الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الرابع عشر
(خطوات البحث الأدبي (4))
صياغة البحث
الحمد لله، الذي خلق الإنسان وعلمه البيان والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه؛ وبعد:
فالخطوة الأخيرة من خطوات البحث الأدبي هي: صياغة البحث:
وصياغة البحث: هي المرحلة النهائية التي يسجل فيها الباحث جميع الخطوات التي قام بها أثناء بحثه، وهي الصورة التي يقدمها الباحث للقارئ، ولجنة المناقشة، ويعرض من خلالها فكره، وصياغة البحث تعني: تصنيف المادة العلمية المجموعة، ووضعها في مكانها داخل البحث والربط بينها، ومناقشتها للوصول إلى حقيقة علمية مؤيدة بالبراهين أو الحجج. وتعد صياغة البحث أهم ركيزة من ركائزه التي لا يتم إلا بها، وعليها يتوقف نجاح الباحث أو فشله، فقد يكون الموضوع جيدا، والخطة متقنة منظمة، ويحيط الباحث بمصادر البحث إحاطة تامة، ويجيد استنباط المادة العلمية منها، ثم يأتي عند صياغة البحث، ويضع الكلام في غير موضعه، أو لا يحسن الربط بين العبارات والفقر، ويشوه الأسلوب، فيفسد ما صنع، وتضطرب الفكرة، وينهار البحث في النهاية. ومثل الباحث الفطن مثل البناء الماهر، يتأمل المواد الأولية، فيختار منها أجودها، ويجيد توظيفها، ثم يعمد على المواد الأقل جودة فيحولها إلى مواد جيدة صالحة بفضل مهارته، وبراعة فنه. ومثل الباحث الغفل مثل البناء غير الماهر، عندما توضع أمامه المواد الخام الجيدة، فلا يحسن استخدامها، أو استغلالها، بل يحولها إلى بناء مشوه لا قيمة له، وليست فيه لمسة جمالية رغم جودة المادة الخام التي استخدمها.
وصياغة البحث -أيها الباحث- ليست مجرد حشد للمعلومات المجموعة من المصادر والمراجع في مكان ما، أو أماكن متفرقة من بحثك؛ لكي تسد بها فراغا، لكنها عملية فنية وفكرية معقدة؛ إذ من خلالها تبدو شخصية الباحث، ونتعرف على قدراته
الفنية، والعلمية، والفكرية، واللغوية، وندرك أيضا مدى تذوقه للنصوص وقدرته على تحليها، وتقويمها تقويما صحيحا. ومن ثم، ينبغي للباحث أن يجيد عرض المادة التي جمعها بطريقة منطقية منظمة؛ لأنه يعرض يناء متناسقا، يسود بين أجزاءه وفقراته المنطق، والروابط الذهنية المحكمة، ولا يعرضها عرضا عشوائيا؛ هذه الصياغة هي المرآة التي نراه من خلالها، نرى كل ما فيه داخليا وخارجيا من خلال هذه الصياغة. وعرض المادة العلمية، وتحليها ومناقشتها، وتنظيمها داخل البحث فن وعلم يحتاج إلى فطنة وخبرة وثقافة واسعة، وقد نصادف بحوثا لا يجيد أصحابها الربط بين أجزاءها، ولا يحسنون عرض ما جمعوه من معلومات، ولا توظيفه توظيفا جيدا، فتختفي شخصيتهم، وتضطرب أفكارهم، وتفقد نتائجهم المصداقية، وأولئك ينبغي ألا يكلفوا أنفسهم مؤنة البحث وعناءه؛ لأنهم لا يملكون وسائله الأولى من الترتيب، والتنسيق.
وهناك أمور ينبغي أن تتوفر في صياغة البحث، وللباحث أن يراعيها جيدا، ولا يغفل عنها بأي حال من الأحوال، من هذه الأمور: دقة التفسير، ودقة التفسير في الحقيقة ترجع إلى ملكة في الباحث، وقدرة على تبينه العلل الكلية للظواهر الأدبية، يبدأ الباحث بدراسة العلل والأسباب، علل وأسباب فرعية، ثم ينتهي منها إلى علل وأسباب عامة. فقد يقف الباحث أمام ظاهرة غامضة اختلف فيها الباحثون، أو ظاهرة يكون هناك إجماع من النقاد عليها' ويحوط هذا الإجماع شيء من الغموض والاضطراب، وتحتاج هذه الظاهرة إلى كشف ما فيها من غموض، وإزالة ما لحقها من اضطراب، وفي مثل هذه الحالة ينبغي أن يكون الباحث فطنا قادرا على التعليل الصحيح، والتفسير الدقيق للظاهرة. ومن خلال التفسير الدقيق يمكن أن يصل إلى نتيجة، فلابد أن يكون قادرا على التعليل
الصحيح، وهو يتعامل مع هذه القضايا الغامضة، أو التي كثرت فيها الآراء، واختلفت حولها وجهات النظر.
