المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌استقراء المصادر والمراجع - أصول البحث الأدبي ومصادره - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 مقدمة في أصول البحث الأدبي ومصادره

- ‌كلمة "بحث": معناها، ودلالتها

- ‌العرب والثروة الأدبية

- ‌الطرق التي ساعدت العرب على حفظ تراثهم

- ‌الدرس: 2 العرب والبحث العلمي - مناهج التأليف عند العرب (1)

- ‌هل كان العرب مجرد مبدعين أم أنهم عرفوا طريق البحث العلمي

- ‌أدوات البحث العلمي عند العرب

- ‌اتجاهات التأليف عند العرب "اتجاه الاختيارات الأدبية المجرد

- ‌الدرس: 3 مناهج التأليف عند العرب (2)

- ‌بعض المصادر التي تمثل اتجاه الاختيارات المجردة

- ‌الاتجاه الثاني "اتجاه أصحاب الطبقات والتراجم

- ‌الدرس: 4 مناهج التأليف عند العرب (3)

- ‌كتاب (الشعر والشعراء) كنموذج على اتجاه الطبقات والتراجم

- ‌الاتجاه الثالث: "اتجاه الدراسة الأدبية والنقدية

- ‌الدرس: 5 مناهج التأليف عند العرب (4)

- ‌الاتجاه الرابع "الموسوعات العلمية

- ‌الصور التي جاءت عليها الموسوعات، ونماذج لها

- ‌الدرس: 6 مناهج البحث الأدبي في العصر الحديث

- ‌حقيقة المنهج وأهميته في مجال البحث العلمي

- ‌نشأة المناهج العلمية وتطورها

- ‌الدرس: 7 المنهج التاريخي

- ‌المنهج التاريخي: مفهومه، ونشأته، ومقياس الجودة عند أصحابه

- ‌قيمة المنهج التاريخي في مجال البحث الأدبي

- ‌الدرس: 8 المنهج النفسي

- ‌صلة الأدب بالنفس

- ‌حقيقة المنهج النفسي، وعلاقة النفس بالأدب

- ‌نشأة المنهج النفسي، وتطوره في العصر الحديث

- ‌مقياس الجودة الفنية عند أصحاب المنهج النفسي، وقيمته

- ‌المآخذ على المنهج النفسي

- ‌الدرس: 9 نظرية الفلسفة الجمالية وعلاقتها بالدراسات الأدبية

- ‌نظرية الفلسفة الجمالية وقيمتها في مجال البحث الأدبي

- ‌رؤية العربي لفكرة الجمال الأدبي

- ‌الدرس: 10 المنهج المتكامل وقيمته في مجال البحث الأدبي الحديث

- ‌أهم المناهج البحثية: المنهج المتكامل

- ‌ملاحظات لمن يريد استخدام المنهج المتكامل، وبيان قيمته

- ‌الدرس: 11 خطوات البحث الأدبي (1)

- ‌مادة البحث الأدبي

- ‌خطوات البحث العلمي: اختيار موضوع البحث

- ‌الدرس: 12 خطوات البحث الأدبي (2)

- ‌رسم الخطة

- ‌تحديد المصادر والمراجع

- ‌الدرس: 13 خطوات البحث الأدبي (3)

- ‌استقراء المصادر والمراجع

- ‌كيفية استخدام القدماء والمحدثين للمصادر

- ‌الدرس: 14 خطوات البحث الأدبي (4)

- ‌صياغة البحث

- ‌مراعاة قواعد الكتابة العربية في صياغة البحث

- ‌الدرس: 15 مفهوم التحقيق والتوثيق وشروط المحقق

- ‌(مفهوم التحقيق والتوثيق

- ‌شروط المحقق

- ‌الدرس: 16 كيف نحقق نصا أو مخطوطا

- ‌جمع النُسخ، وترتيبها

- ‌تحقيق العنوان، واسم المؤلف، ونسبة الكتاب

- ‌الدرس: 17 تحقيق متن المخطوط

- ‌مقدمات الدخول إلى النص

- ‌الخطأ وكيفية علاجه

- ‌الدرس: 18 الخروم والسقط، والتصحيف والتحريف

- ‌(الخروم والسقط

- ‌التصحيف والتحريف

- ‌أسباب انتشار ظاهرة التصحيف والتحريف

- ‌الدرس: 19 تخريج النصوص وإخراج المخطوط

- ‌(تخريج النصوص

- ‌عملية إخراج المخطوط

- ‌الدرس: 20 صنع الفهارس

- ‌التعريف بالفهارس وأنواعها

- ‌كيفية صناعة الفهارس

- ‌فهرسة المخطوطات

الفصل: ‌استقراء المصادر والمراجع

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس الثالث عشر

(خطوات البحث الأدبي (3))

