الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الخامس عشر
(مفهوم التحقيق والتوثيق
وشروط المحقق)
مفهوم التحقيق والتوثيق
الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه وبعد:
فكلمة "تحقيق" مصدر للفعل حقق. جاء في (لسان العرب) لابن منظور: "حَقَّ الأمْرُ يحِقُّ ويَحُقُّ حَقّا وحُقُوقا أي صار حَقا وثبتَ، وحقه وأحقه أي: أثبته وصار عنده حقا لا يشك فيه، وأيضا ورد: وحقه وحققه أي: صدقه، وحقق الرجل: إذا قال: هذا الشيء هو الحق بمعنى: أنه اعترف بأحقية ذلك الشيء وصدقه، وأحققت الأمر إحقاقا: إذا أحكمته وصححته، ويقال أيضا: كلام محقق أي كلام محكم منظم، ويقال أيضا: أحق الله الأمر أي: أظهره وأثبته للناس، والحق هو الثابت الصحيح، وهو ضد الباطل، وقال أبو البقاء: التحقيق تفعيل يعني على وزن: تفعيل من حق بمعنى: ثبت. وقال بعضهم: التحقيق في اللغة رجع الشيء إلى حقيقته أي: رد الشيء إلى حقيقته بحيث لا يشوبه شبهة، وهو المبالغة في إثبات حقيقة الشيء بالوقوف عليه، والتحقيق مأخوذ من الحقيقة، وهو كون المفهوم حقيقة".
من خلال هذه النصوص وغيرها نستنتج أن مادة حقق ومشتقاتها تدور حول عدة معان من أهم هذه المعاني: الإثبات والتصديق والإحكام والتنظيم والتصحيح والإظهار. هذا من حيث الدلالة اللغوية، أما في اصطلاح أهل الفن، فقد تعددت فيه الأقوال فمن قائل: إنه بذل العناية بالمخطوطات؛ لتكون أقرب إلى الصورة التي كتبها مؤلفها من حيث الدقة
والسلامة مما يجعل الإفادة منها كبيرة. ومن قائل: إنه بذل عناية خاصة بالمخطوطات حتى يمكن التثبت من استيفائها لشرائط معينة، والكتاب المحقق هو: الذي صح عنوانه، واسم مؤلفه، ونسبة الكتاب إليه، وكان متنه أقرب ما يكون إلى الصورة التي تركها مؤلفه.
وبعضهم قال: إن التحقيق هو: بذل الجهد، واستقصاء البحث بغية الوصول إلى حقيقة ما قالها مؤلف النص. وبعضهم قال: إن التحقيق هو الاجتهاد في جعل النصوص مطابقة لحقيقتها في النشر، كما وضعها صاحبها ومؤلفها من حيث اللفظ والخط والمعنى. وهناك أقاويل كثيرة غير التي ذكرت، لكنها تدور حول هذا المعنى، ولا تخرج عن هذا الإطار، ولو تأملت معي هذه الأقاويل جيدا لاتضح لك أنها تتوجه بالتحقيق نحو النص نفسه، وتكتفي بتقديم النص المخطوط كما أراده مؤلفه، وتغفل خدمة النص تماما، فلم يشر أي من هذه التعريفات السابقة إلى تخريج النص أو شرح غامضه أو فهرسته أو ضبطه، أو غير ذلك مما يخدم النص، أعني: التعريف لم يشتمل على إشارة إلى هذه الأشياء، لكن جميع المحققين الذين أشاروا إلى هذه التعريفات بلا شك يتحدثون عن كل هذه الجوانب التي أشرت إليها، ولم توجد لها إشارة في التعريف، بمعنى أنهم عند التطبيق يخدمون النص، ويتناولونه من جميع جوانبه لكن التعريف لا يشتمل على إشارة تدل على هذه الخدمة، وليس هذا الذي أشرت إليه من خدمة النص من قبيل النافلة، وإنما هي قضايا أساسية تدخل في صميم العمل التحقيقي.