والباحث الجيد يلتقط مثل هذه القضايا، ويخوض غمارها، ويلم بأطرافها، ثم يخرج في النهاية منها بتصور جيد ربما خالف الرأي المشهور فيها، ولا ضير في ذلك على الإطلاق طالما أن أحكامه تدور على الحجة القوية، والدليل الواضح. ولنضرب لذلك مثلا: الاضطراب الذي لحق الشعر في عصر بني أمية حيث مضى الباحثون من المستشرقين والعرب يقررون أن الشعر في عصر بني أمية لم يصبه التطور والتجديد، ولم يخرج هذا الشعر عن التقاليد المورثة من العصر الجاهلي -اللهم ما ظهر من شعر سياسي أو غزل عذري- وصار هذا الرأي كالحكم القاطع على الشعر في ذلك العصر، ومثل هذا الموقف يحتاج إلى باحث فطن يستخدم التفسير الدقيق، ويتعمق في ذلك الشعر، يرفع الحجب عنه.
وقد حدث هذا بالفعل عندما قام الدكتور شوقي ضيف بهذا العمل، وكتب بحثًا قيمًا بعنوان:"التطوير والتجديد في الشعر الأموي"، وبدأ يتعمق في هذا الشعر، ويفسره بدقة، ومن خلال التفسير الدقيق هذا أبطل هذا الرأي السائد، وقرر أن صور التجديد والتطور بادية في الشعر الأموي، وأنها تحولت به إلى ما يشبه العالم الفني المستقل، لا يتحضر فيه العرب فحسب، بل ينغمسون في الترف، وأن الشعر الأموي مرآة صافية ترتسم عليها حياة العرب الجديدة بكل قسماتها وملامحها، بل بكل ما صادفها من تطور. ورأى أيضا أنه لا يوجد عنصر من عناصر التطور إلا وسجله الشعراء في شعرهم، سواء من حيث السمو الروحي، أو من حيث السمو العقلي، أو من حيث نظام الدولة والمعيشة. وأتى المؤلف بألوان من صور التطور والتجديد التي تفصح عن نفسها، ممثلة في شعر عمر بن
أبي ربيعة، والوليد بن يزيد، والكميت الزيدي، وركبة العجاج، وجرير، والفرزدق، والأخطل، وغيرهم من الشعراء في ذلك العصر. وأثبت الباحث من خلال التفسير الدقيق أن هؤلاء الشعراء جميعا أحدثوا تغيرات وتتطورات واسعة النطاق في الشعر الأموي، كما ظهرت ألوان جديدة من الفنون الشعرية، كفن الشكوى من السجون مثلا، والحنين إلى حياة الصحراء. وهكذا استطاع هذا الباحث الجاد أن يسعى وراء قضيته، ويفسر الظواهر بدقة؛ حتى تمكن في النهاية من الوصول إلى حقيقة تخالف رأيًا سائدًا أجمع عليه النقاد من العرب والمستشرقين سنوات طوال. هذا نموذج، ينبغي أن يحتذى، ولا أعني بكلمة تفسير التي أشرت إليها الآن شرح النصوص أو تحليلها؛ فهذا عمل مدرسي يتسم بالسطحية، وإنما أعني التفسير بمعناه الواسع الشامل الذي يستخدم في شتى ميادين الأدب والنقد، التفسير الذي يستخدم في دراسة العصور الأدبية دراسة تتسم بالعمق الذي من شأنه أن يلجأ إلى التفسير الدقيق للحركات، والظواهر الأدبية في عصر ما من العصور.
