الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشَّامِلُ فى الصِّنَاعَةِ الطِّبِّيَّةِ
دِرَاسَةٌ مُمَهِّدِة
تأتى هذه الدراسة الممهِّدة لتحقيق موسوعة الشامل فى الصناعة الطبية بعد شهرين من صدور كتابنا: علاء الدين (ابن النفيس) القرشى، إعادة اكتشاف. وهو الكتاب الذى اعتبرناه فاتحةً واختتاماً، فهو ختامٌ لسنوات طوال قضيتها فى دَرْس العلاء، ساعياً لاستكشاف صورة هذا الرجل / العلَاّمة، والتجوال فى مفاوز إبداعاته العلمية، دون النزوع الإختزالى الذى يلخِّصه - ويبتسره - فى عبارة: مكتشف الدورة الدموية الصغرى.. واعتبرتُ الكتاب فاتحةً لتحقيق موسوعة الشامل التى تعد، بعد اكتمال صدورها خلال عامين: أضخم كتاب فى التراث العلمى العربى، تخرجه مطابعنا منذ بدء عصر الطباعة.
ومع ذلك، فلابد لنا هنا، قبل الخوض فى بحار الشامل.. من إلقاء بعض الضوء على هذه الموسوعة، ومؤلِّفها، ومخطوطاتها، وما يتعلَّق بها من التباسٍ فى أذهان الدراسين، وما اتَّبعناه من منهجٍ للتحقيق؛ وغير ذلك من التمهيدات الضرورية.. فنقول، وعلى الله قصد السبيل:
الكِتَابُ ومُؤَلِّفُهُ
الشامل بلا منازع، هو أكبر موسوعة علمية فى التاريخ الإنسانى، يكتبها شخصٌ واحد. فالكتابةُ العلمية اتَّجهت منذ بداياتها الأولى، إلى شكل الرسائل القصار، والفوائد الموجزة؛ وهو ما ظهر مع فجر التاريخ العلمى فى نصوصٍ أوَّلية كما هو الحال فى البرديات المصرية القديمة، التى بقيت منها إلى يومنا هذا بضعة برديات، تُعرف بأسماء مكتشفيها أو أماكن حفظها، مثل: بردية هيرست
بردية كاهون بردية برلين.. إلخ، وكلها عبارة عن معلومات طبية مجتزأة ووصْفاتٍ علاجية متتالية، ومعارف من علم التشريح.
وفى الأزمنة الغابرة، كتبت الفرسُ والهندُ والصينُ كتابةً علمية، موجزة عرفناها لما قام بنقلها من أصولها إلى اللغة العربية جماعةٌ من المترجمين، فنقل من الهندية إلى العربية: منكه الهندى، ابن دهن الهندى. ونَقَلَ من الفارسية: ابنُ المقفع، آل نوبخت، البلاذرى. ونَقَلَ من النبطية إلى العربية: ابنُ وحشية النبطى (1) .. فعرف العالم العربىُّ الإسلامى، ومن بعده بقيةُ الدنيا، من كتب الحضارات القديمة، أعمالاً مثل كتاب السموم لشاناق الهندى، وكتاب الفلاحة النبطية لابن وحشية، والأزياج الفلكية الهندية والفارسية.. وغير ذلك كثيرٌ من النصوص العلمية.
ولما تسلَّمت اليونان مشعل الحضارة الإنسانية من مصر القديمة وبلاد الشرق كتب علماءُ اليونان وأطباؤهم نصوصاً على شكل الرسائل، تم جمعها فى عصورٍ لاحقة، فى كتبٍ مثل أصول الهندسة لأُقليدس، الذى كان فى الأصل مجموعة مقالات كتبها أُبولونيوس ثم حرَّرها أُقليدس وأضاف إليها مقالات أخرى، فجُمعت كلها بالإسكندرية القديمة، وتُرجمت فى بغداد، وصارت كتاباً واحداً.. ومثل كتاب المجسطى لبطليموس، الذى كان فى أصله ثلاث عشر مقالة جُمعت معاً ونُقلت إلى العربية بعناية يحيى بن خالد البرمكى. وكذلك الأمر فى كتب أرسطو قبل أُقليدس وبطليموس، فقد وضع هذا المعلم
(1) راجع تفاصيل هذه الحركة العلمية، وجهود المترجمين، في: النديم: الفهرست تحقيق رضا المانذراتي (دار المسيرة، بيروت 1988) ص 304 وما بعدها. يوسف زيدان: المتواليات بحوث ف يالمتصل التراثي المعاصر (الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 1998) الفصل الخامس.
