ بلا نزاع.
قال المصنف: استدلالهم بذلك يرفع الخلاف بينهم وبين المانعين لأن ذلك خبر بمعنى الأمر كما في قوله - تعالى -: (والولدت يرضعن أولدهن) فيكون إذ ذاك نسخا لمدلول الأمر دون الخبر وارتفع النزاع.
وفيه نظر لأن ذلك إنما يلزم أن لو اقتصروا في الاستدلال على تلك الصورة خاصة. أما لو قالوا ذلك جائز فكذا غيره بجامع كونهما خبرين فالمانع يحتاج إلى الفرق وقد لا يقول به المجوزون.
ص - مسألة: يجوز نسخ القرآن بالقرآن كالعدتين ، والمتواتر بالمتواتر والآحاد بالآحاد ، والآحاد بالمتواتر. وأما نسخ المتواتر بالآحاد فنفاه الأكثرون بخلاف
تخصيص العام كما تقدم.
لنا: قاطع فلا يقابله المظنون. قالوا: وقع فإن أهل قباء سمعوا مناديه صلى الله عليه وسلم ألا إن القبلة قد حولت فاستداروا ولم ينكر عليهم. أجيب: علموا بالقرائن لما ذكرناه.
قالوا كان يرسل الآحاد بتبليغ الأحكام مبتدأة وناسخة.
أجيب: إلا أن يكون مما ذكرناه فيعلم بالقرائن لما ذكرناه. قالوا: (قل لا أجد) نسخ بنهيه عن " أكل ذي ناب " من السباع فالخبر أجدر. أجيب: إما بمنعه وإما بأن المعنى لا أجد الآن وتحريم حلال الأصل ليس بنسخ.
ويتعين الناسخ بعلم تأخره ، أو بقوله صلى الله عليه وسلم هذا ناسخ أو ما في معناه مثل:" كنت نهيتكم " ، أو بالإجماع. ولا يثبت بتعيين الصحابي إذ قد يكون عن اجتهاد. وفي تعيين أحد المتواترين نظر.
ولا يثبت بقبليته في المصحف ، ولا بحداثة الصحابي ، ولا بتأخر إسلامه ، ولا بموافقه الأصل. وإذا لم يعلم ذلك فالوجه: الوقف لا التخيير.
ش - يجوز نسخ الكتاب بالكتاب كنسخ العدة بالحول بالعدة بأربعة أشهر وعشر.
ويجوز نسخ السنة المتواترة بالسنة المتواترة. والآحاد بالآحاد ، والآحاد بالمتواتر.
وأما نسخ المتواتر بالآحاد فنفاه الأكثرون بخلاف تخصيص العام المتواتر بالآحاد كما تقدم.
والفرق أن النسخ يرفع ما ثبت بالمنسوخ بخلاف التخصيص فإنه لا يرفع ما ثبت بالعام.
واحتج المصنف على عدم جواز نسخ الخبر المتواتر بالآحاد بأن المتواتر مقطوع به والآحاد مظنون والمظنون لا يقابل بالمقطوع بل يترك به ويعمل بالمقطوع.
واحتج المجوزون بثلاثة أوجه:
الأول: الوقوع فإن أهل قباء سمعوا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي ألا إن القبلة قد حولت عن بيت المقدس إلى الكعبة فاستداروا إلى الكعبة كهيئتهم ولم ينكر الرسول صلى الله عليه وسلم مع أن وجوب التوجه إلى بيت المقدس ثبت بالخبر المتواتر وخبر المنادي من الآحاد فلو لم يجز نسخ المتواتر بالآحاد لما جاز لهم التحول بمجرد قول قول المنادي ولأنكر الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفيه نظر لأن علمهم بالتوجه إلى بيت المقدس لم يكن بالخبر المتواتر بل بمشاهدتهم توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فلا يكون مما نحن فيه.
وأجاب بأنا لا نسلم أنهم تحولوا بمجرد قول المنادي بل تحولوا لأنهم علموا بالقرائن المنضمة إلى خبر المنادي كإعلان الناس بذلك ، وقربهم من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وإنما حملنا على هذا لما ذكرنا من الدليل على عدم جواز ذلك.
ولقائل أن يقول الخبر بتلك القرائن إما إن بلغت إلى قوة المتواتر في القطع أو لا والأول ممنوع والثاني غير واقع.
والثاني: أنه صلى الله عليه وسلم كان يرسل آحاد الصحابة إلى الأقطار بتبليغ الأحكام مبتدأة وناسخة من غير فرق بينهما فلو لم نقبل الآحاد في جواز نسخ المتواتر لما وجب القبول ولما جاز للرسول عليه السلام أن لا يفرق.
وأجاب بما معناه أن الإرال ووجوب القبول صحيح إلا أن يكون خبر الواحد
مما ذكرنا وهو أن يكون ناسخا للمتواتر فإنه إن كان من ذلك حمل على القرائن لما ذكرنا.