‌استقراء المصادر والمراجع

الحمد لله، الذي خلق الإنسان وعلمه البيان والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه؛ وبعد:

فلقد حدد الباحث مصادره ومراجعه التي سوف يستعين بها في إعداد بحثه، هذه خطوة لا بد أن نفصل بين هذه الخطوة وبين خطوة تحديد المصادر ومعرفة أماكنها، وتسجيل كل البيانات التي تتعلق بها هذه الخطوة مستقلة، أما استقراء المراجع والمصادر، واستنباط المادة العلمية منها هي حديثنا اليوم.

الباحث العلمي لا يبدأ من الصفر، وإنما يبدأ من حيث انتهى الآخرون، وطريق ذلك هو الاستقراء، والاستنباط، والإحاطة بالمعلومات الجزئية والكلية المطروحة في ثنايا المصادر والمراجع.

والقراءة والاستنباط أداتان مهمتان من أدوات البحث العلمي، وهما يحتاجان إلى استعداد خاص، ليس كل باحث يستطيع أن يقرأ ويستنبط؛ هذه مهارة يحتاج إلى خبرة ومران وتدريب. فالاستنباط يحتاج إلى فطنة وخبرة، والقراءة فن وعلم ومهارة لا بد من إجادتها، الباحث الذي لا يجيد القراءة، ولا يحسن الاستنباط يفقد أهم أدوات البحث العلمي، هذا أمر بدهي؛ لأن الغرض من قراءة المصادر والمراجع استخلاص النصوص، أو العلل، أو الآراء المستكنة بين سطور هذه المصادر، وليس استخلاصها فحسب، ولكن توظيف هذه النصوص في أماكنها داخل البحث بطريقة علمية جيدة، حسبما تقتضيه الفكرة أو الموضوع. فقد يقيس عليها مثلًا، أو يناقشها، أو يدعم بها أفكاره، أو يقارن بينها فكل الناس يقرءون، ولكن كلهم لا يصلح أن يكون باحثًا أدبيًا؛ لأنهم لا يملكون المهارة اللازمة للباحث بالنسبة للقراءة والاستنباط، فقراءة المصادر لاستنباط المادة العلمية منها ليست

ص: 237

بالأمر الهين، ولا تؤتي ثمارها، وتتم فائدتها إلا إذا تذرع الباحث بالصبر والأناة، واتصف بعمق الفهم، واتزان الفكر، ورجاحة الرأي، وقوة الملاحظة، هذه أمور ينبغي للباحث أن يراعيها، وهو يقرأ ويستنبط، ويتعامل مع المادة العلمية التي توجد في ثنايا مصادره ومراجعه.

كما ينبغي له أن يتخير أفضل الأوقات للقراءة، وأفضل الأوقات هي الأوقات التي يكون فيها خالي الذهن، غير مجهد؛ حتى يستطيع أن يحصل ويستوعب، ويتفاعل مع ما يقرأ، ولا ينشغل بشيء سواه. يبدأ الباحث في قراءة المصادر التي رصدها، وحددها، وعرف أماكنها - وكلما وقع على معلومة تتصل بموضوع بحثه دونها بالطريقة التي يختارها ويراها مناسبة.

وهناك طريقتان صالحتان لجمع المادة العلمية وتسجيلها، نعرضهما الآن، وليس عرضهما فرضًا، فللباحث أن يختار إحداهما، أو أن يختار طريقة أخرى غير هاتين الطريقتين طالما أنه رأى هذه الطريقة صالحة لتسجيل مادته العلمية، ومناسبة لموضوعه، ووقته، وظروفه، فلا بأس، ولا حرج عليه.

