الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في خبر من سبقنا من الصالحين وغيرهم ، كالخضر عليه السلام وذي القرنين رحمه الله.
ثانياً: الحوار في السنة النبوية الشريفة:
جاءت السنة النبوية مليئة بالحوارات المختلفة وبأساليب عدة ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قدوةً حسنةً لكل محاور ، تمثل ذلك في تمكنه صلى الله عليه وسلم من أسلوب الحوار من خلال أدبه صلى الله عليه وسلم ، واحترامه للطرف الآخر ، ومعرفته لنفسيات المحاورين المختلفة. وقد كانت الأساليب الحوارية على صور مختلفة منها ما يأتي:
1 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه أعرابي ، فقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاما أسود، فقال:«هل لك من إبل» قال: نعم، قال:«ما ألوانها» قال: حمر، قال:«هل فيها من أورق» قال: نعم، قال:«فأنى كان ذلك» قال: أراه عرق نزعه، قال:«فلعل ابنك هذا نزعه عرق» (1).
دار هذا الحوار اللطيف بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أعرابي ، فكأن ذلك الأعرابي قد استنكر ابنه ، وذلك عندما رأى تغير لون بشرته عن سائر أفراد الأسرة ، فأتى أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الأعرابي بما يناسب حاله بضرب مثال توضيحي من خلال بيئته؛ ليكون أقوى في الإقناع ، "حيث إن النبي شبه للأعرابي ما أنكر من لون الغلام بما عرف في نتاج الإبل"(2)،فجعله صلى الله عليه وسلم يجيب لسؤاله بنفسه ، عندما اقتنع الأعرابي في اختلاف ألوان إبله من خلال نزع العرق ،
(1) البخاري: مصدر سابق ، كتاب الحدود ،باب ما جاء في التعريض ، 8/ 173 ، رقم 6847.
(2)
العيني ، محمود بن أحمد: مصدر سابق ، 25/ 50.
ولذا قال ابن حجر رحمه الله " جاء سائلاً مستفتياً عن الحكم ، لما وقع له من الريبة ، فلما ضرب له المثل أذعن "(1).
لذا يستطيع المربي أن يستعمل هذا الأسلوب التشبيهي ليكون أكثر إقناعاً ، فإذا جعل المربي استكشاف الخطأ أو الوصول إلى الحل هدفاً يصل إليه الطرف الآخر ، كان أكثر تأثيراً وتقبلاً ، كما أن للمربي الأثر الواضح في هذا الأسلوب ، كأن يضرب مثالاً أو يُعرّض بكلامه.
2 -
عن أبي أمامة رضي الله عنه: أن فتى شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إئذن لي بالزنا؟ قال: فأقبل القوم عليه فزجروه. وقالوا: مه مه، فقال:«أدنه» فدنا قريباً. قال: فجلس. قال: «أتحبه لأمك؟» قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم» . قال: «أفتحبه لإبنتك؟» قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك. قال:«ولا الناس يحبونه لبناتهم» ، قال:«أفتحبه لأختك؟» قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: «ولا الناس يحبونه لأخواتهم» قال: «أفتحبه لعمتك؟» قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: «ولا الناس يحبونه لعماتهم» قال: «أفتحبه لخالتك؟» قال: لا والله جعلني الله فداك. قال: «ولا الناس يحبونه لخالاتهم» . قال: فوضع يده عليه، وقال:«اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحصن فرجه» . قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء (2).
حوار النبي صلى الله عليه وسلم مع هذا الشاب اتضحت فيه الكثير من المواقف التربوية ، فلم يزجره صلى الله عليه وسلم ،ولم يرفع صوته عليه ، بل أدناه منه صلى الله عليه وسلم ، وأخذ يحاوره بكل
(1) ابن حجر: فتح الباري شرح صحيح البخاري ، مصدر سابق ، 9/ 444.
(2)
ابن حنبل: مسند الإمام أحمد ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، ط1 ، 1421هـ ، 36/ 545 ، رقم 22211.
