الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أهمها المستشرقون وهم: جماعة من الغرب تخصصوا في دراسة اللغات الشرقية وآدابها، حاولوا أن ينقلوا هذا المنهج من البيئة الغربية إلى البيئة العربية، من خلال تآليفهم، ومن خلال محاضراتهم، التي كانوا يلقونها على طلابهم، ونجحوا في ذلك أيما نجاح.
الطريق الثاني: الذي انتقل هذا المنهج من البيئة الغربية إلى البيئة العربية من خلاله: البعثات العلمية الموفدة إلى أوربا، والذين ذهبوا إلى هذه البلدان، لا شك في أنهم قد انتهجوا ذلك المنهج في بحوثهم، وتأثروا به ثم نقلوه إلى أوطانهم بعد عودتهم، وفي أبحاثهم التي كتبوها، مستعينين بها أما ثالث هذه الطرق: فهي الترجمة، وقد قامت بدور عظيم في نقل الأفكار الغربية إلى البيئة العربية، في مجال البحث العلمي وغيره من مجالات العلم والمعرفة.
هذا عن المنهج التاريخي وأصوله، التي وضعها هؤلاء العلماء، وقد انتقل بهذه الأصول إلى البيئة العربية، وبدأ العلماء يلتزمون به في تآليفهم، كما سنعرف الآن.
قيمة المنهج التاريخي في مجال البحث الأدبي
والآن نطرح سؤالًا قد يتبادر إلى الذهن بطبيعة الحال: هل هذا المنهج له قيمة في مجال الدراسات الأدبية؟ المنهج التاريخي هذا ما قيمته؟ ما قيمته في مجال البحث الأدبي، أو الدراسات الأدبية؟ هل يفيدنا أم أن الباحث سيضيع وقتًا في الأحاديث التاريخية، ولا فائدة من ورائها تتصل بالأدب كما قال البعض؟
نجيب على هذا، فنقول:
بعد توضيح الأسس التي قام عليها المنهج التاريخي، وتتبع نشأته وتطوره، حتى صار منهجًا مستخدمًا في مجال الدراسات الأدبية، نقف على أهميته وقيمته في مجال هذه الدراسات الأدبية، فنقول: نعم للمنهج التاريخي قيمة عظيمة، في مجال الدراسات الأدبية، نشير إلى أهمها
أولًا: إذا أردنا معرفة تطور الأدب واللغة في عصر من العصور، فأي منهج يفيدنا في هذا؟ لو أردنا أن نتعرف على تطور الأدب في العصر الأموي، أو العصر العباسي، أو العصر الحديث مثلًا، فينبغي أن نسلك أي المناهج، حتى نصل إلى نتيجة صحيحة ودقيقة في هذا المجال؟
لا بد أن نلجأ إلى منهج تاريخي، فإنه هو المنهج الوحيد الذي يعيننا على معرفة ذلك التطور.
ثانيًا: إذا أردنا الوقوف على تأثر الأدب بالحياة السياسية، أو الاجتماعية في مجتمع ما من المجتمعات، فلا يسعفنا في الحصول على هذه المعلومات، إلا المنهج التاريخي.
ثالثًا: إذا أردنا أن نعرف السر في ازدهار فن النقائض مثلًا في عصر بني أمية، أو أي فن من الفنون الشعرية، في أي عصر من العصور، كالشعر الماجن مثلًا في العصر العباسي، أي المناهج يفيدنا في هذا المجال؟ إنه المنهج التاريخي، فهو الذي يكشف لنا عن الظروف السياسية والاجتماعية، التي هيأت لظهور هذه الفنون.
كما يفيدنا المنهج التاريخي أيضًا في مجال الموازنات بين الأدباء، وفي الوقوف على آراء الأدباء، وعقائدهم، واتجاهاتهم المختلفة من خلال دراسة العصر، وما يشتمل عليه من معتقدات، ومذاهب مختلفة، كما يفيدنا أيضًا في دراسة النصوص الأدبية وتحليلها، من خلال الكشف عن الظروف، التي أحاطت بها، وأثرت فيها، كما يفيدنا أيضًا في التعرف على الأفكار الجديدة في مجال الأدب والنقد، وتحديد مبتدعيها، ومعرفة السابق واللاحق.
كما يفيدنا أيضًا عند التأصيل للنظريات، والقضايا النقدية المهمة، وفي مجال الكشف عن التأثير والتأثر بين الآداب، قيم كثيرة وفوائد جمة لا يمكن أن ننكرها
في مجال، أو حين نستخدم المنهج التاريخي في مجال البحث الأدبي، ورغم هذه الفوائد، وغيرها للمنهج التاريخي في مجال الدراسات الأدبية، فإنه لا يخلوا من بعض العيوب، التي تلحق به إذا اعتمدنا عليه وحده، إذا اعتمدنا عليه وحده، لا يمكن أن نصل إلى نتائج يقينية.
