الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حقيقة المنهج النفسي، وعلاقة النفس بالأدب
يتضح من هذا العرض السابق: أن علاقة الأدب بالنفس علاقة قوية ثابتة، وأنهما لا ينفصلان، وقد أدرك العلماء تلك العلاقة؛ فأقبلوا على الدراسات النفسية؛ محاولين الإفادة منها في مجال البحث الأدبي، حدث هذا منذ زمن بعيد، أدرك العلماء هذه العلاقة، وحاولوا أن يوظفوا الدراسات النفسية في مجال البحث الأدبي. هذا الإدراك لهذه الصلة قديم، يرجع إلى زمن أرسطو، ونظرية التطهير التي نادى بها.
والواقع، أن جميع النظريات التي حاول علماء النفس ابتكارها منذ أواخر القرن التاسع عشر؛ بقصد بيان الأثر النفسي الذي يحدثه العمل الأدبي في نفس المتلقي، هذه النظريات لم تذهب بعيدا عن نظرية التطهير التي نادى بها أرسطو قبل الميلاد بحوالي ثلاثة قرون ونصف، بل كانت هذه النظريات بمثابة الشرح والتحليل لها.
ومنذ فجر المعرفة أدرك العلماء أن الدراسات النفسية تتفق مع الأدب في الغاية، وإن اختلفت وسيلة كل منهما في تحقيق هذه الغاية. فالغاية منهما: الحصول على المعرفة الإنسانية. ووسيلة الأدب: التركيز والإيجاز. أما وسيلة علم النفس: التحليل والشرح والتوضيح. ثم تتطورت وتعمقت رؤية العلماء للدراسات النفسية، وعلاقتها بالأدب بعد ذلك؛ حتى أثمرت بعد ذلك بما يسمى: علم نفس الأدب، أي: العلم الذي يختص بدراسة السلوك الإنساني من خلال الأدب.
نتج عن كل ذلك -عن إدراك الصلة بين النفس والأدب، وعن توجه العلماء في مجال البحث الأدبي إلى الدراسات النفسية للإفادة منها - ظهور منهج جديد في مجال البحث الأدبي، يتولى القيام بهذه المهمة، ويكشف عن علاقة النفس بالأدب، هذا المنهج يسمى: بالمنهج النفسي.
فالمنهج النفسي يقوم بتحليل الشخصية الأدبية، وبيان خصائصها النفسية، اعتمادًا على العمل الأدبي، واعتباره صورة تعكس نفسية الأديب، وحياته من خلال تطبيق نتائج علم النفس الحديث على الأدب والأدباء.
أما إذا تطرق أصحاب هذا المنهج النفسي إلى ظاهرة فنية واضحة في العمل الأدبي؛ فإنهم يفسرونها استنادًا على عوامل نفسية؛ لتنمية الذوق الأدبي، والجمالي في الآثار الأدبية. ولا ينظرون إليها نظرة فنية مجردة، كما ينظر أصحاب المنهج الفني.
والمنهج النفسي يتناول الجوانب التالية في الأدب، أو بتعبير آخر: يجيب هذا المنهج عن عدة أسئلة يمكن أن يطرحها الذهن حين البحث في الأدب. هذه الجوانب، أو تلك الأسئلة هي:
أولا: كيف تتم عملية الإبداع الأدبي؟ وما هي طبيعة هذه العملية من الوجه النفسية؟ وما العناصر الشعورية وغير الشعورية الداخلة فيها؟ وكيف تتركب وتتناسق؟ كم من هذه العناصر ذاتي، وكم منها خارج عن الذات؟ وما العلاقة النفسية بين التجربة الشعورية والصورة اللفظية؟ وما الحوافز الداخلية والخارجية لعملية الإبداع الأدبي؟
كل هذه الأسئلة وغيرها يجيب عنها المنهج النفسي المعتدل حين البحث في الأدب وهذا شيء طيب.
ثانيا: يوضح المنهج النفسي دلالة العمل الأدبي على نفسية صاحبه، وكيفية ملاحظة هذه الدلالة، واستنطاقها، ومعرفة التطورات النفسية لصاحب العمل الأدبي.
الجانب الثالث: يكشف المنهج النفسي عن تأثير العمل الأدبي في نفس المتلقي، كما يوضح العلاقة بين الصورة اللفظية، والتجارب الشعورية لدى الآخرين. فهو بهذا منهج يتناول العمل الأدبي منذ بدايته حتى نهايته، ويوضح كيف تتم عملية الإبداع، ويكشف عن طبيعة هذه العملية من الوجهة النفسية، والعناصر الشعورية الداخلة فيها، وكيفية تركيبها وتماسكها، كما يوضح ويفسر دلالة العمل الأدبي على نفسية صاحبه، والتطورات النفسية التي تعتريه، كما يكشف عن أثر العمل الأدبي في نفوس المتلقين، وإحياء تجاربهم الشعورية.
وهو بهذا المعنى جديد على ساحة الأدب العربي؛ فلم يعرف أدبنا العربي هذه الدراسات النفسية بهذا المعنى الحديث قبل ذلك، أي: قبل العصر الحديث؛ لأن استخدام علم النفس، وما وصلت إليه الدراسات من نظريات مرسومة، وقواعد محددة، وطرائق خاصة لفهم الأدب، كل هذه أشياء مستحدثة بلا جدال، ليس لها أصول في ثقافتنا العربية الأدبية.