إن العالم الذي يحقق كتابا من كتب التراث يصبح أقرب الناس إليه، وأكثرهم فهما لغامضه، وإدراكا لمشكلات نسخه ومعرفة بمصادره وطريقته؛ لأنه قرأ
الكتاب وتمثله وخبر أرضه، فالتحقيق ينبغي أن يعني بتحرير النص وخدمته معا، ولا يقف عند مجرد إخراجه على الصورة التي كتبه بها مؤلفه، ومن ثم أرى أن أفضل تعريف للتحقيق هو ما قال به أحد الباحثين حيث قال: إنه الجهد الذي يبذله العالم في سبيل الوصول إلى نص يجتهد في كونه مماثلا لنص صاحبه، وفي سبيل تيسير الإفادة منه. العبارة الأخيرة -التي هي في سبيل تيسير الإفادة منه- هي التي زادت عن التعريفات السابقة، وهي تعني خدمة النص إذ لا تتيسر الإفادة منه إلا بشرح غامضه وضبط مشكله وتخريجه، وهذا كله يسمى بخدمة النص.
وجدير بالذكر أن أي باحث في العلوم الإنسانية مطالب بتحقيق النص الذي يستنبط منه أحكامه -حتى ولو كان غير مخطوط- هو أمام نص لابد أن يحققه، ويتثبت من صحته أولا، ويتوصل إلى نتائج قبل أن يصدر أحكامه ويسجل نتائجه، وليس من اللازم أن يكون ذلك النص مخطوطا -كما ذكرت، لا؛ مسألة التحقيق بمعنى: التثبت هذه صفة في الباحث، فكثير من الكتب المطبوعة التي بين أيدينا تحتاج إلى تحقيق؛ لأن الذين تولوا طبعها ونشرها جماعة من الذين لا علم لهم بالتحقيق ولا دراية لهم بأصوله، ومن ثم جاءت هذه المطبوعات مليئة بالتصحيف والتحريف واضطراب في النصوص، تبعد بها كثيرا عن الأصل الذي كتبه مؤلف هذه النصوص. التحقيق العلمي لون من ألوان البحث، إياك أن تظن أننا خرجنا بهذا عن إطار البحث لا، فالتحقيق العلمي لون من ألوان البحث، يعنى بتوثيق النص وسلامته وشرحه والاستنباط منه، على هدي من الأصول العلمية التي وضعت لهذا النوع من البحوث، وإذا راعى الباحث هذه الأصول العلمية
وطبقها بدقة وصل إلى الغاية المنشودة، وأخرج عملا علميا من الظلمات إلى النور يستفيد به كثير من الباحثين.
أما كلمة توثيق فهي مصدر للفعل وثق نقول: وثق الشيء توثيقا فهو موثق أي: محكم، والوثيق هو: الشيء المحكم، ووثقت فلانا إذا قلت: إنه ثقة، ووثق به أي: ائتمنه، فالمادة مادة: الواو والثاء والقاف تدور حول الاطمئنان إلى الشيء وإحكامه. والمراد بتوثيق النص: التأكد من صحة نسبته إلى مؤلفه، والعصر الذي قيل فيه، والاطمئنان إلى أن النص وصل إلينا كما تركه مؤلفه، فلم يلحقه تزوير أو تحريف أو حشو أو إكمال أو أي شيء من هذا القبيل، وهو بذلك يصبح وثيقة من الوثائق يعني لا يتطرق إليه شك.