وخير شاهد على ذلك: العصور المتأخرة، وبخاصة عصري الأيوبيين والمماليك، فقد قيل مرارًا: إن الشعراء نضبت قرائحهم، وجفت ينابيع الشعر لديهم في هذين العصرين، وأنهم عاشوا على اجترار الماضي ومحاكاته محاكاة تقصر عن الأصول قصورا شديدا، كل ذلك فيه ظلم لشعراء هذين العصرين، وهو ظلم جره التفسير الخاطئ لمحافظة الشعراء حينئذ، فقد ظن الباحثون أن هذه المحافظة أثر من آثار الجمود وخمول الفكر، والحق، أنه لم يكن هناك خمود ولا ركود، ولا تعطل ذهني على الإطلاق، إنما كان هناك لون من المحافظة القوية بدافع الاحتفاظ بالشخصية العربية أمام أعدائها من الصليبيين والتتار؛ خشية أن تضعف أو يصيبها وهن فيؤثر على قواها العاتية.
وكما نحتاج إلى التفسير الدقيق لبحث الظواهر الأدبية في العصور المختلفة -كما أشرت-، نحتاج إليه أيضا في التعرف على حقيقة المذاهب الفنية، كمذهب التصنع، أو التكلف الشديد الذي ساد في القرن الرابع الهجري مثلًا بين الشعراء، فإن التفسير الدقيق لهذا المذهب يكشف عن جانب مهم من جوانبه، وهو أنه جاء صدى لتصنع مماثل في الحياة، فالحياة العربية آنذاك، والحضارة الإسلامية وصارت لغة التصنع هذه في الحياة الأدبية انتقلت من الحضارة، ومن المجال الحياتي عند العرب، انتقلت إلى فنهم الأدبي، فرأينا كتابات بديع الزمان الهمذاني المثقلة بالتكلف والتصنع، كما رأينا صورة من هذا عند أبي العلاء المعري في لزومياته، كل هذا يكشف عنه التفسير الدقيق. كما نحتاج إلى دقة التفسير أيضا في البحوث التي تدور حول الشعراء أنفسهم، وخاصة حين يصدرون في شعرهم عن عقائد مختلفة، أو فلسفة معينة، فلابد أن ندرك هذه العقائد، وتلك الأفكار الفلسفية إدراكًا جيدًا، من خلال التفسير الصحيح؛ حتى نستطيع الوصول إلى نتيجة صحيحة وصادقة، ولنضرب بذلك مثلا: ابن هانئ عندما يقول في مدح المعز لدين الله الفاطمي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
وكذا من ضمن هذه النماذج، ما أشيع حول أبي العلاء المعري من أنه لم يكن يؤمن بشيء بعد الله سبحانه وتعالى إلا بالعقل وحده. فما رآه العقل حقا فهو حق، وما رآه باطلًا فهو باطل، هذه الحقيقة كررها النقاد عند أبي العلاء.
والباحث لا يعرف الوجه الصحيح لما ورد في بيت ابن هانئ أو فكر المعري إلا من خلال التفسير الدقيق، التفسير الدقيق يكشف عن أن الشاعر ابن هانئ كان يعتنق العقيدة الإسماعيلية، وأن هذه العقيدة كانت تؤمن بانتقال قدرة الله سبحانه وتعالى إلى
الإمام الناطق، وعنه تصدر جميع المخلوقات؛ وأن الشاعر أبا العلاء المعري كان متأثرًا بالفكر الاعتزالي، ومعلوم أن المعتزلة يقدسون العقل ويكبرونه إكبارا، وإذا تركنا الأدب القديم، وتأملنا الأدب الحديث لوجدنا عند شعرائنا كثيرًا من الجوانب التي تحتاج في التعامل معها إلى دقة التفسير، وفهمها فهمًا صحيحًا.
ولنضرب لذلك مثلا بشاعرين كبيرين هما: محمود سامي البارودي، والشاعر أحمد شوقي أمير الشعراء، فقد اتهم البارودي أنه كان لا يصدر عن نفسه في شعره، وإنما كان يصدر عن محفوظه من الشعر القديم. ومن ثم، قيل: أنه شاعر مقلد للشعر القديم وليس مبدعا، هذا الحكم حكم شائع، واقرأ إن شئت كثيرا من الكتابات التي كتبت عنه، ويسمونه: شاعر الإحياء، يعني: شعره لا يعبر عنه نفسه، ولا ثقافته، ولا عن فكره، وإنما هي مجرد أبيات حفظها من الشعر القديم، وينسج على منوالها. ولكن الدقة في التفسير عندما نأتي إلى هذه القضية، ونتعامل معها من خلال التفسير لهذه الظاهرة في شعر البارودي يتضح لنا أنه كان صاحب أذن مرهفة، وعين شاعرة، وأنه لجأ إلى ذلك لغاية سامية في نفسه يود تحقيقها، وقد نجح فعلا في تحقيق هذه الغاية حين أعاد الحياة إلى الشعر العربي من جديد. ومن ثم، عد أبا للشعر العربي الحديث ومدارسه. كما يكشف التفسير الدقيق أيضا أن شعر البارودي يصور نفسه بأحاسيسها ومشاعرها خير تصوير، وأن كل لفظة نطق بها أو صورة التقطها خياله إنما هي صورة لحسه وشعوره، وليس كما قال هؤلاء المدعون، المتهمون. هذه هي قضية البارودي.