الأول علومه على شكل رسائل وكُتبٍ صغار، جُمعت بعد ذلك على صعيدٍ واحد، فصار لدينا - مثلاً - كتاب المنطق الذى هو مجموعةٌ من الرسائل والكتب القصار: قاطيغورياس بارى أرمنياس، أنالوطيقا.. إلخ، ثم وضع لها فرفوريوس الصورى مدخلاً اشتهر بعنوان: إيساغوجى أو المدخل إلى المنطق.
وفى التراث الطبى، اشتهر من أهل اليونان اثنان من الأطباء المؤلِّفين: أبقراط، جالينوس. وكلاهما كتب بإيجازٍ فى مجالات الطب على اختلافها، ثم جُمع المختلف، فأتلف فى المجموعة الأبقراطية (الاثنى عشر كتاباً) .. وفى (الستة عشر كتاباً) لجالينوس، التى جمعها الإسكندرانيون من رسائله، فصارت تُعرف بعنوان: منتخبات الإسكندرانيين لجالينوس. وكلاهما، أعنى أبقراط وجالينوس سوف يُعرف فى حضارتنا من خلال تلك المؤلَّفات، ويُشهد له بالفضل، فلا يُذكر اسمه إلا مسبوقاً بلقب: الفاضل.
وفى حضارتنا، نحن، سوف تكون أول كتابات علمية موسَّعة، وأول موسوعات علمية فى التاريخ الإنسانى.. ربما لأنها حضارة حفظٍ وتدوين، وربما لأن المعارف كانت قد اتسعت، وربما لأن المسلمين تَشكَّل وعْيُهم من خلال الكتاب أعنى القرآن الكريم.. ومن خلال الحديث الشريف الذى دعا إلى التدوين كما فى قوله r: دوِّنوا العلم بالكتاب.
ودوَّن العربُ المسلمون - أول الأمر - الرسائل الطبية والكنانيش (1) ، ثم عكفوا على كتابة المطوَّلات، فزها تراثنا، وازدان، بموسوعاتٍ طبية مثل: الحاوى.. القانون.. الشامل. ولنتكلم عليها تفصيلاً، لنتعرَّف إلى مكانة الشامل وموضعه من تاريخ الطب العربى / الإسلامى، بل الطبِّ الإنسانى بعامة.
(1) الكُنَّاش: كتابٌ يجمع فيه صاحبه جملةً من المعلومات العامة، والمعالجات، والوصايا الطبية والحالات المرضية، ومثل ذلك.
أما الحاوى فهو كتابٌ، كما جاء فى ديباجته: ألَّفه أبو بكر محمد بن زكريا الرازى المتطبِّب، فى طِبِّ جميع الأمراض الكائنة فى بدن الإنسان ومعالجتها، وسمَّاه الحاوى لأنه يحتوى على جميع الكتب وأقاويل القدماء الفضلاء من أهل هذه الصناعة، وقد بدأ بذكر ذلك من رأس الإنسان، وما ينزله من الأمراض (1) .
ولم يكن الحاوى هو الكتاب الوحيد الذى ألَّفه أبو بكر الرازى (المتوفى 313 هجرية) فقد وضع الرجل من الكتب كثيراً، مثل: المنصورى، منافع الأغذية، كتاب الجدرى والحصبة.. وغيرها من المؤلَّفات التى بلغت 141 كتاباً ورسالة بحسب إحصاء الفهرست (2) وزادت فى عيون الأنباء (3) لتصل إلى 232 مؤلَّفاً.
