الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَتَوْبَتُهُ أَنْ يُكْذِبَ نَفْسَهُ. وَقِيلَ: إنْ عَلِمَ صِدْقَ نَفْسِهِ، فَتَوْبَتُهُ أَنْ يَقُولَ: قَدْ نَدِمْتُ عَلَى مَا قُلْتُ، وَلَا أَعُودُ إلَى مِثْلِهِ، وَأَنَا تَائِبٌ إلَى اللهِ تَعَالَى مِنْهُ.
ــ
يَمْنَعُ ثُبوتَ الآخَرِ. وقولُهم: إنَّما يتَحقَّقُ بالجَلْدِ. لا يَصِحُّ؛ لأنَّ الجَلْدَ حُكْمُ القَذْفِ الذى تَعذَّرَ تَحْقِيقُه، فلا يُسْتَوْفَى قبلَ تَحَقُّقِ القَذْفِ، وكيفَ يجوزُ أن يُسْتَوْفَى حَدٌّ قبلَ تحَقُّقِ سَبَبِه، ويَصِيرُ مُتحَقِّقًا بعدَه! هذا باطِلٌ.
فصل: والقاذِفُ في الشَّتْمِ تُرَدُّ شَهادَتُه ورِوايتُه حتى يَتُوبَ، والشاهِدُ بالزِّنَى إذا لم تكْمُلِ البَيِّنَةُ، تُقْبَلُ رِوايتُه دونَ شَهادتِه. وحُكِىَ عن الشافعيِّ أنَّ شَهادتَه لا تُرَدُّ. ولَنا، أنَّ عُمرَ لم يَقْبَلْ شَهادةَ أبى بَكْرةَ، وقال له: تُبْ أقْبَلْ شَهادَتَكَ. ورِوايتُه مَقْبولَةٌ، ولا نَعْلَمُ خِلافًا في قَبُولِ رِوايَةِ أبي بَكْرَةَ، مع رَدِّ عُمرَ شَهادَتَه.
5049 - مسألة: (وتَوْبَتُهُ أن يُكْذِبَ نَفْسَهُ. وَقِيلَ: إن عَلِمَ صِدْقَ نَفْسِهِ، فَتَوْبَتُه أن يَقُولَ: قَدْ نَدِمْتُ على ما قُلْتُ، ولا أعُودُ إلى مِثْلِه، وأنا تَائِبٌ إلى الله تِعالى منه)
ظاهِرُ كلامِ أحمدَ والْخِرَقِيِّ، أنَّ تَوْبَةَ القاذِفِ إكْذابُه نَفْسَه، فيقولُ: كَذَبْتُ فيما قلتُ. وهذا مَنْصوصُ الشافعيِّ، واخْتيارُ الإِصْطَخْرِيِّ مِن أصْحابه. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: وممَّن قال هذا سَعيدُ ابنُ المُسَيَّبِ، وطاوسٌ، وعَطاءٌ، والشعبيُّ، وإسْحاقُ، وأبو ثَوْرٍ، وأبو
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عُبَيْدٍ (1)؛ لِما رُوِىَ عن الزُّهْرِىِّ، عن سَعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، عن عُمرَ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّه قال، في قولِ اللهِ تعالَى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2). قال: «تَوْبَتُهُ إكْذَابُ نَفْسِهِ» (3). ولأنَّ عِرْضَ المقْذُوفِ يُلَوَّثُ بقَذفِه، فإكْذَابُه نفْسَه يُزيلُ ذلك التَّلْوِيثَ، فتكونُ التَّوْبةُ به (4). وذكرَ القاضي أنَّ القَذْفَ إن كان سَبًّا، فالتَّوْبةُ منه إكْذَابُ نَفْسِه، وإن كانَ شَهادةً، فالتَّوْبةُ منه أن يقولَ: القَذْفُ حرامٌ باطِلٌ، ولَنْ أعُودَ إلى ما قلتُ. وهذا قولُ بعضِ أصْحابِ الشافعيِّ. قال: وهو المذهبُ؛ لأنَّه قد يكونُ صادِقًا، فلا يُؤْمَرُ بالكَذِبِ، والخبَرُ مَحْمولٌ على الإِقْرارِ بالبُطْلانِ؛ لأنَّه نوعُ إكْذَابٍ. قال شَيْخُنا (5): والأَوْلَى أنَّه متى عَلِمَ مِن نَفْسِه الصِّدْقَ فيما قَذفَ به، فتَوْبَتُه الاسْتِغْفارُ، والإِقْرارُ ببُطْلانِ ما قالَه وتَحْرِيمِه، وأنَّه لا يَعودُ إلى مِثْلِه.
(1) في م: «عبيدة» .
(2)
سورة النور 5.
(3)
ذكر صاحب كنز العمال 2/ 474، أن ابن مردويه أخرجه.