وفيه نظر تقدم آنفا.
والثالث: أن قوله - تعالى -: (قل لا أجد في ما أوحى إلى محرما على طاعم) نسخ بنهيه عليه السلام عن كل ذي ناب من السباع والنهي عن كل ذي ناب من باب الآحاد.
وإذا جاز نسخ القرآن بالآحاد فنسخ الخبر المتواتر به أجدر.
وأجاب بجوابين:
أحدهما: منع أن هذه الآية منسوخة فإنها لا تدل على إباحة الجميع حتى يكون تحريم كال ذي ناب ناسخا له لأنه يدل على عدم الوجدان وعدم وجدان المحرم لا يدل على إباحة الجميع.
وفيه نظر فإن عدم وجدان المحرم للشارع يدل على الإباحة لا محالة.
والثاني: أن معنى الآية لا أجد الآن محرما فيكون مؤقتا فلا يكون منسوخا فيكون حل كل ناب باقيا على أصل الإباحة ونهيه عليه السلام رافع للحل الأصلي وهو أيضا ليس بنسخ.
وإذا وقع حكمان متنافيان فيتعين الناسخ بأمور: منها علم تأخر أحدهما عن الآخر.
ومنها أن يقول الرسول عليه السلام هذا ناسخ.
وإنما أخر هذا القسم وإن كان أصرح في الدلالة لأن الأول عام في حياته عليه السلام ومماته ، والثاني خاص بحياته.
ومنها أن يقول ما في معناه مثل: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها " فإن هذا دال على نسخ النهي عن زيارة القبور ، ومنها الإجماع بأن تجمع الأمة على أن هذا ناسخ.
ولا يتعين بتعيين الصحابي إذ قد يكون تعيينه عن اجتهاد.
وفي تعيين الصحابي تأخير أحد المتواترين نظر لأن دليل قبول قوله يعارض دليل منعه.
أما دليل القبول فهو أن النسخ لا يكون بخير الواحد بل بالمتواتر وخبر الواحد معين للناسخ لا ناسخ لأنه علم أن أحدهما ناسخ والآخر منسوخ بدون خبر الواحد.
وأما دليل المنع فهو أنه يتضمن نسخ المتواتر بقول الواحد وهو غير جائز.
ولا يثبت كون الحكم منسوخا بقبليته في المصحف لجواز أن يكون المتقدم في المصحف متأخرا في النزول إذ ترتيبه ليس على ترتيب النزول.
ولا يثبت الناسخ بحداثة سن الصحابي الراوي لجواز أن تكون رواية من تأخر صحبته متقدمة أو أن يروى عن غيره.
ولا يثبت أيضا بتأخر إسلام الصحابي الراوي لأن تأخره لا يستلزم تأخرها لما ذكرنا.
ولا بكونه موافقا للأصل فإنه لا يدل على النسخ أصلا.
وإذا لم يعلم الناسخ والمنسوخ فالوجه الوقف لا التخيير.
ص - مسألة: الجمهور على جواز نسخ السنة بالقرآن وللشافعي قولان.
لنا: لو امتنع لكان لغيره. والأصل عدمه.
وأيضا التوجه إلى بيت المقدس بالنسبة ونسخ بالقرآن والمباشرة بالليل كذلك ، ويوم عاشوراء.
وأجيب بجواز نسخه بالسنة ووافق القرآن.
وأجيب بأن ذلك يمنع تعيين ناسخ أبدا.
قالوا: (لتبين) والنسخ رفع لا بيان. قلنا: المعنى لتبلغ ، ولو سلم فالنسخ أيضا بيان ، ولو سلم فأين نفي النسخ؟
قالوا: منفر. قلنا: إذا علم أنه مبلغ فلا نفرة.
ش - نسخ السنة بالكتاب جائز عند الجمهور وعن الشافعي فيه قولان للجمهور وجهان:
أحدهما: أنه لو امتنع لامتنع لغيره للقطع بأنه لا يمتنع لذاته والأصل عدم الغير.
والثاني: أنه واقع فإن وجوب التوجه إلى بيت المقدس كان ثابتا بالسنة ونسخ بقوله - تعالى -: (فول وجهك شطر المسجد الحرام). وتحريم مباشرة الصائم بالليل ثبت بالسنة ونسخ بقوله: (فالئن بشروهن). وصوم يوم عاشوراء ثبت
بالسنة " نحن أحق بسنة موسى " ونسخ بآية الصيام.
واعترض بأنه يجوز أن يكون النسخ في هذه الصور بالسنة ووافق القرآن فاستغنى بالقرآن عن نقل السنة الناسخة.
وأجيب بأن تجويز ذلك يمنع تعيين ناسخ ما أبدا فإن أي ناسخ فرض أمكن أن يدفع بذلك.