الطريقة الأولى: تسمى: طريقة البطاقات، والبطاقة عبارة عن ورقة سميكة متوسطة الحجم 10 سنتيمتر × 15 سنتيمتر، أو 12 سنتيمتر × 15 سنتيمتر تقريبًا، قد تزيد أو تنقص، وتسمى: بطاقة تدوين معلومات، وهي موجودة في المكتبات، يسجل الباحث ما يجمعه من معلومات على وجه واحد من هذه البطاقات، ويستحسن أن يضع عنوانًا لكل فقرة يسجلها، أو نص يختاره؛ حتى يسهل عليه الرجوع إليها، وتجميعها مرة أخرى عند صياغة بحثه، وترتيب المادة العلمية، يضع في أعلى البطاقة، وجد فقرة تحتوي على مضمون ما، يندرج هذا المضمون تحت باب، أو فصل، أو مبحث في خطته، يختار عنوانًا صالحًا لهذه

ص: 238

الفكرة، ويضعه في أعلى البطاقة عنوان بارز، وليكن بخط واضح ومختلف عن اللون الذي يكتب به مادته العلمية، وفي أسفل البطاقة يسجل اسم المصدر -الكتاب-، واسم المؤلف، ورقم الصفحة التي استنبط، أو نقل منها هذه الفقرة، ومكان الطبع، وسنة الطبع، كل هذه المعلومات لا بد أن يسجلها الباحث في أسفل البطاقة.

الطريقة الثانية: وتسمى: طريقة الدوسيه، والدوسيه: عبارة عن غلاف من الكرتون له كعب به حلقتان، يمكن التحكم فيهما من خلال فتحهما وإغلاقهما بسهولة، بإمكان وضع الأوراق المخزونة فيهما، فبإمكانك أن تغير أو تبدل من خلال هاتين الحلقتين، يقوم الباحث بتقسيم الدوسيه إلى أبواب أو فصول حسب الخطة التي رسمها لبحثه، يفصل بين كل باب وباب، أو فصل وفصل بورقة مقواة -ورقة سميكة-، ويكتب عليها عنوان الباب أو الفصل، ويجعل لها لسانًا بارزًا، يكتب على هذا اللسان نفس العنوان الذي يوجد في داخل هذه الورقة المقواة؛ حتى يسهل عليه الرجوع إليه عند الحاجة، يكون لسانًا بارزًا وعليه العنوان، فينظر في الألسنة فيجد جميع العناوين، عناوين الفصول أو الأبواب التي شكل بها خطته. كأن الدوسيه أصبح خطة فارغة من المعلومات، كل فصل يقسم مثلًا: فصل هذا عشر صفحات، الفصل هذا اثنتى عشرة صفحة، الباب هذا له خمسين صفحة فارغة.

فالدوسيه عبارة عن خطة مبحث مفرغة، داخل الدوسيه عناوين، عناوين أبواب، عناوين فصول، عناوين مباحث، يسجل الباحث المادة العلمية المستمدة من المصادر في مكانها من أوراق الدوسيه على وجه واحد، يكتب على وجه واحد من أوجه الصفحة مع الإشارة إلى اسم المصدر، واسم المؤلف، ورقم

ص: 239

الصفحة والطبعة وتاريخها. وإذا ازدحم الدوسيه بالأوراق لجأ الباحث إلى دوسيه آخر بعد إجراء تعديل على الدوسيه الأول، كأن يجعله خاص بفصل أو باب معين، ثم يكمل ما بقي من البحث في دوسيهات أخرى، أو يخصص الجزء الأخير منها للفهارس، وهكذا للباحث أن يتصرف كيفما شاء، يجعل دوسيهًا واحدًا، أو اثنين على حسب المادة العلمية التي يستنبطها من المصادر والمراجع. يقرأ الباحث في مصدر ما فيقع على معلومة تتصل مثلًا بالباب الثاني من البحث، والفصل الأول من هذا الباب، فيفتح الباحث الورقة المقواة التي تشير إلى هذا الباب أو ذلك الفصل، ويسجل المادة العلمية في مكانها، فإذا ما انتهى الباحث من قراءة المصادر والمراجع يكون قد ملأ الفراغات التي تشكل خطط البحث. هذه هي الطريقة الثانية.

بعض الباحثين يفضل الطريقة الأولى، وهي طريقة البطاقات؛ لأن البطاقة أيسر في الاستخدام عند التدوين من الدوسيه -هذا صحيح-، وكذا عند صياغة البحث؛ إذ بالإمكان أن نطرح أكبر عدد من البطاقات أمامنا، وننظر فيها في وقت واحد. عندي عشرين خمسين بطاقة مثلًا، كل بطاقة فيها مادة علمية على وجه واحد كما اتفقنا، وكل فقرة، أو كل مادة علمية معنونة، أو معنون لها بعنوان يدل عليها، أضع هذه البطاقات أمامي، بإمكاني أن أنظر في عشرين أو خمسين بطاقة في وقت واحد، وأجمعها بسهولة. فبعض الباحثين يفضل هذه الطريقة؛ لهذا السبب. وأنت نفسك إذا اعتدت نظام البطاقات، وطبقته جيدًا، فإنك لن تستغني عنه حتى بعد الانتهاء من إعداد بحثك، فكثير من الأساتذة الكبار في ذوي الخبرة في مجال البحث العلمي لا تفارقهم البطاقات، وإنما يحملونها معهم أينما حلو؛ يسجلون فيها ما يعثرون