(4)
سقط من: ق، م.
(5)
في: المغنى 14/ 192.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وإن لم يَعْلَمْ صِدْقَ نفْسِه، فتَوْبَتُه إكْذابُ نفْسِه، سواءٌ كان القَذْفُ بشهَادَةٍ أو سَبٍّ (1)؛ لأنَّه قد يكونُ كاذِبًا في الشَّهادَةِ، صادِقًا في السَّبِّ (2). ووَجْهُ الأوَّلِ، أنَّ اللهَ تعالى سَمَّى القاذِفَ كاذِبًا [إذا لم يَأْتِ بأَرْبَعَةِ شُهَداءَ](3) على الإِطْلاقِ، بقوْلِه سبحانه:{لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (4). فتَكْذيبُ الصَّادِقِ نفْسَه يَرْجِعُ إلى أنَّه كاذِبٌ في حُكْمِ اللهِ تِعالى، وإنْ كان في نفسِ الأمْرِ صادِقًا.
(1) في الأصل: «سبب» .
(2)
في الأصل: «السبب» .
(3)
سقط من: ق، م.
(4)
سورة النور 13.
فَصْلٌ: وَلَا يُعْتَبَرُ فِى الشَّهَادَةِ الْحُرِّيَّةُ، بَلْ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ فِى كُلِّ شَىْءٍ، إِلَّا فِى الْحُدُودِ وَالقِصَاصِ، عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَمَةِ فِيمَا تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ.
ــ
فصل: قال الشيخ، رحمه الله:(ولا يُشْتَرَط في الشَّهادةِ الحُرِّيَّةُ، بل تَجُوزُ شَهادةُ العَبْدِ في كُلِّ شئٍ، إِلَّا في الحُدودِ والقِصاصِ، على إحْدَى الرِّوايَتَيْنِ. وتجوزُ شَهادةُ الأمَةِ فيما تجوزُ فيه شَهادةُ النِّساءِ) الكلامُ في هذه المسْألَةِ في ثلاثةِ فُصُولٍ؛
أحدُها: في قَبولِ شَهادةِ العَبْدِ فيما عدا الحُدُودَ والقِصاصَ، والمذهبُ أنَّها مَقْبولةٌ. رُوِىَ ذلك عن عليٍّ، وأنَسٍ، رَضِىَ اللهُ عنهما. قال أنَسٌ: ما عَلِمْتُ أنَّ أحَدًا رَدَّ شَهادةَ العبدِ. وبه قال عُرْوَة، وشُرَيْحٌ، وإياسٌ، وابنُ سِيرِينَ، والبَتِّيُّ، وأبو ثَوْرٍ، وداودُ، وابنُ المُنْذِرِ. وقال مُجاهِدٌ، والحسنُ، وعَطاءٌ، ومالِكٌ، والأوْزاعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفةَ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والشافعيُّ، وأبو عُبَيْدٍ: لا تُقْبَلُ شَهادَتُه؛ لأنَّه غيرُ ذِى مُروءةٍ، ولأنَّها مَبْنِيَّةٌ على الكَمالِ لا تَتَبَعَّضُ، فلم يَدْخُلْ فيها (1) العَبْدُ، كالمِيراثِ. وقال الشَّعْبِيُّ (2)، والنَّخَعِيُّ، والحَكَمُ: تُقْبَلُ في الشئِ اليسيرِ. ولَنا، عُمومُ آياتِ الشَّهادةِ، وهو داخِلٌ فيها؛ فإنَّه مِن رِجالِنا، وهو عَدْلٌ تُقْبَلُ رِوايَتُه وفُتْياه وأخْبارُه الدِّيِنِيَّةُ. ورَوَى عُقْبَةُ بنُ الحارِثِ، قال: تَزَوَّجْتُ أُمَّ يحيى بنتَ أبي إهابٍ، فجاءَتْ أَمَةٌ سَوداءُ، فقالتْ: قد أرْضَعْتُكما. فذَكَرْتُ ذلك لرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال:«كَيْفَ وقَدْ زَعَمَتْ ذَلِكَ؟» . مُتَّفَقٌ عليه (3). وفى رِوايةِ أبي داودَ، فقُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّها لَكاذِبَةٌ. فقال:«وَمَا يُدْرِيكَ، وقَدْ قَالَتْ مَا قَالَتْ؟ دَعْهَا عَنْكَ» . ولأنَّه عَدْلٌ غيرُ مُتَّهَمٍ، فتُقْبَلُ شَهادتُه، كالحُرِّ. وقولُهم: ليس له مُروءَةٌ. مَمْنوعٌ، بل هو كالحُرِّ يَنْقَسِمُ إلى مَن له مُروءةٌ، ومَن لا مُروءَةَ له، وقد يكونُ منهم العُلَماءُ والأُمَراءُ والصَّالِحونَ والأتْقِياءُ. سُئِلَ إياسُ بنُ مُعاوِيةَ عن شَهادةِ العَبْدِ، فقال: أنا أرُدُّ شَهادةَ عبدِ العزيزِ بنِ صُهَيْبٍ (4)! وكان منهم
(1) سقط من: الأصل.
