الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِلَيْهِ والإقبال عَلَيْهِ والشوق إِلَيْهِ والأنس بِهِ فَإِذا عدم الْقلب ذَلِك كَانَ أَشد عذَابا واضطرابا من الْعين الَّتِي فقدت النُّور والباصر من اللِّسَان الَّذِي فقد قُوَّة الْكَلَام والذوق وَلَا سَبِيل لَهُ إِلَى الطُّمَأْنِينَة بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَو نَالَ من الدُّنْيَا وأسبابها وَمن الْعُلُوم مَا نَالَ إِلَّا بَان يكون الله وَحده هُوَ محبوبه وإلهه ومعبوده وَغَايَة مَطْلُوبه وَإِن يكون هُوَ وَحده مستعانه على تَحْصِيل ذَلِك فحقيقة الْأَمر أَنه لَا طمأنينه لَهُ بِدُونِ التحقق بإياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين وأقوال الْمُفَسّرين فِي الطُّمَأْنِينَة ترجع إِلَى ذَلِك قَالَ ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما المطمئنة المصدقة وَقَالَ قَتَادَة هُوَ الْمُؤمن اطمأنت نَفسه إِلَى مَا وعد الله وَقَالَ الْحسن المصدقة بِمَا قَالَ الله تَعَالَى وَقَالَ مُجَاهِد هِيَ النَّفس الَّتِي أيقنت بِأَن الله رَبهَا الْمسلمَة لأمر فِيمَا هُوَ فَاعل بهَا وروى مَنْصُور عَنهُ قَالَ النَّفس الَّتِي أيقنت أَن الله رَبهَا وَضربت جاشا لأَمره وطاعته وَقَالَ ابْن أبي نجيح عَنهُ النَّفس المطمئنة المختة إِلَى الله وَقَالَ أَيْضا هِيَ الَّتِي أيقنت بلقاء الله فَكَلَام السّلف فِي المطمئنة يَدُور على هذَيْن الْأَصْلَيْنِ طمأنينة الْعلم وَالْإِيمَان وطمأنينة الْإِرَادَة وَالْعَمَل
فصل فَإِذا اطمأنت من الشَّك إِلَى الْيَقِين وَمن الْجَهْل إِلَى الْعلم وَمن الْغَفْلَة
إِلَى الذّكر وَمن الْخِيَانَة إِلَى التَّوْبَة وَمن الرثاء إِلَى الْإِخْلَاص وَمن الْكَذِب إِلَى الصدْق وَمن الْعَجز إِلَى الْكيس وَمن صولة الْعجب إِلَى ذلة الاخبات وَمن التيه إِلَى التَّوَاضُع وَمن الفتور إِلَى الْعَمَل فقد بإشرت روح الطُّمَأْنِينَة وأصل ذَلِك كُله ومنشؤه من الْيَقَظَة فَهِيَ أول مَفَاتِيح الْخَيْر فَإِن الغافل عَن الاستعداد للقاء ربه والتزود لمعاده بِمَنْزِلَة النَّائِم بل أَسْوَأ حَالا مِنْهُ فَإِن الْعَاقِل يعلم وعد الله ووعيده وَمَا تتقاضاه أوَامِر الرب تَعَالَى ونواهيه وَأَحْكَامه من الْحُقُوق لَكِن يَحْجُبهُ عَن حَقِيقَة الْإِدْرَاك ويقعده عَن الِاسْتِدْرَاك سنة الْقلب وَهِي غفلته الَّتِي رقد فِيهَا فطال رقوده وركد وأخلد إِلَى نوازع الشَّهَوَات فإشتد إخلاده وركوده وانغمس فِي غمار الشَّهَوَات واستولت عَلَيْهِ الْعَادَات ومخالطة أهل البطالات وَرَضي بالتشبه بِأَهْل إِضَاعَة الْأَوْقَات فَهُوَ فِي رقاده مَعَ النائمين وَفِي سكرته مَعَ المخمورين فَمَتَى انْكَشَفَ عَن قلبه سنة هَذِه الْغَفْلَة بزجرة من زواجر الْحق فِي قلبه اسْتَجَابَ فِيهَا لواعظ الله فِي قلب عَبده الْمُؤمن أَو همة عَلَيْهِ أثارها معول الْفِكر فِي الْمحل الْقَابِل فَضرب بمعول فكره وَكبر تَكْبِيرَة أَضَاءَت لَهُ مِنْهَا قُصُور الْجنَّة فَقَالَ
أَلا يَا نفس وَيحك ساعديني
…
يسْعَى مِنْك فِي ظلم اللَّيَالِي
لَعَلَّك فِي الْقِيَامَة أَن تفوزي
…
بِطيب الْعَيْش فِي تِلْكَ العلالي