والتحقيق والتوثيق مصطلحان يشيعان في حقل الدراسات الأدبية أكثر من أي حقل علمي آخر، فهما يستخدمان في مجال نشر التراث الأدبي في صورة صحيحة وتنقيته من كل شائبة، وتراث أي أمة جزء أصيل من كيانها، وإحياء ذلك التراث إحياء لماضيها المعرق وتاريخها المشرق، وفي إحيائه أيضا استجلاء لآفاق وجدانية وفكرية وحضارية مهمة في تاريخ الأمة، وتذكير بما أسداه علماؤها إلى العالم في مواكب التحضر والرقي، وتراث أمتنا العربية هو رصيدها الباقي وذخيرتها الثابتة، والأمم بماضيها قبل أن تكون بحاضرها، وفرق بين أمة لها موروث وأمة لا موروث لها، وتراث أمتنا العربية يشهد بما لديها من فكر ومعرفة وثقافة وحضارة، فقد كانت ومازالت نبراس حضارة العالم أجمع، ورائد عبقرية الإنسانية في كل مكان، وما حرص الأمة العربية على إحياء تراثها إلا لكي تعيش حاضرا موصولا بماض عريق، وتبني على هذا الماضي العريق حاضرها الوطيد، وأول ما لنا من هذا التراث هو لغته التي كتب بها ذلك التراث، أدبه الذي عكس
فكرها، وسجل حضارتها، وصور عبقريتها، هذه من البديهيات الظاهرة التي يلحظها كل من يبحث في المخطوطات حتى لو كانت غير متخصصة في الأدب.
كلمة تراث مأخوذة من: ورث، فالتاء في كلمة تراث مبدلة من الواو فالعرب يقولون: ورثت الشيء من أبي أرثه وراثة وإرثا، وهو متعدد الجوانب عند العرب، وأنا لا أعني التراث بمعناه العام، ولكن التراث الذي أعنيه هنا هو: ما خلفه العرب من ألوف الكتب والرسائل، والتي لا يزال كثير منها مخطوطا في مكتبات العالم شرقه وغربه، وما تحتوي هذه الكتب من آراء ونظريات تشهد على أصحابها أو لهم، وتعكس فكرهم وثقافتهم، وتصور حضارتهم، وليس هناك حدود معينة لتاريخ أي تراث، فكل ما خلفه المؤلف من نتاج يعد تراثا فكريا له قيمته، والأمة العربية تملك أعظم ثروة تراثية في مختلف مجالات العلم والمعرفة، وحري بنا أن نقف أمام هذه الكنوز وقفة إكبار وإجلال، ونطاول بها أعنان السماء في اعتزاز وفخر وشموخ.
وقد توالت على التراث العربي نكبات عدة ومحن عاتية عصفت به -اقرءوا التاريخ فإنه خير شاهد على ذلك- وذهبت بالكثير من كنوزه ونفائسه كالغزو المغولي الذي دمر مراكز الحضارة الإسلامية في بغداد، وقضى على مقتنيات بيت الحكمة، فأحرق بعضها وأغرق البعض الآخر في مياه دجلة، ومن ثم ضاع كثير من هذه الكنوز وتلك النفائس، ولو بقيت لبقي علم وفكر لا حدود لهما. ومن تلك النكبات أيضا الغزو الصليبي الذي ضيع مراكز الحضارة الإسلامية في منطقة الشام، وأهدر الألوف من الكتب القيمة كما يشهد بذلك التاريخ أيضا، ومن تلك النكبات الفتن الداخلية المذهبية في داخل الأوطان العربية ذاتها، هذه الفتن المذهبية والسياسية والاقتصادية التي انعكست آثارها على تراث الأمة الحضاري والفكري، وراح ضحيتها آلاف الكتب.