وفيه نظر لأن ذلك يحتاج إليه إذا ثبت مناف كمحل النزاع فإن الدليل يدل على منعه فإذا وقع على خلاف الدليل يحمل على ما ذكر جمعا بين الأدلة ، وأما إذا لم يكن مناف كما في نسخ السنة بالسنة والكتاب بالكتاب فلا يحتاج إلى ذلك.
واحتج المانعون بوجهين:
أحدهما: أن القرآن بيان للسنة والناسخ ليس بيانا بل رافع.
أما الثانية: فظاهرة ، وأما الأولى فلقوله:(وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) فإن الذكر هو القرآن فكان معناه والله أعلم وأنزلنا إليك القرآن لتبين به ولا تبيين في النسخ.
وأجاب بأن المراد بالتبيين هو التبليغ لعمومه في القرآن كله ولو سلم أنه ليس بمعنى التبليغ بل هو بمعنى التبيين ولكن لا نسلم أن النسخ ليس بيانا ولو سلم أنه ليس ببيان فمن أين يثبت نفي نسخ السنة؟ لأن غايتها أن تدل على أنها مبينه للقرآن لأن مفعول " لتبين " هو ما نزل إليهم وما نزل هو القرآن فيكون معناها لتبين بالقرآن القرآن ولا شك في أن القرآن بعضه يبين بعضآ ولا تعرض للسنة فيه أصلا.
والثاني: أن نسخ السنة بالقرآن منفر للناس عن النبي وعن طاعته لأنه يوهم
أن الله لم يرض بما يبينه الرسول.
وفيه نظر لأن أمره وطاعته صلى الله عليه وسلم ليس بمنحصر في سنته عليه السلام فلا يكون منفرا عنه وعن طاعته بل عن سنته نسخا.
وأجاب بأنه إذا علم أن الرسول عليه السلام مبلغ للأحكام لا واضع لها فلا نفرة.
ولقائل أن يقول هو مبلغ لما أنزل عليه من القرآن وليس الكلام فيه وإنما الكلام فيما كان من سنته صلى الله عليه وسلم لا مطلقا بل من جهة كونه منسوخا بالكتاب وإذا لم يجوز ذلك اندفعت فوجب المصير إليه.
ص - مسألة: الجمهور على جواز نسخ القرآن بالخبر المتواتر. ومنع الشافعي.
لنا ما تقدم. واستدل: بأن " لا وصية لوارث " نسخ (الوصية للوالدين والأقربين) والرجم للمحصن نسخ الجلد.
وأجيب بأنه يلزم نسخ المعلوم بالمظنون وهو خلاف الفرض قالوا: (نأت بخير منها أو مثلها) والسنة ليست كذلك ولأنه قال: (نأت) والضمير لله.
وأجيب بأن المراد الحكم لأن القرآن لا تفاضل فيه فيكون أصلح للمكلف أو مساويا.
وصح (نأت) لأن الجميع من عنده.
قالوا: (قل ما يكون لي أن أبدله).
قلنا: ظاهر في الوحي. ولو سلم فالسنة بالوحي.
ش - نسخ القرآن بالخبر المتواتر جائز عند الجمهور خلافاً للشافعي.
للجمهور ما تقدم أنه لو امتنع لم يمتنع لذاته فكان للغير والأصل عدمه.
واستدل أيضا بالوقوع فإن قوله: " لا وصية لوارث " نسخ قوله - تعالى -: (الوصية للولدين والأقربين) ورجم المحصن ثابت بالسنة ونسخ الجلد الثابن بقوله - تعالى -: (الزانية والزاني فاجلدوا كل وحد منهما مائة جلدة).
وأجيب بأنه لو كان كذلك لزم نسخ المعلوم بالمظنون لأن السنة في الصورتين من الآحاد ونسخ المعلوم بالمظنون خلاف الفرض لأن الفرض أن خبر الواحد الذي هو المظنون لا ينسخ القرآن وهذا الفرض ليس بمصرح به ولكنه لزم " من " المدعي بطريق المفهوم لأن تقييد الخبر بالمتواتر في المدعي يدل على أنه لا يجوز نسخ القرآن بخير الواحد. وفي عبارته تسامح ولو قال: ونمنع التواتر كفى.
واستدل الشافعي ومن تابعه بأن الناسخ لا بد وأن يكون خيرا من المنسوخ أو مثله لقوله - تعالى -: (ما ننسخ من ءاية) الآية والسنة ليست بخير من القرآن ولا
مثلا له ولأن نسخ الآية لا بد وأن يكون من الله لقوله - تعالى -: (نأت بخير) والضمير لله والخبر المتواتر ليس كذلك.
وفيه نظر لأنها شرطية وقد تقدم. وجوابه ما ذكرناه في التقرير ولأن الضمير اسم ذات فكان من مفهوم اللقب وهو ليس بحجة.
وأجاب بأن المراد بالنسخ في الآية نسخ الحكم لأن الخيرية تتصور فيه لا في ألفاظ القرآن لأنها في ذلك سواسية أما الحكم فقد يكون بعضه أقرب إلى المصلحة أو أكثر ثوابا فكان خيرا.
