الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول في مَاهِيَّةِ الأَبْهَلِ
قد اتفق الأطباءُ فى زماننا، وما قبله، على إطلاق لفظ الأبهل على ثمرٍ مستديرٍ، لونه إلى الحمرة، قدره دون الجوز المأكول وأكبر من العَفْص (1) ومن البندق ونحوهما. ظاهره حلو الطعم إلى مرارة وقَبْض، وفى باطنه شئ كالصوف. وهو ثمرٌ معروفٌ، مفهوم من لفظ الأبهل عند الأطباء.
ثم إنهم اختلفوا فى شجر هذا الثمر، هل هو العرعر (2) أو هو غير العرعر؟ (3) وهذا الخلاف لايجوز أن يكون فى أن هذا الشجر: هل يصحُّ أن يسمى بالعرعر أو ليس؟ فإن ذلك ما لا يُنازع فيه فى العلوم، ولكل أحدٍ أن يسمِّى ما شاء بما شاء. بل إن هذا الخلاف إنما هو فى أن هذا الشجر: هل هو الشجر الذى نسميه بالعرعر، أو ليس؟ وهذا الخلاف لسنا نتشدَّد فى تصحيح أحد الرأيين فيه فإنه (4) لاسبيل إلى ذلك بالبرهان.
(1) العَفْصُ هو ثمرة شجر البلوط، فشجرة البلوط تحمل سنةً بلوطاً وسنةً عفصاً (لسان العرب 824/2 - المعتمد ص 330) .
(2)
العرعر نباتٌ مستديرٌ طيبُ الرائحة، حلو، فيه شىء من مرارة (المعتمد ص 322) .
(3)
عند شرحه لفظة الأبهل في قاموسه الطبي المشهور، نقل القوصوني الفقرة السابقة كاملةً وجعلها مسبوقةً بعبارة: قال في الشامل. انظر؛ القوصوني: قاموس الأطباء وناموس الألباء (مخطوطة الظاهرية، مصورات مجمع اللغة العربية بدمشق) 335/1.
(4)
ن: فإن.
ونعنى بقولنا الآن: أبهل. هذا الثمر المعروف، ولا علينا من اسم شجره ولا ما الذى سماه به د (1) . وإذا بيَّنَّا أحكام الأبهل، فإنما نعنى بذلك هذا الثمر المعروف هنا، خلافاً للأطباء (2) فى: هذا هو ما وقع فى كلام د من الأمر الملْبس وذلك لأنه (3) ذكر أولاً العرعر وقسَّمه على قسمين، ووصف ثمره بأوصافٍ هى هى فى هذا الثمر. ثم أعقب ذلك بذكر الأبهل وقسَّمه أيضاً على قسمين ولم يذكر له ثمراً! فتحيَّر الأطباءُ فى كلامه؛ فبعضهم استبعد أن يكون شجر الأبهل هو العرعر. وقد ذكر الأبهل عقيب ذكر العرعر فإن هذا يدل على اختلافهما عنده. فلذلك، قال هؤلاء: إن شجر الأبهل غير العرعر وبعضهم لما رأى الثمر الذى وصفه د للعرعر، ليس إلا هذا الثمر الذى يُعرف الآن بالأبهل، فلذلك (ظنَّ أن هذا الثمر هو ثمر العرعر وأن العرعر هو شجر الأبهل وما ذكره حين ذكر الأبهل إنما أراد بذلك)(4) تبيين صفات ذلك الشجر.
ونحن لا نتعصَّب لأحد هذين الرأيين، ولا يظهر لنا - أيضاً - من كلام د أىُّ هذين الرأيين هو الحق. ونحن نكتب ها هنا كلام د بحاله، ليكون لمن يأتى بعدنا أن ينظر فى ترجيح أحد هذين الرأيين على الآخر. وهذا كلامه، قال:
* أرقوليس وهو العرعر منه ما يكون كبيراً ومنه ما يكون صغيراً. وكلاهما (5) يسخِّنان ويلطِّفان ويدرَّان (6) البول، وإذا دُخَّنَ
(1) يقصد ديسقوريدس. وكتابه مشهورٌ في التراث الصيدلاني بعنوان: الحشائش. أو: هيولي النبات. انظر ما سنقوله عنه فيما بعد.
(2)
هـ: للطبا.
(3)
:. لأن.
(4)
ما بين القوسين ساقط من ن.
(5)
:. وكليهما!
(6)
هكذا في المخطوطتين، والأصوب - لغوياً - أن يقال: كلاهما يسخن ويلطف ويدر البول.
بهما، طردا الهوام. ولهما ثمرٌ منه ما يؤخذ عظمه مثل عظم البندق ومنه ما يوجد (1) على عظم الباقلاء. غير أنه كله مستديرٌ، طيبُ الرائحة، حلو، فيه شئ من مرارة. ويقال له أرتوشيس.
وهو يسخِّن إسخاناً يسيراً فائقاً. وهو جيدٌ للمعدة، فإذا شُرب كان صالحاً لأوجاع الصدر والسعال والنفخ والمغص، ويدرُّ البول ويوافق شدخ العضل وأوجاع الأرحام.
