الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما في حصار الشعب فقد بلغ الجهد منه رضي الله عنه مبلغه ، فلم يعد يقدر على المشي مع ما أصاب جسده من ضعف بعد ما كان مرفهاً مدللاً ،فقد قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: كان مصعب بن عمير أترف غلام بمكة بين أبويه، فلما أصابه ما أصابنا لم يقو على ذلك، ولقد رأيته وإن جلده ليتطاير عنه تطاير جلد الحية، ولقد رأيته يتقطع به، فما يستطيع أن يمشي، فنعرض له القِسِيَّ (1)، ثم نحمله على عواتقنا (2).
المبحث الثالث: هجرته للحبشة ، ثم للمدينة رضي الله عنه
-:
لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وما يصيبهم من البلاء والشدة، وأن الله تعالى قد أعفاه من ذلك، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم من قومهم، وأنه ليس في قومهم من يمنعهم كما منعه عمه أبو طالب، أمرهم بالهجرة إلى أرض الحبشة، وقال لهم:«إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه» (3)، فهاجر رجال من أصحابه رضي الله عنهم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة، وفروا إلى الله عز وجل بدينهم، واستخفى آخرون بإسلامهم (4) ،وكان ذلك في السنة الخامسة من البعثة النبوية (5).
(1) القِسِيّ: بكسر القاف والسين وتشديد الياء جمع قوس. النووي: تحرير ألفاظ التنبيه ، دار القلم ، دمشق ، ط1 ، 1408هـ ، ص188.
(2)
الأصبهاني، اسماعيل محمد: سير السلف الصالحين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1 ،1425هـ، ص306.
الحافظ الذهبي: مصدر سابق ، 1/ 148.
(3)
البيهقي: السنن الكبرى ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط3 ، 1424هـ ، كتاب السير ، باب الإذن في الهجرة ، 9/ 16 ، رقم 17734 ، صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ، مكتبة المعارف ، الرياض ، ط1 ، 1415هـ ، 7/ 577 ، رقم 3190.
(4)
ابن اسحاق: مصدر سابق ، ص 174.
…
ابن هشام: مصدر سابق ، 1/ 321.
ابن كثير: السيرة النبوية ،دار المعرفة ، بيروت ، د. ط ، 1395هـ ، 2/ 4.
(5)
المصدر السابق ، 2/ 3.
…
المباركفوري ، صفي الرحمن: مصدر سابق ، ص 98.
وقد خرج مصعب بن عمير رضي الله عنه مع من خرج من الصحابة إلى الحبشة (1) ، وكان معه أخوه منصور بن عمير (2).
فعن ليلى بنت أبي حثمة رضي الله عنها ، قالت: لما اجتمعوا على الخروج جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن مصعب بن عمير قد حبسته أمه ، وهو يريد الخروج الليلة فإذا رقدوا ، قال عامر بن ربيعة: فنحن ننتظره ولا نغلق بابا دونه فلما هدأت الرِّجْلُ جاءنا مصعب بن عمير فبات عندنا وظل يومه حتى إذا كان الليل خرج متسللا ووعدناه فلحقه فيه وأدركناه فاصطحبناه قال: وهم يمشون على أقدامهم ، وأنا على بعير لنا وكان مصعب بن عمير رقيق البَشَرِ ليس بصاحب رِجْلِهِ ولقد رأيت رجليه يقطران دما من الرقة فرأيت عامرا خلع حذاءه فأعطاه حتى انتهينا إلى السفينة فنجد سفينة قد حملت ذُرَةً وفرَّغت ما فيها جاءت من مَوْرٍ (3) فتكارينا (4) إلى مَوْرٍ ، ثم تكارينا من مَوْرٍ إلى الحبشة ، ولقد كنت أرى عامر بن ربيعة يَرِقُّ على مصعب بن عمير رِقَّةً ما يرقُّها على ولده وما معه دينار ولا درهم وكان معنا خمسة عشر دينارا (5).
(1) ابن اسحاق: مصدر سابق ، ص 174.
ابن هشام: مصدر سابق ، 1/ 322.
ابن كثير ، مصدر سابق ، 2/ 5.
(2)
ابن عبد البر: مصدر سابق ،4/ 1475.
(3)
مور: قيل: هو اسم موضع، سمي به لِمَوْرِ الماء فيه: أي جريانه. الشيباني ، مجد الدين: النهاية في غريب الحديث والأثر ، المكتبة العلمية ، بيروت ، د. ط ، 1399هـ ، 4/ 372.
