الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمَعْلُوم أَنَّهَا لَو كَانَت قديمَة غير مخلوقة لكَانَتْ مستغنية بِنَفسِهَا فِي وجودهَا وصفاتها وكمالها وَهَذَا من ابطل الْبَاطِل فَإِن فقرها إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فِي وجودهَا وكمالها وصلاحها هُوَ من لَوَازِم ذَاتهَا لَيْسَ مُعَللا بعلة فَإِنَّهُ أَمر ذاتي لَهَا كَمَا أَن غنى رَبهَا وفاطرها ومبدعها من لَوَازِم ذَاته لَيْسَ مُعَللا بعلة فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْغنى بِالذَّاتِ وَهِي الفقيرة إِلَيْهِ بِالذَّاتِ فَلَا يُشَارِكهُ سُبْحَانَهُ فِي غناهُ مشارك كَمَا لَا يُشَارِكهُ فِي قدمه وربوبيته وَملكه التَّام وكماله الْمُقَدّس مشارك فشواهد الْخلق والحدوث على الْأَرْوَاح كشواهده على الْأَبدَان
قَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّاس أَنْتُم الْفُقَرَاء إِلَى الله وَالله هُوَ الْغَنِيّ الحميد} وَهَذَا الْخطاب بالفقر إِلَيْهِ للأرواح والأبدان لَيْسَ هُوَ للأبدان فَقَط وَهَذَا الْغنى التَّام لله وَحده لَا يشركهُ فِيهِ غَيره وَقد أرشد الله سُبْحَانَهُ عباده إِلَى أوضح دَلِيل على ذَلِك بقوله {فلولا إِذا بلغت الْحُلْقُوم وَأَنْتُم حِينَئِذٍ تنْظرُون وَنحن أقرب إِلَيْهِ مِنْكُم وَلَكِن لَا تبصرون فلولا إِن كُنْتُم غير مدينين ترجعونها إِن كُنْتُم صَادِقين} أَي فلولا ان كُنْتُم غير مملوكين ومقهورين ومربوبين ومجازين بأعمالكم تردون الْأَرْوَاح إِلَى الْأَبدَان إِذا وصلت إِلَى هَذَا الْموضع أَو لَا تعلمُونَ بذلك أَنَّهَا مَدِينَة مَمْلُوكَة مربوبة محاسبة مجزية بعملها
وَكلما تقدم ذكره فِي هَذَا الْجَواب من أَحْكَام الرّوح وشأنها ومستقرها بعد الْمَوْت فَهُوَ دَلِيل على أَنَّهَا مخلوقة مربوبة مُدبرَة لَيست بقديمة
وَهَذَا الْأَمر أوضح من أَن تساق الْأَدِلَّة عَلَيْهِ وَلَوْلَا ضلال من المتصوفة وَأهل الْبدع وَمن قصر فهمه فِي كتاب الله وَسنة رَسُوله فَأتى من سوء الْفَهم لَا من النَّص تكلمُوا فِي أنفسهم وأرواحهم بِمَا دلّ على أَنهم من أَجْهَل النَّاس بهَا وَكَيف يُمكن من لَهُ أدنى مسكة من عقل أَن يُنكر أمرا تشهد عَلَيْهِ بِهِ نَفسه وَصِفَاته وأفعاله وجوارحه وأعضاؤه بل تشهد بِهِ السَّمَوَات وَالْأَرْض والخليقة فَللَّه سُبْحَانَهُ فِي كل مَا سواهُ آيَة بل آيَات تدل على أَنه مَخْلُوق مربوب وانه خالقه وربه وبارؤه ومليكه وَلَو جحد ذَلِك فمعه شَاهد عَلَيْهِ
فصل وَأما مَا احتجت بِهِ هَذِه الطَّائِفَة فَأَما مَا أَتَوا بِهِ من اتِّبَاع
متشابه الْقُرْآن والعدول عَن محكمَة فَهَذَا شَأْن كل ضلال ومبتدع
فمحكم الْقُرْآن من أَوله إِلَى آخِره يدل على أَن الله تَعَالَى خَالق الْأَرْوَاح ومبدعها
وَأما قَوْله تَعَالَى {قل الرّوح من أَمر رَبِّي} فمعلوم قطعا أَنه لَيْسَ المُرَاد هَا هُنَا بِالْأَمر الطّلب الَّذِي هُوَ أحد أَنْوَاع الْكَلَام فَيكون المُرَاد أَن الرّوح كَلَامه الَّذِي يَأْمر بِهِ وَإِنَّمَا المُرَاد