فأثارت تِلْكَ الفكرة نورا رأى فِي ضوئه مَا خلق لَهُ وَمَا سيلقاه بَين يَدَيْهِ من حِين الْمَوْت إِلَى دُخُول دَار الْقَرار وَرَأى سرعَة انْقِضَاء الدُّنْيَا وَعدم وفائها لبنيها وقتلها لعشاقها وفعلها بهم أَنْوَاع المثلات فَنَهَضَ فِي ذَلِك الضَّوْء على سَاق عزمه قَائِلا {يَا حسرتى على مَا فرطت فِي جنب الله} فإستقبل بَقِيَّة عمره الَّتِي لَا قيمَة لَهَا مستدركا بهَا مَا فَاتَ محييا بهَا مَا أمات مُسْتَقْبلا بهَا مَا نقدم لَهُ من العثرات منتهزا فرْصَة إِلَّا مَكَان الَّتِي إِن فَأَتَت فأته جَمِيع الْخيرَات
ثمَّ يلحظ فِي نور تِلْكَ الْيَقَظَة وفور نعْمَة ربه عَلَيْهِ من حِين اسْتَقر فِي الرَّحِم إِلَى وقته وَهُوَ يتقلب فِيهَا ظَاهرا وَبَاطنا لَيْلًا وَنَهَارًا ويقظة ومناما سرا وَعَلَانِيَة فَلَو اجْتهد فِي إحصاء أَنْوَاعهَا لما قدر وَيَكْفِي أَن أدناها نعْمَة النَّفس وَللَّه عَلَيْهِ فِي كل يَوْم أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ألف نعْمَة فَمَا ظَنك بغَيْرهَا
ثمَّ يرى فِي ضوء ذَلِك النُّور أَنه آيس من حصرها وإحصائها عَاجز عَن أَدَاء حَقّهَا وَإِن الْمُنعم بهَا إِن طَالبه بحقوقها استوعب جَمِيع أَعماله حق نعْمَة وَاحِدَة مِنْهَا فيتيقن حِينَئِذٍ أَنه لَا مطمع لَهُ فِي النجَاة إِلَّا بِعَفْو الله وَرَحمته وفضله
ثمَّ يرى فِي ضوء تِلْكَ الْيَقَظَة أَنه لَو عمل أَعمال الثقلَيْن من الْبر لاحتقرها بِالنِّسْبَةِ إِلَى جنب عَظمَة الرب تَعَالَى وَمَا يسْتَحقّهُ بحلال وَجهه وَعظم سُلْطَانه وَهَذَا لَو كَانَت أَعماله مِنْهُ فَكيف وَهِي مُجَرّد فضل الله ومنته وإحسانه حَيْثُ يسرها لَهُ وأعانه وهيأه لَهَا وشاءها مِنْهُ وَكَونهَا وَلَو لم يفعل ذَلِك لم يكن لَهُ سَبِيل إِلَيْهَا فَحِينَئِذٍ لَا يرى أَعماله مِنْهُ وَإِن الله سُبْحَانَهُ لن يقبل عملا يرَاهُ صَاحبه من نَفسه حَتَّى يرى عين توفيق الله لَهُ وفضله عَلَيْهِ ومنته وَأَنه من الله لَا من نَفسه وَأَنه لَيْسَ لَهُ من نَفسه إِلَّا الشَّرّ وأسبابه وَمَا بِهِ من نعْمَة فَمن الله وَحده صَدَقَة تصدق بهَا عَلَيْهِ وفضلا مِنْهُ سَاقه إِلَيْهِ من غير أَن يسْتَحقّهُ بِسَبَب ويستأهله بوسيلة فَيرى ربه ووليه ومعبوده أَهلا لكل خير وَيرى نَفسه أَهلا لكل شَرّ وَهَذَا أساس جَمِيع الْأَعْمَال الصَّالِحَة وَالظَّاهِرَة والباطنة وَهُوَ الَّذِي يرفعها ويجعلها فِي ديوَان أَصْحَاب الْيَمين
ثمَّ يَبْرق لَهُ فِي نور الْيَقَظَة بارقة أُخْرَى يرى فِي ضوئها عُيُوب نَفسه وآفات عمله وَمَا تقدم لَهُ من الْجِنَايَات والإساءات وهتك الحرمات والتقاعد عَن كثير من الْحُقُوق والواجبات فَإِذا انْضَمَّ ذَلِك إِلَى شُهُود نعم الله عَلَيْهِ وأياديه لَدَيْهِ رأى أَن حق الْمُنعم عَلَيْهِ فِي نعمه وأوامره لم يبْق لَهُ حَسَنَة وَاحِدَة يرفع بهَا رَأسه فيطمئن قلبه وانكسرت نَفسه وخشعت جوارحه وَسَار إِلَى الله ناكس الرَّأْس بَين مُشَاهدَة نعمه ومطالعة جناياته وعيوب نَفسه وآفات عمله قَائِلا أَبُوء لَك بنعمتك على وأبوء لَك بذنبي فَأغْفِر لى فَإِنَّهُ لَا يغْفر الذُّنُوب إِلَّا أَنْت فَلَا يرى لنَفسِهِ حَسَنَة وَلَا يَرَاهَا أَهلا لخير فَيُوجب لَهُ أَمريْن عظيمين