الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُخَالف لِلْعَقْلِ ونصوص الْكتاب وَالسّنة والفطرة وَهُوَ قَول من لم يعرف نَفسه وَسَيَأْتِي ذكر الْوُجُوه الدَّالَّة على بطلَان هَذَا القَوْل فِي مَوْضِعه من هَذَا الْجَواب إِن شَاءَ الله وَهُوَ قَول لم يقل بِهِ أحد من سلف الْأمة وَلَا من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَلَا أَئِمَّة الْإِسْلَام
فصل وَأما قَول من قَالَ إِن مستقرها بعد الْمَوْت أبدان أخر غير هَذِه
الْأَبدَان فَهَذَا القَوْل فِيهِ حق وباطل
فَأَما الْحق فَمَا أخبر الصَّادِق المصدوق عَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء أَنَّهَا فِي حواصل طير خضر تأوي إِلَى قناديل معلقَة بالعرش هِيَ لَهَا كالأوكار للطائر وَقد صرح بذلك فِي قَوْله جعل الله أَرْوَاحهم فِي أَجْوَاف طير خضر
وَأما قَوْله نسمَة الْمُؤمن طَائِر يعلق فِي شجر الْجنَّة يحْتَمل أَن يكون هَذَا الطَّائِر مركبا للروح كالبدن لَهَا وَيكون ذَلِك لبَعض الْمُؤمنِينَ وَالشُّهَدَاء وَيحْتَمل أَن يكون الرّوح فِي صُورَة طَائِر وَهَذَا اخْتِيَار أَبى مُحَمَّد بن حزم وأبى عمر بن عبد الْبر وَقد تقدم كَلَام أَبى عمر وَالْكَلَام عَلَيْهِ وَأما ابْن حزم فانه قَالَ معنى قَوْله نسمَة الْمُؤمن طَائِر يعلق هُوَ على ظَاهِرَة لَا على ظن أهل الْجَهْل وَإِنَّمَا أخبر أَن نسمَة الْمُؤمن طَائِر يعلق بِمَعْنى أَنَّهَا تطير فِي الْجنَّة لَا أَنَّهَا تمسخ فى صُورَة الطير قَالَ فَإِن قيل إِن النَّسمَة مُؤَنّثَة قُلْنَا قد صَحَّ عَن عَرَبِيّ فصيح أَنه قَالَ أتتك كتابي فاستخففت بهَا فَقيل لَهُ أتؤنث الْكتاب قَالَ أوليس صحيفَة وَكَذَلِكَ النَّسمَة تذكر كَذَلِك قَالَ وَأما الزِّيَادَة الَّتِي فِيهَا أَنَّهَا فِي حواصل طير خضر فَإِنَّهَا صفة تِلْكَ الْقَنَادِيل الَّتِي تأوي إِلَيْهَا وَالْحَدِيثَانِ مَعًا حَدِيث وَاحِد وَهَذَا الَّذِي قَالَه فِي غَايَة الْفساد لفظا وَمعنى فَإِن حَدِيث نسمَة الْمُؤمن طَائِر يعلق فِي شجر الْجنَّة غير حَدِيث أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي حواصل طير خضر وَالَّذِي ذكره مُحْتَمل فِي الحَدِيث الأول وَأما الحَدِيث الثَّانِي فَلَا يحْتَملهُ بِوَجْه فَإِنَّهُ أخبر أَن أَرْوَاحهم فِي حواصل طير وَفِي لفظ فِي أَجْوَاف طير خضر وَفِي لفظ بيض وان تِلْكَ الطير تسرح فِي الْجنَّة فتأكل من ثمارها وتشرب من أنهارها ثمَّ تأوي إِلَى قناديل تَحت الْعَرْش هِيَ لَهَا كالأوكار للطائر وَقَوله ان حواصل تِلْكَ الطير هِيَ صفة الْقَنَادِيل الَّتِي تأوي إِلَيْهَا خطأ قطعا بل تِلْكَ الْقَنَادِيل مأوى لتِلْك الطير فهاهنا ثَلَاثَة أُمُور صرح بهَا الحَدِيث أَرْوَاح وطير هِيَ فِي أجوافها وقناديل هِيَ مأوى لتِلْك الطير والقناديل مُسْتَقِرَّة تَحت الْعَرْش لَا تسرح وَالطير تسرح وَتذهب وتجيء والأرواح فِي أجوافها
