الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الرابع
(مناهج التأليف عند العرب (3))
كتاب (الشعر والشعراء) كنموذج على اتجاه الطبقات والتراجم
الحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، وبعد:
فأذكركم وأذكر نفسي أنني قد وعدتكم أننا سنأخذ مصدرين من مصادر اتجاه أصحاب الطبقات والتراجم كنموذجين من النماذج التي ندلل بها على هذا الاتجاه ومنهج العلماء فيه، ولكن الوقت لم يتسع آنذاك، فشرحنا مصدرًا واحدًا وهو كتاب (طبقات فحول الشعراء) لابن سلام.
واليوم نشير إلى المصدر الثاني من مصادر اتجاه الطبقات والتراجم، ونأخذ كتاب (الشعر والشعراء) كنموذج على ذلك:
كتاب (الشعر والشعراء) ألفه أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، أحد أعلام القرن الثالث الهجري في اللغة والأدب والنحو، والفقه وغريب القرآن ومعانيه، كان الرجل عالمًا واسع الفكر متنوع الثقافة ورعًا، صادق الرواية حسن العشرة، كثير التصنيف. ومن أشهر كتبه: كتاب (غريب القرآن) و (غريب الحديث) و (مشكل القرآن) و (مشكل الحديث)، و (عيون الأخبار) و (الشعر والشعراء)، و (أدب الكاتب) وكتاب (المعارف)، و (المعاني) وكتاب (الإمامة والسياسة)، وغير ذلك من مؤلفات جاءت صورة صادقة لفكره وثقافته وشمول معارفه. توفي هذا الرجل ببغداد سنة مائتين وست وسبعين للهجرة.
أما عن محتوى الكتاب، فإن العنوان يدل على محتواه؛ الكتاب اسمه (الشعر والشعراء). العنوان ذو شقين؛ الشق الأول: الشعر وما يتصل به من قضايا الإبداع والنقد، وقد افتتح ابن قتيبة كتابه بمقدمة توضح ذلك، والشق الثاني في العنوان: الشعراء وأنسابهم وأخبارهم وبيئاتهم المختلفة، ولم يخرج ابن قتيبة عن هذا الإطار. تأمل العنوان (الشعر والشعراء) يدل دلالة دقيقة على محتوى الكتاب.
قسم ابن قتيبة كتابه إلى قسمين؛ القسم الأول: وهو المقدمة، عالج فيها مجموعة من الآراء والقضايا النقدية المثارة في عصره. مثل: قضية القدم والحداثة، التي شغلت الأدباء والنقاد آنذاك لفترة
طويلة، وانقسموا حيالها قسمين: مؤيد للحديث، ومتعصب للقديم رافض لكل ما عداه، وقد تعصب معظم النقاد في عصره للقديم، وصور ذلك ابن قتيبة في مقدمته فقال:"فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه في متخيره، ويرذل الشعر الرصين ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه، أو أنه رأى قائله".
وابن سلام عرض للمحْدثين، ولكنه لم يذكرهم في طبقاته، ووقف ابن قتيبة موقفًا جريئًا من قضية القدم والحداثة، حين أعلن أنه لا يتعصب للقديم لقدمه ولا للحديث لحداثته، وإنما يتعصب للجيد من الأدب وإن كان حديثًا، فهو ينحي عنصر الزمان جانبًا عند الحكم على الشعر بالجودة أو الرداءة، وينظر إلى القيمة الفنية في النص ذاته، وأورد نماذج كثيرة لشعراء محْدثين، ودافع عنهم وأبدى إعجابه بهم.
قضية أخرى: وهي قضية البناء الفني للقصيدة العربية، من حيث البداية والنهاية، وما بين البداية والنهاية، بحيث ذكر أن الشاعر كان يبدأ بالأطلال أو النسيب، ثم وصف الرحلة ثم الانتقال إلى وصف المطية، ثم الغرض الأساسي من القصيدة، وعرض ابن قتيبة وجهة نظره في ذلك البناء، وقدم تفسيرا له يسبق زمانه بكثير، تفسيرا جيدا، وجعل هذا الالتزام البنائي للقصيدة عند الشاعر الجاهلي مقياسًا من مقاييس الجودة، ولابد للشاعر أن يلتزم به، فقال:"وليس لمتأخري الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه الأقسام"، يعني جعله مقياسًا يحكم من خلاله على الجودة بالنسبة للشاعر، وله وجهة نظره وحلله وعلله تعليلا نفسيًا رائعًا.
