الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْجَواب الأول ان حَال الْحَيَاة حَال لَا يوثق فِيهَا بسلامة الْعَاقِبَة لجَوَاز إِن يرْتَد الْحَيّ فَيكون قد آثر بالقربة غير أَهلهَا وَهَذَا قد أَمن بِالْمَوْتِ فَإِن قيل والمهدى إِلَيْهِ أَيْضا قد لَا يكون مَاتَ على الْإِسْلَام بَاطِنا فَلَا ينْتَفع بِمَا يهدى إِلَيْهِ وَهَذَا سُؤال فِي غَايَة الْبطلَان فَإِن الإهداء لَهُ من جنس الصَّلَاة عَلَيْهِ وَالِاسْتِغْفَار لَهُ وَالدُّعَاء لَهُ فَإِن كَانَ أَهلا وَإِلَّا انْتفع بِهِ الدَّاعِي وَحده
الْجَواب الثَّانِي أَن الإيثار بِالْقربِ يدل على قلَّة الرَّغْبَة فِيهَا والتأخر عَن فعلهَا فَلَو سَاغَ الإيثار بهَا لأفضى إِلَى التقاعد والتكاسل والتأخر بِخِلَاف إبداء ثَوَابهَا فَإِن الْعَامِل يحرص عَلَيْهَا لأجل ثَوَابهَا لينْتَفع بِهِ أَو ينفع بِهِ أَخَاهُ الْمُسلم فبينهما فرق ظَاهر
الْجَواب الثَّالِث أَن الله سبحانه وتعالى يحب الْمُبَادرَة أَو المسارعة إِلَى خدمته والتنافس فِيهَا فَإِن ذَلِك ابلغ فِي الْعُبُودِيَّة فَإِن الْمُلُوك تحب المسارعة والمنافسة فِي طاعتها وَخدمتهَا فالإيثار بذلك منَاف لمقصود الْعُبُودِيَّة فَإِن الله سُبْحَانَهُ أَمر عَبده بِهَذِهِ الْقرْبَة أما إِيجَابا وَأما اسْتِحْبَابا فَإِذا أثر بهَا ترك مَا أمره وولاه غَيره بِخِلَاف مَا إِذا فعل مَا أَمر بِهِ طَاعَة وقربة ثمَّ أرسل ثَوَابه إِلَى أَخِيه الْمُسلم وَقد قَالَ تَعَالَى {سابقوا إِلَى مغْفرَة من ربكُم وجنة عرضهَا كعرض السَّمَاء وَالْأَرْض} وَقَالَ فاستبقوا الْخيرَات وَمَعْلُوم أَن الإيثار بهَا يُنَافِي الاستباق إِلَيْهَا والمسارعة
وَقد كَانَ الصَّحَابَة يسابق بَعضهم بَعْضًا بِالْقربِ وَلَا يُؤثر الرجل مِنْهُم غَيره بهَا قَالَ عمر وَالله مَا سابقني أَبُو بكر إِلَى خير إِلَّا سبقني إِلَيْهِ حَتَّى قَالَ وَالله لَا أسابقك إِلَى خير أبدا
وَقد قَالَ تَعَالَى {وَفِي ذَلِك فَلْيَتَنَافَس الْمُتَنَافسُونَ} يُقَال نافست فِي الشَّيْء مُنَافَسَة ونفاسا إِذا رغبت فِيهِ على وَجه المباراة وَمن هَذَا قَوْلهم شَيْء نَفِيس أَي هُوَ أهل أَن يتنافس فِيهِ ويرغب فِيهِ وَهَذَا أنفس مَالِي أَي أحبه إِلَى وأنفسني فلَان فِي كَذَا أَي أرغبني فِيهِ وَهَذَا كُله ضد الإيثار بِهِ وَالرَّغْبَة عَنهُ
فصل وَأما قَوْلكُم لَو سَاغَ الإهداء إِلَى الْمَيِّت لساغ إِلَى الْحَيّ فَجَوَابه من وَجْهَيْن
أَحدهمَا أَنه قد ذهب إِلَى ذَلِك بعض الْفُقَهَاء من أَصْحَاب أَحْمد وَغَيرهم قَالَ القَاضِي وَكَلَام أَحْمد لَا يَقْتَضِي التَّخْصِيص بِالْمَيتِ فانه قَالَ يفعل الْخَيْر وَيجْعَل نصفه لِأَبِيهِ وَأمه وَلم يفرق وَاعْترض عَلَيْهِ أَبُو الْوَفَاء بن عقيل وَقَالَ هَذَا فِيهِ بعد وَهُوَ تلاعب بِالشَّرْعِ وَتصرف فِي أَمَانَة الله واسجال على الله سُبْحَانَهُ بِثَوَاب على عمل يَفْعَله إِلَى غَيره وَبعد الْمَوْت قد جعل لنا طَرِيقا إِلَى إِيصَال النَّفْع كالاستغفار وَالصَّلَاة على الْمَيِّت