أما الشاعر الثاني هو أحمد شوقي: وقد شنت عليه حملة شعواء في ذلك العصر، مفادها: أنه لا يعبر عن نفسه في شعره، ولا يصور ذاته بأهوائها وخواطرها،
وسرت روح هذه الحملة بين الباحثين حتى صارت كأنها حقيقة، ولكن لو اعتمدنا على مبدأ التفسير الدقيق في بحثنا لشوقي، والبيئة التي عاش فيها؛ لتكشفت لنا مجموعة من الحقائق. ومن بعض هذه الحقائق التي تتكشف لنا: أن الشعراء ينقسمون إلى قسمين: شعراء ذاتيين، وشعراء غيريين. فالشعراء الذاتيون يتغنون بمشاعرهم وعواطفهم الذاتية، أما الغيريون: فيتغنون بعواطف أمتهم، ومشاعر قومهم، وجماهيرهم الجماعية، كما يتضح أيضا من خلال التفسير للشاعر، وبيئته، والظروف التي عاش فيها أن الشاعر لا يقاس بذاتيته، أو غيريته، وإنما يقاس بمدى براعته في فنه، وشوقي كان بارعا في فنه أيما براعة، وقد عد أكبر شاعر في عصره، وليس معنى أنه شاعر غيري أن ذاته لم تتضح في شعره، هذا غير صحيح، فكم له من شعر عبر فيه عن عواطفه ومشاعره بجانب مشاعر قومه الفياضة. هكذا، نجد أنفسنا أمام كثير من الظواهر الأدبية لا تنجلي ولا تتضح إلا من خلال التفسير الدقيق للظاهرة الذي يعد من أهم الأسس التي يلتزم الباحث بها عند صياغة بحثه، فكن دقيقًا في تفسيرك للمعلومات التي جمعتها.
ومن الأمور المهمة التي يجب تحققها في الباحثين ومراعاتها عند صياغة البحث: قدرة الباحث على التذوق والتحليل، وأعني بالتذوق: تذوق النص الأدبي، وأعني بالتحليل: التحليل الفني، لا مجرد الشرح، أو بيان المعنى، أو التفسير السطحي. لم أقصد هذا. التذوق ملكة تنمو بالمران والممارسة، وقد أشرنا قبل ذلك إلى أن البحث الأدبي بناء تام متكامل، وإذا صح هذا فالتذوق هو أس هذا البناء، أي: أساسه الذي يقوم عليه، وأن التحليل الفني هو البناء نفسه، وعندما أقول: التذوق هو التحليل لا أعني التذوق المجرد الذي يقف عند حد
الإحساس بما في النص من متعة جمالية وفنية، لا أقصد هذا ولا أقصد التحليل السطحي الذي يقف عند حد المعنى الظاهر كما أشرت، وإنما أقصد التذوق الذي يدفع الباحث إلى الجري وراء العلل، والكشف عنها. أقصد: التحليل الذي يجعله يغوص في أعماق النص، ويكشف عن عناصر الجمال فيه، ويوضح تأثيرها في نفس المتلقي، يتخطى جانب الذات عنده، وجانب المتعة إلى الكشف عن العلل والأسباب، بل يتخطى ذلك كله إلى أثر ذلك في نفس المتلقي.
فالتذوق لا يقصد لذاته، ولا لمجرد الكشف عن أحاسيس الباحث إزاء الأعمال الأدبية فحسب، فإذا وقف باحث أمام فن المتنبي الشعري مثلا، وتذوقه تذوقا صحيحا، ثم انتقل من التذوق إلى البحث عن مصادر الجمال فيه، فإنه سوف يقف على روعة لا مثيل له، روعة تجسيده لمعاني العروبة وأحاسيسها، ومعاني الفتوة والبطولة، وتصويره الرائع لاعتداده بنفسه، وغير ذلك من خصائص فنية تبدو من خلال هذا التذوق، وذلك التحليل.