أيضًا تناول ابن قتيبة في المقدمة أقسام الشعر من حيث اللفظ والمعنى، وحصره في أربعة أضرب: ضرب حسن لفظه وجاد معناه، وضرب حسن لفظه، وإذا
فتشت في معناه لم تجد فيه فائدة، وضرب جاد معناه وقصرت ألفاظه، وضرب تأخر معناه وتأخر لفظه، وذكر أمثلة لكل واحد من هذه الأضرب.
كما تناول في المقدمة أيضًا قضية في غاية الأهمية، وهي قضية الطبع والتكلف، فعرف كلا منهما وأورد أمثلة لهما، وأوضح علامات التكلف في الشعر، كما تحدث أيضًا في مقدمته عن مثيرات الشاعرية، فذكر منها الشوق والطمع والطرب والغضب، وأشار إلى الأوقات التي يصعب فيها القريض أو يسهل؛ لأنه كما قال:"للشعر تارات يبعد فيها قريبه، ويستصعب فيه رَيِّضُه".
وفي نهاية المقدمة أشار إلى بعض عيوب الشعر وعرف بها، وعرض لأقوال العلماء فيها وبين خطرها، فذكر منها: الإقواء والإكفاء والسناد والإيطاء، والإجازة، كما أشار إلى العيوب التي تنجم عن الإعراب مثل: الضرورات التي تقوم على مخالفة القياس اللغوي، تسكين المتحرك، عطف المنصوب على المخفوض، مخالفة المشهور في مد المقصور وقصر الممدود، إلى آخر هذه الأشياء.
أما القسم الثاني من الكتاب فقد ترجم فيه للشعراء، ذاكرًا أنسابهم وأخبارهم وأحوالهم، ونماذج من أشعارهم، وبلغ عدد الشعراء الذين ترجم لهم في كتابه مائتين وستة من الشعراء الجاهليين والإسلاميين، حتى العصر الذي عاش فيه ابن قتيبة، وتختلف تراجم ابن قتيبة لشعرائه طولا وقصرًا، تبعًا للأخبار التي رويت عن كل شاعر، كما أنه لم يهتم بشرح النصوص التي أوردها، ولكنه قد يعلق عليها أحيانًا بتعليقات نقدية تدل على ذوقه الفني.
أما بالنسبة للمنهج الذي سلكه ابن قتيبة في كتابه؛ إذا أردنا أن نتعرف على منهج ما لأي مؤلف، يمكننا الوصول إليه من خلال أحد طريقين؛ الطريق الأول: المؤلف نفسه عندما يشير إلى منهجه، هذه الطريقة العلمية الصحيحة، أي مؤلِّف
في مقدمة المؤلَّف لابد أن يشير إلى المنهج الذي سلكه في تأليفه ليعرف الناس، ولابد أن يلتزم بهذا المنهج.
أما الطريق الثاني الذي يمكننا أن نتعرف على المنهج من خلاله: فيتمثل في تتبع القضايا المطروحة في الكتاب، أو في المؤلَّف، والتعرف على طرق المعالجة كيف عالجها، ونوعية المقاييس المستخدمة.
وقد نضطر إلى سلوك الطريقين معًا للكشف عن المنهج، قد يأتي مؤلف ويذكر في بداية المؤلف أنه التزم بمنهج ما، ولكن من خلال تتبع لعرض القضايا والمعالجة والمقاييس -التي اعتمد عليها- نكتشف أنه لم يلتزم بهذا المنهج، فينبغي ألا نسلم بهذا الاعتراف الذي يذكره المؤلف في بداية المؤلَّف. فإذا أردنا أن نتعرف على المنهج الذي سلكه ابن قتيبة في كتابه (الشعر والشعراء) نجد أن ابن قتيبة نفسه يشير إلى هذا المنهج، فيقول:"هذا كتاب ألفته في الشعراء أخبرت فيه عن الشعراء وأزمانهم وأقدارهم، وأحوالهم في أشعارهم، وقبائلهم وأسماء آبائهم، ومن كان يعرف باللقب أو بالكنية منهم، وعما يستحسن من أخبار الرجل ويستجاد من شعره، وما أخذته العلماء عليهم من الغلط والخطأ في ألفاظهم، أو معانيهم، وما سبق إليه المتقدمون فأخذه عنهم المتأخرون، وأخبرت فيه عن أقسام الشعر وطبقاته، وعن الوجوه التي يختار الشعر عليها ويستحسن لها".