وفيه نظر لأن القرآن أفصح وفصيح ويجوز أن يكون الأفصح خيرا.
وبأن ما أتى به الرسول صح إطلاق " نأت " عليه لأنه أيضا من عند الله لقوله - تعالى -: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى).
وفيه نظر لأن الإطلاق إما أن يكون بطريق الحقيقة أو المجاز والأول ممنوع والثاني خلاف الأصل.
واستدل أيضا بأن قوله - تعالى -: (قال الذين لا يرجون لقآءنا ائت بقرءان غير هذا أو بدله قل ما يكون لى أن أبدله من تلقآى نفسى) يدل على أن الرسول لا يجوز له أن يبدل القرآن من تلقاء نفسه وفي نسخه بالسنة المتواترة ذلك.
وأجاب بأنه ظاهر في الوحي يعني قرينة الحال تشعر بأن المراد به تبديل الوحي أي ليس لي أن أبدل ما يوحى إلي بعضه ببعض.
وفيه نظر لأنه يلوح إلى أن السنة ليست بوحي وهو مناف لما تقدم في الجواب الأول.
قال: ولو سلم أن المراد به منع التبديل مطلقا فالسنة بالوحي أيضا فالنسخ بها
لا يكون تبديلا من تلقاء نفسه بل بالوحي.
وفيه نظر لأنه حينئذ لا يبقى لقوله: (من تلقاء نفسي) فائدة إذ لا وجود له على ذلك التقدير.
ص - الجمهور: إن الإجماع لا ينسخ. لنا: لو نسخ بنص قاطع أو بإجماع قاطع كان الأول خطأ وهو باطل. ولو نسخ بغيرهما فأبعد للعلم بتقديم القاطع.
قالوا: لو أجمعت الأمة على قولين فإجماع على أنها اجتهادية فلو اتفق على أحدهما كان نسخا.
قلنا: لا نسخ بعد تسليم جوازه وقد تقدمت.
ش - الإجماع القطعي لا ينسخ عند الجمهور خلافا لبعض الأصوليين.
حجة الجمهور أن الإجماع القطعي لو نسخ لنسخ بنص قاطع أو إجماع قاطع أو بغيرهما والأول يستلزم خطأ المنسوخ لمعارضته القاطع وهو باطل.
وفيه نظر لأن بالإجماع الثاني لا يلزم أن يكون الأول خطأ إذ ليس الثاني ثابتا بطريق التبين بل كان الأول صحيحا في وقت لما رأى أهله في حكمه من المصلحة ثم تغيرت في وقت آخر فأجمعوا على خلافه وليس في ذلك ما يدل على خطأ الأول.
والثاني أعني نسخه بغيرهما فأبعد لأن غير النص القاطع والإجماع القاطع ظني وقد علم أن القاطع يقدم على غيره.
قال شيخي العلامة: وإنما قيدنا الإجماع بالقطعي لأن قوله للعلم بتقديم القاطع يدل على أن المراد ذلك.
واحتج المجوزون بأن الأمة لو أجمعت على قولين فهو إجماع على كون المسألة اجتهادية يجوز الأخذ بأيها كان فلو أجمعوا بعد ذلك على أحدهما كان نسخا للأول ولا يجوز الأخذ إلا بما اتفقوا عليه.
وأجاب بما معناه لا نسلم وقوع انعقاد الإجماع الثاني على أحد القولين لما تقدم من الخلاف ، ولو سلم فلا نسخ للإجماع الأول لأنه مشروط بعدم الثاني وإذا وقع انتفى شرط الأول فانتفى الأول لانتفاء شرطه لا لكونه منسوخا.
ولو قيل في الجواب الإجماع الثاني ظني لكونه مختلفا فيه فلا ينسخ الأول إن كان قطعيا وإن لم يكن خرج من محل النزاع لأن الكلام فيه لما ذكرنا من التقييد صح أيضا.
ص - مسألة: الجمهور على أن الإجماع لا ينسخ به لأنه إن كان عن نص فالنص الناسخ وإن كان عن غير نص والأول قطعي فالإجماع خطأ أو ظني فقد زال شرط العمل به وهو رجحانه.
قالوا: قال ابن عباس لعثمان: كيف تحجب الأم بالأخوين وقد قال الله - تعالى -: (فإن كان له إخوة) والأخوان ليسا إخوة. فقال: حجبها قومك يا غلام.
قلنا: إنما يكون نسخا بثبوت المفهوم قطعا وأن الأخوين ليسا إخوة قطعا فيجب تقدير النص وإلا كان الإجماع خطأ.
ش - الإجماع لا يكون ناسخا عند الجمهور خلافا لعيسى بن أبان وبع المعتزلة.