(4)
تكارينا: أي استأجرنا. عمر ،أحمد مختار: معجم اللغة العربية المعاصرة ، عالم الكتب ، القاهرة ، ط1 ، 1429هـ ، 3/ 1927.
(5)
الشيباني ، أبو بكر بن أبي عاصم: الآحاد والمثاني ، دار الراية ، الرياض ، ط1 ، 1411هـ ، باب ليلى بنت أبي حثمة ، 6/ 237 ، رقم 3469.
"ثم رجع مع المسلمين حين رجعوا، فرجع متغيِّر الحال قد حرج - يعني غَلُظَ - فكفَّت أمه عنه من العذل"(1)(2) ، وقد شهد رضي الله عنه مع الصحابة الهجرتين إلى الحبشة ، فعن "عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال: كان مصعب بن عمير لي خدنا وصاحبا منذ يوم أسلم إلى أن قتل رحمه الله بأحدٍ ، خرج معنا إلى الهجرتين جميعا بأرض الحبشة ، وكان رفيقي من بين القوم، فلم أرَ رجلا قط كان أحسن خلقا، ولا أقل خلافا منه"(3).
رجع مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى مكة وأصبح الأمر أكثر استقرارا ، ثم أتى ذلك الموسم الذي لقي فيه النبي صلى الله عليه وسلم نفر من الأنصار "فعرض نفسه على قبائل العرب، كما كان يصنع في كل موسم ، فبينما هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا"(4) ، فعرض عليهم الإسلام فآمنوا به وصدقوه (5) ، ثم جاء العام الذي بعده فوافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا فلقوا النبي صلى الله عليه وسلم وبايعوه على بيعة النساء (6) ،عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أنه قال: إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:«بايعناه على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل النفس التي حرم الله، ولا ننتهب، ولا نعصي، بالجنة، إن فعلنا ذلك، فإن غشينا من ذلك شيئا، كان قضاء ذلك إلى الله» (7).
(1) العذل: الملامة. الجوهري ، إسماعيل بن حماد: مصدر سابق ، 5/ 1762.
(2)
ابن سعد: مصدر سابق ، 3/ 86.
(3)
المصدر السابق ، 3/ 87.
(4)
ابن هشام: مصدر سابق ، 1/ 428.
(5)
المصدر السابق ، 1/ 429 ،
(6)
المصدر السابق ، 1/ 431.
(7)
البخاري: مصدر سابق ، كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، باب وفود الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم
…
، 5/ 55 ، رقم 3893.
فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير ، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين، فكان مصعب يسمى المقرئ بالمدينة، وكان منزله على أسعد بن زرارة بن عدس أبي أمامة، وكان يصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض (1) ، فكان رضي الله عنه أول من قدم على الأنصار في المدينة ، فعن أبي إسحاق، سمع البراء رضي الله عنه، قال:«أول من قدم علينا مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، ثم قدم علينا عمار بن ياسر، وبلال رضي الله عنهم» (2) ، وفي رواية أخرى عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم وكانا يقرئان الناس .... (3).
وعن أبي مسعود الأنصاري قال: أول من قدم من المهاجرين المدينة مصعب بن عمير، وهو أول من جمع بها أول يوم جمعة قبل أن يقدم رسول الله فصلى بهم (4). فهو أول من هاجر إلى المدينة رضي الله عنه للإقامة بها ولتعليم من أسلم من أهلها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم (5). وعن الأعمش، قال: سمعت شقيق بن سلمة، قال: حدثنا خباب، قال: «هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتغي وجه الله، ووجب أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئا، منهم مصعب بن عمير
…
(6) ، فقد هاجروا بإذن الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره ، والمراد بالمعية الاشتراك في حكم الهجرة، إذ لم
(1) ابن هشام: مصدر سابق ، 1/ 434.
(2)
البخاري: مصدر سابق ، كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ،باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم ، 5/ 65 ، رقم 3924.
(3)
المصدر السابق ، كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم ، 5/ 66 ، رقم 3925.
(4)
المخلِّص ،محمد بن عبدالرحمن: المخلصيات وأجزاء أخرى لأبي طاهر المخلص ، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ، قطر، ط1 ،1429هـ ،1/ 172 ، رقم 166 ، قال ابن صاعد: وهذا حديث غريبٌ.
(5)
ابن حجر: فتح الباري شرح صحيح البخاري ، دار المعرفة ، بيروت ، ط1 ، 1379هـ ، 7/ 261.
(6)
البخاري: مصدر سابق ، كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ، 5/ 63 ، رقم 3914.