نشير سريعًا إلى بعض هذه العيوب منها:
المنهج التاريخي كما رأيت يربط بين الأدب والسياسة برباط قوي، بمعنى أن الازدهار السياسي في أي عصر من العصور عند أصحاب المنهج التاريخي، يترتب عليه نهضة أدبية عامة، ونحن لا ننكر العلاقة القوية المتبادلة بين الأدب، والسياسة، هذا شيء ثابت، ولكن ذلك التلازم والترابط ليس مطردًا في كل العصور، فقد تأتي النتيجة عكسية تمامًا بمعنى: أنه قد يكون الاضطراب السياسي مقرونًا بازدهار أدبي واضح، وقد يكون العكس صحيحًا.
وأوضح مثل لذلك: الأدب في القرن الرابع الهجري، أو عصر ملوك الطوائف بالأندلس، فقد ازدهرت فيهما الحياة الأدبية ازدهارًا لا شك فيه، بينما كانت الحياة السياسية تعاني ضعفًا شديدًا هذا عيب.
من العيوب أيضًا: الاعتماد على المنهج التاريخي وحده، في مجال البحث الأدبي، يبعدنا عن استظهار الخصائص الفنية للأدب، لا ننظر إلى صورة فنية، ولا لفظة موحية، ولا أي ملمح من ملامح الأسلوب الفني، وهذه الملامح تعد أسمى غايات الأدب، المنهج التاريخي يهملها إهمالًا، كما أنه يهمل النوازع الفردية عند الأدباء، ويغفل العبقريات الشخصية، وهي من أهم مقاييس المفاضلة بينهم.
ومن ثم فأصحاب هذا المنهج يسوون بين الشعراء، من حيث الإبداع الفني؛ لأن مقياس الجودة عندهم: هو مدى انعكاس البيئة، أو المجتمع على الأدب، ونجاح الأديب في تصوير البيئة والمجتمع، لكن لا ينظرون إلى الناحية الفنية على الإطلاق، ومن العيوب أيضًا التي تؤخذ على هذا المنهج بهذا المفهوم، الذي رأيناه عند رواده، أنهم يضعون حدودًا فاصلة بين العصور الأدبية، والبيئات الفنية يعني: عندما يقسمون الأدباء إلى فصائل، كفصائل النبات، ويضعون لها قوانين ثابتة، لا يمكن أن تتداخل أو تتواصل، هذا شيء مرفوض الحقيقة في الأدب؛ لأنه من الثابت أن العصور الأدبية متداخلة، ولا يتأتى لنا الفصل التام بينها.
كما أن الاعتماد على المنهج التاريخي وحده يؤدي إلى نتائج ناقصة؛ لأنه قائم على استقراء ناقص، ونظرية جزئية ضيقة، ولا تظن أيها الباحث أننا عندما نذكر هذه العيوب، أو المآخذ لا تظن أننا نرفض المنهج التاريخي، لا نحن نرفضه وإنما نقبله، بل نؤكد على لزومه، ولكن في ظل مجموعة من المناهج الأخرى المتكاملة، لا يكن هو المنهج الوحيد، الذي يستخدمه الباحث في بحثه للوصول من خلاله إلى نتائج يقينية، هذا لا يجوز.
وفي نهاية الحديث عن هذا المنهج، المنهج التاريخي، تجدر الإشارة إلى شيء أو أمر مهم، ينبغي لنا أن نعيه جيدًا، شاع بين بعض المؤصلين للمناهج الحديثة، أن المنهج التاريخي من صنع الغرب، ليس المنهج التاريخي فحسب، ولكن كل المناهج الحديثة، بعض المؤصلين للمناهج في العصر الحديث، يدعون أن هذه المناهج من صنع الغرب، وعندما يتحدثون عن أي منهج منها، لا يذكرون إلا أسماء الأعلام الغربيين.
والحقيقة أن في هذا ظلم للعرب ظلم بين؛ لأن علماء العرب قد عرفوا أصول هذا المنهج قبل الأوربيين بأزمنة طويلة، يبدو لنا ذلك من خلال مؤلفاتهم، التي لا تزال منارة يهتدي بها كل من يسلك هذا الدرب، في الوقت الذي أقبل فيه هؤلاء العلماء، يؤلفون موسوعاتهم دون علم بالمصطلحات الحديثة، نعم لم يكن هناك علم يسمى علم المصطلح، أو علم المنهج، ورغم ذلك نجحوا في التأصيل لمناهج كثيرة.