واحتج الجمهور بأن الإجماع إن كان عن نص كان هو الناسخ لا الإجماع وإن
كان عن غيره فعن قياس بالضرورة وحينئذ لا يخلو من أن يكون الحكم المنسوخ به قطعيا أو ظنيا فإن كان الأول كان الإجماع خطأ لأنه لا ينعقد على خلاف القطعي والخطأ لا يكون ناسخا وإن كان الثاني فلا يكون منسوخا بل يكون منفيا بانتفاء شرط العمل به وهو الرجحان على معارضه الذي هو سند الإجماع فإنه ليس براجح عليه وإلا لزم أن يكون الإجماع خطأ وما يكون منفيا بانتفاء شرطه لا بالناسخ لا يكون منسوخا.
واحتج المجوزون بأن عثمان رضي الله عنه لما حجب الأم من الثلث إلى السدس بالأخوين وقال له ابن عباس كيف تحجب الأم بالأخوين وقد قال الله - تعالى -: (فإن كان له إخوة فلأمه السدس) والأخوان ليسا بإخوة.
قال حجبها قومك يا غلام. وذلك دليل على أن الإجماع يكون ناسخا.
وفيه نظر لأنه يجوز أن يكون معنى قوله: حجبها قومك - أنهم يطلقون التثنية على الجمع.
وأجاب بأن حجب " الإمام " عن الثلث إنما يكون ناسخا إذا ثبت قطعا أن المفهوم حجة حتى يلزم بطريق المفهوم أنه إذا لم يكن له إخوة فلا يكون لأمه السدس ، وثبت أن الأخوين ليسا بإخوة قطعا.
وليس كذلك فإن كل واحد منهما مختلف فيه ولو سلم بثبوتهما قطعا وجب تقدير نص دال على حجب الأم عن الثلث وإلا لكان الإجماع خطأ لكونه مخالفا للقطعي وحينئذ يكون الناسخ ذلك النص لا الإجماع.
ص - مسألة: المختار أن القياس المظنون لا يكون ناسخا ولا منسوخا.
أما الأول فلأن ما قبله إن كان قطعيا لم ينسخ بالمظنون وإن كان ظنياً تبين زوال
شرط العمل به وهو رجحانه لأنه ثبت مقيدا ، كان المصيب واحدا أو لا.
وأما الثاني فلأن ما بعده قطعيا أو ظنيا تبين زوال شرط العمل به.
وأما المقطوع فينسخ بالمقطوع في حياته ، وأما بعده فتبين أنه كان منسوخا. قالوا صح التخصيص فيصح. قلنا منقوض بالإجماع والعقل وخبر الواحد.
ش - القياس المقطوع ما يكون حكم أصله والعلة ووجودها في الفرع قطعيا والمظنون ما لا يكون كذلك بأن يكون بعض ذلك أو كله ظنيا. ومختار المصنف أن القياس المظنون لا يكون ناسخاً ولا منسوخاً.
أما الأول: وهو أن القياس المظنون لا يكون ناسخا فلأن ما قبله أي الذي يفرض كونه منسوخا به إن كان قطعيا لا ينسخ بالمظنون وهو ظاهر. وإن كان ظنيا تبين بالقياس المظنون زوال شرط العمل به وهو رجحانه على معارضه سواء كان المصيب واحدا أو لا وإذا زال العمل به لم يثبت العمل وما لم يثبت لا ينسخ.
وأما الثاني: وهو أنه لا يكون منسوخا فلأن ما بعد القياس المظنون قطعيا كان أو ظنيا تبين زوال شرط العمل بالقياس المظنون إلى آخره ما ذكرنا في الأول.
وأما القياس المقطوع فينسخ بدليل قطعي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لأن حكم هذا القياس كحكم النص القاطع فكما جاز نسخ القاطع بالقاطع جاز نسخ القياس القطعي بالقاطع.
وفيه تشكيك فإن شرط العمل بالقاطع وهو رجحانه إذ ذاك منتف فلا يكون نسخا كالمظنون.
وأما بعد الرسول عليه السلام فلو عمل مجتهد بالقياس القطعي لعدم اطلاعه على ناسخه ثم اطلع على الناسخ تبين أنه كان منسوخا في عهد الرسول.
ومن قال بأن القياس المظنون يجوز أن يكون ناسخا فاشبه على التخصيص بالقياس المظنون لأن النسخ بيان كالتخصيص.
وأجاب بأن هذا الدليل منقوض بالإجماع والعقل وخبر الواحد فإن التخصيص بكل منها جائز دون النسخ.
ص - مسألة: المختار: يجوز نسخ أصل الفحوى دونه. وامتناع نسخ الفحوى دون أصله. ومنهم من جوزهما. ومنهم من منعهما.
لنا: أن جواز التأفيف بعد تحريمه لا يستلزم جواز الضرب.
وبقاء تحريمه يستلزم تحريم الضرب. وإلا لم يكن معلوما منه.
المجوز: دلالتان فجاز رفع كل منهما.
قلنا: إذا لم يكن استلزام.
المانع: الفحوى تابع فيرتفع بارتفاع متبوعه.