فَإِن قيل يحْتَمل أَن تجْعَل نَفسهَا فِي صُورَة طير لَا أَنَّهَا تركب فِي بدن طير كَمَا قَالَ تَعَالَى {فِي أَي صُورَة مَا شَاءَ ركبك} وَيدل عَلَيْهِ قَوْله فِي اللَّفْظ الآخر أَرْوَاحهم كطير خضر كَذَلِك رَوَاهُ ابْن أَبى شيبَة حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش عَن عبد الله بن مرّة عَن مَسْرُوق عَن عبد الله
قَالَ أَبُو عمر وَالَّذِي يشبه عِنْدِي وَالله أعلم أَن يكون القَوْل قَول من قَالَ كطير أَو صُورَة طير لمطابقته لحديثنا الْمَذْكُور يعْنى حَدِيث كَعْب بن مَالك فِي نسمَة الْمُؤمن
فَالْجَوَاب أَن هَذَا الحَدِيث قد روى بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ وَالَّذِي رَوَاهُ مُسلم فِي الصَّحِيح من حَدِيث الْأَعْمَش عَن مَسْرُوق فَلم يخْتَلف حَدِيثهمَا أَنَّهَا فِي أَجْوَاف طير خضر
وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فَقَالَ عُثْمَان بن أَبى شيبَة حَدثنَا عبد الله بن إِدْرِيس عَن مُحَمَّد ابْن إِسْحَاق عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس قَالَ قَالَ رَسُول الله لما أُصِيب إخْوَانكُمْ يعْنى يَوْم أحد جعل الله أَرْوَاحهم فِي أَجْوَاف طير خضر ترد أَنهَار الْجنَّة وتأكل من ثمارها وتأوى إِلَى قناديل من ذهب مدلاة فِي ظلّ الْعَرْش فَلَمَّا وجدوا طيب مَأْكَلهمْ وَمَشْرَبهمْ وَمَقِيلهمْ قَالُوا من يبلغ إِخْوَاننَا عَنَّا أَنا أَحيَاء فِي الْجنَّة نرْزق لِئَلَّا ينكلُوا عَن الْحَرْب وَلَا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَاد فَقَالَ الله تَعَالَى أَنا أبلغهم عَنْكُم فَأنْزل الله تَعَالَى {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ}
وَأما حَدِيث كَعْب بن مَالك فَهُوَ فِي السّنَن الْأَرْبَعَة ومسند أَحْمد وَلَفظه لِلتِّرْمِذِي أَن رَسُول الله قَالَ إِن أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي طير خضر تعلق من ثَمَر الْجنَّة أَو شجر الْجنَّة قَالَ الترمذى هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح وَلَا مَحْذُور فِي هَذَا وَلَا يبطل قَاعِدَة من قَوَاعِد الشَّرْع وَلَا يُخَالف نصا من كتاب وَلَا سنة عَن رَسُول الله بل هَذَا من تَمام إكرام الله للشهداء أَن أعاضهم من أبدانهم الَّتِي مزقوها لله أبدانا خيرا مِنْهَا تكون مركبا لأرواحهم ليحصل بهَا كَمَال تنعمهم فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة رد أَرْوَاحهم إِلَى تِلْكَ الْأَبدَان الَّتِي كَانَت فِيهَا فِي الدُّنْيَا
فان قيل فَهَذَا هُوَ القَوْل بالتناسخ وحلول الْأَرْوَاح فِي أبدان غير أبدانها الَّتِي كَانَت فِيهَا