بِالْأَمر هَا هُنَا الْمَأْمُور وَهُوَ عرف مُسْتَعْمل فِي لُغَة الْعَرَب وَفِي الْقُرْآن مِنْهُ كثير كَقَوْلِه تَعَالَى {أَتَى أَمر الله} أَي مَأْمُور الَّذِي قدره وقضاه وَقَالَ لَهُ كن فَيكون وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَمَا أغنت عَنْهُم آلِهَتهم الَّتِي يدعونَ من دون الله من شَيْء لما جَاءَ أَمر رَبك} أَي مأموره الَّذِي أَمر بِهِ من إهلاكهم وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أَمر السَّاعَة إِلَّا كلمح الْبَصَر} وَكَذَلِكَ الْخلق يسْتَعْمل بِمَعْنى الْمَخْلُوق كَقَوْلِه تَعَالَى للجنة أَنْت رَحْمَتي فَلَيْسَ فِي قَوْله تَعَالَى {قل الرّوح من أَمر رَبِّي} مَا يدل على أَنَّهَا قديمَة غير مخلوقة بِوَجْه مَا وَقد قَالَ بعض السّلف فِي تَفْسِيرهَا جرى بِأَمْر الله فِي أجساد الْخلق وبقدرته اسْتَقر
وَهَذَا بِنَاء على أَن المُرَاد بِالروحِ فِي الْآيَة روح الْإِنْسَان وَفِي ذَلِك خلاف بَين السّلف وَالْخلف وَأكْثر السّلف بل كلهم على أَن الرّوح الْمَسْئُول عَنْهَا فِي الْآيَة لَيست أَرْوَاح بنى آدم بل هُوَ الرّوح الَّذِي أخبر الله عَنهُ فِي كِتَابه أَنه يقوم يَوْم الْقِيَامَة مَعَ الْمَلَائِكَة وَهُوَ ملك عَظِيم وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح من حَدِيث الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله قَالَ بَينا أَنا أمشى مَعَ رَسُول الله فِي حرَّة الْمَدِينَة وَهُوَ متكىء على عسيب فمررنا على نفر من الْيَهُود فَقَالَ بَعضهم لبَعض سلوه عَن الرّوح وَقَالَ بَعضهم لَا تسألوه عَسى أَن يخبر فِيهِ بِشَيْء تكرهونه وَقَالَ بَعضهم نَسْأَلهُ فَقَامَ رجل فَقَالَ يَا أَبَا الْقَاسِم مَا الرّوح فَسكت عَنهُ رَسُول الله فَعلمت أَنه يوحي إِلَيْهِ فَقُمْت فَلَمَّا تجلى عَنهُ قَالَ {ويسألونك عَن الرّوح قل الرّوح من أَمر رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا}
وَمَعْلُوم أَنهم إِنَّمَا سَأَلُوهُ عَن أَمر لَا يعرف إِلَّا بِالْوَحْي وَذَلِكَ هُوَ الرّوح الَّذِي عِنْد الله لَا يعلمهَا النَّاس
وَأما أَرْوَاح بنى آدم فَلَيْسَتْ من الْغَيْب وَقد تكلم فِيهَا طوائف من النَّاس من أهل الْملَل وَغَيرهم فَلم يكن الْجَواب عَنْهَا من أَعْلَام النُّبُوَّة
فَإِن قيل فقد قَالَ أَبُو الشَّيْخ حَدثنَا الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم أَنبأَنَا إِبْرَاهِيم بن الحكم عَن أَبِيه عَن السدى عَن أَبى مَالك عَن ابْن عَبَّاس قَالَ بعثت قُرَيْش عقبَة بن أَبى معيط وَعبد الله ابْن أَبى أُميَّة بن الْمُغيرَة إِلَى يهود الْمَدِينَة يَسْأَلُونَهُمْ عَن النَّبِي فَقَالُوا لَهُم انه قد خرج فِينَا رجل يزْعم أَنه نَبِي وَلَيْسَ على ديننَا وَلَا على دينكُمْ قَالُوا فَمن تبعه قَالُوا سفلتنا والضعفاء وَالْعَبِيد وَمن لَا خير فِيهِ وَأما أَشْرَاف قومه فَلم يتبعوه فَقَالُوا انه قد أظل زمَان نَبِي يخرج وَهُوَ على مَا تصفون من أَمر هَذَا الرجل فائتوه فَاسْأَلُوهُ عَن ثَلَاث خِصَال نأمركم بِهن فَإِن أخْبركُم بِهن فَهُوَ نَبِي صَادِق وَإِن لم يُخْبِركُمْ بِهن فَهُوَ كَذَّاب سلوه عَن الرّوح الَّتِي نفخ الله تَعَالَى فِي آدم فَإِن قَالَ لكم هِيَ من الله فَقولُوا كَيفَ يعذب الله فِي النَّار شَيْئا هُوَ