ص: 240

عليه من معلومات، أو يجد لهم من أفكار. ومما يروى في هذا المقام -مقام البطاقات وتسجيل المادة العلمية فيها- ما قيل: إن المستشرق الألماني "فيشر" اعتزم تأليف معجم تاريخي لألفاظ اللغة العربية، وهذا عمل مضن بلا شك، يتطلب وقتًا وجهدًا، وبدأ الرجل بالفعل أول خطوة مستخدمًا نظام البطاقات، ثم قطع شوطًا غير قصير في هذا الطريق، لكنه توفي قبل أن يصل للنهاية، ويحقق غايته، وبقيت البطاقات حية بما فيها من معلومات؛ حتى ابتاعها مجمع اللغة العربية بالقاهرة بثمن مناسب، فليتك أيها الباحث تعود نفسك على ذلك، وتسلك مسالك العلماء.

والبعض الآخر من الباحثين يفضل طريقة الدوسيه؛ لأن الدوسيه يحفظ الأوراق بخلاف البطاقة، فإنه من السهل أن تفقد، كما أن الدوسيه يمكن بسهولة الرجوع إلى النص فيه من خلال اللسان البارز في الورقة المقواة التي تفصل بين الفصول والأبواب، كما أن الورقة في الدوسيه أكثر اتساعًا، فيمكن للباحث أن يسجل فيها أكثر من نص، أو يضيف عليها تعليقًا، أو فكرة طارئة، أو معلومة جديدة، يعني: أمامه متسع لأكثر من معلومة، لكن البطاقة محدودة المساحة، وتفضيل إحدى الطريقتين على الأخرى أمر مرده إلى الباحث نفسه، هذا بالنسبة لطرق تسجيل المعلومة.

أما اقتباس المعلومة من المصادر: فهو أنواع هناك اقتباس يسمى: الاقتباس الحرفي، وهو نقل النص دون تدخل من الناقل فيه، لا يبدل، ولا يغير، ويكون ذلك في حالة الاستشهاد بالنص، أو مناقشة النص، أو تحليله، أو التنبيه على الانفراد بالرأي فيه، أو ما أشبه ذلك من مواقف تستدعي عدم التبديل في النص المنقول، في حالة الاقتباس الحرفي يوضع الكلام المنقول

ص: 241

بين علامتي تنصيص، وينبغي ألا يكون الاقتباس الحرفي، ولا يلجأ إليه الباحث إلا عند الضرورة، فإن طال أو زاد عن حد المعقول فمن الممكن أن يستغني عن علامات التنصيص، ويكتب النص ببنط مختلف عن بقية الكلام، ويضيق ما بين السطور من مسافات، ويترك مسافة سنتيمتر واحد عند بداية الكلام ونهايته في كل سطر. والهدف من ذلك: تمييز هذا النص، فنفرض مثلًا: أن باحثًا سوف يقتبس عشرين سطرًا أو عشرة أسطر، هذا كم كبير النص طال، ماذا يفعل؟ يستغني عن علامة التنصيص في بداية ونهاية النص، ويكتب هذا الكلام بخط مختلف في الحجم، بنط مختلف في الحجم لونه أسود سميك، ثم يترك مكانة سنتيمتر يمين ويسار الهامش زائد عن بقية الكلام، فيتميز هذا الجزء؛ لأنه نص منقول ومختلف عن بقية الكلام، هذا بالنسبة للاقتباس الحرفي.

هناك اقتباس آخر يسمى: اقتباس التلخيص، وهو نقل مضمون الفكرة من المصدر بعد استيعابها واختصارها، وتلخيصها بأسلوب الباحث، ومن حق الباحث حينئذ تقديم بعض الألفاظ، أو تأخيرها، أو حذف وإضافة ما يراه صالحًا. وفي كل هذه الأحوال لا يوضع الكلام بين الأقواس، وإنما يشار في الهامش إلى المصدر الذي استفاد منه الباحث والمؤلف، ورقم الصفحة، والطبعة، ثم تضاف كلمة:"بتصرف"، ولا يوضع الكلام بين علامتي تنصيص، أو أي نوع من أنواع الأقواس، وإنما يترك حرًّا كبقية الكلام، ولا بد من التنبيه عليه في الهامش -كما قلت- بإضافة كلمة: بتصرف.