قيل هَذَا الْمَعْنى الَّذِي دلّت عَلَيْهِ السّنة الصَّرِيحَة حق يجب اعْتِقَاده وَلَا يُبطلهُ تسميه الْمُسَمّى لَهُ تناسخا كَمَا أَن إِثْبَات مَا دلّ عَلَيْهِ الْعقل وَالنَّقْل من صِفَات الله عز وجل وحقائق أَسْمَائِهِ الْحسنى حق لَا يُبطلهُ تَسْمِيَة المعطلين لَهَا تركيبا وتجسيما وَكَذَلِكَ مَا دلّ عَلَيْهِ الْعقل وَالنَّقْل من إِثْبَات أَفعاله وَكَلَامه بمشيئته ونزوله كل لَيْلَة إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا ومجيئه يَوْم الْقِيَامَة للفصل بَين عباده حق لَا يُبطلهُ تَسْمِيَة المعطلين لَهُ حُلُول حوادث كَمَا أَن مَا دلّ عَلَيْهِ الْعقل وَالنَّقْل من علو الله على خلقه ومباينته لَهُم واستوائه على عَرْشه وعروج الْمَلَائِكَة وَالروح إِلَيْهِ ونزولها من عِنْده وصعود الْكَلم الطّيب إِلَيْهِ وعروج رَسُوله إِلَيْهِ ودنوه مِنْهُ حَتَّى صَار قاب قوسين أَو أدنى وَغير ذَلِك من الْأَدِلَّة حق لَا يُبطلهُ تَسْمِيَة الْجَهْمِية لَهُ حيزا وجهة وتجسيما
قَالَ الإِمَام أَحْمد لَا نزيل عَن الله صفة من صِفَاته لأجل شناعة المشنعين فان هَذَا شَأْن أهل الْبدع يلقبون أهل السّنة وأقوالها بِالْأَلْقَابِ الَّتِي ينفرون مِنْهُ الْجُهَّال ويسمونها حَشْوًا وتركيبا وتجسيما ويسمون عرش الرب تبارك وتعالى حيزا وجهة ليتوصلوا بذلك إِلَى نفي علوه على خلقه واستوائه على عَرْشه كَمَا تسمى الرافضة مُوالَاة أَصْحَاب رَسُول الله كلهم ومحبتهم وَالدُّعَاء لَهُم نصا وكما تسمى الْقَدَرِيَّة الْمَجُوسِيَّة إِثْبَات الْقدر جبرا فَلَيْسَ الشَّأْن فِي الألقاب وَإِنَّمَا الشَّأْن فِي الْحَقَائِق وَالْمَقْصُود أَن تَسْمِيَة مَا دلّت عَلَيْهِ الصَّرِيحَة من جعل أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي أَجْوَاف طير خضر تناسخا لَا يبطل هَذَا الْمَعْنى وَإِنَّمَا التناسخ الْبَاطِل مَا تَقوله أَعدَاء الرُّسُل من الْمَلَاحِدَة وَغَيرهم الَّذين يُنكرُونَ الْمعَاد أَن الْأَرْوَاح تصير بعد مُفَارقَة الْأَبدَان إِلَى أَجنَاس الْحَيَوَان والحشرات والطيور الَّتِي تناسبها وتشاكلها فَإِذا فَارَقت هَذِه الْأَبدَان انْتَقَلت إِلَى أبدان تِلْكَ الْحَيَوَانَات فتنعم فِيهَا أَو تعذب ثمَّ تفارقها وَتحل فِي أبدان أخر تناسب أَعمالهَا وأخلاقها وَهَكَذَا أبدا فَهَذَا معادها عِنْدهم وَنَعِيمهَا وعذابها لَا معاد لَهَا عِنْدهم غير ذَلِك فَهَذَا هُوَ التناسخ الْبَاطِل الْمُخَالف لما اتّفقت عَلَيْهِ الرُّسُل والأنبياء من أَوَّلهمْ إِلَى آخِرهم وَهُوَ كفر بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَهَذِه الطَّائِفَة يَقُولُونَ أَن مُسْتَقر الْأَرْوَاح بعد الْمُفَارقَة أبدان الْحَيَوَانَات الَّتِي تناسبها وَهُوَ ابطل قَول وأخبثه ويليه قَول من قَالَ إِن الْأَرْوَاح تعدم جملَة بِالْمَوْتِ وَلَا تبقى هُنَاكَ روح تنعم وَلَا تعذب بل النَّعيم وَالْعَذَاب يَقع على أَجزَاء الْجَسَد أَو جُزْء مِنْهُ أما عجب أَو غَيره فيخلق الله فِيهِ الْأَلَم واللذة أما بِوَاسِطَة رد الْحَيَاة