غير أن الحاوى ظلَّ دائماً: أهم أعمال الرازى الطبية.. وقد نُشر الكتابُ فى أربعة وعشرين مجلداً، بتحقيق لابأس به، قام به جماعةٌ من فضلاء الهند المعاصرين، بإشراف الدكتور عبد المعيد خان. ولاشك فى أن تحقيق الحاوى ونشره،لم يكن بالعمل الهيِّن، فالكتابُ عبارة عن قصاصات من الورق، توفى الرازى ولم يفسح له الأجل أن يحرِّرها (4) . فجمعها تلاميذه بعد موته جمعاً غير
(1) الرازي: الحجاوي (دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، الهند 1955) المجلد الأول الصفحة الثانية من النص المحقق.
(2)
النديم: الفهرست، ص 357 وما بعدها. والقائمة التي أوردها النديم، نقلها من فهرست الرازي - نفسه - لأعماله، ولا شك أن هذه الأعمال زادت بعد فهرسة مؤلِّلها، فوصلت إِلى العدد الذي ذكره ابن أبي أصيبعة.
(3)
ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، تحقيق د. نزار رضا (دار مكتبة الحياة بيروت) ص 414 وما بعدها.
(4)
المرجع السابق، 421.
محكم، وغير منطقى (1) .
وأما القانون فى الطب للشيخ الرئيس أبى على ابن سينا المتوفى 428 هجرية، فهو أول موسوعة طبية كاملة، بالمعنى العلمى الدقيق للكلمة. بدأها مؤلِّفها بقوله، بعد الحمدلة: التمس منى بعضُ خُلَّص إخوانى، ومَنْ يلزمنى إسعافه بما يسمح به وَسَعى، أن أصنِّف فى الطب كتاباً مشتملاً على قوانينه الكلية والجزئية، اشتمالاً يجمع إلى الشرح الاختصارَ، وإلى إيفاء الأكثر حقه من البيان الإيجازَ، فأسعفته بذلك، ورأيتُ أن أتكلَّم أولاً فى الأمور العامة الكلية فى كلا قسمى الطب، أعنى القسم النظرى والقسم العملى، ثم أتكلَّمُ فى كليات أحكام قوى الأدوية.. فإنى أجمع هذا الكتاب، وأقسِّمه إلى كتبٍ خمسة؛ الكتاب الأول: فى الأمور الكلية فى علم الطِّبِّ. الكتاب الثانى: فى الأدوية المفردة. الكتاب الثالث: فى الأمراض الجزئية الواقعة بأعضاء الإنسان عضوٍ عضو، من الفَرْقِ إلى القَدَم، ظاهرها وباطنها. الكتاب الرابع: فى الأمراض التى إذا وقعت، لم تختص بعضو، وفى الزينة. الكتاب الخامس: فى تركيب الأدوية، وهو الأقراباذين (2) .
وطُبع القانون فى مصر بدون تحقيق، وتوالى تصوير، وتزوير، هذه الطبعة غير المحقَّقة - وإن كانت جيدة - ولم يفكر محقِّقٌ واحد فى إخراجه ونشره محقَّقاً حتى الآن! والمحقِّقون معذورون فى إحجامهم عن تحقيق كتاب مثل القانون فهو علاوة على ضخامته، جامعٌ لشتات المعارف الطبية فى عصره، مما يجعل ملاحقة نصوصه بالضبط والتحرير، عملاً شاقاً فى الجهد، قليلاً فى المجد.. خاصةً فى
(1) د. محمد عبد الرحمن مرحبا: الجامع في تاريخ العلوم عند العرب (منشورات عويدات، بيروت 1988) ص 255.
(2)
ابن سينا: القانون في الطب 1 / 2، 3.
wm Hov زمننا هذا الذى يشهد تراجعاً عن إنجاز المشروعات الكبرى؛ وتلك قصةٌ أخرى،لها تفصيلٌ يطول، وليس هذا موضعه.ضعه.