هذا كلام ابن قتيبة في المقدمة ينفي عن نفسه التبعية والتقليد، ويؤكد تفرده بهذا المنهج، وأن له مقاييسه التي يختلف فيها عن غيره، فيقول في المقدمة أيضًا:"ولم أسلك فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختارًا له سبيل من قلد، أو استحسن باستحسان غيره، ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، ولا إلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل على الفريقين، وأعطيت كلا حظه ووفرت عليه حقه".
حديث ابن قتيبة عن الشعراء، وأزمانهم وأحوالهم وقبائلهم وأسماء آبائهم، ومعرفة السابق المبتكر أو المبدع واللاحق المتبع أو المقلد، كما قال هو نفسه في المقدمة، كل هذا يعد من صميم المنهج التاريخي، ولو تتبعنا معالجته للشعراء داخل الكتاب لوجدناه يسلك هذا المنهج، فهو يذكر نسب الشاعر من جهة أبيه وأمه، ويحدد موطنه وطبيعة البيئة التي نشأ فيها، ويسرد بعضًا من أخباره وأشعاره.
ولو تأملنا قضايا الكتاب تتكشف لنا أبعاد ذلك المنهج التاريخي، ولكن يتضح لنا أيضًا من خلال هذا التأمل والتتبع لهذه القضايا؛ أنه تخطى حدود المنهج التاريخي إلى غيره من المناهج، فمثلا حديثه عن اختلاف طبائع الشعراء، وتفاوتهم في الأغراض الشعرية تبعًا لذلك، مما يتصف بالمنهج النفسي، وأيضًا لو تأملنا حديثه عن مثيرات الشاعرية عندما قال:"وللشعر دواعٍ تحث البطيء وتبعث المتكلف منها: الطمع والشكر"، إلى آخر ما ذكر، لو تأملنا هذا لوجدناه أيضًا يتحدث عن صفات العاطفة وآثارها، وهذا يتصل بالمنهج النفسي أيضًا، وليس فيه إشارة إلى المنهج التاريخي.
كما أن حديثه عن البناء الفني للقصيدة، وتعليله لهذا المنهج المتبع لدى شعراء العرب تعليل نفسي واضح، لا شك في ذلك، وإذا أنت فتشت في الكتاب لا تخطئ العثور على ملامح واضحة للمنهج الفني، كحديثه عن أقسام الشعر، وتنقيح الشعر بطول التفتيش فيه، بعض الآراء النقدية التي أوردها وإن كانت قليلة، مناقشة بعض الآراء التي أوردها لغيره، كل هذا يتصل بالمنهج الفني، وإن كان ابن قتيبة قد قرر أنه لا ينظر إلى عامل الزمان في الحكم على الشعراء، وإنما ينظر إلى الجودة، فلابد أنه يعني الناحية الفنية عندما قال:"أنا لا أنظر إلى المتقدم لتقدمه ولا إلى المتأخر لتأخره، وإنما أنظر بعين العدل"، عين
العدل هذه مقياسها فني بحت لا شك في ذلك، كما أن له حديثا عن المعاني والتشبيهات والألفاظ، وغيرها من العناصر الفنية أثناء ترجمته للشعراء، كل هذا من قبيل المنهج الفني.
مما تقدم يتضح لنا أنه قد سلك منهجًا تاريخيًا، ويتضح لنا أيضًا أنه سلك منهجًا نفسيا، وأنه سلك أيضًا منهجًا فنيا، اجتماع هذه المناهج يطلق عليه المنهج المتكامل، وهو أصح المناهج في البحث الأدبي أو البحث العلمي عمومًا.