(2)
براننى ومن الناس مَنْ يسميه برانى وهو الأبهل. والأبهل صنفان، وذلك أن ما ورقه شبيهُ بورق السرو (3) وهو أكثر شوكاً من غيره من الأبهل كريه الرائحة؛ وهذه الشجرة مستديرةٌ، تذهب فى العرض أكثر منها فى الطول، ومن الناس من يستعمل ورقها بدلاً من البخور.. ومنه ما ورقه شبيه بورق الطرفاء (4) . وورق كُلَاّ من الصنفين، يمنع سعى القروح الخبيثة.
هذا كلامه، ولم يذكر بعد هذا، في الأبهل إلا ما عدَّده من المنافع. وإلى الآن، لم يظهر لي من كلامه، ما يدل دلالةً واضحةً على أن شجر هذا الثمر
(1) ن: يوجد.
(2)
وفي هامش هـ، كتب أحدهم بقلم مغربي: هكذا ينسختين، يسخنان ويلطفان ويدران البول.. الخ.
(3)
السرو شجرٌ معروف. يُضرب به المثل في استقامة القَدِّ، فشجرتُهُ حسنةُ الهيئة قويمة الساق. وهو أخضر صيفاً وشتاءً (المعتمد ص 222) .
(4)
:. الطرفا. والطرفاءُ شجرةٌ معروفةٌ، تنبت عند مياهٍ قائمة، ولها ثمرٌ شبيه بالزهر. يقول الملك المظفر: وقد يكون بمصر والشام طرفاء بستاني، شبيه بالبرى في كل شىء، ما خلا الثمر، فإن ثمره يشبه العفص (المعتمد ص 304) .
المعروف المشهور باسم الأبهل هل هو العرعر أو غيره؟ ولستُ ممن يبذل جهده فى تعرُّف ذلك! فقد انتصب لذلك قومٌ آخرون. فمن أحبَّ الحظوة برؤيته هذه المعرفة، فلْيراجع كلامه مُراجعة المتقِن، لتأمُّله. ولعل غيرى يقف على ذلك بسهولة. ولعل الله يفتح (1) علىَّ بذلك، فى غير هذا الوقت، فأكتبه فى غير هذا الموضع (2) .
ولما كان طعم هذا الثمر مركباً من حلاوةٍ ومرارةٍ وقبض، فبالضرورة - ولابد - أن (3) يكون جوهره مركباً، أعنى بذلك أنه (4) لابدَّ أن يكون مركَّباً تركيباً ثانياً، بمزاجٍ ثانٍ، كما بيَّنَّاه فى الجزء الأول من هذا الفن الثالث.
ولأن جوهر هذا الثمر، لابدَّ وأن يكون من جواهر مختلفة، وذلك لأن هذا الثمر لابدَّ وأن يكون فيه مائيةٌ وأرضيةٌ، أعنى أنه لابد وأن يكون فيه جوهران ممتزجان، أحدهما يغلب عليه الأُسطقس (5) المائى، والآخر يغلب عليه الأُسطقس الأرضى. وإنما كان كذلك، لأن هذا الثمر إذا كان رطباً، فإنه - لامحالة - يقبل
(1) :. يفتح الله.
(2)
تدل عبارة العلاء هنا، على طموحه في أن يكتب مؤلفَّلاتٍ أخرى بعد الشامل أو أن يعود إلى موضوعاته مستدركاً. وهذا طموحٌ عجيب.. فتأمَّل.
(3)
:. وان.
(4)
:. لأنه.
(5)
:. الأستقس. ولفظة أُسطقس يونانيةُ الأصل، استُخدمت كمصطلح فلسفيٍّ وطبي دالٍ على طبيعة الأشياء المكوِّنة للعالم. وفي الدلالة الاصطلاحية لهذه اللفظة، خلافٌ وتفاوت ما بين العلماء والفلاسفة والأطباء، وقد استقصى جالينوس في الكلام عن هذه الاختلافات، في كتابه: الاسطقسات على رأى أبقراط (حقَّقه دز محمد سليم سالم - نشرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1987) .
الاعتصار، حتى يكون له عصارةٌ يغلب فيها الماء، وهى المائية، وثفل تغلب (1) فيه الأرضية - وهى الأرضية (2) - وإذا جفَّ هذا الثمر، فإنه حينئذٍ وإن كان لايقبل الاعتصار (3) ، لأنه لابد وأن يكون بعد، فيه شئٌ من تلك المائية. إذ لو كانت طبيعة هذا الثمر، أن (4) يقوم بدون تلك المائية، فوجدتها أولاً - وليس كذلك - فلذلك،كان لابد وأن يكون هذا الثمر بعد جفافه، فيه شئ من تلك المائية، لكن ذلك الباقى يكون يسيراً جداً.
فإذن، لابدّ (5) وأن يكون فى جوهر هذا الثمر أرضيةٌ ومائيةٌ معاً. والمائيةُ لاطعم لها، لأنها لا تكون إلا تَفِهَةٌ (6) . فلذلك، حدوث الطعم فى هذا الثمر إنما يكون للجزء الأرضى الذى فيه. فلابدَّ وأن يكون هذا الجزءُ الأرضىُّ مختلفاً لأجل اختلاف طعوم هذا الثمر.