وأما الشامل فى الصناعة الطبية فهو ثالث الموسوعات الكبرى فى تاريخ الطب العربى / الإسلامى، بل الطِّبِّ الإنسانى بعامة. تحدَّى بها العلاء القرشى (ابن النفيس) قِصَر الزمان الإنسانى، ومحدودية القدرة الإنسانية! وقد كان العلاءُ امتداداً للتقاليد الطبية التى أرساها مِن قبله أعلامٌ من نوع الرازى وابن سينا وكانت صلته بالأخير أقوى، وشروحه على مؤلَّفاته أكثر (1) . غير أنَّ إقدامه على تأليف موسوعةٍ بحجم الشامل لا يفسِّره - فقط - كونه امتداداً لهؤلاء الأطباء العظام، وإنما لابد من النظر فى السياق التاريخى الذى انتمى إليه العلاء ولابد من تفحُّص اللحظة التاريخية التى عاشها. وفى هذا الإطار نقول:
لما اهتزَّ كرسى الخلافة العباسية تحت وطأة الشيخوخة العباسية، ومؤامرات القصور، وتهديدات المغول.. بدأت المجالسُ العلمية تنسرب من بغداد إلى الشام ومصر. كان ذلك منذ مطلع القرن السابع الهجرى، الذى وُلد العلاءُ فى السنة السابعة منه - بقرية القَرَشِ القريبة من دمشق - ولما كان العام المشئوم فى منتصف هذا القرن، أعنى سنة 656 هجرية.. دخل هولاكو بغداد، فطمس وجهها على نحوٍ،لم يسمح لها باستعادة دورها من بعد ذلك: أبداً.
وازدهر العلمُ فى الشام ومصر، غير أن الشام ابتُليت آنذاك بالوقوع بين شِقَّى الرحى: المغول.. والصليبيين. ولم يكن الحالُ فى مغرب العالم الإسلامى
(1) يقول ابن فضل الله العمري، إن العلاء (ابن النفيس) شرح القانون في عشرين مجلداً، وكان يحفظ كليات القانون، وأنه: هو الذي جسَّر الناس على هذا الكتاب.. (ابن فضل العمري: مسالك الأبصار مخطوطة دار الكتب المصرية رقم 99/ م تاريخ - مخطوطة أحمد الثالث رقم 2797/ج) وقد نشرنا هذا النَّصّ - محقَّقاً - في كتابنا: علاء الدين.. ص 38 وما بعدها.
بأفضل منه فى الشام، فقد آذنت شمسُ الأندلس بالمغيب، وتهدَّدت بلاد المغرب ووَهَنَ منها عَظْمُ المجد والسلطان، فصارت نهباً لأطماع - وحملات - الإسبان وأحقادهم التاريخية، مما دفع ببلاد المغرب إلى ناحية الانزواء الحضارى.
وفى العقود الأخيرة من القرن السابع الهجرى، وجدت القاهرة نفسها وحيدةً، وسط عالمٍ يرتجُّ؛ فالمشرقُ الإسلامى - بلاد فارس وما بعدها - لايزال يترنَّح من عنف الضربات المغولية، التى توالت طيلة خمسين سنة، ابتدأت بخروج جنكيز خان للثأر من محمد خوارزمشاه، وانتهت بتأسيس الدولة الإسلامية المغولية على يد بركة خان حفيد جنكيز خان، زعيم القبيلة الذهبية، بعد انكسار ابن عمه هولاكو على يديه.. والمغربُ الإسلامى كان قد انزوى، وصار منطقة طردٍ حضارىٍّ واجتماعى، وفزع منه الناسُ إلى مصر والشام، مثلما التجأ العلماءُ والصوفية؛ أمثال: ابن عربى، التلمسانى، الششترى، الشاذلى، المرسى. ومِن قبلهم: موسى بن ميمون الطبيب الفيلسوف، ابن البيطار العَشَّاب المعروف وغيرهما. جاء هؤلاء من المغرب إلى مصر، من الشام جاءها - فى حدود سنة ثلاثين وستمائة - علاءُ الدين القرشى.
