الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ملَاحَظَاتُ التَّحْقِيقِ
ظهرت لنا أثناء تحقيق النص، بعض الملاحظات التى تجدر الإشارة إليها قبل الخوض فى بحار الشامل.. وهو ما يمكن إجماله فى الآتى:
أولاً: تمثل الكتب الثمانية والعشرين المخصَّصة للأغذية والأدوية المفردة أضخم عمل صيدلانى فى تاريخ الإسلام والحضارات القديمة. فهى تفوق من حيث استيفائها الكلام على كل غذاءٍ ودواء، كافة الكتابات السابقة على العلاء فى هذا الموضوع؛ بما فى ذلك الأعمال المشهورة، مثل: كتاب الحشائش لديسقوريدس، كتاب الجامع لابن البيطار، وهما أهم مرجعين فى الصيدلة قبل العلاء.. كما تفوق: المعتمد للملك المظفر التذكرة لداود الأنطاكى، وهما أهم مرجعين كُتبا بعد العلاء. ناهيك عن التفوق الكمى والنوعى للكتب الثمانية والعشرين، على الفصول التى خصَّصها الرازى وابن سينا للأغذية والأدوية، فى كتابيهما: الحاوى، القانون.
ثانياً: انطلق العلاءُ (ابن النفيس) فى تناوله التفصيلى للأغذية والأدوية، من النظريات التى انطلقت منها بحوثه وكتاباته الطبية الأخرى، كنظرية الطبائع والأُستقصات، والعلاج بالضد، والقوة الشافية الكامنة فى الجسم، وحركة الدم بالطاقة - أو: الأرواح - داخل الشرايين والأوردة.
كما انطلق العلاءُ من قاعدةٍ منهجية مفادها أن الطبيب يهتم من النباتات بأفعالها فى بدن الإنسان، لا بخواصها من حيث هى نباتات - فهذا عملُ الطبيعيين - وهو ما كان أبو بكر الرازى قد حدَّده بوضوح فى الحاوى حين قال تحت عنوان (كتاب صيدلة الطب) ما نصُّه:
المعرفةُ بالأدوية، وتمييزُ جيدها ورديئها (1)، وخالصها ومغشوشها؛ وإن كان ليس بلازمٍ للطبيب ضرورة - كما يحسبه جُهَّالُ الناس - فهو أحرى وأزين به (2) .. ولايجوز أن يسمَّى أعرف الناس بأنواع الأدوية وأشكالها وألوانها وخالصها: طبيباً، بل إنما يسمى الطبيب، مَنْ عرف أفاعيل هذه فى أبدان الناس.. لأن للأدوية أفاعيل باطنة، وهى التى تسمَّى الخواص، لا يبلغ الطبيب استخراجها (3) .
وعلى هذا النهج سار العلاءُ، وأشار إليه غير مرة بعباراتٍ مثل قوله فى الفصل الثانى من المقالة الثانية والعشرين من كتاب الهمزة عند تناوله لطبيعة الأسل:
ولما فى هذا النبات من الهوائية، فإنها وإن كانت فى نفسها بالغة الرطوبة، إلا أن هذه الرطوبة لا مدخل لها فى التأثير فى بدن الإنسان. وكلامنا ها هنا فى أمزجة الأدوية، إنما هو باعتبار فعلها فى بدن الإنسان.
وهو ما أكّده في الفصل الثاني من المقالة التالية - الثالثة والعشرين - بقوله أثناء في طبيعة الآس:
إن كلامنا ها هنا في أمزجة الأدوية، إنما هو في أمزجتها المعتبرة، بحسب فعلها في بدن الإنسان، لا التي هي في
(1) في النَّصَّ المنشور: تمييزها جيدها ورديها.
(2)
في الَّنصِّ المنشور: بها.
(3)
الرازي: الحاوي في الطب (دائرة المعارف العثمانية - حيدر آباد الدكن، الهند 1971) 2/22.
أنفسها والهوائية التى فى الآس، وإن كانت تفيد الآس نفسه رطوبةً فإنها ليست بعللٍ تثبته لبدن الإنسان.