مِنْهُ فَسَأَلَ جِبْرِيل عَنْهَا فَأنْزل الله عز وجل {ويسألونك عَن الرّوح قل الرّوح من أَمر رَبِّي} يَقُول هُوَ خلق من خلق الله لَيْسَ هُوَ من الله الله ثمَّ ذكر بَاقِي الحَدِيث
قيل مثل هَذَا الْإِسْنَاد لَا يحْتَج بِهِ فَإِنَّهُ من تَفْسِير السدى عَن أَبى مَالك وَفِيه أَشْيَاء مُنكرَة وَسِيَاق هَذِه الْقِصَّة فِي السُّؤَال من الصِّحَاح وَالْمَسَانِيد كلهَا تخَالف سِيَاق السدى وَقد رَوَاهَا الْأَعْمَش والمغيرة بن مقسم عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله قَالَ مر النَّبِي على مَلأ من الْيَهُود وَأَنا أمشى مَعَه فَسَأَلُوهُ عَن الرّوح قَالَ فَسكت فَظَنَنْت أَنه يوحي إِلَيْهِ فَنزلت {ويسألونك عَن الرّوح} يعْنى الْيَهُود قل الرّوح من أَمر ربى وَمَا أُوتُوا من الْعلم إِلَّا قَلِيلا
وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَة عبد الله فَقَالُوا كَذَلِك نجد مثله فِي التَّوْرَاة أَن الرّوح من أَمر الله عز وجل رَوَاهُ جرير بن عبد الحميد وَغَيره عَن الْمُغيرَة
وروى يحيى بن زَكَرِيَّا بن أَبى زَائِدَة عَن دَاوُد بن أَبى هِنْد عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا قَالَ أَتَت الْيَهُود إِلَى النَّبِي فَسَأَلُوهُ عَن الرّوح فَلم يجبهم النَّبِي بِشَيْء فَأنْزل الله عز وجل {ويسألونك عَن الرّوح قل الرّوح من أَمر رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا}
فَهَذَا يدل على ضعف حَدِيث السدى وَأَن السُّؤَال كَانَ بِمَكَّة فَإِن هَذَا الحَدِيث وَحَدِيث ابْن مَسْعُود صَرِيح فِي أَن السُّؤَال كَانَ بِالْمَدِينَةِ مُبَاشرَة من الْيَهُود وَلَو كَانَ قد تقدم السُّؤَال وَالْجَوَاب بِمَكَّة لم يسكت النَّبِي ولبادر إِلَى جوابهم بِمَا تقدم من إِعْلَام الله لَهُ وَمَا أنزلهُ عَلَيْهِ
وَقد اضْطَرَبَتْ الرِّوَايَات عَن ابْن عَبَّاس فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة أعظم اضْطِرَاب فَأَما أَن تكون من قبل الروَاة أَو تكون أَقْوَاله قد اضْطَرَبَتْ فِيهَا وَنحن نذْكر فقد ذكرنَا رِوَايَة السدى عَن أَبى مَالك عَنهُ وَرِوَايَة دَاوُد بن أَبى هِنْد عَن عِكْرِمَة عَنهُ تخالفها وَفِي رِوَايَة دَاوُد بن أَبى هِنْد هَذِه اضْطِرَاب فَقَالَ مَسْرُوق بن الْمَرْزُبَان وَإِبْرَاهِيم بن أَبى طَالب عَن يحيى ابْن زَكَرِيَّا عَنهُ أَن الْيَهُود أَتَت النَّبِي الحَدِيث
وَقَالَ مُحَمَّد بن نصر المروزى حَدثنَا إِسْحَاق أَنبأَنَا يحيى بن زَكَرِيَّا عَن دَاوُد بن أَبى هِنْد عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ قَالَت قُرَيْش للْيَهُود أعطونا شَيْئا نسْأَل عَنهُ هَذَا الرجل فَقَالُوا سلوه عَن الرّوح فَنزلت {ويسألونك عَن الرّوح} الْآيَة