وكان على مصر وهى الحاضرة الإسلامية الوحيدة التى ظلت مزدهرة، أن تقوم بدور كبير لإنقاذ الكيان الحضارى العربى / الإسلامى، فتعيَّن عليها عسكرياً صَدَّ فلول المغول وجحافل الصليبيين. كما تعيَّن عليها سياسياً إحياء الخلافة الإسلامية، ولو كان إحياءً رمزياً. كما تعيَّن عليها اجتماعياً واقتصادياً أن تستوعب الهجرات الوافدة عليها من المغرب، ومن العراق والشام.
وأدَّت مصرُ ما عليها فى ذلك كله، حتى دخل القرن الثامن الهجرى، وقد استتبَّ الحال فى مصر، وصارت القاهرة - آنذاك - أهم مركز حضارى فى العالم الإسلامى، وأكثر العواصم العربية أمناً وازدهاراً.. حتى أن ابن خلدون، كتب
- فى أواخر القرن الثامن الهجرى - قائلاً إن مَنْ أراد أن يرى عِزَّ الإسلام فلْيذهب إلى القاهرة.
وكانت ذاكرةُ الأمة قد هدَّدها الاندثار، فقد ضاعت ألوف المخطوطات التى هى كتاب الحضارة ودُمِّرت المكتباتُ فى المشرق والمغرب. وكان المغولُ والصليبيون يحرصون على طمس التراث العربى / الإسلامى، بالتخريب وإفناء المخطوطات.. وقد اشتهرت فى التاريخ، واقعةُ إفراغ هولاكو لمخطوطات بغداد فى نهر دجلة، لغسل مادوَّنته الأمة، ومحو ما خلَّفته القرون.
من هنا، كان على مصر أن تقوم بدورٍ هائل لحفظ ذاكرة الأمة، وإنقاذ هويتها من الانطماس. فبدأ علماءُ مصر، من بعد سقوط بغداد، فى تدوين المطوَّلات والكتب الضخمة والموسوعات - فى شتى مجالات العلم - مع أنَّ الملاحظ فى كتابات المصريين طيلة القرون السابقة على القرن السابع الهجرى أنها كانت تأتى دوماً، على هيئة كتب صغار، ورسائل، ومساجلات علمية. لكن الحال تغيَّر مع جهود علماء من أمثال علاء الدين القرشى (ابن النفيس) الذى وضع ما يقرب من عشرة شروح على موسوعة ابن سينا (القانون فى الطب) بغية إعادة بعثها مرةً أخرى إلى أذهان المشتغلين بالطب، ومن هنا قال ابن فضل الله العمرى، إن العلاء: هو الذى جَسَّر الناس على قانون ابن سينا.
ومن بعد بعثه للقانون، يعكف العلاء (ابن النفيس) على تدوين موسوعة الشامل فى الصناعة الطبية فيضع المسودات بحيث تأتى فى ثلاثمائة مجلد، بيَّض منها ثمانين ثم وافته المنية - عن ثمانين سنة - سنة 687 هجرية بالقاهرة، وأهدى المجلدات الثمانين، بل كل مكتبته وداره وأمواله، إلى البيمارستان المنصورى بالقاهرة - مستشفى قلاوون حالياً - الذى كان مشرفاً عليه، باعتباره أكبر
مستشفيات القاهرة آنذاك، ومحل عمل رئيس أطباء مصر وهو المنصب الذى شغله العلاء (ابن النفيس) حتى وفاته فى السنة المذكورة.