ويستفاد مما سبق، أن العلاءَ (ابن النفيس) مع أنه وضع أوسع موسوعة صيدلانية بكتبه الثمانية والعشرين، إلا أنه لم يقصد الصيدلة بذاتها، وإنما كان يستكمل كافة التخصُّصات الداخلة فى الصناعة الطبية.. ليكون كتابه شاملاً.
ثالثاً: مع ضخامة الموسوعة التى نحن بصدد الدخول إلى نصها المحقَّق وبلوغ صفحاتها المئات،بل الألوف؛ إلا أن مؤلِّفها ظل دوماً حيوىَّ الأسلوب.. دافقه.. ولم يغب عن باله القارئ! ولذا، فهو لايفتأ يتوجَّه لقارئه بالخطاب بعبارات مثل: إنك قد علمت.. وستعرف كيفية ذلك كله، فيما بعد.. على ما تعرفه فى موضعه.. إلخ.
ومع تدفُّق قلم العلاء، إلا أنه كان حريصاً كل الحرص على الوضوح والإبانة، واستعمال الألفاظ السهلة، والعبارات المنسابة، والخروج من المزالق التى لاطائل تحتها، متخلِّصاً منها بعبارات مثل: ولستُ بالذى يخوض فى ذلك.. ولا مشاحة فى الألفاظ.. ومن أراد تحقيق هذا الأمر فعليه بالمراجعة.. ولانريد التطويل.. إلخ.
غير أن اندفاق عبارات العلاء، وكون كتابته غير منقوطة فى أغلب المواضع - وقد كان يكتب بيده - جعل النُّسَّاخ من بعده يخطئون فى رسم الكلمات وفى كتابه الضمائر والمفردات. وقد اجتهدنا فى تصويب تلك الأخطاء، عند التحقيق.
رابعاً: كان الشامل مرجعاً لكثير من الأطباء الذين جاءوا بعد العلاء، وقد أشار إليه واقتبس منه كثيرون، مثل الملك المظفر فى كتابه: المعتمد والقوصونى
فى قاموس الأطباء. وداود فى التذكرة. والعبدلى فى رسالته: فيما ورد فى الثلج والجمد والبرد.
ومع ذلك، فالشامل لم يلق ما يستحقه من عنايةٍ فى العصور اللاحقة على عصر مؤلِّفه. فلم يتوسَّع فى مباحثه الأطباءُ والصيادلة، ولم يعكف عليه واحدٌ منهم بالشرح والتحشية، ولم يحظ بجهود النُّسَّاخ. ومن هنا، خفت صوت الشامل فى القرون السبعة الماضية، وقلَّت نسخُهُ الخطية وندرت. ولاشك فى أن ضخامة الشامل كانت السببُ وراء ذلك الإحجام عن التوسع والشرح والنَّسْخ.
خامساً: لاتزال بعض الطرق العلاجية التى وصفها العلاءُ فى موسوعته مستعملةً فى نواحٍ من بلادنا.. فمن ذلك - على سبيل المثال - الطريقة (الصعبة) لعلاج البهق، بآطريلال! كما سنرى فى المقالة الأولى من هذا الجزء الذى بين أيدينا. وقد رأيتهم يستعملون هذه الطريقة، بأطراف صعيد مصر.
أخيراً: التزم العلاءُ التزاماً صارماً، بالمنهج الذى حدَّده فى مقدمة الجزء الثانى من الفن الثالث، وسار فى الكتب الثمانية والعشرين - التى نحن بصدد الدخول إليها - على النهج الذى رسمه، بدقةٍ متناهية.
.. تلك هى بعضُ النقاط التى لاحظناها أو لفتت أنظارنا، فى بعضِ المواضع من الجزء (الأول) الذى بين أيدينا، وهو بعضُ كتاب الشامل فى الصناعة الطبية. وما من شكٍ فى أن أجزاء الكتاب، كاملةً، بحاجةٍ إلى عكوفٍ طويل يتجاوز تلك الملاحظات السريعة، إلى التفحُّص الهادئ.. والدرس المنهجى.. والمقارنة.. والمقاربة.. والمصاحبة.. والعكوف، من قبل الدارسين والمشتغلين بالطب وتاريخه.