ولا شك في أن ذلك كله سوف ينعكس على نفس القارئ نتيجة لما يقوم به الباحث من تسجيل آثار انعكاساته على نفسه، وكما يحلل الباحث فن شاعر ويتذوقها، ينبغي أن يحلل شخصية الشاعر، ويكشف عن أثر العناصر الداخلية والخارجية فيها، أي: في هذه الشخصية. بمعنى: أنها يحلل المؤثرات ذاتها التي كونت شخصيته، فالشاعر ثمرة ظروف كثيرة متشابكة، والباحث يكشف من خلال تحليله لشخصيته عن طبيعة تلك الظروف وأبعادها النفسية والشخصية، كما يحلل الباحث المؤثرات التي تعاونت على تكوين غرض معين. تأمل استخدامات التحليل، أو مجالات استخدام التحليل، ليس في تحليل النص فقط، وإنما يحلل المؤثرات التي تعاونت على تكوين غرض معين، أو التي طبعت فن
شاعر ما بطابع خاص. فإذا وقلنا مثلا أمام غزل عمر بن ربيعة، ومخالفته للشعراء في ذلك، حين تحول في غزله من عاشق إلى معشوق، وأردنا أن نكشف عن سر ذلك التحول من خلال التحليل، فإن تحليلنا للمؤثرات التي أثرت في حياته يمكن أن يضيء لنا الطريق، ويكشف عن جانب كبير من هذا السر، وندرك أن حياته في كنف أمه، وتدليلها له، وتعلقها به تعلقًا زائدًا قد انعكس على شخصيته، وشكل فنه تشكيلا مخالفًا لما عليه الشعراء.
وعلى نحو ما تحلل أغراض الشعراء وشخصياتهم تحلل اتجاهاتهم الفنية، هذا أيضا مسلك من مسالك التحليل، ويوضح التحليل مسالك تلك الاتجاهات، ومنابعها خاصة في العصر الحديث بعدما قوي اختلاط العرب بالغرب، وأصبح التأثير والتأثر حتميًّا، وظهرت بعض الاتجاهات الفنية المستوردة، كالنزعة التشاؤمية، والامتزاج بالطبيعة، والاتجاه الرومانسي عامة. ومن المهم أن يلاحظ الباحث الأمور التي أملت بالأديب، أو رافقته في حياته، فإن ذلك سيفيده في تحليل بعض الاتجاهات الفنية عنده، والمظاهر الفنية في الأدب تقوم مقام النظريات في العلوم، فكما أن النظريات في العلوم ترد طائفة كبيرة من الظواهر إلى مبدأ كلي يفسرها جميعًا بحيث لا تخرج عنه ظاهرة من الظواهر، كذلك المذهب الأدبي يجمع طائفة من الظواهر الفنية، والخصائص، ويتوصل إليها من خلال استقراء النصوص، وتذوقها، وتحليلها تحليلًا دقيقًا، وتصير تلك الخصائص مقياسًا فنيًّا للباحث.
ومن الأمور التي ينبغي مراعاتها عند صياغة البحث أيضا: الدقة في عرض المعلومات بحيث يبدو الكلام مترابطا ترابطا منطقيا في كل فقرة من فقراته، بل في العنوانين ذاتها فيما بينها وبين بعضها البعض من ناحية، وبينها وبين ما تحتها من
معلومات من ناحية أخرى، ويتطلب هذا استيعاب المادة العلمية استيعابا دقيقا من قبل الباحث بحيث تتحول في نفسه من مجرد معارف متجاورة إلى عمل موحد له كيانه، وهذا يعني: أن البحوث لا تقوم على جمع المعارف والمعلومات فحسب، وإنما تقوم على الاستيعاب والتمثل؛ إذ لابد للباحث أن يعايش موضوعه، ويخالط المادة العلمية التي جمعها ويتمثلها تمثلا يحيلها إلى عمل متكامل، فالباحث لا يعرض معلومات، وإنما يعرض بناء متماسكا يسود بين أجزائه وفقراته المنطق والروابط الذهنية المحكمة، فلا نشاذ، ولا تكرار، ولا اضطراب، وبمقدار ما يحتاج البحث إلى تمثل قوي من الباحث فإنه يحتاج إلى شيء من الدقة حين عرض المعلومات والأفكار، ومراعاة حال المتلقي، وطبيعة البحث.