فلذلك، لابد وأن تكون أرضية هذا الثمر، بعضها باردة، وهذه هى الأرضية التى لابد منها فى حدوث الطعم القابض، ولابد وأن يكون بعضها - أيضاً - شديد الحرارة، محترقة؛ وهذه هى الأرضية التى لابد منها فى حدوث الطعم المُرِّ. ولابد وأن يكون بعضها حارّاً حرارةً متوسطة، وهذه هى الأرضيةُ التى لابد منها فى حدوث الطعم الحلو.
فلذلك، لابد وأن تكون (7) أرضية هذا الثمر، ثلاثةَ أقسامٍ: باردة، وحارة
(1) :. يغلب.
(2)
يقصد: الجوهر الأرضي.
(3)
هـ: الانعصار.
(4)
-:.
(5)
-:.
(6)
يقصد: لا طعم لها.
(7)
:. يكون.
محرقة، وحارة باعتدال. وأرضية هذا الثمر، لابد وأن تكون أزيد من مائيته ويظهر ذلك إذا اعتصر، وذلك إذا كان رطباً، وأما إذا يبس، فإن مائيته تقلُّ جداً، وتبقى أرضيته بحالها، فلذلك تكون (1) بالنسبة إلى المائية، كثيرةٌ جداً.
وكثرةُ الأرضية، يلزمها رزانةُ الجرم، وذلك لأجل زيادة ثقل الأرض، فلو لم يكن فى جوهر هذا الثمر، ما يوجب خِفَّته، لكان يكون ثقيلاً جداً. فلذلك لابد وأن يكون فى جوهره هوائيةٌ، تُحدث له الخِفَّةُ.
وهذه الهوائية، تكون أولاً يسيرةٌ، وبالقدر الذى لابد منه فى تحقُّق هذا الثمر؛ ثم بعد ذلك يزداد، إذا أُنقصت (2) المائية. وذلك، لأن نقصان هذه المائية لابد وأن يلزمه خلو مواضع من تلك المائية. وليست هذه المواضع جميعها تمتلئ بجرم هذا الثمر، وذلك بأن تتجمَّع أجزاؤه، حتى لايبقى فيه فروج (3) - وذلك لأن جرم هذا الثمر صلبٌ لايسهل فيه هذا التجمُّع - فلابد وأن يبقى فيه فُرَجٌ وتلك (4) الفُرَجُ لو لم يملأها جوهرٌ هوائى، لزم أن تبقى خالية. والخلاءُ محال (5) . فلذلك، لابد وأن تتحرَّك (6) إلى هذه الفروج هوائيةٌ تملأها، ويلزم ذلك، زيادة
(1) :. يكون.
(2)
ن: انقضت.
(3)
ن: قروح! وغير واضحة في هـ.
(4)
:. وذلك.
(5)
يستخدم العلاء - ابن النفيس - هنا، قضايا الفلسفة العامة التي استقرت من قبله بقرون، ومنها قضية استحالة الخلاء في العالم، بمعنى أن العالم كله: ملاءٌ. وهي قضيةٌ كان فلاسفة اليونان قد أفاضوا في الكلام عليها، منذ عصر الطبيعيين الأوائل. ثم استكمل بحثها، خلفاؤهم من فلاسفة اليونان والفلاسفة العرب المسلمين، من أمثال الفارابي وابن سينا.
(6)
:. يتحرك.
الهوائية فى هذا الثمر إذا جفَّ. فلذلك، لابد وأن يكون فى جوهره: مائيةٌ وهوائيةٌ وأرضيةٌ.
وهذا الثمر رائحته حادةٌ، وحدَّةُ الرائحة إنما تكون لجوهرٍ نارىٍّ. فلذلك هذا الثمر لابدَّ وأن يكون فيه جوهرٌ مائىٌّ وجوهرٌ أرضىٌّ على ثلاثة أصناف وجوهرٌ هوائىٌّ نارىٌّ. وهذا الجوهرُ النارىُّ فى هذا الثمر، قليلٌ جداً، وإلا كان يظهر له طعمٌ، وهو الحرافة.
فلذلك، الجوهر (1) الغالب فى هذا الثمر هو الأرضية، واليابس منه يغلب فيه - بعد هذه الأرضية - الجوهرُ الهوائىُّ، ثم المائىُّ، ثم النارىُّ. وأما الرطب من هذا الثمر، فإنه يغلب فيه بعدُ الأرضية، المائيةُ، ثم الهوائية، ثم النارية.
ولما كان جوهرُ هذا الثمر كذلك، فهو - لامحالة - بعيدٌ عن التغذية خاصةً اليابس منه. فلذلك، هذا الدواء يكاد يكون صِرْفاً، لاغذائية فيه البتة ولابد وأن يكون جوهره لطيفاً، لأن أرضيته الباردة قليلة جداً، وباقى أرضيته لابدَّ وأن يكون مائلاً (2) إلى لطيف، لأجل الحرارة الملطِّفة لها.
(1) :. والجوهر.
(2)
-:. .