أما عن القيمة الأدبية لكتاب (الشعر والشعراء) فإنه في الحقيقة يعد من أقدم المصادر الأدبية وأهمها، بعد كتاب (طبقات فحول الشعراء) لابن سلام، ولا يمكن أن يستغني عنه باحث أو دارس للأدب، فهو يترجم لمجموعة كبيرة من الشعراء الجاهليين والإسلاميين حتى عصر ابن قتيبة، ويورد كثيرًا من أخبارهم ومواقفهم، التي يمكن الكشف من خلالها عن شخصية هؤلاء الشعراء، وتفسير اتجاههم الفني، وهو في ذلك كله يلتزم الدقة والأمانة في نقل الأخبار عن المتقدمين والمعاصرين.
وتبدو قيمة الكتاب أيضًا في أنه يكشف لنا عن شخصية ابن قتيبة، وفكره الأدبي ومقدرته النقدية، إذ لم يكن مجرد ناقل عن غيره أو سارد لمجموعة من الأخبار، وإنما عرض علينا فكره، وكشف لنا عن ذوقه من خلال تلك المقدمة المهمة، ومن خلال الآراء المتفرقة في الكتاب الدالة على ذلك، هذه حقيقة لابد أن نقررها، فالرجل كان مشهورا بالتفسير، كان محدثا وكان فقيها، ويدل على قيمة الكتاب أيضًا ويعلي من شأنه وشأن صاحبه: وضوح المنهج العلمي لديه، وهو منهج يتناسب مع طبيعة عصره الفكرية والثقافية، ويبدو ذلك في الإشارة إلى المنهج الذي سلكه منذ البداية، هذه طريقة لا يعرفها إلا الذين درسوا علم المناهج في العصر الحديث، يعلمون أنه لابد لكل باحث أو مؤلف من الإشارة
إلى المنهج في بداية التأليف أو البحث، إن ابن قتيبة سبقنا بكثير عندما أشار في مقدمة كتابه إلى المنهج الذي اتبعه، وهو يدل فعلا على النهج العلمي الذي سلكه منذ البداية.
مما يؤكد هذه النزعة العلمية المنهجية لديه: كان يستخدم بعض العناوين المناسبة، وجودة التقسيم عندما يقسم كان يختار عناوين، عنونة أيضًا هذه لم تكن سمة معروفة آنذاك، ولكن إذا تأملنا الكتاب نجد فيه أكثر من عنونة، هو الذي عنونه وليس المحقق، أقصد العناوين التي وضعها ابن قتيبة نفسه، هذه تدل أيضًا على منهج علمي دقيق التزمه.
ولعلك تستطيع مما تقدم إدراك ما أضافه ابن قتيبة من جديد بعد ابن سلام، يعني لو أننا وازنا بين الكتابين لوجدنا أن كتاب (الشعر والشعراء) فيه خطى جديدة، صحيح استفاد من كتاب (طبقات فحول الشعراء)، لكنه أضاف جديدًا، واختلفوا في المنهج وفي كل شيء؛ فابن قتيبة لم يقتصر على الشعراء الجاهليين والإسلاميين فقط، كما فعل ابن سلام في كتابه، وإنما زاد عليهم شعراء عاصروه وعاشوا في زمانه، وأورد نماذج لهم وأبدى إعجابه بهم، وهذا يؤكد مبدأ المساواة والعدل الذي أشار إليه في تعامله مع الشعراء.
كما نلاحظ أن ابن قتيبة في ترجمته للشعراء كان أكثر إحاطة من ابن سلام، من حيث عدد الشعراء المترجم لهم والأخبار المروية عنهم، والتي يمكن من خلالها التعرف على شخصية الشاعر، وما أبدعه في مجال الشعر، والوجهة الفنية التي يلتزمها، فقد ترجم لمائتين وستة من الشعراء، مقابل مائة وأربعة عشر شاعرًا لدى ابن سلام، طبعًا للأخير عذره في الاقتصار على هذا العدد؛ لأنه مشغول بوضع الشعراء في طبقات، المنهج دقيق عند ابن سلام، لو أنه