ولا ينبغي للباحث أن يهمل مصدرا لوجود بديل له مهما كان الأمر، وبعض الباحثين يقع في هذا الخطأ، فقد يكون موضوع بحثه عن جانب من جوانب شعر شوقي، أو شخصيته مثلًا، وفي نفس هذا الموقف يحتاج الباحث إلى استقراء عدة

ص: 242

مصادر تاريخية وسياسية مختلفة، وهي كثيرة جدًّا في هذا العصر، كما يحتاج إلى قراءة عدد كبير من الدراسات التي كتبت حول الشاعر أحمد شوقي، وفنه الشعري، وهي من الكثرة بمكان، فيكتفي الباحث ببعض هذه المصادر؛ ظنًّا منه أن هذا البعض يفي بالمطلوب، أو بحجة أن المادة العلمية واحدة، بعض الباحثين يقول هذا، ويحتج بذلك، يقول: فلان هذا نقل عن فلان هذا، كلها منقولة، ومتشابهة، المادة العلمية فيها متشابهة. أيًّا كان، لا يصح بحال من الأحوال في مجال البحث العلمي أن تكتفي بمصدر بهذه الحجة، أو بأية حجة من الحجج، فربما لو اطلعت على مصدر من المصادر التي تركتها لوجدت فيها عبارة أو فقرة تفتح لك بابًا كان مغلقا، أو تغير مفهومًا لديك كان سائدًا؛ فالباحث الناضج لا يترك مصدرًا أو مرجعًا له صلة ببحثه إلا وقرأه، وعرف ما به. ولا تقتصر المصادر على الكتب الموجودة في المكتبة وحسب، بعض الباحثين يظن هذا، يظن أن المصدر أو المرجع لا يخرج عن إطار الكتب المدونة والموجودة في المكتبات، وإنما قد يكون المصدر مقابلة شخصية تجري مقابلة شخصية مع عالم ما، أو أي إنسان له علاقة بهذا الموضوع، وقد يكون المصدر محاضرة علمية تتصل بموضوع بحثه، قد يكون المصدر سجلًا من السجلات الحكومية، فكل ما يندرج تحت وعاء المعرفة يعد مصدرًا من مصادرها، ويندرج تحت ما نشير إليه الآن من مصادر ومراجع.

وفي هذا المقام، مقام الحديث عن المصادر، وكيفية جمع المادة العلمية منها، هناك مجموعة من الإرشادات أو النصائح أود الإشارة إليها، والانتفاع بها، أعرضها بإيجاز فيما يلي:

1 -

البحث العلمي ليس تجميع مادة علمية صحيحة، أو تلخيصًا لكتاب أو تنظيمًا لهذه المادة العلمية، ثم جمعها بعد ذلك بطريقة ما، كثير من الباحثين

ص: 243

يفرح بذلك، ويعتقد أنه قد انتهى من بحثه عند انتهائه من جمع المادة العلمية، ويرى أن ما بقي ليس من الصعوبة بمكان. ومن ثم، يركز اهتمامه على جمع المادة العلمية التي تتصل بمشكلة البحث، وربما ينجح في ذلك إلى أبعد مدى، ولكنه لا ينجح في دراسة المشكلة، وتوظيف تلك المادة التي دارت حولها.

2 -

يجب أن تتوفر الموضوعية، والصدق، والتنوع، وقابلية الاستعمال في المادة العلمية المجموعة، لا تجمع أي مادة علمية تقابلك تتصل بموضوع بحثك من قريب أو من بعيد، لا بد أن تكون هناك موضوعية، وصدق، وتنوع، تكون هذه المادة قابلة للاستعمال من خلال الربط بينها وبين الخطة من ناحية، وبينها وبين موضوع البحث من ناحية ثانية.

3 -

كما يجب أن تتوفر الدقة في النقل، كن دقيقًا في نقلك بحيث تنقل المعلومة كما هي بخط واضح، ونسق جيد، لا تصحح خطأ، وإن رأيت شيئًا في النص ينبغي تغييره نبه على ذلك في الهامش، وإياك أن تتدخل بتغيير النص ذاته، وخاصة إذا وضعت نصك بين علامتي تنصيص.