كما يجب أن تتوفر في الباحث صحة الأداء بحيث يجيد استخدام الألفاظ، ويعرف موقعها، ودلالتها، ويقف على المصطلحات الأدبية والنقدية، ويدرك أبعاد هذه المصطلحات، فلا يردد ألفاظا أو مصطلحات لا يدرك معناها جيدًا، كما نرى في كثير من البحوث التي تكتب.
كما يجب أن يتحرى الدقة في استخدام كلمات الأحكام الأدبية، فلا يوردها بصيغ التعميم إلا إذا تأكد من اندراج جميع الجزئيات في الحكم الأدبي، يعني: لا يصدر حكمًا عامًا إلا إذا كانت هذه الجزئيات تندرج تحت هذا الحكم، ولابد أن يفسح لصيغ الاحتمالات مجالا، ويبتعد عن كل حشو، ويتجنب كل تكلف في الأسلوب، فلا يستخدم السجع إلى ما قد يأتي عفوا، ولا يستخدم الصور البيانية إلا إذا التحمت بالكلام التحاما وجاءت في الحين البعيد بعد الحين، والأولى أن يتحاشاها؛ حتى لا تجره إلى أخلية معقدة، وحتى لا يؤدي به ذلك أحيانا إلى استخدام صور محفوظة تضر بأسلوبه، وسياقه، وتخرجه عن مجال الفكرة التي يتحدث عنها.
ولابد أن يتمرن طويلا؛ حتى يستقيم له أسلوب واضح فصيح، يخلو من الألفاظ الغريبة أو العامية المبتذلة، أسلوب وسط لا يعلو على أفهام المثقفين، ولا يهبط إلى لغة العوام، أسلوب فيه تناسق، فيه استواء. نجد ذلك عند كثير من النقاد، والأدباء المشهورين بجودة دراساتهم الأدبية الذي يملكون القدرة والبراعة، وربما كانت أفكارهم ضحلة، أو سطحية. ومع ذلك، يقبل عليهم القراء؛ لما يجدون عندهم من التناسق في العبارات، والصفاء، وحسن الأداء. نتعلم جميعًا من مثل تلك الأساليب، ونتمرن، ونتمرس.
وينبغي أيضا أن تظهر شخصية الباحث العلمية خلال تصنيف المادة العلمية، وصياغتها، وتركيبها، ومناقشتها، ولابد أن يتسم بالحيدة، ويتحلى بالنزاهة، ويتصف بالموضوعية والإنصاف، وأن يتأدب في مناقشة الآراء، فلا يغلو في التسفيه، أو يشتط في الحملة، ويتجنب الحديث عن نفسه بألفاظ التفخيم، والتعظيم. كل هذا ينبغي أن يبتعد عنه الباحث، ولا يقع فيه بحال من الأحوال.
ومما يتعلق بالصياغة أيضا وينبغي مراعاته جيدا: العبارة أو الأسلوب: فالبحث -كما أشرت آنفا- بنية واحدة متكاملة، كل عبارة فيه تمثل لبنة أساسية في تلك البنية، يضطرب البحث باضطرابها، ويستجاد بدقتها، وصحة تركيبها. ومن ثم، لابد للباحث من الدقة في التعبير عند الصياغة البحثية بحيث تأتي العبارة على قدر المعنى، دون زيادة أو نقصان، وأن تكون منسجمة في مكانها، فلا يضع عبارة مكان أخرى؛ لأن هذا يفقد البحث أهميته، ويجعله كالخيط المعقد النشاز.