إِلَيْهِ كَمَا قَالَه بعض أَرْبَاب هَذَا القَوْل أَو بِدُونِ رد الْحَيَاة كَمَا قَالَه آخَرُونَ مِنْهُم فَهَؤُلَاءِ عِنْدهم لَا عَذَاب فِي البرزخ إِلَّا على الأجساد ومقابلهم من يَقُول أَن الرّوح لَا تُعَاد إِلَى الْجَسَد بِوَجْه وَلَا تتصل بِهِ وَالْعَذَاب وَالنَّعِيم على الرّوح فَقَط وَالسّنة الصَّرِيحَة المتواترة ترد قَول هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء وَتبين أَن الْعَذَاب على الرّوح والجسد مُجْتَمعين ومنفردين
فَإِن قيل فقد ذكرْتُمْ أَقْوَال النَّاس فِي مُسْتَقر الْأَرْوَاح ومأخذهم فَمَا هُوَ الرَّاجِح من هَذِه الْأَقْوَال حَتَّى نعتقده
قيل الْأَرْوَاح مُتَفَاوِتَة فِي مستقرها فِي البرزخ أعظم تفَاوت فَمِنْهَا أَرْوَاح فِي أَعلَى عليين فِي الملا الْأَعْلَى وَهِي أَرْوَاح الْأَنْبِيَاء صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم وهم متفاوتون فِي مَنَازِلهمْ كَمَا رَآهُمْ النَّبِي لَيْلَة الْإِسْرَاء
وَمِنْهَا أَرْوَاح فِي حواصل طير خضر تسرح فِي الْجنَّة حَيْثُ شَاءَت وَهِي أَرْوَاح بعض الشُّهَدَاء لَا جَمِيعهم بل من الشُّهَدَاء من تحبس روحه عَن دُخُول الْجنَّة لدين عَلَيْهِ أَو غَيره كَمَا فِي الْمسند عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن جحش أَن رجلا جَاءَ إِلَى النَّبِي فَقَالَ يَا رَسُول الله مَالِي إِن قتلت فِي سَبِيل الله قَالَ الْجنَّة فَلَمَّا ولى قَالَ إِلَّا الَّذين سَارَّنِي بِهِ جِبْرِيل آنِفا
وَمِنْهُم من يكون مَحْبُوسًا على بَاب الْجنَّة كَمَا فِي الحَدِيث الآخر رَأَيْت صَاحبكُم مَحْبُوسًا على بَاب الْجنَّة
وَمِنْهُم من يكون مَحْبُوسًا فِي قَبره كَحَدِيث صَاحب الشملة الَّتِي غلها ثمَّ اسْتشْهد فَقَالَ النَّاس هَنِيئًا لَهُ الْجنَّة فَقَالَ النَّبِي وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِن الشملة الَّتِي غلها لتشتعل عَلَيْهِ نَارا فِي قَبره
وَمِنْهُم من يكون مقره بَاب الْجنَّة كَمَا فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس الشُّهَدَاء على بارق نهر بِبَاب الْجنَّة فِي قبَّة خضراء يخرج عَلَيْهِم رزقهم من الْجنَّة بكرَة وَعَشِيَّة رَوَاهُ أَحْمد وَهَذَا بِخِلَاف جَعْفَر بن أَبى طَالب حَيْثُ أبدله الله من يَدَيْهِ جناحين يطير بهما فِي الْجنَّة حَيْثُ شَاءَ
وَمِنْهُم من يكون مَحْبُوسًا فِي الأَرْض لم لَعَلَّ روحه إِلَى الْمَلأ الْأَعْلَى فَإِنَّهَا كَانَت روحا سفلية أرضية فَإِن الْأَنْفس الأرضية لَا تجامع الْأَنْفس السماوية كَمَا لَا تجامعها فِي الدُّنْيَا وَالنَّفس الَّتِي لم تكتسب فِي الدُّنْيَا معرفَة رَبهَا ومحبته وَذكره والأنس بِهِ والتقرب إِلَيْهِ بل هِيَ أرضية سفلية لَا تكون بعد الْمُفَارقَة لبدنها إِلَّا هُنَاكَ كَمَا أَن النَّفس العلوية الَّتِي كَانَت فِي الدُّنْيَا عاكفة