4 -

بإمكانك أن تفسر كلمة أو تضبطها أو تصلحها تضع كل ذلك في متن البحث بين قوسين معكوفين تمييزًا له عن النص الأصلي.

5 -

ومن هذه الإرشادات في بعض الأحيان يقع الباحث على مصدر لا يعرف مكان نشره، ولا تاريخ طبعه أو مكانه فيعزف عنه، وقع مصدر في يدك ليست عليه أي معلومة غير اسم الكتاب، واسم المؤلف، فماذا تفعل؟ كثير من الباحثين يعزف عن مثل هذا المصدر، وبعضهم ينقل منهم دون توثيق للمعلومة، يقتبس من هذا المصدر، ولكنه لا يوثق المعلومة التي نقلها، لا يشير إليها، وهذا لا يليق، ولا يصح بأي حال من الأحوال، وإنما يتعامل

ص: 244

الباحث مع مثل هذا المصدر كغيره من المصادر التي دونت عليها جميع البيانات. وعند التوثيق يضيف هذه الرموز التي أشير إليها، فإن وجدته دون طبع أضف "د، ط" في الهامش، وأنت تشير إلى المرجع، وأن توثق المعلومة اذكر "د، ط" أي: دون طبع، أو "د، ت" أي: دون تاريخ للطبع، أو "د، م" أي: دون ذكر لمكان الطبع، وتكتفي بالمعلومات، أو البيانات التي دونت على الكتاب عند توثيق المعلومة، لكن لا تنقل المعلومة دون توثيق، ولا تترك المصدر دون أن تفيد منه بأي حال من الأحوال.

6 -

ومن الإرشادات أيضًا أن يستخدم الباحث أكثر من لون في الكتابة، وأن تسجل المادة العلمية التي استنبطها من المصادر والمراجع، يفضل أن تستخدم أكثر من لون في الكتابة، تمييزًا للمادة العلمية المنقولة عن غيرها، كأن تجعل مثلًا اللون الأزرق للمادة العلمية التي تنقلها من المصادر، واللون الأحمر للتعليقات التي تبديها على تلك المادة، واللون الأسود لبيانات المصادر والمراجع، وتكون ملتزم بهذه الألوان. واعلم أن ذلك سوف يساعدك عند تصنيف المادة العلمية، وصياغة البحث. وإذا صادفك نص أو معلومة موزعة على أكثر من صفحة في مصدر من المصادر لا بد من الإشارة إلى الصفحات، ولا تكتفي بذكر رقم الصفحة الأولى فقط، فمثلًا: أنت تنقل من كتاب (العمدة) لابن رشيق مثلًا فوجدت نصًا يبدأ في نهاية ص مثلًا 50 يتصل ببحثك، وينتهي في ص 51 ونقلت النص نصفه في ص 50 والنصف الآخر في ص 51 كثير من الباحثين يشير إلى النص على أنه في ص 50، (العمدة) الجزء الأول، ص 50، هذا لا يصح، اكتب 50 - 51، هذا هو التوثيق الصحيح. وإذا كان النص المراد اقتباسه من المصدر طويلًا، وأنت لا تحتاج في بحثك منه إلا إلى بعض جمل، فمن الممكن أن تنقل من النص الجمل التي

ص: 245

تحتاجها أو يحتاجها بحثك، وتضع مكان الجمل المحذوفة ثلاث نقاط أو أكثر؛ حتى يفهم القارئ أن هناك جملًا محذوفة.

7 -

ومن الأمور التي يجب مراعاتها أيضًا أنه إذا كثرت المادة العلمية الموجودة في مصدر من المصادر بحيث لا تتسع لها بطاقة واحدة، يعني: أنت تنقل من كتاب (البيان والتبيين) حول فكرة من الأفكار التي تتصل ببحثك، وامتلأت البطاقة، لكن لا زالت هناك معلومات موجودة في الصفحة التي تتعامل معها، أو في الكتاب، فإياك أن تضيق، أو تزحم البطاقة بالكتابة، أو تكتب على ظهرها، إياك أن تفعل هذا، وإنما تكتب كتابة حسنة منظمة مرتبة، ثم تضع بقية المادة العلمية في بطاقة ثانية، وتكتب على هذه البطاقة الثانية نفس البيانات التي سجلتها على البطاقة الأولى، وتعطيها رقمًا تقول: بطاقة رقم واحد بنفس العنوان، بطاقة رقم اثنين، بطاقة رقم ثلاثة، حتى تنتهي من المعلومة التي تتصل بهذه الفكرة.