قلنا: تابع للدلالة لا للحكم ، والدلالة باقية.
ش - اختلفوا في جواز نسخ الأصل كالتأفيف مثلا والفحوى على ثلاثة مذاهب:
الأول: وهو المختار أنه يجوز نسخ أصل الفحوى بدون الفحوى ويمتنع نسخ الفحوى بدون أصله.
والثاني: أنه يجوز نسخ كل منهما بدون الآخر.
والثالث: أنه يمتنع نسخ كل منهما بدون الآخر.
حجة المختار أن جواز التأفيف بعد تحريمه لا يستلزم جواز الضرب فيجوز نسخ تحريم التأفيف الذي هو الأصل مع بقاء تحريم الضرب الذي هو الفحوى وأما بقاء تحريم التأفيف فإنه يستلزم تحريم الضرب لأن بقاء تحريم التأفيف لو لم يكن مستلزما لتحريم الضرب لم يعلم تحريمه من تحريم التأفيف وليس كذلك وإذا كان بقاء تحريم التأفيف مستلزما لتحريم الضرب امتنع نسخ تحريمه الذي هو الفحوى بدون نسخ تحريم التأفيف الذي هو الأصل.
وقال من جوز نسخ كل منهما بدون الآخر إنهما دلالتان يعني أن دلالة اللفظ
على تحريم التأفيف غير دلالته على تحريم الضرب فإن أولهما بالمنطوق والثانية بالمفهوم وحينئذ جاز رفع كل واحد منهما بدون الآخر.
وأجاب بوجود المانع وهو الاستلزام فإن رفع حكم هو لازم بدون رفع حكم هو ملزوم لا يجوز لامتناع بقاء الملزوم بدون اللازم.
واحتج القائل بامتناع نسخ كل من الأصل والفحوى بدون الآخر بأن الفحوى تابع للأصل والتابع لا يوجد بدون المتبوع فإذا ارتفع الأصل ارتفع التابع.
ولم يتعرض للجانب الآخر بظهور الاستلزام على مر.
وأجاب بأن الفحوى تابع لدلالة اللفظ لا للحكم وهي باقية إلا أنه لا يجوز العمل بمقتضاها بدليل خاص بالأصل فتبقى الفحوى لبقاء متبوعه الذي هو الدلالة.
ص - مسألة: المختار أن نسخ حكم أصل القياس لا يبقى معه حكم الفرع.
لنا: خرجت العلة عن الاعتبار فلا فرع.
قالوا: الفرع تابع للدلالة لا للحكم كالفحوى.
قلنا: يلزم من زوال الحكم زوال الحكمة المعتبرة فيزول الحكم مطلقا لانتفاء الحكمة.
قالوا: حكمتم بالقياس على انتفاء الحكم بغير علة.
قلنا: حكمنا بانتفاء الحكم لانتفاء علته.
ش - إذا نسخ حكم أصل القياس نسخ حكم الفرع أيضا هو المختار عند المصنف. خلافا للحنفية.
حجة المختار أن حكم الأصل هو الموجب لاعتبار العلة فيه فإذا ارتفع خرجت العلة عن الاعتبار فلا يتحقق الفرع لئلا يلزم وجود المعلول بدون العلة.
وفيه نظر لأنا لا نسلم أن حكم الأصل هو الموجب لاعتبار العلة بل العلة هي الموجبة لحكم الأصل ولا يلزم من انتفائه انتفاؤها لجواز أن تبقى لحكم الفرع.
واحتج للحنفية بوجهين:
أحدهما: أن حكم الفرع تابع لدلالة حكم الأصل على علة الأصل لا لحكم الأصل كالفحوى فإنه تابع لدلالة المنطوق لا لحكمه ولا يلزم من انتفاء حكم الأصل انتفاء دلالته على علة الأصل فلا يلزم من انتفاء حكم الأصل انتفاء حكم الفرع.
وأجاب بأنه يلزم من زوال الحكم زوال الحكمة المعتبرة فيزول الحكم مطلقا لانتفاء الحكمة.
وفيه نظر لأن المراد بالحكمة إن كان العلة فلا نسلم أن زوال الحكم يستلزم زوالها. سلمناه لكن لا نسلم زوال دلالته عليها وبها يتم المطلوب وإن كان غيرها فلا نسلم زوال الحكم مطلقا فإنه يلزم بقاء العلة بلا معلول وهو غير جائز.
الثاني: أنكم حكمتم بانتفاء حكم الفرع بالقياس على انتفاء حكم الأصل بغير علة والقياس بدونها غير معتبر.
وأجاب بأنا ما حكمنا بانتفاء حكم الفرع قياسا على انتفاء حكم الأصل بل حكمنا بانتفاء حكم الفرع لانتفاء علته.
وفيه نظر لأنه ينافي ما ذكر في الجواب الأول أن زوال الحكم يستلزم زوال الحكمة المعتبرة فيزول الحكم مطلقا لانتفاء حكمته فإن أراد بالحكمة العلة فزيفه قد تقدم.