وقريبٌ من هذا (النمط) من الكتابة الموسوعية الحافظة للذاكرة، وفى مجالٍ آخر غير الطب؛ سوف يضع ابن فضل الله العمرى - المتوفى 749 هجرية - موسوعته التاريخية (مسالك الأبصار) فيؤرِّخ لكل شئ: الملوك، العلماء، الوقائع ويتحدَّث عن كل شئ: الأقاليم، النبات، الحيوان.. إلخ. وقد كان ابن فضل الله - مثل العلاء القرشى - من أصلٍ شامىٍّ، ثم توطَّن فى مصر وارتبط بها بقية عمره، حتى أن الناصر محمد بن قلاوون لما أراد أن يعاقبه، نفاه إلى الشام.. ولما رضى عنه، بعد حين؛ أعاده إلى القاهرة!
وفى القرن الثامن الهجرى، فى القاهرة؛ سوف يكتب شهاب الدين النويرى المتوفى 732 هجرية، موسوعته الأدبية الهائلة: نهاية الأَرَب فى فنون الأدب. فيقع كتابه فى ثلاثين مجلداً تشتمل على خمسة فنون، الأول: فى السماء والآثار العلوية والأرض والمعالم السفلية. الثانى: فى الإنسان وما يتعلَّق به. الثالث: فى الحيوان الصامت. الرابع: فى النبات. الخامس: فى التاريخ.. وقد لخص النويرى فى كتابه، كتباً متوناً من التراث السابق عليه، منها: إحياء علوم الدين، اللمعة النورانية، الملل والنِّحَل، فقه اللغة، نزهة المشتاق فى اختراق الآفاق، القصيدة العبدونية (قصيدة ابن عبدون فى التاريخ) وشَرْحها لابن بدرون، مباهج العبر.. بالإضافة إلى ديوان الحماسة لأبى تمام ودواوين الشعراء: المتنبى، البحترى، البستى؛ وغيرهم.. وكأنه بذلك، يبعث هذه المتون للحياة مرةً أخرى، مثلما بعث العلاءُ قانون ابن سينا، وجسَّر الناس عليه.
وفى القرن الثامن نفسه، عَاشَ فى القاهرة، وكَتَبَ، واحدٌ من أغزر
المؤلِّفين فى تاريخ الإسلام: ابن حجر العسقلانى. وكلنا نعرف ضخامة وأهمية، مؤلَّفاته فى التاريخ وعلوم الدين، وقد كانت لأعماله أصداءً واسعة فى أرجاء الأرض. وقد حكى لنا المقريزى أنه حين انتهى ابن حجر من (فتح البارى بشرح صحيح البخارى) عُمل حفلٌ خارج سور القاهرة، أُنفقت فيه على الذبائح وحدها: خمسمائة دينار! ويوم الحفل وصلت وفودٌ من ملوك الأرض تطلب نسخاً من الكتاب.. وهكذا صارت القاهرة هى المركز الثقافى الأول فى المنطقة الإسلامية الممتدَّة الأرجاء، تلبيةً لحاجة حضارية مُلحَّة، شارك بالاستجابة لها علماءٌ من كل فن.. كان منهم العلاء القرشى، الذى اشتهر بين معاصرينا بلقب: ابن النفيس (1) .
وأخيراً.. فلابد من إشارةٍ إلى عدم توقف هذا الدور المصرى، التدوينى الحافظ للذاكرة؛ عند حدود القرن الثامن الهجرى، فقد تعدَّاه إلى القرن التاسع الهجرى، الذى عاش فيه بمصر مؤلِّفٌ من أغزر المؤلفين مادةً - فى التاريخ الإنسانىكله - أعنى به: جلال الدين السيوطى المتوفى 911 هجرية. ذلك الرجل كتب فى علوم اللغة المزهر وفى علوم الدين جمع الجوامع وفى التاريخ حُسن المحاضرة.. وكلها مجلدات كبار، وله بجانب ذلك مؤلَّفاتٌ صغار الحجم جاءت على شكل رسائل حافظة للملامح الثقافية فى تفصيلاتها، وفى طرافتها فكتب: منهل اللطائف فى الكنافة والقطائف، در الغمامة فى الطيلسان والعمامة، الدوران الفلكى على ابن الكركى.. ولم يتحرَّج، وهو العالم الجليل عن كتابة أعمالٍ عنوانها: الوشاح فى فوائد النكاح، الجواهر الثمينة فى فضائل السمينة، نواضر الأيك فى نوادر ال (..) !