أما عن الملاحظات النفسية بصفة عامة، وتوظيفها في درس الأدب وبحثه، فهي أقدم من ذلك بكثير؛ إذ أشار أفلاطون إليها أثناء حديثه عن الإلياذة، حيث ذكر أن الشاعر ينظم شعره عن إلهام، وحال تشبه الجنون. ويعد أول من وصف الشاعر بأنه مريض نفسيًّا أو عصبيًّا. هذا بالنسبة لأرسطو، هذه لفتة نفسية قديمة.
أما بالنسبة للمؤلفين العرب في القديم: فإن تلك الملاحظات النفسية كانت أمام أعينهم، وفي خاطرهم، وهم يبحثون في الأدب، ويؤلفون هذه المؤلفات القيمة،
والتي إذا تأملناها جيدًا -وهي ثرية بحق- نجد فيها إشارات ذكية عن هذه الملاحظات النفسية، ودورها في مجال الإبداع وغيره. ومعنى ذلك: أن مفهوم المنهج النفسي قديم قدم الأدب، وإن المصطلح لم يظهر إلا متأخرا.
ولنضرب بعض الأمثلة من تراثنا للتدليل على ذلك؛ حتى لا يكون كلامنا مجرد ادعاء. ولنأخذ ابن قتيبة مثلًا: ابن قتيبة يبحث قضية البناء الفني للقصيدة الجاهلية في كتابه (الشعر والشعراء) فيقول في هذه القضية: "وسمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار، والدمن، والآثار، فبكى، وشكى، وخاطب الربع، واستوقف الرفيق، ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكى شدة الوجد، وألم الفراق، وفرط الصبابة، والشوق؛ ليميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه، وليستعدي به إصغاء الأسماع إليه؛ لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب؛ لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء".
فابن قتيبة ينظر في هذه الفقرة إلى منهج القصيدة من زواية نفسية بحتة، ويرى أن الشاعر العربي لجأ إلى هذا المنهج بقصد التأثير في نفس المتلقي. ومن ثم، يختار ما هو قريب إلى النفس، كالحديث عن المرأة عموما، ثم تأمل قوله:"لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب" تجده يثبر أغور النفس البشرية بعيدًا عن تعقيدات علم النفس في نظرياته الحديثة.
نطالع مثل هذه التحليلات النفسية والإشارات الكثيرة لابن قتيبة بين دفتي الكتاب عند حديثه مثلا: عن الطبع والتكلف، وعند حديثه عن مثيرات العاطفة، والأوقات التي يسهل فيها نظم الشعر، وغير ذلك من قضايا.
ليس ابن قتيبة وحده هو الذي تنبيه إلى هذا الجانب النفسي، ودوره في عملية الإبداع، وما يترتب عليها، وتعرض له حين البحث في الأدب. وإنما هناك
علماء أجلاء كانت لهم مثل تلك الإشارة، من هؤلاء العلماء: الأديب الجليل القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني في كتابه (الوساطة بين المتنبي وخصومه)، سوف أعرض عليكم فقرة قصيرة أو فقرتين نتأملهما، وسيتضح لنا من خلال هاتين الفقرتين: أن الرجل كانت له رؤية نفسية وهو يتناول هذه القضية، يقول عند حديثه عن اختلاف الشعراء باختلاف الطبائع:"وقد كان القوم يختلفون في ذلك، وتتباين فيه أحوالهم، فيرق شعر أحدهم، ويصلب شعر الآخر، ويسهل لفظ أحدهم، ويتوعر منطق غيره، وإنما ذلك بحسب اختلاف الطبائع، وتركيب الخلق، فإن سلامة اللفظ تتبع سلامة الطبع، ودماثة الكلام بقدر دماثة الخلقة".
الرجل يشير في هذه الفقرة إلى أثر الطبائع والغرائز البشرية في الأدب، وذلك عماد المنهج النفسي الحديث حين تتبعه للعمل الأدبي، كما نلمح ذلك أيضا عند حديثه عن مواقع الكلام، وأن الصورة قد تكون جيدة، ولا أثر لها في النفس، وقد تكون أقل جودة، لكنها تمتزج بالنفس امتزاجا، يقول:"وأنت قد ترى الصورة تستكمل شرائط الحسن، وتستوفي أوصاف الكمال، ثم تجد أخرى دونها في انتظام المحاسن، والتئام الخلقة، وهي أحظى بالحلاوة، وأدنى إلى القبول، وأعلق بالنفس، وأسرع ممازجة للقلب، ثم لا تعلم وإن قاسيت، واعتبرت، ونظرت، وفكرت لهذه المزية سببا" يشير الجرجاني في هذه الفقرة إلى آثر العمل الأدبي في نفس المتلقي، وهذا يمثل أحد جوانب المنهج النفسي الحديث.
ونلحظ مثل هذه الإشارات النفسية عند أبي هلال العسكري، وعبد القاهر الجرجاني، وأبي الفرج الأصفهاني، وغيرهم من العلماء الأجلاء الذين أتحفوا المكتبة العربية بتراثهم.