ص - مسألة: المختار أن الناسخ قبل تبليغه صلى الله عليه وسلم لا يثبت حكمه.
لنا: لو ثبت لأدى إلى وجوب وتحريم للقطع بأنه لو ترك الأول أثم.
وأيضا فإنه لو عمل بالثاني عصى اتفاقا. وأيضا يلزم قبل تبليغ جبريل وهو اتفاق.
قالوا: حكم فلا يعتبر علم المكلف. قلنا: لا بد من اعتبار التمكن. وهو منتف.
ش - الناسخ قبل أن يبلغ المكلف لا يثبت حكمه كما إذا ورد الأمر باستقبال بيت المقدس ثم ورد الناسخ وهو الأمر باستقبال الكعبة في المدينة لا يثبت الحكم في حق أهل اليمن حتى يبلغهم هو المختار عند المصنف.
واحتج بأنه لو ثبت حكمه قبل تبليغه كان الشيء الواحد واجبا حراما في حالة واحدة وهو محال وذلك لأنا نقطع بأن المكلف لو ترك الواجب الأول قبل تبليغ الناسخ أثم لكونه واجبا والفرض ثبوت حكم الناسخ فكان حراما في حال كونه واجباً.
ولأنه لو عمل المكلف قبل تبليغ الناسخ إليه بالثاني عصى بالاتفاق ولو كان حكم الناسخ ثابتا قبل تبليغه لم يكن كذلك.
وفيه نظر لأنا لا نسلم أنه إذا ترك أثم فإن الإثم إنما يكون بترك ما أمر الشرع به وذلك لم يبق أمر الشارع به في الواقع. ولا نسلم أنه إذا عمل بالثاني عصى لأنه إنما يكون عاصيا إذا فعل " غير شرعيته الشرع " والفرض عدم علمه بذلك فكان فعله غير محظور فأنى يعصي.
واحتج أيضا بأنه لو ثبت حكمه قبل ذلك لثبت قبل تبليغ جبريل عليه السلام إلى الرسول عليه السلام إذ لا فرق بين الصورتين وليس كذلك بالاتفاق.
ولقائل أن يقول الفرق بين فإن الحكم ما لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزمه ولا أمته ولا يسمى شرع محمد إلا باعتبار المآل بخلاف ما إذا نزل فإنه إذا لزمه ولم يختص به لزم الأمة لأنه عليه السلام أصلهم هذا هو التحقيق المعتبر وإلا لزم أن يكون المكلف ممتمثلا عاصيا مثابا معاقبا بالنسبة إلى خطاب يرد بعد زمان وينسخ ولم يعلم به ونزل الأول أو أتى بالثاني.
واحتج القائلون بثبوت حكمه قبل التبليغ بأن الناسخ حكم متجدد وكل ما هو كذلك لا يتوقف ثبوته على علم المكلف كسائر الأحكام المتجددة.
وأجاب بأن التمكن من الامتثال لا بد منه وهو منتف لأنه لا يكون إلا بالعلم والفرض عدمه.
ص - مسألة: العبادات المستقلة ليست نسخا وعن بعضهم صلاة سادسة نسخ وأما زيادة جزء مشترط أو زيادة ترفع مفهوم المخالفة.
فالشافعية والحنابلة ليس بنسخ.
والحنفية نسخ.
وقيل: الثالث نسخ.
عبد الجبار: إن غيرته حتى صار وجوده كالعدم شرعا كزيادة ركعة في الفجر وكعشرين على القذف ، وكتخيير في ثالث بعد اثنين فنسخ.
وقال الغزالي: إن اتحدت كركعة في الفجر فنسخ بخلاف عشرين في القذف.
والمختار: إن رفعت حكما شرعيا بعد ثبوته بدليل شرعي فنسخ لأنه حقيقته وما خالفه ليس بنسخ.
فلو قال: " في السائمة الزكاة " ثم قال في " المعلوفة الزكاة " فلا نسخ فإن تحقق أن المفهوم مراد فنسخ وإلا فلا. ولو زيد ركعة في الصبح فنسخ لتحريم الزيادة ثم وجوبها والتغريب على الحد كذلك. فإن قيل: منفي بحكم الأصل قلنا: " هنا " لو لم يثبت تحريمه. فلو خير في المسح بعد وجوب الغسل فنسخ للتخيير بعد الوجوب ولو قال: (واستشهدوا شهيدين) ثم ثبت الحكم بالنص بشاهد ويمين فليس بنسخ إذ لا رفع لشيء.
ولو ثبت مفهومه ومفهوم (فإن لم يكونا رجلين) إذ ليس فيه منع الحكم بغيره. ولو زيد في الوضوء اشتراط غسل عضو فليس بنسخ لأنه إنما حصل وجوب مباح الأصل.
قالوا: كانت مجزئة ثم صارت غير مجزئة.