كتبوا هذه المؤلفات بفطرتهم، واعتمدوا فيها على أذواقهم، ونضرب مثلًا بهذا بكتاب (طبقات فحول الشعراء)، لابن سلام الجمحي، حيث سار فيه على منهج واضح أقرب ما يكون إلى المنهج التاريخي، كيف ذلك؟ عرفت كما سبق أن أصول المنهج التاريخي، التي وضعها علماء الغرب تتمثل في الزمان، والمكان، والبيئة، والجنس، إذا دققنا النظر في كتاب ابن سلام، نجد أنه سار على نفس هذه المبادئ، التي اهتدى إليها الغربيون في العصر الحديث.
ونوضح ذلك ونشير إلى ذلك سريعًا، فمن حيث الزمان قسم ابن سلام الشعراء إلى قسمين: جاهليين، وإسلاميين، أما المخضرمون فإنهم ينتمون إلى أحد القسمين حسب تراث كل منهم، وعنصر الزمن هنا واضح جدًّا، كما ترى استخدم الزمان؟ نعم استخدمه في كتابه أو في تقسيمه للشعراء، وأما من حيث المكان، فالشعراء عنده أصلًا من أهل البادية، ولكن الرجل نظر فوجد أن شعراء القرى، أي: الحواضر يختلفون عن شعراء البادية، فعقد بابًا لشعراء القرى، ورأى أن لكل قرية شعراءها الفحول، كما فاضل بين شعراء كل قرية، وهو بذلك يؤكد أثر البيئة في الأديب من شتى النواحي.
وهذا ما نبه إليه تين وبرنتيير وسانت بيف من الغربيين، سبقهم ابن سلام إلى هذا، بهذا يتأكد لنا أن ابن سلام سبق الغربيين بمئات السنين، في الاهتداء للمنهج
التاريخي، رغم أنها كانت محاولة مبتدأة منه، إلا أنه كان أكثر توفيقًا من نقاد الغرب، حيث لم يقتصر على المنهج التاريخي وحده في بحثه، كما سبق أن بينا.
لم يكن ابن سلام وحده الذي اهتدى إلى المنهج التاريخي في كتابه، ولكن أدعوك إلى تأمل هذه الفقرة، التي ذكرها ابن قتيبة في بداية كتاب (الشعر والشعراء)، فهو يقول: هذا كتاب ألفته في الشعراء، أخبرت فيه عن الشعراء وأزمانهم، وأقدارهم، وأحوالهم في أشعارهم وقبائلهم، وأسماء آباءهم، ومن كان يعرف باللقب أو بالكنية منهم، وعما يستحسن من أخبار الرجل، ويستجاد من شعره، وما سبق إليه المتقدمون، فأخذه عنهم المتأخرون.
هذا كلام الرجل لو تأملناه، لوجدنا أن كل ما دعى إليه ابن قتيبة من صميم المنهج التاريخي، مما يؤكد لنا، أنه أدرك قيمة هذا المنهج، وعرف أصله وسار عليه، وليس معنى ذلك أننا ننكر فضل الغربيين، أو نقلل من شأنهم، وإنما نرجع الفضل للسابق لسبقه وابتكاره، وللاحق بتنظيمه وتقنينه وإيجاد المصطلح.
هذا بالنسبة للدراسات القديمة، وعلاقتها بالمنهج التاريخي في البيئة العربية، وكما لاحظت أن العرب قد عرفوا أصول هذا المنهج، وإن غاب عنهم المصطلح، أما عن موقف الدراسات الأدبية في العصر الحديث، من المنهج التاريخي، فإن أقدم كتاب تناول الأدب بالدرس على أساس هذا المنهج، هو كتاب (تاريخ آداب اللغة العربية) لحسن توفيق العدل.
الذي تخرج في دار العلوم، ثم سافر إلى ألمانيا؛ لتدريس اللغة العربية في المدرسة الشرقية ببرلين، فهو أول من وضع نظرية الربط بين الأدب والعصور السياسية، وقسم الأدب العربي إلى عصور معروفة: جاهلية، وإسلامية، وأموية، وعباسية، وأندلسية، ودول متتابعة ناظرًا في تقسيمه هذا إلى التاريخ السياسي والديني.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، نرى هذا المنهج قد استخدم أيضًا عند أحمد السكندري في كتابه (الوسيط)، وهو واضح في هذا الكتاب، كما استخدمه أحمد حسن الزيات في كتابه (تاريخ الأدب العربي)، واستخدمه جورجي زيدان في كتابه (تاريخ آداب اللغة العربية).