(1) راجع شكوكنا على صحة هذا اللقب، في الفصل الأول من كتابنا: علاء الدين.. إعادة اكتشاف (المجمع الثقافي - أبوظبي 1999) .
الشَّامِلُ فى الصِّنَاعَةِ الطِّبِّيَّةِ
النَّصُّ المحقَّقُ
المُقَدِّمَةُ
(1)
الجزءُ الثانى من الفَنِّ الثالث من الكتاب الشَّامل فى الصناعة الطبية. وقصدُنا فيه أن نتكلم فى أحكام الأدوية المفردة كلاماً مفصَّلاً بحسب دواءٍ دواء سواءٌ كان ذلك الدواء دواءً مطلقاً أو دواءً غذائياً أو دواء سُمِّياً أو سُمّاً على الإطلاق. حتى يكون كلامنا ها هنا، شاملاً لجميع الأجسام التى يصدق عليها أنها أدوية.
وقد جرت عادةُ مَنْ سبقنا بالكلام فى هذا الفن، ببسط (2) الكتب بأمرين. أحدهما: كثرة أعداد الأدوية، حتى يستقصوا جميع ما وصل إلى معرفتهم من هذه الأدوية، ولو باسمه فقط. وربما ترادفت أسماءٌ، وكان الدواء (3) فى ذاته واحداً فكثَّروه لأجل تكُّثر أسمائه (4) ، ظانِّين أن مسمَّيات تلك الأسماء متغايرة! وربما حكم بعضهم على ذلك بأحكامٍ مختلفة، وكان المحكوم عليه فى نفس الأمر واحداً. وثانيهما: تكثُّر أسماء القائلين فى كل دواء، إن كانت تلك الأقوال متوافقة وكثيراً ممن يُظنُّ فيه - منهم - زيادةُ العلم، يزيد على ذلك، الكتبَ المشتملة على تلك الأقوال، وكذلك أسماء المقالات فى تلك الكتب، ظانِّين أن العلم الكامل ليس إلا هذا! ومع ذلك، فإنهم يحتجُّون على جميع مطالبهم، بأن هذا: قاله فلان. فإن أكَّدوا هذه قالوا: فى كتاب كذا فى المقالة الفلانية. ونحن نرجو
(1) لم ترد الكلمة فى المخطوطة، ولم ترد المقدمة بكاملها فى مخطوطة الظاهرية (هـ) ونحن نعتمد هنا على مخطوطة بودليان (ن) وحدها.لم ترد الكلمة فى المخطوطة، ولم ترد المقدمة بكاملها فى مخطوطة الظاهرية (هـ) ونحن نعتمد هنا على مخطوطة بودليان (ن) وحدها.
(2)
ن: بسط.
(3)
ن: كان!
(4)
ن: اسماه.
من الله تعالى، أن تكون طريقتنا مخالفة لهذه الطريقةً، وأن يكون كلامنا فى هذا الفن، شبيهاً بكلامنا السالف (1) ، وعلى الوجه العملى المحقَّق.
وقد رأينا أن نقتصر على الأدوية المشهورة فقط، فلا نطوِّل كتابنا هذا بذكر ما لا يوجد، وما لا (2) يعرفه الجمهورُ والأطباءُ من الأدوية، فإن العمر يقصر عن ذلك. وما كان من الأدوية المشهورة، وقد تحقَّقنا معرفته، تكلَّمنا فيه على الوجه الذى نرى أنه لائقٌ بالكلام العملىِّ فنحقِّق الكلام فى ماهيَّته وأفعاله على الإطلاق، وفى كُلِّ عضوٍ عضو. كل ذلك ببِّيناتٍ مهذَّبة وحُجَجٍ محقَّقة. وما كان من آراء الذين يُعتدُّ بأرائهم فى هذا الفن، نرى أنه مخالفٌ للحق، بيَّنا وجه غلطه، وبرهنَّا على بطلانه. متوكِّلين فى ذلك كله، على التوفيق من الله تعالى.