هدوء ، مع أن الشاب طلب أمراً محرماً ، فأخذ صلى الله عليه وسلم بأسلوب الاستفهام .. أتحبه
…
أفتحبه
…
؛ لكي يُشعر الشاب عِظَم ذلك الجُرم ، حتى يقرر بمخالفة ما حدثته به نفسه ، فكانت النتيجة اقتناع ذلك الفتى وإقلاعه عن هذه المخالفة تأثراً بهذا الأسلوب النبوي الرفيع الذي خاطب عقله وألهب مشاعره دون أن يتعرض له بشيء من السب أو السخرية والاستهزاء.
فهذه الاستفهامات يستعملها المربي ليُشعر المُحاور بأهمية ذلك الأمر ، وليستخرج منه القرارات السليمة ، لأن هناك أموراً واضحة لا تتطلب جهداً ، فإذا ضعفت النفس البشرية ، وأرادت ما يخالف طبيعتها ، رجعت بالاستفهامات إلى جبلتها الفطرية وحب الخير.
3 -
عن البراء رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يعتمر أرسل إلى أهل مكة يستأذنهم ليدخل مكة، فاشترطوا عليه أن لا يقيم بها إلا ثلاث ليال، ولا يدخلها إلا بجُلُبَّان السلاح، ولا يدعو منهم أحدا، قال: فأخذ يكتب الشرط بينهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقالوا: لو علمنا أنك رسول الله لم نمنعك ولبايعناك، ولكن اكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، فقال:«أنا والله محمد بن عبد الله، وأنا والله رسول الله» قال: وكان لا يكتب، قال: فقال لعلي: «امح رسول الله» فقال علي رضي الله عنه: والله لا أمحاه أبدا، قال:«فأرنيه» ، قال: فأراه إياه فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده، فلما دخل ومضت الأيام، أتوا عليا، فقالوا: مر صاحبك فليرتحل، فذكر ذلك علي رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«نعم» ثم ارتحل (1).
(1) البخاري: مصدر سابق ، كتاب الجزية، باب المصالحة على ثلاثة أيام أو وقت معلوم، 4/ 103 ، رقم 3184.
إن النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ بأقل المصلحتين ضررا ، فهو يداري صلى الله عليه وسلم في هذا الحوار ذلك الكافر ويدفع الضرر بقدر المستطاع ، قال تعالى:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1). قال العز بن عبدالسلام: (الحسنة) المداراة و (السيئة) الغلظة ، وادفع بحلمك جهل الجاهل عليك أو ادفع بالسلام إساءة المسيء (2).
فأسلوب المداراة يعين المربي كثيراً وخاصة في المواقف الحرجة ، وذلك في دفع ضرر أو الخروج بأقلهما ضررا. "قال ابن بطّال رحمه الله: المداراة: خفض الجناح للنّاس، ولين الكلام وترك الإغلاظ لهم في القول. وقال ابن حجر: المداراة الدّفع برفق" (3).
ولا تزال السنة النبوية مليئة بالحوارات الكثيرة ، فترى في جميع المراحل العمرية (الطفل-الشاب-الشيخ) ، ومع الجنسين (الذكر-الأنثى) ، وحتى مع غير المسلمين يتجلى فيها الخلق العظيم والأدب الرفيع في نبينا صلى الله عليه وسلم (4).
(1) سورة فصلت: آية (34).
(2)
عبدالسلام ، عز الدين عبدالعزيز: تفسير القرآن ، دار ابن حزم ، بيروت، ط1 ، 1416هـ ، 3/ 131.
(3)
بن حميد ، صالح بن عبد الله: نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، دار الوسيلة جدة ، ط4 ، 1426هـ ، 8/ 3358.
(4)
ينظر: سعيد إسماعيل صالح صيني: الحوار النبوي مع المسلمين وغير المسلمين ،مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني ، الرياض ، ط1 ، 1426هـ.