8 -

ومن الإرشادات أيضًا في هذا السياق: إذا وقعت على مصدر من المصادر فخذ منه كل ما تحتاجه، وإياك أن تكتفي منه ببعض العناوين أو أرقام الصفحات، أو تلخيص ما قرأت على أن ترجع إليه بعد ذلك، إياك أن تفعل ذلك، فقد لا يتيسر لك الرجوع إلى هذا المصدر مرة ثانية، وإذا تيسر فقد لا يتسع وقتك، فانتهز وجود المصدر بين يديك، وخذ منه كل ما تريد بحيث إذا تركته فلن ترجع إليه مرة أخرى، وإذا صادفتك معلومة تتصل بموضوع بحثك في مصدر ما، ثم وجدت نفس المعلومة في مصدر آخر، فلا تكتفي بالإشارة إلى مصدر واحد، وإنما عليك أن تسجل المعلومة، ثم تشير إلى المرجعين معًا، مع ملاحظة السابق واللاحق منهما، وإن وجدت اختلافًا بينهما فلا بد أن تعلق عليه، ولا تمر عليه مرورًا عابرًا.

ص: 246

9 -

ومن الأمور التي أود التنبيه إليها كثير من الباحثين ينشغل عن الخطة بعد وضعها والاطمئنان إليها، بل ينسى خطته، أو تضيع منه، هذا لا يليق، لا تجعل استقراء المصادر يشغلك عن خطة بحثك بأي حال من الأحوال، ولا عن عنوان موضوعك، خطتك أمامك دائمًا، عنوان بحثك، أو عنوان موضوعك في ذهنك وقلبك وخاطرك. ومن ثم، ينبغي أن تخصص بطاقة أو أكثر تجعلها لتسجيل أي فكرة طارئة تتصل بالخطة أو عنوان البحث، ولا تتركها دون تسجيل، فإنك لن تستطيع استحضارها فيما بعد، وأنت تستنبط ضع بجوارك بطاقتين بطاقة للملاحظات على الخطة، بطاقة أخرى ملاحظات على العنوان، ربما وأنت تقرأ يبدو لك أنه من الأفضل أن تغير فصلًا في خطته، أو تضيف فصلا، أو تغير العنوان، كل هذه الأفكار أو الملاحظات سجلها في البطاقات الخاصة بالخطة والعنوان. وكذلك إذا عثرت على معلومة جديدة تتصل بموضوع بحثك، ولكن ليس لها محل في الخطة الموضوعة من قبل، لا تترك هذه المعلومة بحجة أنها لا توجد في الخطة، لا بل أسرع إلى تسجيلها، وبعد الانتهاء من ذلك كله عد إلى خطتك وأعد فيها النظر مرة أخرى بحيث تستوعب جميع ما حصلت من مادة علمية.

10 -

ومن تلك الإرشادات أيضًا: أحيانًا يقع الباحث على معلومة في مرجع من المراجع، وهذه المعلومة منقولة عن مصدر قديم، ووثقها صاحب المرجع الحديث فيأخذها الباحث ويسجلها في بحثه، ويعتمد على توثيق صاحب المرجع لها دون الرجوع إلى المصدر القديم، أو الإشارة إلى المرجع الذي أخذ منه المعلومة، هذا من أخطر ما يقع فيه الباحث، يعني: مثلًا: أقرأ كتابًا لعالم من علمائنا الأجلاء في العصر الحديث، وأراه يستشهد بنص من كتاب (الموازنة) للآمدي، وينقل النص يقتبسه اقتباسا حرفيا، ويوثق النص في الهامش، وأنا جئت عند قراءتي لهذا المرجع، وكان بحثي يحتاج إلى نقل هذا النص الذي نقله من كتاب

ص: 247

الموازنة فأنقل النص من هذا المرجع الحديث دون الرجوع إلى كتاب (الموازنة)، هذا خطأ بين، ولا يجوز بحال من الأحوال، فلا بد من الرجوع للمصدر القديم، ثم الإشارة إلى المرجع اللاحق، وإلا فإن ذلك يعرضك للاتهام بالسرقة، ويصمك بعدم الأمانة العلمية، هذا لا يجوز، فربما يكون الناقل أو الطابع قد ترك كلمة أو حرّف في ضبط كلمة، أو تصحيف، إلى آخره. فلا بد أن تطمئن بنفسك إلى صحة النص في مصدره الأصلي.