وما كان من الأدوية المشهورة لم تتحقَّق عندنا معرفته، رأينا أن لانوليه الإهمال؛ فيكون كتابنا هذا ناقصاً عن الكمال، وقاصراً على المشهور. فلذلك رأينا أن نتكلَّم فى ذلك، على نمط كلام الأولين، فنذكر ما قيل فى أحكامه شرحاً، فمن شاء تحقيق شئ من ذلك، فعليه بالفحص عنه. ونسأل الله العصمة والتوفيق.
وقد رأينا أن نجعل لكل دواءٍ تحقَّقناه، مقالةً على حدة. وأن نرتِّب كل مقالةٍ على فصول، مشتملة على فنون أحكام ذلك الدواء. فيكون كلامنا فى: ماهيته وجوهره والمختار منه كل ذلك فى فصلٍ واحد. والكلام فى أفعاله فى أعضاء الصدر فى فصلٍ واحد. والكلام فى أفعاله فى أعضاء الغذاء فى فصلٍ
(1) الإشارة هنا إلى الأجزاء السابقة من موسوعة الشامل.
(2)
ن: ولا.
واحد. والكلام فى أفعاله فى أعضاء التعفُّن (1) فى فصلٍ واحد. والكلام فى الأحوال التى لا اختصاص لها بعضوٍ عضو (2) فى فصلٍ واحد. والكلام فى أحوال ذلك الدواء فى الترياقية والسُّمِّيَّة ونحو ذلك، وفى بدله وشئٍ من خواصه (3) فى فصلٍ واحد.
فلذلك، قد تشتمل بعض المقالات على ثمانية فصول، وربما اشتمل بعضها على سبعة أو أقل من ذلك؛ وذلك بحسب ما تحقَّقناه من أحكام كل دواء. وربما جمعنا كثيراً من فنون هذه الأحكام، فى فصلٍ واحد، لقِصَرِ الكلام فى تلك الفنون، فلذلك قد يُجعل بعض (4) المقالات فى فصلين فقط، وربما جمعنا أحكام بعض الأدوية، كلها فى فصلٍ واحد.
وقد جمعنا جميع المقالات التى مُبتدأ أسماءُ أدويتها بحرفٍ معيَّن، كالهمزة (5) مثلاً والباء، فى كتابٍ على حدة. فلذلك تعدَّدت هذه الكتب، بعدد الحروف التى تبتدئ بها أسماء الأدوية. وكانت هذه الكتب ثمانية وعشرين كتاباً بعدد الحروف.
بذلك يكون الكتاب الأول فى الأدوية التى أول أسمائها حرف الهمزة. والكتاب الثانى فى الأدوية التى أول أسمائها حرف التاء (6) . والكتاب الثالث فى
(1) سوف يجعلها العلاءُ بعد ذلك: أعضاء النفض (انظر تعليقنا عليها في بداية الفصل الرابع من المقالة الأولى) .
(2)
- ن.
(3)
الخواص، هي الطبائع الأصلية للمركَّبات (راجع ما ذكره الرازي من ذلك، في الدراسة الممهدة للتحقيق) .
(4)
ن: في بعض.
(5)
ن: والهمزة.
(6)
لم يرد هنا حرف الباء مع أن هناك كتاباً مخصصاً لذلك في الشامل.. وربما كان ذلك من سهو القلم.
الأدوية التى أول أسمائها حرف الثاء.. وعلى هذا الترتيب، إلى آخر الحروف.
ثم جعلنا لكل كتابٍ خاتمةً، نذكر فيها أحكام الأدوية المشهورة، التى لم نتحقَّق معرفتها على الوجه العلمى، من الأدوية التى أول أسمائها، الحرفُ الذى لذلك الكتاب.