يكن معه صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر وعامر بن فهيرة ، وقد قتل مصعباً رضي الله عنه يوم أحد ، ولم يأخذ من عرض الدنيا شيئا (1).
فلما نزل مصعب بن عمير على أسعد بن زرارة رضي الله عنهما ، بدأ رضي الله عنه في تعليم أهل المدينة ونشر الإسلام فيها ، فضرب أروع الأمثلة حين اتخذ المنهج التربوي مسلكا ، في حسن المعاشرة والمجالسة ، وفي فن الحديث والاستماع له ، وفي الصبر وسعة الصدر. وقد أعانه بعد توفيق الله له ، ذكاؤه رضي الله عنه ، وعلمه الذي نهله من النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه ، وتلك المواقف التي مر بها بعد إسلامه من المحن والتعذيب.
"قال ابن إسحاق: وحدّثني عبيد الله بن المغيرة بن معيقيب، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير، يريد به دار بني عبد الأشهل ، ودار بني ظفر، وكان سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر فجلسا فيه، واجتمع إليهما رجال ممّن أسلم، وسعد بن معاذ، وأُسيد بن حضير يومئذ سيّدا قومهما من بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به قال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: لا أبا لك، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارنا ليسفّها ضعفاءنا، فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارنا، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة منّي حيث قد علمت كفيتك ذلك، فهو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدما. قال: فأخذ أسيد بن حضير حربته، ثم أقبل إليهما. فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب بن عمير: هذا سيّد قومه فاصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلس أكلّمه. قال: فوقف عليهما
(1) العيني ،محمود بن أحمد: عمدة القاري شرح صحيح البخاري ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، د. ط ، 1348هـ ، 23/ 56.
متشتّما، قال: ما جاء بكما إلينا تسفّهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كفّ عنك ما تكره؟ فقال: أنصفت. ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلّمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن، فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم به في إشراقه وتسهّله، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطّهّر وتطهّر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلّي. فقام فاغتسل وطهّر ثوبيه وتشهّد بشهادة الحق، ثم قام فصلى ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلا إن اتّبعكما لم يتخلّف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن: سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه، وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم. فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلّمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسا وقد نهيتهما ، فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدّثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك. قال: فقام سعد مغضبا مبادرا تخوّفا للذي ذكر له من أمر بني حارثة. فأخذ الحربة من يده، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئاً. ثم خرج إليهما، فلما رآهما مطمئنّين عرف سعد أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما. فوقف عليهما متشتّما، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة أما والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا منّي، أتغشانا في دارنا بما نكره؟ وقد قال أسعد بن زرارة لمصعب بن عمير: أي مصعب: جاءك والله سيّد من وراءه من قومه إن يتبعك لا يتخلّف عنك منهم اثنان ، قال: فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره ، قال سعد:
أنصفت ، ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام ، وقرأ عليه القرآن ، قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم لإشراقه وتسهّله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل فتطّهّر وتطهّر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلّي ركعتين. ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير، فلما رآه قومه مقبلا قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم ، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيّدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة ، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله ، قال: فو الله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما أو مسلمة، حاشا الأصيرم ، وهو عمرو بن ثابت بن وقش فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد فأسلم واستشهد ، ولم يسجد لله سجدة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة ، قال ابن إسحاق: ورجع سعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقاما عنده يدعوان الناس إلى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون ومسلمات إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف" (1).
(1) ابن هشام: مصدر سابق ، 1/ 435.
الحافظ الذهبي: مصدر سابق ، 1/ 244.
البيهقي: مصدر سابق ، 2/ 438.
ابن كثير: مصدر سابق ، 2/ 181.
الشامي ، محمد بن يوسف الصالحي: مصدر سابق ، 2/ 198.
الحميري ، سليمان موسى: الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم والثلاثة الخلفاء ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط1 ، 1420هـ ، 1/ 261.
اليعمري ، محمد بن محمد: عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير ، دار القلم ، بيروت ، ط1 ، 1414هـ ، 1/ 186.