وينبغي للباحث أن يختار الجمل القصيرة البسيطة التركيب غير المعقدة، وأن يتجنب المبالغات الممقوتة، وأسلوب السخرية والتهكم، وكل ما يثير الخلاف، ويدعو إلى الجدل، ويخلو أسلوبه بكل ما يخل بالبلاغة والأساليب الأدبية. ومن ثم، لابد للباحث من ثقافة واسعة، ودراية كاملة بعلوم اللغة العربية،
والأخبار، والسير وغير ذلك من العلوم. ومما يتصل بالصياغة أيضا: تأمل الفقرات: والفقرة: مجموعة من الجمل تدور حول فكرة واحدة واضحة، وينبغي أن تكون متوسطة الطول متلاحمة مع نفسها ومع بعضها البعض، ومن الأمور التي يجدر الإشارة إليها في سياق الحديث عن صياغة البحث الحاشية، وأقصد بالحاشية: الجزء أسفل الصفحة، ويستخدم لأغراض كثيرة، كأن تشير مثلا إلى مرجع أو مصدر أخذت منه معلومة، أو مادة علمية، أو أن تحيل الباحث مثلا إلى صفحة من صفحات بحثك؛ حتى لا يقع تكرار داخل البحث، أو تفسير بعض المفردات التي تحتاج إلى تفسير، وتوضح بعض الأشياء التي وردت مجملة في صلب بحثك، أو تصحح ما تراه من أخطاء في نصوص نقلتها، أو جمعتها من هنا أو من هناك، أو تترجم للأعلام، وتعرف بالأماكن والبلدان. كل هذا يكون في الحاشية، وينبغي أن يهتم بها الباحث اهتمامًا لا يقل عن اهتمامه بالصياغة ذاتها، من حيث التنظيم، وحسن الإخراج، ومراجعة ما سجل فيها. فبعض الباحثين يهملها؛ فتصير وصمة عار في بحثه، وتبدو فيها الأخطاء جمة، أرجو أن يتخلص الباحثون من الوقوع في هذا الخطأ.
ومما يتصل بالصياغة أيضا: قائمة المصادر والمراجع في نهاية البحث: يجمع الباحث المصادر والمراجع التي استمد منها مادته العلمية يجمعها من ثبت المصادر والمراجع في الحاشية، ثم يسجلها في نهاية البحث، يعني: يراجع الحاشية من أول صفحة حتى نهاية الصفحة الأخيرة من البحث، يجمع كل مرجع ذكره، ويسجلها في نهاية البحث تحت عنوان فهرس المصادر والمراجع، أو قائمة المصادر والمراجع، يذكر فيها اسم المرجع، وكل ما يتعلق به من معلومات، كاسم المؤلف، ورقم الجزء، وسنة الطبع، ومكان الطبع، واسم المحقق، أو الشارح، إلى آخر هذه المعلومات التي أشرنا إليها سابقًا.
والباحث مخير بين طريقين، يختار أحدهما لتسجيل هذه المصادر والمراجع في نهاية بحثه، الطريق الأول: يبدأ باسم المؤلف، ويضع إزاءه اسم الكتاب، وكل المعلومات التي تتعلق بها والمشار إليها سابقًا، فيقول مثلًا: ابن قتيبة (الشعر والشعراء) تحقيق أحمد شاكر الجزء الأول دار المعارف بمصر سنة ست وستين وتسع مائة وألف، أو مرجع آخر عند تسجيله: عبد الرحمن بدوي (مناهج البحث العلمي)، وكانت المطبوعات بدولة الكويت سنة سبع وسبعين وتسع مائة وألف، وهكذا بقية المراجع، تبدأ باسم المؤلف، ثم اسم المرجع، ثم يتلو ذلك المعلومات التي تتعلق بالمرجع كسنة الطبع والمحقق، أو الشارح وهكذا. وإن وجد للمؤلف أكثر من كتاب تذكر هذه المؤلفات مرتبة ترتيبا هجائيا، وكذا ترتب أسماء المؤلفين ترتيبا هجائيا، أو أبجديا، هذه طريقة.
الطريقة الثانية: أن اسم المصدر أو المرجع مرتبًا ترتيبًا هجائيًّا أو أبجديًّا، ثم يشفعه بذكر اسم المؤلف، ثم بقية المعلومات عن هذا المصدر، فيقول مثلا:(الكامل في اللغة والأدب) المبرد، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الجزء الأول، طبع نهضة مصر، عام ست وخمسين وتسع مائة وألف، وهكذا بقية المصادر. وللباحث الحرية في اختيار أي الطريقين شاء، ولكن مع ملاحظة أنه ينبغي أن تكون صياغة المصادر والمراجع في نهاية البحث متفقة مع ما ورد في عرضها بحاشية البحث، فإن كنت في الحاشية تبدأ باسم المؤلف، ثم المرجع عند تسجيل المراجع فعليك أن تلتزم بهذا النهج عند ثبت المراجع في نهاية البحث. وإن كنت تبدأ بذكر اسم المرجع أولا، ثم المؤلف فالتزم بهذا عند إعداد قائمة المراجع والمصادر، مع ملاحظة إذا كان للكتاب أكثر من طبعة لابد من الإشارة إليها.