(2)
في ق، م:«الشافعي» .
(3)
تقدم تخريجه في 10/ 347.
(4)
البناني مولاهم، البصرى الأعمى، ثقة، توفي سنة ثلاثين ومائة. تهذيب التهذيب 6/ 341، 342.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[زِيادٌ مَوْلَى ابنِ عَيَّاشٍ](1)، من العُلَماءِ الزُّهَّادِ، كان عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ يَرْفَعُ قَدْرَه، ويُكْرِمُه. ومنهم عِكْرِمَةُ مَوْلى ابنِ عبَّاسٍ، مِن العُلَماءِ الثِّقاتِ. وكثيرٌ مِن الموالِى كانوا عَبِيدًا أو أبْناءَ عَبِيدٍ، لم يَحْدُثْ فيهم بالإِعْتاقِ إلَّا الحُرِّيَّةُ، وهى لا تُغَيِّرُ طَبْعًا، ولا تُحْدِثُ عِلْمًا، ولا دِينًا، ولا مُروءَةً، ولا يُقْبَلُ منهم إلَّا مَن كان ذَا مُروءَةٍ. ولا يَصِحُّ قِياسُ الشَّهادةِ على المِيراثِ؛ فإنَّ المِيراثَ خِلافَةٌ للمَوْروثِ في مالِه وحُقوقِه، والعَبْدُ لا يُمْكِنُه الخِلافَةُ؛ لأنَّ ما يَصِيرُ إليه يَمْلِكُه سَيِّدُه، فلا يُمْكِنُ أنْ يَخْلُفَ فيه، ولأنَّ المِيراثَ يَقْتَضِى التَّمْلِيكَ، والعَبْدُ لا يَمْلِكُ، ومَبْنَى الشَّهادةِ على العَدالَةِ التى هى مَظِنَّةُ الصِّدْقٍ، وحُصولِ الثِّقَةِ مِن القَوْلِ، والعبدُ أهلٌ لذلك، فوجَبَ أنْ تُقْبَلَ شَهادتُه.
(1) في النسخ: «زياد بن أبي عياش» .
وهو زياد بن أبي زياد ميسرة المخزومي، مولى عبد الله بن عياش، ثقة، عابد، زاهد، توفى سنة خمس وثلاثين ومائة. تهذيب التهذيب 3/ 367، 368.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الفصلُ الثاني: أنَّ شهادتَه لا تُقْبَلُ في الحُدودِ، وفي القِصاصِ احْتِمالان؛ أحدُهما، تُقْبَلُ شهادَتُه فيه؛ لأنَّه حَقُّ آدَمِيٍّ، لا يَصِحُّ الرُّجوعُ عن الإِقْرارِ به، أشْبَهَ الأمْوالَ. والثاني، لا تُقْبَلُ؛ لأنَّه عُقوبَةٌ بدَنِيَّةٌ تُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ، فأَشْبَهَ الحدَّ وقد ذكَرْنا في هذا الكِتابِ المَشْروحِ (1)، في الحدِّ، والقِصاصِ رِوايَتَيْن. وكذلك ذكَرَه الشَّريفُ، وأبو الخَطّابِ، فإنَّهما ذكَرَا في العُقوباتِ كلِّها رِوايَتَيْن؛ إحْدَاهما، تُقْبَلُ؛ لِما ذكَرْنا، ولأنَّه رجُلٌ عَدْلٌ، فتُقْبَلُ شَهادتُه فيها، كالحُرِّ. والثانيةُ، لا تُقْبَلُ. وهي ظاهرُ المذهبِ؛ لأنَّ الاخْتِلافَ في قَبُولِ شهادتِه في الأمْوالِ نَقْصٌ وشُبْهَةٌ، فلم تُقْبَلْ شهادتُه فيما يَنْدَرِئُ بالشُّبُهاتِ، ولأنَّه ناقِصُ الحالِ، فلم تُقْبَلْ شهادتُه في الحدِّ والقِصاصِ، كالمرْأةِ.
الفصلُ الثالثُ: أنَّ شَهادةَ الأمَةِ تُقْبَلُ فيما تُقْبَلُ فيه شَهادةُ النِّساءِ، قِياسًا عليْهِنَّ، فإنَّ النِّساءَ لا تُقْبَلُ شَهادَتُهُنَّ في الحُدودِ والقِصاصِ، وإنَّما
(1) سقط من: ق، م.