هذه نكبات وفتن أدت إلى نتيجة واحدة: إهدار كثير من تراثنا، وضياع فكر كنا في أشد الحاجة إليه، هذه النكبات تمثل جراحات غائرة في جسد تراثنا المخطوط لازلنا نعاني منها إلى الآن ما بين تمزيق وإتلاف وتشويه وسرقة، وأصبحنا في أشد الحاجة إلى تضميد تلك الجراحات ولَمّ شعث هذا الشتات ورتق خرقه، وقد هيأ الله سبحانه وتعالى لهذا التراث من ينهض به، ويدفع عنه عاديات الزمان، ويجدّ في تحقيقه وتوثيقه رجالات وهيئات ومؤسسات وجامعات، كل هؤلاء -أخذوا على عاتقهم هذه المهمة الصعبة- الرجالات والهيئات والمؤسسات تسعى بخطى وثابة نحو تحقيق هذا التراث، وتوثيقه وإحيائه ونشره في صورة رائقة رائعة، وإنها لعملية معقدة تحتاج إلى جهد جهيد وعزيمة قوية وتعاون وشد أزر.
متى ظهر التحقيق والتوثيق؟ الحقيقة أن تحقيق النصوص وتوثيقها فن عربي المولد والنشأة منذ فجر التاريخ والحضارة، ولم تعرفه أوربا إلا في القرن الخامس عشر الميلادي عندما اهتموا بإحياء الآداب اليونانية واللاتينية، وعندما عرفته أوربا بعلمائها لم يأتوا به على أكمل وجه حين ذاك؛ إذ عمدوا إلى المهم منه، واستنتجوا اصطلاحات حدسية خالفوا بها ما في النسخ الأصلية، وهذا يخالف الأصول التي وضعها العلماء للتحقيق العلمي.
أما إذا نظرنا إلى الفكر العربي وجهود العرب في ميدان التحقيق، فيعد القرآن الكريم أول كتاب تم تحقيقه وتدوينه، كان ذلك في النصف الأول من القرن الأول الهجري، ثم بعد ذلك دون الشعر الجاهلي بعد تحقيقه في النصف الثاني من القرن الأول الهجري، ولا شك في أن الشعر الجاهلي قد تعرض لآفات كثيرة
فحمل عليه ما ليس منه، وضاع منه الكثير في غمار الزمن، وقامت الطبقة الأولى من الرواة العلماء الثقات بتحقيق ذلك التراث الشعري وتنقيته من الشوائب، ودونوه بقصد إنقاذه من الضياع والتشويه والتزوير، واشتهر بعض الرواة بالضبط والثقة والأمانة والبعض الآخر بالكذب والتهاون والوضع.
هذا هو ميدان التحقيق والتثبت من النصوص وإخراجها كما صدرت عن مؤلفها، هذا في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري. وفي القرن الثالث قامت حركة منظمة للجمع والتدوين على أيدي أئمة من الخبراء بالشعر الذين يعرفون صحيحه من زائفه، وجمعت هذه الحركة تراثا ضخما من هذا الشعر الذي قيل في الأزمنة السابقة عليهم، بداية من العصر الجاهلي، جمعوا تراثا ضخما عكف عليه الدارسون يستخلصون منه معجم ألفاظهم، وقواعد نحوهم وصرفهم، وأساليبهم البيانية وخصائصها التعبيرية، وقد قام رواة الشعر وعلماؤه بدور عظيم في مجال تحقيق هذه النصوص وتوثيقها، فتارة يراجعون الدواوين التي تقع بين أيديهم، وتارة يعرضون هذه النصوص على الأحداث أو التاريخ وأعلامه؛ ليكشفوا صحيحها من زائفها وسليمها من سقيمها، وقاموا بمراجعات كثيرة لألفاظها؛ لتوضيح ما دخلها من تصحيف وتحريف حتى في اللفظ وكتب التراث التي تناولت هذا بين أيدينا، وفيها تنبيهات كثيرة على هذه التحريفات وتلك التصحيفات، وهي خير شاهد على هذا الجهد الذي بذله هؤلاء العلماء الرواة في سبيل تحقيق وتصحيح وتوثيق هذا التراث الشعري الأصيل.