على محبَّة الله وَذكره والقرب إِلَيْهِ والأنس بِهِ تكون بعد الْمُفَارقَة مَعَ الْأَرْوَاح العلوية الْمُنَاسبَة لَهَا فالمرء مَعَ من احب فِي البرزخ وَيَوْم الْقِيَامَة وَالله تَعَالَى يُزَوّج النُّفُوس بَعْضهَا بِبَعْض فِي البرزخ وَيَوْم الْمعَاد كَمَا تقدم فِي الحَدِيث وَيجْعَل روحه يعْنى الْمُؤمن مَعَ النسم الطّيب أَي الْأَرْوَاح الطّيبَة المشاكلة فالروح بعد الْمُفَارقَة تلْحق بأشكالها وَأَخَوَاتهَا وَأَصْحَاب عَملهَا فَتكون مَعَهم هُنَاكَ
وَمِنْهَا أَرْوَاح تكون فِي تنور الزناة وَالزَّانِي وأرواح فِي نهر الدَّم تسبح فِيهِ وتلقم الْحِجَارَة فَلَيْسَ للأرواح سعيدها وشقيها مُسْتَقر وَاحِد بل روح فِي أَعلَى عليين وروح أرضية سفلية لَا تصعد عَن الأَرْض
وَأَنت إِذا تَأَمَّلت السّنَن والْآثَار فِي هَذَا الْبَاب وَكَانَ لَك بهَا فضل اعتناء عرفت حجَّة ذَلِك وَلَا تظن أَن بَين الْآثَار الصَّحِيحَة فِي هَذَا الْبَاب تَعَارضا فَإِنَّهَا كلهَا حق يصدق بَعْضهَا بَعْضًا لَكِن الشَّأْن فِي فهمها وَمَعْرِفَة النَّفس وأحكامها وان لَهَا شانا غير شَأْن الْبدن وَأَنَّهَا مَعَ كَونهَا فِي الْجنَّة فَهِيَ فِي السَّمَاء وتتصل بِفنَاء الْقَبْر وبالبدن فِيهِ وَهِي أسْرع شَيْء حَرَكَة وانتقالا وصعودا وهبوطا وَأَنَّهَا تَنْقَسِم إِلَى مُرْسلَة ومحبوسة وعلوية وسفلية وَلها بعد الْمُفَارقَة صِحَة وَمرض وَلَذَّة ونعيم والم أعظم مِمَّا كَانَ لَهَا حَال اتصالها بِالْبدنِ بِكَثِير فهنالك الْحَبْس والألم وَالْعَذَاب وَالْمَرَض وَالْحَسْرَة وهنالك اللَّذَّة والراحة وَالنَّعِيم وَالْإِطْلَاق وَمَا أشبه حَالهَا فِي هَذَا الْبدن بِحَال ولد فِي بطن أمه وحالها بعد الْمُفَارقَة بِحَالهِ بعد خُرُوجه من الْبَطن إِلَى هَذِه الدَّار
فلهذه الْأَنْفس أَربع دور كل دَار أعظم من الَّتِي قبلهَا
الدَّار الأولى فِي بطن الْأُم وَذَلِكَ الْحصْر والضيق وَالْغَم والظلمات الثَّلَاث
وَالدَّار الثَّانِيَة هِيَ الدَّار الَّتِي نشأت فِيهَا والفتها واكتسبت فِيهَا الْخَبَر وَالشَّر وَأَسْبَاب السَّعَادَة والشقاوة
وَالدَّار الثَّالِثَة دَار البرزخ وَهِي أوسع من هَذِه الدَّار وَأعظم بل نسبتها إِلَيْهِ كنسبة هَذِه الدَّار إِلَى الأولى
وَالدَّار الرَّابِعَة دَار الْقَرار وَهِي الْجنَّة أَو النَّار فَلَا دَار بعْدهَا وَالله ينقلها فِي هَذِه الدّور طبقًا بعد طبق حَتَّى يبلغهَا الدَّار الَّتِي لَا يصلح لَهَا غَيرهَا وَلَا يَلِيق بهَا سواهَا وَهِي الَّتِي خلقت لَهَا وهيئت للْعَمَل الْموصل لَهَا إِلَيْهَا وَلها فِي كل دَار من هَذِه الدّور حكم وشأن غير شَأْن الدَّار الْأُخْرَى فَتَبَارَكَ الله فاطرها ومنشئها ومميتها ومحييها ومسعدها ومشقيها الَّذِي فاوت بَينهَا فِي دَرَجَات سعادتها وشقاوتها كَمَا فاوت بَينهَا فِي مَرَاتِب علومها وأعمالها وقواها وأخلاقها فَمن