وفي رواية، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأنصار مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار ،فنزل في بني غنم على أسعد بن زرارة ،فجعل يدعو الناس ، ويفشو الإسلام ويكثر أهله، وهم في ذلك مستخفون بدعائهم ،ثم إن أسعد بن زرارة أقبل هو ومصعب بن عمير حتى أتيا بئر مري أو قريبا منها، فجلسوا هنالك وبعثوا إلى رهط من أهل الأرض فأتوهم مستخفين، فبينما مصعب بن عمير يحدثهم ويقص عليهم القرآن، أُخبر بهم سعد بن معاذ فأتاهم في الأرمة ومعه الرمح حتى وقف عليه فقال: علام يأتينا في دورنا بهذا الوحيد الفريد الطريح الغريب ،يسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم. لا أراكما بعد هذا بشيء من جوارنا. فرجعوا، ثم إنهم عادوا الثانية ببئر مري أو قريبا منها فأُخبر بهم سعد بن معاذ الثانية فواعدهم بوعيد دون الوعيد الأول فلما رأى أسعد منه لينا قال يا ابن خالة اسمع من قوله فإن سمعت منه منكرا فاردده يا هذا منه، وإن سمعت خيرا فأجب الله فقال: ماذا يقول فقرأ عليهم مصعب بن عمير {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)} (1) ، فقال سعد وما أسمع إلا ما أعرف فرجع وقد هداه الله تعالى، ولم يظهر أمر الإسلام حتى رجع. فرجع إلى قومه فدعا بني عبد الأشهل إلى الإسلام وأظهر إسلامه وقال فيه من شك من صغير أو كبير أو ذكر أو أنثى فليأتنا بأهدى منه نأخذ به فوالله لقد جاء أمر لتحزن فيه الرقاب فأسلمت بنو عبد الأشهل عند إسلام سعد ودعائه إلا من لا يذكر فكانت أول دور من دور الأنصار أسلمت بأسرها ثم إن بني النجار أخرجوا مصعب بن عمير واشتدوا على أسعد بن زرارة، فانتقل مصعب بن عمير إلى سعد بن معاذ فلم يزل يدعو ويهدي على يديه حتى قل دار من دور الأنصار إلا
(1) سورة الزخرف: آية (1 - 3).
أسلم فيها ناس لا محالة وأسلم أشرافهم وأسلم عمرو بن الجموح وكسرت أصنامهم فكان المسلمون أعز أهلها وصلح أمرهم ورجع مصعب بن عمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يدعى المقرئ (1).
ثم خرج مصعب بن عمير رضي الله عنه من المدينة مع السبعين الذين وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة الثانية مِن حَاجِّ الأوس والخزرج ، ورافق أسعد بن زرارة في سفره ذلك، فقدم مكة فجاء منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً ولم يقْرَب منزله، فجعل يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأنصار وسرعتهم إلى الإسلام واستبْطَأَهُم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل ما أخبره. وبلغ أمه أنه قد قَدِمَ رضي الله عنه فأرسلت إليه: يا عاق ، أتقدم بلدا أنا فيه لا تبدأ بي؟ فقال: ما كنت لأبدأَ بأحدٍ قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم ذهب إلى أمه فقالت: إنك لعلى ما أنت عليه من الصَّبْأَةِ بعدُ! (2) قال: أنا على دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الإسلام الذي رضي الله لنفسه ولرسوله. قالت: ما شكَرْتَ ما رَثَيْتُكَ (3) ، مرة بأرض الحبشة ومرة بيثرب ، فقال: أفرُّ بديني إن تفتنوني. فأرادت حبسه، فقال: لئن أنتِ حبستَنِي لأحرصن على قتل من يتعرض لي ، قالت: فاذهب لشأنك ، وجعلت تبكي ، فقال مصعب رضي الله عنه: يا أماه إني لكِ ناصحٌ عليك شفيقٌ ، فاشهدي أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله ، قالت: والثوَاقِبِ (4) لا أدخل في دينك فيُزرى برأيي ، ويضعَّفَ عقلي، ولكني أدعُكَ وما
(1) الهيثمي: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ،مكتبة القدسي ، القاهرة ، د. ط ، 1414هـ ، باب ابتداء أمر الأنصار
…
، 6/ 41 ، رقم 9876 ، رواه الطبراني مرسل وفيه ابن لهيعة وفيه ضعف وهو حسن الحديث، وبقية رجاله ثقات. الطبراني: المعجم الكبير ، مكتبة ابن تيمية ، القاهرة ، ط2 ، 1397هـ ، 20/ 362 ، رقم 849.
(2)
الصبأة: الخارج من دين إلى آخر. السبتي ،عياض بن موسى: مشارق الأنوار على صحاح الآثار ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط1 ، 1423هـ ، 2/ 65.
(3)
من رَثَى لَهُ إذا رَقّ وتَوَجَّعَ. ابن منظور: مصدر سابق ، 14/ 309.
(4)
الشهب المضيئة. الرازي: مختار الصحاح ، المكتبة العصرية ، بيروت ، ط5 ، 1420هـ ، ص49.