ومن ثم يمكننا القول: إن التوثيق عند هؤلاء العلماء الذين اشتهروا برواية الشعر والعلم به بدأ بتمييز الرواة الموثقين من الرواة المتهمين، ونصوا على كل طائفة منهم فذكروا من الموثَقين الأثبات أسماء كثيرة كالمفضل الضبي مثلا والأصمعي
وابن سلام الجمحي، وذكروا من الذين اتهموا بالوضع والانتحال والتزييف: حماد الراوية، وخلف الأحمر، وابن إسحاق، وغيرهم، وقام هؤلاء العلماء الموثقون بفحص الشعر وتمحيصه وتصفيته من شوائبه ورفضوا رواية الرواة الوضاعين ممن أجادوا فن الشعر، كما رفضوا ما حمله رواة السير والأخبار من أشعار غثة.
علم من هؤلاء الأعلام الذين عنوا بالتحقيق والتوثيق: أبو سعيد السكري الذي توفي سنة خمس وسبعين ومائتين للهجرة، وقد اهتم السكري بجمع الدواوين من أشعار الجاهليين والإسلاميين إلى أيامه، نقدها، تأملها، شرحها، فسر غريبها، وقد استقصى ابن النديم ذكر الشعراء الذين حمل الرواة دواوينهم، ثم أعقبهم السكري، فاختار من جملة هذه الروايات ما رآه جديرا بالاختيار، بلغ عدد هؤلاء الشعراء الذين حقق السكري دواوينهم ستة وخمسين شاعرا، وإذا علمنا أنه وقف على ثلاث من الروايات، وهو يصنع ديوان هزيل لعلمنا مدى دقته في التحقيق والتثبت.
الرواية الأولى: هي الرواية التي رويت عن الرياشي شيخه، وهي مروية عن الأصمعي عن عمارة بن أبي طرفة الهزلي. الرواية الثانية: عن أستاذه أبي جعفر محمد بن حبيب وهي مروية عن ابن الأعرابي وأبو عمرو الشيباني. الرواية الثالثة: عن محمد بن الحسن عن عبد الله بن إبراهيم الجمحي. وازن السكري بين هذه الروايات وحقق ومحص، ثم في النهاية اختار ما اعتقد أنه صواب، وهذا هو عمل المحقق يجمع النسخ، وكان للسكري منهج واضح في الجمع بين الروايات، فالقصائد المجمع على صحة نسبتها ونصها، كان يوردها
دون نص على هذا الإجماع، أما الروايات التي وقع فيها خلاف في روايتها، فإنه كان ينص على أوجه الخلاف، ليس في رواية الديوان أو في رواية القصيدة، وإنما كان ينبه إلى أوجه الخلاف في رواية الأبيات المفردة ذاتها.
لم يكن السكري وحده وإنما كان العلماء جميعا هذا ديدنهم، وذاك منهجهم توثيق الدواوين، تحقيقها، وبالإضافة إلى ذلك كانوا ينصون على ما زاد في بعض الروايات، وينصون على أوثقها يقولون: وزاد فلان في روايته كذا على رواية الأصمعي أو على رواية الشيباني، ثم يقولون: هذه أوثق الروايات، وهذه تأتي في الدرجة الثانية بعد الثقة، فمثلا هذا ابن النديم صاحب كتاب (الفهرست) يذكر (المفضليات) ثم يقول:"هي مائة وثمان وعشرون قصيدة، وقد تزيد وتنقص، وتتقدم القصائد وتتأخر بحسب الرواية عن المفضل، والصحيحة -يعني الرواية الصحيحة- التي رواها عنه ابن الأعرابي". هذا الحكم لم يصدر عن ابن النديم عشوائيا، ولكن صدر عن تمحيص أو على الأقل عن تتبع لآراء المحققين في تلك الروايات، وأي الرواية أصح وأيها فيه شك أو ما يشبه ذلك، فابن النديم يرى أن رواية ابن الأعرابي أعلى الروايات وأوثقها، وهي الرواية التي بنى عليها ابن الأنباري شرحه لـ (المفضليات).