وَهَذَا يُخَالف الرِّوَايَة الْأُخْرَى عَنهُ وَحَدِيث ابْن مَسْعُود
وَعَن ابْن عَبَّاس رِوَايَة ثَالِثَة قَالَ هشيم حَدثنَا أَبُو بشر عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس قل الرّوح أَمر من أَمر الله عز وجل وَخلق من خلق الله وصور مثل صور بنى آدم وَمَا نزل من السَّمَاء ملك إِلَّا وَمَعَهُ وَاحِد من الرّوح وَهَذَا يدل على أَنَّهَا غير الرّوح الَّتِي فِي ابْن آدم
وَعنهُ رِوَايَة رَابِعَة قَالَ ابْن مَنْدَه روى عبد السَّلَام بن حَرْب عَن خصيف عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس {ويسألونك عَن الرّوح قل الرّوح من أَمر رَبِّي} قد نزل من الْقُرْآن بِمَنْزِلَة كن نقُول كَمَا قَالَ تَعَالَى {ويسألونك عَن الرّوح قل الرّوح من أَمر رَبِّي} ثمَّ سَاق من طَرِيق خصيف عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ لَا يُفَسر أَرْبَعَة أَشْيَاء الرقيم والغسلين وَالروح
وَقَوله تَعَالَى وسخر لكم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مِنْهُ
وَعنهُ رِوَايَة خَامِسَة رَوَاهَا جُوَيْبِر عَن الضَّحَّاك عَنهُ أَن الْيَهُود سَأَلُوا رَسُول الله عَن الرّوح فَقَالَ قَالَ الله تَعَالَى {قل الرّوح من أَمر رَبِّي} يعْنى خلقا من خلقي {وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا} يعْنى لَو سئلتم عَن خلق أَنفسكُم وَعَن مدْخل الطَّعَام وَالشرَاب ومخرجهما مَا وصفتم ذَلِك حق صفته وَمَا اهْتَدَيْتُمْ لصفتها
وَعنهُ رِوَايَة سادسة روى عبد الْغنى بن سعيد حَدثنَا مُوسَى بن عبد الرَّحْمَن عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس وَعَن مقَاتل عَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {ويسألونك عَن الرّوح} وَذَلِكَ أَن قُريْشًا اجْتمعت فَقَالَ بَعضهم لبَعض وَالله مَا كَانَ مُحَمَّد يكذب وَلَقَد نَشأ فِينَا بِالصّدقِ وَالْأَمَانَة فأرسلوا جمَاعَة إِلَى الْيَهُود فاسألوهم عَنهُ وَكَانُوا مستبشرين بِهِ ويكثرون ذكره وَيدعونَ نبوته ويرجون نصرته موقنين بِأَنَّهُ سيهاجر إِلَيْهِم وَيَكُونُونَ لَهُ أنصارا فَسَأَلُوهُمْ عَنهُ فَقَالَت لَهُم الْيَهُود سلوه عَن ثَلَاث سلوه عَن الرّوح وَذَلِكَ أَنه لَيْسَ فِي التَّوْرَاة قصَّته وَلَا تَفْسِيره إِلَّا ذكر اسْم الرّوح فَأنْزل الله تَعَالَى {ويسألونك عَن الرّوح قل الرّوح من أَمر رَبِّي} يُرِيد من خلق ربى عز وجل
وَالروح فِي الْقُرْآن على عدَّة أوجه
أَحدهَا الْوَحْي كَقَوْلِه تَعَالَى {وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا إِلَيْك روحا من أمرنَا} وَقَوله تَعَالَى {يلقِي الرّوح من أمره على من يَشَاء من عباده} وسمى الْوَحْي روحا لما يحصل بِهِ من حَيَاة الْقُلُوب والأرواح
الثَّانِي الْقُوَّة والثبات والنصرة الَّتِي يُؤَيّد بهَا من شَاءَ من عباده الْمُؤمنِينَ كَمَا قَالَ {أُولَئِكَ كتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان وأيدهم بِروح مِنْهُ}