ثمَّ أورد على نَفسه سؤالا وَهُوَ فَإِن قيل أَلَيْسَ قَضَاء الدّين وَتحمل الْكل حَال الْحَيَاة كقضائه بعد الْمَوْت فقد اسْتَوَى ضَمَان الْحَيَاة وَضَمان الْمَوْت فِي أَنَّهُمَا يزيلان الْمُطَالبَة عَنهُ فَإِذا وصل قَضَاء الدُّيُون بعد الْمَوْت وَحَال الْحَيَاة فإجعلوا ثَوَاب الإهداء واصلا حَال الْحَيَاة وَبعد الْمَوْت
وَأجَاب عَنهُ بِأَنَّهُ لَو صَحَّ هَذَا وَجب أَن تكون الذُّنُوب تكفر عَن الْحَيّ بتوبة غَيره عَنهُ ويندفع عَنهُ مآثم الْآخِرَة بِعَمَل غَيره واستغفاره
قلت وَهَذَا لَا يلْزم بل طرد ذَلِك انْتِفَاع الْحَيّ بِدُعَاء غَيره لَهُ واستغفاره لَهُ وَتصدقه عَنهُ وَقَضَاء دُيُونه وَهَذَا حق وَقد أذن النَّبِي فِي أَدَاء فَرِيضَة الْحَج عَن الْحَيّ المعضوب وَالْعَاجِز وهما حَيَّان
وَقد أجَاب غَيره من الْأَصْحَاب بِأَن حَال الْحَيَاة لَا نثق بسلامة الْعَاقِبَة خوفًا أَن يرْتَد المهدى لَهُ فَلَا ينْتَفع بِمَا يهدى إِلَيْهِ
قَالَ ابْن عقيل وَهَذَا عذر بَاطِل بإهداء الْحَيّ فَإِنَّهُ لَا يُؤمن أَن يرْتَد وَيَمُوت فيحبط عمله وَمن جملَته ثَوَاب مَا أهْدى إِلَى الْمَيِّت
قلت هَذَا لَا يلْزمهُم وموارد النَّص وَالْإِجْمَاع تبطله وترده فان النَّبِي أذن فِي الْحَج وَالصَّوْم عَن الْمَيِّت وَأجْمع النَّاس على بَرَاءَة ذمَّته من الدّين إِذا قَضَاهُ عَنهُ الْحَيّ مَعَ وجود مَا ذكر من الِاحْتِمَال
وَالْجَوَاب أَن يُقَال مَا أهداه من أَعمال الْبر إِلَى الْمَيِّت فقد صَار ملكا لَهُ فَلَا يبطل بردة فَاعله بعد خُرُوجه عَن ملكه كتصرفاته الَّتِي تصرفها قبل الرِّدَّة من عتق وَكَفَّارَة بل لَو حج عَن معضوب ثمَّ ارْتَدَّ بعد ذَلِك لم يلْزم المعضوب أَن يُقيم غَيره يحجّ عَنهُ فَإِنَّهُ لَا يُؤمن فِي الثَّانِي وَالثَّالِث ذَلِك
على أَن الْفرق بَين الْحَيّ وَالْمَيِّت أَن الْحَيّ لَيْسَ بمحتاج كحاجة الْمَيِّت إِذْ يُمكنهُ أَن يُبَاشر ذَلِك الْعَمَل أَو نَظِيره فَعَلَيهِ اكْتِسَاب الثَّوَاب بِنَفسِهِ وسعيه بِخِلَاف الْمَيِّت
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُفْضِي إِلَى اتكال بعض الْأَحْيَاء على بعض وَهَذِه مفْسدَة كَبِيرَة فان أَرْبَاب الْأَمْوَال إِذا فَهموا ذَلِك واستشعروه استأجروا من يفعل ذَلِك عَنْهُم فَتَصِير الطَّاعَات معاوضات وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى إِسْقَاط الْعِبَادَات والنوافل وَيصير مَا يتَقرَّب بِهِ إِلَى الله يتَقرَّب بِهِ إِلَى الْآدَمِيّين فَيخرج عَن الْإِخْلَاص فَلَا يحصل الثَّوَاب لوَاحِد مِنْهُمَا