ومما تجدر الإشارة إليه أن الرواد الأوائل من الرواة والعلماء لم يلتزموا الإسناد فيما رووه إلا نادرا، ولكن بعد أن اتسع القول في علم الحديث ووضعت أصوله وحددت مصطلحاته، بدأ رواة الأدب يحرصون على رواية ما اتصل من الأسانيد عند ذكر الأخبار والأشعار والسير. وقد اتضح هذا السلوك في مؤلفات القرن الثالث الهجري والقرون التي بعده، ونراه ماثلا في كتابي (الأغاني) للأصفهاني، و (مجالس ثعلب) بل بلغ الأمر
ببعضهم أن وضع شروطا لرواية الأدب هي بعينها شروط رواية الحديث الشريف، فيقول الصاحبي مثلا:"تؤخذ اللغة سماعا من الرواة الثقات، ويتقى -يعني يتجنب- المظنون"، وقد صرح ابن الأنباري بقياس رواية الأدب على رواية الحديث حين قال:"يشترط أن يكون ناقل اللغة عدلا رجلا كان أو امرأة، حرا كان أو عبدا، كما يشترط في ناقل الحديث؛ لأن به معرفة تفسيره وتأويله، فاشترط في نقله ما اشترط في نقله"، يعني اشترط في نقل اللغة أو الأدب ما يشترط في نقل الحديث، بل إن بعض الفقهاء قد عرض لرواة اللغة والأدب، فاشترط فيهم العدالة، ومن هؤلاء الفقهاء العز بن عبد السلام في القرن السابع الهجري.
كما اشترط العلماء في راوي الأدب واللغة أن يكون الأثر معروفا ناقله وقائله، وردّوا من الآثار واللغات ما كان مجهول القائل أو الناقل، ورفضوا الاحتجاج به، وهذا الشرط في الحقيقة مكمل لشرط العدالة؛ لأن الجهل بالناقل أو القائل يوجب الجهل بالعدالة هذا منطقي. هذا بالنسبة للجهود العربية في القديم، فهل كان لعلماء أوربا في ذلك الوقت دور في هذا المجال؟ لا، لم يهتد علماء أوربا لهذا الفن إلا في القرن الخامس عشر الميلادي، حين اهتموا بإحياء الآداب اليونانية واللاتينية، وكانوا إذا وجدوا كتابا من كتب القدماء قاموا بطبعه، ولا يبحثون عن النسخ الأخرى لهذا الكتاب، ولا يصححون إلا أخطاءه البسيطة.
فلما ارتقى علم الآداب عندهم عمدوا إلى جمع النسخ المتعددة لكتاب من الكتب القديمة وقابلوا بينها، وكانوا كلما تخالفت النسخ اختاروا إحدى الروايات المختلفة، ومع ذلك كانوا ينتقون المهم منها، ويستنتجوا الاصطلاحات الحدسية التي تخالف ما هو مروي في النسخ، ولم يكن لهم منهج معلوم، ولا قواعد متبعة كما رأينا عند العرب الأوائل، وظل الأمر على هذا الحال حتى أواسط
القرن التاسع عشر، حين وضعت الأصول العلمية لنقد النصوص ونشر الكتب القديمة، واستنبطوا هذه القواعد والأصول من الآداب اليونانية واللاتينية، ثم من آداب القرون الوسطى، هذا الكلام أشار إليه المستشرق "برجشتر" المستشرق الألماني الذي يعد أول من طبق هذه الأصول، ودعا إليها في محاضرته التي ألقاها على طلاب الدراسات العليا، في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة، سنة إحدى وثلاثين وتسعمائة وألف.
جهود المستشرقين في مجال تحقيق التراث العربي: لقد نجح علماء الغرب حقيقة في وضع مجموعة من الأصول والقواعد اللازمة لنقد النصوص وتحقيقها، حدث هذا خلال القرن التاسع عشر، وقد تأثر المستشرقون بهؤلاء العلماء، واعتمدوا على تلك الأصول والقواعد في نشرهم لأمهات الكتب العربية. المستشرقون عندما ولوا وجوههم نحو التراث العربي في لغته وأدبه، وبدؤوا يحققون هذه المخطوطات نقلوا مناهج علمائهم في أوربا وأفادوا منها.