ومن الكتب، التي كتبت على أساس هذا المنهج، وهي ذائعة مشهورة: سلسلة كتب الدكتور شوقي ضيف -يرحمه الله-، التي سماها (تاريخ الأدب العربي)، وبدأها بالعصر الجاهلي حتى العصر الحديث، مستضيئًا أثناء ذلك بدراسات نفسية، واجتماعية، وتاريخية وغيرها، ولم يقتصر استخدام المنهج التاريخي في الدراسة الشاملة، لتاريخ الأدب العربي عبر عصوره المتعاقبة فحسب، وإنما استخدمه الباحثون في دراسة بعض الشخصيات الأدبية، بل ودارسة بعض الظواهر الأدبية المختلفة.
فأصبحنا نرى كثيرًا من الدراسات، التي تتناول هذه الشخصيات وتلك الظواهر، سالكة ذلك المنهج، واستطاع الباحثون من خلاله أن يرسموا صورًا واضحة لكثير من الشخصيات الأدبية، ويحولوا كثيرًا من الظواهر الأدبية إلى قصص حياة، تكشف عن حركتها التاريخية في تطورها المستمر، ونضرب مثالين بكتابين، يؤكدان ذلك الأول، أو المثال الأول: كتاب (مع المتنبي) للدكتور طه حسين، الذي تتبع فيه حياة المتنبي، منذ أن تفتحت عيناه على الحياة في الكوفة، حتى أغمضها الموت على سيوف بني ضبة، في طريق عودته من فارس إلى العراق.
تتبع المؤلف خط هذه الحياة، من خلال تقسيم دراساته إلى خمسة فصول أو كتب، كما سماها، تتبع هذه الحياة من خلال أحداثها من ناحية، وما صاحب هذه الأحداث من شعر يصورها، ويعبر عنها من ناحية أخرى، وهي تمضي على
هذا النحو التاريخي الدقيق، صبا المتنبي شباب المتنبي، ثم في ظل الأمراء، ثم في ظل سيف الدولة، ثم في ظل كافور، ثم أخيرًا غنيمة الإياب.
هذا هو المثال الأول الذي عرضناه، أما المثال الثاني: فهو كتاب (حياة الشعر في الكوفة إلى نهاية القرن الثاني الهجري)، وقد كتبه الأستاذ الدكتور يوسف حليف، الذي اتخذ من المنهج التاريخي أساسًا لدراسته، وأتاح له هذا المنهج متابعة جوانب الحياة المختلفة في الكوفة، وتطور حركتها التاريخية على مدى قرنين من الزمان، نعم، وما كان له أن يسلك غير هذا المنهج، ما كان له أن يسلك غير هذا المنهج؛ لأنه أراد أن يتتبع، -تأمل عنوان الكتاب- (حياة الشعر في الكوفة)، حياة ونحن أشرنا إلى ذلك.
قلنا: إنه في مثل هذه الموضوعات، التي يود الكاتب فيها أن يتعرف، أو يتتبع الأدب في أي عصر من العصور؛ ليكشف عنه أو عن حياته، ويوضح خصائصه، وتأثره أو تأثيره في البيئة، لا يجد أمامه إلا هذا المنهج، المنهج التاريخي، فهذا المنهج فرض نفسه على الأستاذ الدكتور يوسف خليف، في كتابه هذا (حياة الشعر في الكوفة إلى نهاية القرن الثاني الهجري).
تتبع جوانب هذه الحياة، وتطور حركتها التاريخية على مدى قرنين من الزمان، ومواكبة الشعر لها، وإلى أي مدى كان صدًى لأحداثها السياسية، وانعكاسًا لظواهرها الاجتماعية، وصورة من نشاطها العقلي.
وهناك كثير من الدراسات الأدبية، غير التي ذكرنا سلكت المنهج التاريخي منها مثلًا: كتاب (شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي) للأستاذ عباس محمود العقاد، ثم كتاب (فصول في الأدب والنقد) للدكتور طه حسين، وكتاب (تاريخ آداب العرب) للرافعي، وغير ذلك من كتب كثيرة، موجودة بين أيدينا لمن أراد أن يطلع عليها.
بهذا نكون قد انتهينا من الحديث عن أول منهج، من المناهج الحديثة للبحث الأدبي في العصر الحديث، وهو المنهج التاريخي، عرفنا مفهومه، ونشأته، ومقياس الجودة عند أصحابه، ثم تبين لنا أن هناك أسسًا يقوم عليها ذلك المنهج، ثم ذكرنا قيمته في مجال الدراسات الأدبية، وأشرنا إلى بعض المآخذ، التي يمكن أن توجه له إذا اعتمدنا عليه وحده، كمنهج مستقل في مجال البحث الأدبي.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.