ومن تلك الفوائد: إذا كان موضوع بحثك يدور حول نص من النصوص فاحرص على أن يكون النص محققًا تحقيقًا علميًّا ومطبوعًا طبعة جيدة، وإلا فسوف تتضاعف مهمتك، وتقوم بدور الباحث والمحقق معًا، كما يستحسن إذا كان موضوع بحثك نصًّا، كأن يكون ديوان شعر، أو قصيدة، أو خطبة، يستحسن أن تقتني المصدر الذي فيه النص الذي هو محور بحثك، وتديم فيه النظر مرة بعد أخرى، وتعقب على مفرداته، وأسلوبه، وتحلل ما يحتاج إلى تحليل، موضحًا الأفكار، وتسلسلها، والجيد، والرديء منها، وتضع كل هذه التعليقات على هامش الكتاب نفسه، وهذه التعليقات تكون بمثابة المفاتيح التي تمكنك من الدخول إلى عالم النص عند الحاجة، وتذكرك بما فيه.

أيها الباحث، عندما تنتهي من جمع المادة العلمية، فإن كنت قد اتبعت طريقة الدوسيه، فإنك ستجد أن جميع العناوين في الدوسيه المكونة للأبواب والفصول تحتها مادة علمية وفيرة، لا تحتاج منك أكثر من تنظيمها وترتيبها، ودرسها، ثم صياغتها صياغة علمية جديدة. وأما إذا كنت اتبعت نظام البطاقات في جمع المادة العلمية، فعليك بعد الانتهاء من استقراء جميع المصادر، واستنباط المادة العلمية منها أن ترتب هذه البطاقات على حسب عناوين الأبواب، أو الفصول، وتجعلها في شكل حزم، يعني:

ص: 248

أجمع بطاقات الفصل الأول في حزمة، الفصل الثاني في حزمة، كل فصل، أو كل باب، أو كل مبحث، أجمع البطاقات التي تتصل أو تجمع مادة علمية تتصل به، وأضعها في حزمة، وهكذا يصبح لديك مجموعة من الحزم، قم بفحصها جيدًا، ومطابقتها على خطة بحثك، فربما وجدت حزمة لا يوجد في الخطة ما يمكن إدراجها تحتها، ممكن تجد حزمة فيها مادة علمية، لكن هذه المادة العلمية ليس لها مكان في خطتك التي وضعتها، ماذا تفعل؟ حينئذ تنظر في المادة العلمية الموجودة في هذه الحزمة، فإن كانت تصلح لأن تجعل لها مكانًا في الخطة، فلا تتردد، وإن كان بالإمكان إدراجها تحت أي فصل أو باب فلا مانع، كل ذلك يتم بالتشاور مع أستاذك المشرف، أما ما تبقى من بطاقات منفردة قليلة، ولا تحتاجها في بحثك فاجمعها في حزمة واحدة، واكتب عليها متفرقات، وسوف تحتاجها في يوم ما كما أشرت قبل ذلك.

وجدير بالذكر أن مرحلة جمع المادة العلمية تظل مفتوحة حتى كتابة آخر كلمة في البحث، ففي أي مرحلة كنت من مراحل البحث، وعثرت على مصدر جديد، أو طبعة جديدة، أو مخطوطًا جديدة، ورجعت إليها، واقتبست منها، فلا بد أن تدون هذا الاقتباس في مكانه حتى وإن كنت قد انتهيت منه. وإياك أن تضق ذرعًا بعملية استقراء المصادر والمراجع، وجمع المادة العلمية منها؛ لأن هذه مرحلة لا بد منها، وعلى قدر جدك فيها، ودقتك في التعامل معها يكون تمكنك من المضي في الخطوة التالية من خطوات بحثك، بحيث تقبل عليه بنفس وثقة، وفكر ناضج واعٍ، وفي نفس الوقت ينبغي للباحث أن يتنبه إلى أن كثرة النقول من المصادر والتسجيل في البطاقات بلا وعي لا يستجد أبدًا؛ لأن ذلك سوف يكون عبئًا على الباحث بعد ذلك، ويحتاج إلى وقت وجهد لحصر ما يحتاجه من البطاقات، وفرز المادة العلمية. ومن ثم، يجب أن تتريث في قراءتك، وتكون فطنًا في استنباطك بحيث لا تسجل في الدوسيه أو البطاقة إلا ما يحتاجه بحثك.

ص: 249