أولا: من هؤلاء العلماء الذين كان لهم دور في تأصيل هذه الأصول: "وليم رايت" الإنجليزي الذي نشر كتاب (الكامل) للمبرد، والحقيقة نشره نشرة متقنة مزودة بفهارس دقيقة، وطبعه سنة أربع وستين وثمانمائة وألف. عالم آخر "جوستاف يان" الألماني ونشر (شرح المفصل) لابن يعيش سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة وألف، وكان هذا المستشرق ضليعا في النحو العربي. ومن هؤلاء أيضا:"بيفان" الهولندي، الذي نشر نقائض جرير والفرزدق نشرة علمية مزودة بالفهارس والتعليقات، نشرها في "ليدن" سنة ألف وتسعمائة وخمس.
ومن هؤلاء أيضا "تشارلز ليل" الإنجليزي الذي نشر (شرح المفضليات) لابن الأنباري، مع ترجمة بالإنجليزية في بيروت سنة ألف وتسعمائة وعشرين. ومنهم
أيضا "رودل فيجير" الألماني، ونشر ديوان الأعشى الكبير، والأعشيين الآخرين، في كتاب سماه (الصبح المنير في شعر أبي بصير) وقيل: إنه استخدم في نشر شعر هؤلاء أكثر من خمسمائة مصدر عربي مطبوع، وطبع كتابه في لندن سنة ثمان وعشرين وتسعمائة وألف، وكثير من المستشرقين غير هؤلاء تركوا بصمات في مجال التحقيق، وأفاد منهم العرب.
أما عن جهود العرب في هذا العصر فإنها ذات شقين؛ الشق الأول: ما قام به العلماء الأجلاء من تحقيق ونشر لكنوز من تراثنا، مقتفين آثار أجدادهم في عصورهم العلمية المزدهرة، وناظرين إلى الأصول والقواعد التي وضعها علماء الغرب في هذا المجال، يعني أخذوا من الطريقتين: الطريقة العربية القديمة والطريقة الغربية الحديثة، وأفادوا في هذا المجال. أما الشق الثاني من تلك الجهود: فيتمثل في مجموعة من المؤلفات والكتابات الحديثة، التي أصل فيها أصحابها لقضية التحقيق والتوثيق وعالجوها من شتى جوانبها، يعني هذا شق تأصيلي تنظيري، وضعوا الأصول والقوانين والمقاييس التي ينبغي للمحقق أن يلتزمها ويسير عليها.
أما بالنسبة للشق الأول -وهو الذي قام به العلماء في إخراج كثير من الكتب يعني: قاموا بالتحقيق الفعلي لمجموعة من الكتب- تطالعنا أسماء أعلام كان لهم باع طويل، وفضل لا ينسى في مجال تحقيق التراث ونشره، أذكر منهم: العلامة أحمد زكي باشا الذي حقق كتابي (أنساب الخيل)، و (الأصنام) لابن الكلبي، وهو يعد بحق شيخ المحققين في العصر الحديث. ومنهم أيضا الشيخ العلامة محمود محمد شاكر، وحقق مجموعة من كتب التراث منها على سبيل المثال (دلائل الإعجاز) لعبد القاهر، (طبقات فحول الشعراء) لابن سلام الجمحي، (الحماسة الصغرى)
تسمى كتاب (الوحشيات) لأبي تمام وغيرها كثير، وهو شيخ المحققين بعد أحمد زكي باشا. ومنهم أيضا الشيخ أحمد محمد شاكر، وله أكثر من تحقيق منها كتاب (الشعر والشعراء) لابن قتيبة، و (الأصمعيات) بالاشتراك مع عبد السلام هارون وله (المفضليات).