قلنا: معنى مجزئة امتثال الأمر بفعلها ولم يرتفع وارتفع عدم توقفها على شرط آخر وذلك مستند إلى حكم الأصل.
وكذلك لو زيد في الصلاة ما لم يكن محرما.
ش - الجمهور على أن زيادة عبادة مستقلة ليس بنسخ وعن بعض الأصوليين
أن زيادة صلاة سادسة أي زيادة صلاة على الصلوات الخمس نسخ. والمنسوخ قوله - تعالى -: (حفظوا على الصلوت والصلوة الوسطى) لأنها تجعل ما كان وسطى غيرها.
وهو باطل لأن النسخ إنما يكون في الأحكام الشرعية وكون الشيء وسطى ليس كذلك.
وأما زيادة جزء مشترط كزيادة ركعة في صلاة أو زيادة شرط كصفة الإيمان في رقبة الكفارة أو زيادة ترفع مفهوم المخالفة كما إذا قيل: " في السائمة زكاة " ثم قال: " في المعلوفة زكاة ". فذهبت الشافعية والحنابلة إلى أنها ليست بنسخ. وذهبت الحنفية إلى أنه نسخ.
وقيل: الثالث يعني الزيادة التي ترفع مفهوم المخالفة نسخ فقط.
وقال عبد الجبار: إن غيرت الزيادة المزيد عليه تغييرا شديدا بحيث لو فعل به بعدها على حد ما كان يفعل قبلها كان وجوده كعدمه فإنه يكون نسخا نحو زيادة ركعة على ركعتي الفجر وكزيادة عشرين على الثمانين في حد القذف.
ورد بأنه بعد زيادة عشرين لو أتى بالثمانين لم يكن وجودها كالعدم وإنما يلزم أن يضم إليه عشرون.
وكزيادة تخيير في ثالث بعد التخيير في اثنين كما لو خير أولا بين الإعتاق والصيام ثم خير بينهما وبين الإطعام.
وإن لم تغير الزيادة المزيد عليه تغييرا شديدا إلى ذلك الحد لم تكن الزيادة نسخا كزيادة التغريب على الحد.
وقال الغزالي إن اتحدت الزيادة مع المزيد عليه بحيث يرتفع التعدد بينهما كزيادة ركعة في الفجر فنسخ وإلا فلا كزيادة عشرين في القذف.
واختار المصنف أن الزيادة إن رفعت بدليل شرعي حكما شرعيا بعد ثبوته فنسخ لأن النسخ حقيقة في رفع حكم شرعي بدليل شرعي وما خالفه بأن لا تكون الزيادة حكما شرعيا أو تكون ولكن ترفع لا بدليل شرعي لا تكون نسخا.
وفرع على هذا فروعا منها: أن الشارع لو قال: في السائمة زكاة ثم قال: في العلوفة.
وكان المفهوم من الأول مرادا كان نسخا لأن الثاني دليل شرعي وقد رفع حكما شرعيا وهو عدم وجوب الزكاة المفهوم من قوله في السائمة الزكاة. وإن لم يكن المفهوم مرادا لا يكون نسخا لأن المنطوق وإن كان دليلا شرعيا إلا أنه لم يرفع حكما شرعيا لأن عدم وجوب الزكاة في العلوفة إذا لم يكن مراد الشارع بطريق المفهوم كان ثابتا بالأصل وذلك لا يكون نسخاً.
ومنها لو زيدت ركعة في الصبح " كان نسخا كتحريم " الزيادة لأن الزيادة على الركعتين قبلها كانت حراما والحرمة حكم شرعي رفعت بدليل شرعي.
ومنها زيادة التغريب على الحد فإنها ناسخة لأنه قبل وجوبه كان حراما ووجوبه رفع حرمته.
فإن قيل: رفع تحريم الزيادة ليس لنسخ لأن تحريمها ثابت بالأصل فهو مبقي عليه وهو ليس بنسخ.
أجيب بأن الثابت به عدم وجوب الزيادة فأما تحريمها فشرعي لأنه لما كان مبطلا للإتيان بالمأمور به كان حراما.
ومنها لو خير المكلف في المسح على الخفين وغسل الرجلين بعد وجوب غسلهما على التعيين كان نسخا لأن التخيير حكم شرعي وقد رفع وجوب الغسل وهو أيضا حكم شرعي.
ومنها لو قال الشارع: (واستشهدوا شهيدين). ثم ثبت الحكم بشاهد ويمين لم يكن نسخا لأن مقتضى الآية أن شهادة الشاهدين حجة وثبوت الحكم بشاهد ويمين لم يرفع من ذلك شيئا ولو ثبت مفهوم قوله: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) ومفهوم قوله: (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) لا يكون الحكم بشاهد ويمين نسخا لأن مفهوم القولين انحصار الاستشهاد في المذكور لا انحصار الحكم في المذكورين فمفهوم الإثنين لم يمنع الحكم بغير شاهدين وبغير رجل