ومن هؤلاء الأعلام أيضا: الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، وتحقيقاته كثيرة جدا منها كتاب (أدب الكاتب) لابن قتيبة، وكتاب (العمدة) لابن رشيق، و (وفيات الأعيان) لابن خلكان، و (مروج الذهب) للمسعودي، و (مجمع الأمثال) للميداني وغير ذلك كثير. ومنهم أيضا محمد أبو الفضل إبراهيم حقق آمال المرتضي والشريف، والمسماة بـ (غرر الفوائد ودرر القلائد)، كتاب (تاريخ الأمم والملوك) للطبري، وحقق ديوان امرئ القيس. ومن هؤلاء المحققين أيضا علي محمد البيجاوي، ومن تحقيقاته: كتاب (زهر الآداب وثمر الألباب) للحصري القيرواني، وشرح (المفضليات) للتبريزي، وكتاب (الصناعتين) للعسكري بالاشتراك مع محمد أبي الفضل إبراهيم، وكتاب (مختارات شعراء العرب) لابن الشجري.
وغير ذلك أسماء لامعة في هذا المجال: منهم: على النجدي ناصف، مصطفى السقا، محمد زغلول سلام، محمد عبد المنعم خفاجي، إحسان عباس، نوري حمودي القيسي، عبد العزيز الميمني وغيرهم كثير. هذا بالإضافة إلى ما قام به، ويقوم به الباحثون في الأقسام العلمية داخل الجامعات، يحققون المخطوطات في مرحلتي الماجستير والدكتوراه ويوثقونها، وتنشر هذه الرسائل، وعندنا المكتبة الأدبية تحتوي على كم زاخر من مثل هذه الدراسات القيمة، والتي أشرف عليها أساتذة أجلاء تشهد بعبقريتهم وعبقرية هؤلاء الباحثين.
أما الشق الثاني من جهود العلماء في العصر الحديث في مجال التأصيل للتحقيق ونشر التراث، من هذه المؤلفات ما كتبه الدكتور محمد مندور في مقالين نشرهما في مجلة الثقافة المصرية، سنة أربع وأربعين وتسعمائة وألف، وتم نشر الم قالين بعد ذلك في كتابه الذي يسمى (في الميزان الجديد)، وهو كتاب قيم في الأدب والنقد عرض فيه الناقد العلامة الدكتور محمد مندور لكثير من آرائه التأصيلية، تكلم فيها عن التحقيق.
من هذه الكتابات كتاب (تحقيق النصوص ونشرها) للأستاذ عبد السلام هارون، وطبع سنة أربع وخمسين وتسعمائة وألف، وهو كتاب قيم متخصص في هذا المجال، ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن يغفل عنه أي محقق يخوض مجال التحقيق التراثي. من هذه الكتابات أيضا (قواعد تحقيق النصوص) للدكتور صلاح الدين المنجد، عبارة عن مقالة نشرها بالمجلد الأول من مجلة معهد المخطوطات العربية بالقاهرة، سنة خمس وخمسين وتسعمائة وألف. ومن هذه الكتابات أيضا (منهج تحقيق النصوص) للدكتور نوري حمودي القيسي بالاشتراك مع الدكتور سامي مكي العاني، طبع هذا الكتاب في بغداد سنة خمس وسبعين وتسعمائة وألف.
ومن هذه الكتابات أيضا كتاب (تحقيق التراث العربي منهجه وتطوره) للدكتور عبد المجيد دياب، وطبع في دار المعارف بالقاهرة سنة ثلاث وثمانين وتسعمائة وألف. ومن هذه الكتابات أيضا (مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي) للدكتور محمود محمد الطناحي، وطبع بالقاهرة سنة أربع وثمانين وتسعمائة وألف. أيضا (مناهج تحقيق التراث بين القدامى والمحْدثين) للدكتور رمضان عبد التواب، وغير ذلك كثير من الكتابات.